عندما عبرت “حياة”
سعاد يوسف
“طريق الموت” هو ذلك المتحلق الجنوبي الذي يلتف حول دمشق من غربها إلى شرقها مروراً بالجنوب، مشكلأ النافذة التي تتصل من خلالها مع المدن السورية الأخرى، فعبوره قد يكلفك حياتك بكل سهولة أو يوقعك جريحاً، وعلى هذا الطريق فقدت حياة حياتها لتلفظ أنفاسها الأخيرة.
حياة، مُدرسةٌ تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمرها، تعيش مع والدها ذي الأعوام الثمانين وأختها التي تصغرها سناً في منزلهم الواقع على أطراف حي القابون، قرب المنطقة التي يتقاطع فيها المتحلق الجنوبي مع أوتوستراد دمشق-حمص الدولي، والتي تشهد أعنف الاشتباكات والمواجهات بين الجيش الحر وجيش النظام.
والد حياة رفض الخروج من المنزل رغم خطورة الوضع التي تزداد يوماً بعد يوم. فالقذائف بدأت تنهال قريباً جداً منهم، ومنذ حوالي أسبوع ألقت الطائرة الحربية قنابل حقدها وغضبها على باب منزلهم. اهتز البيت وسُمع دوي انفجار هائل، فما كان من الأب إلا أن قال لها: “هناك من يطرق الباب. افتحي له يا ابنتي” فربما لم تسمح له أعوامه الثمانين بتخيل أن يصل حقد الإنسان هذا الحد.
“إنه فعلاً لا يستوعب أننا نعيش حرباً وأن علينا الخروج من المنزل. حاولنا إقناعه بشتى الوسائل إلا أنه رفض. وأنا لا أستطيع أن أعارض رغبته. الموت أصبح قريباً جداً وأنا أريد أن أموت وأبي راضٍ عني، لذلك قررت البقاء معه حتى النهاية”. هذا ما كانت تقوله لصديقاتها في حي القابون.
كانت تذهب كل يوم إلى هناك سيراً على الأقدام، تعبر الحد الفاصل بين الموت والحياة حيث يقبع قناص لا أحد يعلم متى سيجعله مزاجه يطلق النار على حياة، أو على غيرها، وتذهب كي تدرس أطفالاً ما عاد بمقدورهم الذهاب إلى المدرسة. الكثير من أطفال حيها فقدوا مدارسهم، أو باتوا يخافون الذهاب إلى تلك المدارس القريبة من القناص، فآثرت حياة أن تتحدى القناص وأن تذهب هي إليهم كي تساعدهم في الدراسة، ومع مرور الوقت تحول هؤلاء الأطفال إلى مصدر سعادتها وباتت تنسى معهم حزنها وتعبها.
في الأسبوع الأخير، وبعد ازدياد حالات الوفاة بسبب القناص بشكل كبير، كان أحد الضحايا هو شقيق حياة، طلب أصدقاؤها منها الانتقال إلى مكان أكثر أماناً، أو التوقف عن المجيء، إلا أنها رفضت كلا الحلين، وأصرت على الاستمرار في الخروج من منزلها. وفي يوم الأربعاء السادس من آذار، وهي عائدة إلى بيتها بعد يوم من المرح والضحك مع أطفالها، لم تدرك أن القناص اتخذ قراره اليوم، ولم يحتج لأكثر من رصاصة واحدة استقرت في صدرها. لتصبح “حياة” إسماً لمدرسة زرعت في أطفالها فرحة رغم الموت المحيط.
استلقت حياة على طريق الموت، تنزف لساعاتٍ دون أن يتمكن أحد من إنقاذها أو سحب الجثة، فلم يكتف القناص بقتلها بل أراد حصار جسدها في نزاعه الأخير، مانعاً أية محاولة للاقتراب، ومع غروب الشمس تمكن بعض شباب الحي من الوصول إليها وسحب جثتها ليتم دفنها في المقبرة التي خصصها الأهالي للشهداء.
هو مشهد أعاد إلى ذاكرتي حكايةً عن أهالي ساراييڤو المحاصرة الذين اعتادوا استخدام وسائل متعددة للتحايل على القناص، وكانوا يتداولون نصيحة للعابرين في شوارع يسيطر عليها قناصون: إياك ان تكون ثالث العابرين في شارع يقطعه قناص. فالقناص يشاهد العابر الأول، ويصوّب على الثاني، ويصيب الثالث. وربما كانت حياة ثالث العابرين في ذلك اليوم…