عندما يحمل اللقلق.. مهاجراً سورياً/ بشرى مدخنة
هو طائر اللقلق يحُط يومياً في مطار مدينتنا، روما، حاملاً لنا صرةً في داخلها مولود جديد، فيتركه لمصيره و يرحل. في هذه الليلة وصل كعادته، دقيقاً في موعده، ليترُك محمد ابن الثامنة عشرة سنة إلا شهراً، كما عرف عن نفسه. لم يكن ذلك تفصيلاً صغيراً، وهو ما يعرفه جيداً، ابن حلب محمد، عندما وصل إلى يدي المحقق الإيطالي، الذي كان يصرخ مهدداً: “سنعيدك إلى تركيا”.
أجاب محمد بلهجته الحلبية: “أنا ما بغضر (اقدر) أرجع عحلب، أبي مطلوب وعمي مُنشق، وبعدين أش بدي أعمل بتركيا؟ خلصوا مصراتي”. ليجيب المحقق غاضباً ومُستفزاً، من هدوء أعصاب الصبي السوري: “سوف ندفع لك ثمن بطاقة الطائرة إلى تركيا، ونعيدك اليوم”. بينما محمد يصر على عدم رغبته بالعودة، ويصرح عن رغبته بالذهاب إلى ألمانيا لاستكمال دراسته، واحضار بقية عائلته. فيبلغه المحقق: “يجب أن تعرف أنك لا تستطيع الذهاب إلى أي بلد آخر، وإن حاولت سوف يتم اعادتك إلى هنا. هل تفهم؟”.
حينها، تلفّظ محمد بالعبارة السحرية، التي شفعت لهُ، بجانب سنوات عمره الثمانية عشر إلا شهراً: “إذاً سأطلب اللجوء هنا!”.
كتب محمد هذه العبارة، ووقع عليها، ونهض شاكراً المحقق، بالإنكليزية، ليستفزه من جديد. كما لو أن إجادة الانكليزية جريمة أمام محقق أوروبي، لا يجيدها. فيسأله: “لمن كل هذه الحلوى التي تحملها بيدك؟ أرى أنك تعرف أن تدلل نفسك”. ويضحك مع زملائه، على محمد المائل للبدانة. قد تكون فرصة مناسبة ليستعيد بها المحقق أيام طفولته، حين كان يسخر من سمين الصف، مع بعض رفاقه.
محمد فهم سخرية المحقق، على الرغم من أن المترجم حاول تمرير العبارة، ولم يرغب بالتوقف عندها. فأجاب: “لي ولزملائي الموقوفين بالداخل، فنحن لم نأكل منذ البارحة”.
المحقق بغضبه الدائم، مهزوماً أمام رجولة محمد وكرمه، قال لإحدهم: “هؤلاء يأتون لعندنا وشبابنا يذهب لعندهم ليقاتل مع داعش؟! أليست مهزلة!؟”. فيجيب الآخر معلقاً: “لكنهم ليسوا شبابنا، وإنما أصولهم من هناك”. وانتهى الحديث دون تحديد أين يقع هذا “الهناك”.
بعد دقائق، يتم استدعاء هشام وهو شاب في الثلاثين من عمره، من مدينة دير الزور، لكنه لا يمتلك سرعة البديهة التي لمحمد، ربما لم يكن ابن تاجرٍ من حلب كما محمد، ولا يرتدي ملابس تناسب ذوق المحقق، كالتي يرتديها محمد. هي تفاصيل صغيرة ولكنها كبيرة كفاية، أمام القانون أو بالأحرى أمام “رجل القانون” الأوربي.
يقول المحقق لهشام: “ماذا جئت تعمل هنا؟”
هشام: “أريد أن أذهب إلى هولندا للالتحاق بعائلتي وابني”.
يصرخ المحقق: “إذاً فلتعد من حيث أتيت، وأطلب الفيزا إلى هولندا”.
هشام: “لا استطيع العودة، فقد دفعت كل أموالي للسمسار، من أجل الوصول إلى هولندا، وهو خدعني وتركني هنا”.
المحقق: “هذه ليست مشكلتي! توجد طائرة هذا المساء إلى اسطنبول، وسوف نعيدك من حيث أتيت. وإذا قاومت، سوف نرسلك مقيداً، ومعك مرافقة، ونسلمك للشرطة التركية، وعندها سوف تواجه المشاكل معهم، إلا إذا قررت العودة طواعية، فلن يمسك أحد”.
ما أن حاول هشام فتح فمه للجواب، حتى بدأ الجميع بالصراخ والتهديد، ودفعِه يميناً وشمالاً. ثم التفت المحقق باتجاه المترجم، وسأله: “هل نطقها؟ هل نطقها؟”
كان المحقق يقصد العبارة السحرية: طلب اللجوء في بلد الوصول. وبهذه الحالة، لن يستطيعوا إعادته إلى تركيا. هذا لا يعني، أنه لم تتم إعادة العديد من الأشخاص، على الرغم من تصريحهم الواضح بطلب اللجوء. إلا أن هشام، وصل أوروبا، في وضح النهار، والشهود عليه كُثر.
يحار المترجم بالجواب: “لا لم يطلبها بعد… ولكن..”.
يقاطع المحقق المترجم، ويأمر باقتياد هشام إلى غرفة التوقيف، بانتظار طائرة المساء. في حين أعرب أحد المحققين عن عدم رغبته بإرسال مرافقة معه، وذلك لما يترتب عليه من تكاليف، متأملاً ألا يبدي هشام، أية مقاومة عند مرافقته للطائرة، كي لا يضطر لسماع مطلبه مرة أخرى، وربما حينها سوف يسعفه الحظ والوقت، على نطق ما لم يُسمح له بنطقه أثناء التحقيق.
في مطار مدينتنا، يستمر طائر اللقلق بزيارتنا، تاركاً لنا كل يوم، عرباً من كل البلدان، محاولين الإدعاء بأنهم سوريون، يقلدون لهجتهم، ويزعمون انتماءهم لمدن سوريا، التي شهرتها الثورة والحرب، كحمص وحاراتها كبابا عمرو. هي أماكن لم يعرفوها في حياتهم، إلا عن طريق نشرات الأخبار، لكنهم يعرفون أنها أماكن ساخنة بما يكفي، لتذيب أذني المستمع. وعلى الرغم من ذلك، فلم يعد عصياً على المحقق كشف هويتهم، حتى بدون مساعدة المترجم.
فالمحقق يعرف تماماً من هو السوري.. هو ذلك الذي يثير غضبه.
المدن