صفحات الثقافة

عندما شهد السينمائي السوري الراحل عمر أميرالاي لغسان تويني


قبل سنتين من الآن، أكثر أو أقل، كتب المخرج السينمائي السوري الكبير الراحل عمر أميرالاي، شهادة عن غسان تويني، في إطار ملفّ كان يعدّه مدير مكتب صحيفة “الجزيرة” السعودية في بيروت، الأستاذ عبد الكريم العفنان، لكن أسباباً “رقابية” آنذاك، تجاوزت مُعِدّ الملفّ، فاجتزأت منه وقطّعته، وحالت دون نشره كاملاً. بعد غياب تويني، أرسل إلينا العفنان، المقال سائلاً نشره، تحية لكلا الرجلين.

لم يتسنّ لي، مع الأسف، التعرّف إلى شخص الأستاذ غسّان تويني معرفة جيّدة من قبل، ما خلا لقاءات عابرة كان آخرها وأطولها، على ما أذكر، ذلك اللقاء المؤثّر الذي جمع في بيت الراحل سمير قصير أفراد عائلته وأصدقائه بعد تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير.

كنت أتمنّى بالفعل لو أنّ صداقةً ما، أو معرفة وطيدة ما، جمعتني به من قبل، كي أبيح لنفسي التحدث عنه بالأريحيّة والدقّة ورفع الكلفة التي تسهّل على المرء عادةً، مهمّة الكتابة عن شخص يعرفه، ومسؤوليتها. فقامة في حجم رجل من كبار رجالات الصحافة العربية كغسّان تويني، ومكانته، تحتاج في رأيي إلى معرفة أدقّ وأعمق بتاريخ هذه الشخصية وسيرتها، وهي جوانب لم تُتح لي مع الأسف مقاربتها من قبل.

إلا أننّي، ومن وحي هذا الموضوع، سأكتفي ربّما بسرد هذه الخاطرات الثلاث:

 1

لماذا يُطلَب من مثقف سوري الإدلاء بشهادة عن كاتب وصاحب جريدة في بلد عربيّ آخر، كأنّ سوريا بملايينها الثلاثة والعشرين قد خلت تماماً من صحافي جدير بمثل هذه الشهادة؟

الجواب هو نعم مع الأسف، لأنّ سوريّا قد خلت بالفعل، ومنذ ستّين عاماً، من رجل من هذا العيار، عندما انصاعت، بمحض إرادتها، شعباً وساسةً وجيشاً، لمشيئة بكباشيّ عروبيّ اشترط مقابل قبوله بإقامة الوحدة معه إلغاء صحافة بلد مزدهر يومئذ بعدد جرائده ومجلاته ودورياته، وذلك كي لا ينغّص. كما تبيّن في ما بعد ـ مقالٌ أو رأيٌ معارض، صفو وحدانيّته ونشور شموليته.

كانت النتيجة يومها أن ترمّلت صحافة سوريا الحرّةـ كباقي قطاعات المجتمع المدني. بفقدان خيرة رجالاتها، وأبرز مهنيّيها، لتحلّ محلّها صحافة بغضاء كرّسها عام 1963 حزب أوحد أتى إلى الحكم على ظهر دبابة، ليستولي على سلطة في بلد أثخنته منذ فجر الاستقلال انقلابات عسكرييه المغامرين بمصيره ومصير أبنائه. منذ تلك اللحظة ابتليت سوريا وشعبها بصحافة عرفيّة خشبية، لسانها الغوغاء والكذب والنفاق، وحبرها تأليه الحاكم، والتسبيح ليل نهار بحمد أفعاله ومكرماته. صحافة لا يحسدها على تهلهلها اليوم، سوى نظيراتها الكوبيّة والإيرانيّة والكوريّة الشماليّة الصامدات إلى أجل غير مسمّى.

أمّا صحافيّوها، فهم مع الأسف ليسوا أفضل حالاً منها، خلا بعض الشرفاء ممّن بقي يتمسّك بشرف مزاولة المهنة بأمانة وصدق، حتّى في نطاق الممارسة الدنيا، وضمن حدود الهامش المباح الذي يضيق ويتّسع، كما نعلم، بحسب مشيئة الحاكم أو تقلّب المزاج السياسي للنظام. وهو واقع يحيلنا في الضرورة على تساؤل مشروع حول مدى قدرة الصحافي النزيه في بلاد الرأي المستبد على مراكمة الخبرة الحقيقية، والتجربة المديدة الناضجة، ما دام محكوماً عليه العمل في ظلّ مؤسّسات إعلامية رسميّة و”خاصّة”، تُدار كلّها إمّا بمشيئة القصر وإما بتوجيه من فروع الأمن الساهرة على أيّ خطأ يرتكبه صحافيّ متحمّس من هنا، أو مدير عام لمؤسسة إعلامية حكومية من هناك، فاته عن غير عمد نشر مقال أو بثّ خبر يمسّ بسيّد البلاد أو بسمعة الوطن، وفي كلتا الحالتين يكون جزاء المرتكب إمّا الطرد العرفيّ في أحسن الأحوال، وإما الاعتقال فيما لو لم يُقدَّر للمغضوب عليه ظَهر يحميه.

لذلك، لا عجب أن تفتقد سوريا، وحال إعلامها على ما هو عليه من تدجين وببّغائية وانعدام حريّة على مدى عقود طويلة، كاتباً وصحافيّاً بقامة غسّان تويني. قامة لا أظنّ أنّها، بعلمها ومهنيّتها وشجاعتها وحدها استطاعت أن تحقّق ما حقّقته، لو لم يحضنها بلد إسمه لبنان، حباه الخالق بكلّ علل العرب ومصائبهم ـ بل زاد عليهم وفاض في نواح عدّة ـ إلا علّة الحرمان من الحريّة التي استثناه منها، والتي لم يساوم لبنان عليها قطّ حتّى في أحلك سنوات الحرب الأهلية وتسلّط الوصاية الخارجية.

2

عَرِفتُ جريدة “النهار” في عهد الإنفصال، مطلع الستينات، في فترة كنت مولعاً فيها برسم الكاريكاتور، ممارساً له في إحدى مجلات دمشق الأسبوعية. في ذلك الوقت، وبينما كانت سوريا منشغلة بلملمة ذيول حقبتها الناصرية غير المأسوف عليها، معيدةً للشام بعضاً من ألقها الديموقراطي العابر الذي عرفته في منتصف خمسينات القرن المنصرم، كانت بيروت تعيش أبهى سنوات فورتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإعلامية، محوّلةً هذه المدينة المشتهاة من المثقفين والفنانين العرب عامّة، والسوريين خاصّة، قبلة الباحثين عن انطلاقتهم الفنيّة الأولى، وواحة الطامعين باعتراف ما من وسطها الفنّي والنقديّ، وعلى الأخصّ “كولورادو” للطامحين إلى استهبال فرصة عمل ما في أيّ مجال من مجالات الثقافة والفنون فيها، علها تؤمّن لهم، ولو إلى حين، بعض أسباب العيش والإقامة في مدينة السراب هذه التي فيها كان يُكرَّم المبدع العربيّ المغامر أو يُهان…

أمّا اهتمامي بجريدة “النهار” فكان منصبّاً يومئذ، وبشكل أساسيّ، على صفحتها الأخيرة، وبالتحديد على تلك المساحة المستطيلة التي كان رسّام “النهار” بيار صادق يحتلها “عن غير جدارة”، بحسب رأيي المدّعي في تلك الأيّام، معتبراً أنّني كنت أملك من الموهبة ما يجعلني بلا أدنى شكّ أحقّ منه بتلك المساحة المغتصبة. لذلك، وإمعاناً منّي في ادّعاء ما لم يكن إدّعاءً كلّه، سعيتُ إلى إيصال بعض من رسومي الكاريكاتورية عن السياسة والسياسيّين في لبنان والعالم العربي إلى مسؤولي الصحيفة الغرّاء من طريق قريب لي من أبرز محرري الجريدة في ذلك الحين، ولكن من دون نتيجة. منذ تلك اللحظة أعلنتُ حقدي الأسود على هذه الصحيفة اللعينة المتكبّرة، وقاطعتها حتى منتصف الثمانينات حيث ازداد غلّي عليها أكثر بسبب مجلتها “النهار العربي الدّولي” الصادرة في باريس،  ذات التوجّه اليميني المتطرّف في ذلك الوقت. وقد بقيت على موقفي السلبي هذا من الصحيفة إلى حين تسلم الصديق إلياس خوري رئاسة تحرير ملحقها الثقافي الأسبوعي في 1992، وفتحه باب صفحاته مشرعاً أمام الأقلام السوريّة المعارضة لنظام الحكم في دمشق، ثمّ ما لبثت علاقة الثقة هذه بجريدة “النهار” أن تعزّزت أكثر وتوطّدت مع انتقال الصديق العزيز سمير قصير للعمل فيها في ما بعد.

اليوم، الكلّ يذكر كيف تحوّل “ملحق النهار” الثقافي على مدى سنوات، إلى ما يشبه خطّ الدفاع الإعلاميّ الأوّل عن قضية كفاح الشعب السوري ونخبه من أجل الحريّة والديموقراطية، وكيف نجح هذا “الملحق” في خرق الحصار المحكم الذي ضربته أجهزة الرقابة والإعلام والأمن في سوريا على ما كان يجري في داخلها، بانفراده في نشر معظم كتابات المثقفين والمعارضين السوريين وبياناتهم، ممّن مهّدوا للحراك المدني والثقافي، وقادوه في بلدهم غداة تولّي الأسد الإبن زمام السلطة عام 2000، وأخيراً كيف تمخّضت عن هذه التجربة الفريدة من الحوار والتبادل الفكريّ والنضالي بين نخب البلدين إحدى أهمّ ثمار العمل المشترك بينهما، وهو التسليم بحتمية ارتباط قضية تحقيق حريّة لبنان وسيادته واستقلاله بتطوّر العمل الديموقراطي والتحرّري ونموّه في البلد الشقيق.

3

في معجم العرب، الغَسّان هو حدّة الشباب، والغَسّانيّ هو الجميل جدّاً، والقول “إنّي من غسّانه” يعني أنّي من رجاله. وكلّها أوصاف تليق بحاملها، شيخ الكلمة الحرّة في دنيا صحافة العرب منذ نصف قرن أو يزيد، الأستاذ غسّان تويني، أمدّ الإباء والنضال والقلم بعمره.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى