صفحات سوريةنبراس شحيد

عندما لا يبقى للسوريين غير اسم «الله»!


نبراس شحيد

لا يقارِب المقال هذا موضوعه لاهوتياً أو دينياً، بل ألْسُنياً وفلسفياً متجنباً الخوض في المعتقدات الإيمانية. بمعنىً آخر، لا يعالج هذا المقال موضوعاً يخصّ «الذات الإلهية»، بل يتساءل بالأحرى عن مدلولات كلمة «الله» في واقعنا السوري الراهن.

لا يختلف اثنان اليوم على المكانة المتعاظمة التي تأخذها كلمة «الله» في فضاء شعارات الثورة. فمن عمق وحدة من تُركوا لمواجهة قدرهم، أو بالأحرى لمواجهة بعضهم بعضاً، يتضرع السوريون، حتى بعض العلمانيين منهم، كما يقول الناشطون، إلى «الله» راجين معونته: «يا الله ليس لنا إلاك!» لكن، كما أننا قد نتفق اليوم على أهمية اسم «الله» في الثورة السورية، فإننا سنختلف حتماً في دلالاته.

يشكّل هذا الاختلاف ضرورةً إنسانية، فكلمة «الله» تحيلنا تاريخياً على الفرقة أكثر منها على الوفاق، فحول معنى الكلمة هذه، نُسجت حقبٌ تاريخية، اختلفت في درجات سموّها أو انحطاطها، دافعةً بالبعض إلى قتل الآخرين أو إلى الموت دفاعاً عن إحدى دلالات هذا الاسم. معنى ذلك أن كلمة «الله»، وإن توحّدت في صورتها اللغوية التي نستعملها جميعاً، اليوم وهنا، فإنها بالضرورة تعددية من حيث الدلالة الدينية والإيديولوجية والاجتماعية والنفسية. تنبع الضرورة هذه أولاً من اختلاف مرجعياتنا كما ذكرت، أي من اسبابٍ ذاتيةٍ صرفة. لكن ضرورة التعددية هذه تتأتى أيضاً من «طبيعة» الموضوع المُسمّى، «الله»، لأنه قد يشير إلى «ذاتٍ» تتجاوزنا، أو إلى ضرورةٍ نفسية أو ثقافية تاريخية معيّنة تتعدى بالضرورة بساطة اللحظة الحاضرة. وهكذا، يُفلت منا كيان الموضوع المراد تسميته، «الله»، وإن امتلكنا حروفه (ألف-لام-لام-هاء)، ليصير الاسم هذا، وأكثر من أي اسمٍ آخر، جرحاً في جسد اللغة ينزف عجزَها في مقاربة موضوعها الهارب. وهنا، يصير الكلام على «الله» بالضرورة كلاماً يشير أيضاً إلى ما هو ليس بـ «الله»، على اعتبار اللغة عاجزةً أمام آفاق مدلولات ما يُراد تسميته. وهكذا، يدفعنا التفكير في اسم «الله» إلى تجاوز مطلقية المرجعية التي تسود الخطاب الديني التقليدي (وأيضاً الخطاب الإلحادي التقليدي)، ليصبح الاسم حالةً من التساؤل أكثر منه حالةً من التوكيد. من هذا المنظور، يُفرِغ اسم «الله» ذاته دائماً لأنه يفلت من سجن الدلالة الأحادية، فيصير الاسم عابرَ سبيلٍ يتجلى ويتخفى في لعبة غربة اللغة التي تصنعُنا كائناتٍ متكلمةً.

من قلب غربة اللغة هذه، يصوغ السوريون اليوم صرختهم إلى «الله» الذي «لم يبقَ لهم سواه» كما يقولون، ليقولوا شيئاً عن غربة وطنهم. من عمق القمع والمعانـاة، يلتـجئ مسـلمٌ ومســيحيٌّ وعلمانيٌّ إلى هذا الاسم الغامض، «الله»، ليبثّ فيه صرخة ألمه في البلد الكسير؛ ويهتف متظاهرٌ «لا أدريٌّ» أو «ملحدٌ» إلى «الله»، ليصير الاسم هذا دلالةً للامعقولـيةِ واقعنا الذي تفشّى فيه الموت! هكذا، وعلى الرغم من اختلاف دلالات الاسم الهارب، يستطيع كثيرٌ من السـوريين اليوم أن يتفقوا، أقلّها، على إحداها، وهي ألمنا الممتزج بالتوق إلى الخلاص! بهذا المعـنى، يمكن اسم «الله» أن يكون جامعاً عندما تصـير فيه غربةُ الإنـسان المتألم غربةَ وطنٍ تتجلى في حكاياتنا المؤلمة، من دون أن تلغي تعددية الدلالات، كما تجلت مؤخّراً في جسد الرضيعة عفاف السراقبي، لتصوغ مجدداً ذاكرتنا السورية.

بمعنىً آخر، يمكن كلمة «الله» في الواقع السوري اليوم أن تعيد صياغة شيءٍ من ملامح وطنٍ جديدٍ نحلم به، كما يمكنها أن تجهض الحلمَ عندما تُختزل إلى وحدانية الدلالة. يحدث هذا عندما يصير «الله» اسماً يحتمي خلفه بعض أبناء «الأقليات»، لتُسجَن دلالة الاسم في رهاب «الاسلاميين»، فيتفشّى فينا منطق الجمود المتّبع للدفاع عن عبوديّة الحالة الراهنة. وكذلك يصير اسم «الله» خطراً على الوطن حين تتجمّد دلالاته، بحسب منطق بعض أبناء «الأكثرية»، في مضمونٍ واحدٍ، يُقدَّم فيه الصراع في سوريا بشكلٍ مبسّط على أنه مجرد صراعٍ دينيٍّ بين طائفةٍ حاكمة وغالبيةٍ محكومة. وهنا، يعود بنا اسم «الله» إلى التفرقة أكثر منه إلى الجمع الذي يحترم الاختلاف، في الوقت الذي تُجبِر فيه «طبيعةُ» هذا الاسم الخطابَ الديني، أياَ يكن، على الاعتراف بعجزه، لينقلب فشلُ اللغة نجاحاً حين يُترك للاسم الهارب ترجمةَ غربتنا الجماعيّة. بهذا المعنى، لا بد من تحرير دلالة اسم «الله» من سطوة المشايخ والكهّان ليصير الاسم المبهم خيمةً يتوحّد فيها جرح من يُذبحون، من حيث يدرون أو لا يدرون، بصمتٍ جنائزيّ.

هكذا يصير اسم «الله» في صراخ السوريين وحدة هَمٍّ في زمن يعشّش فيه الموت حتى بين شقوق الجدران التي تقطر رغبةً في القتل؛ زمنٌ لم يبقَ فيه للإنسان من ملجأٍ إلا غربة الاسم الهارب، «الله»، وآفاقه التي تبثُّ رجاءً.

([) راهب يسوعي من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى