عنف الشعر/ عباس بيضون
لا يمكن للأدب الحديث أن يكون إيجابياً، انه سلبي أداته النفي والنقض وهو فضلاً عن ذلك صدامي ونقدي وكاشف للتناقضات والمفارقات. الأدب الإيجابي ليس زمانه الآن فمنذ بدأ الفكر مساره النقدي والعدمي لم يعد الأدب سوى فاضح هادم متقص للحقائق نابش لها. الأدب الإيجابي الذي يجمل الوجود ويحض على العيش وعلى الاندماج والتكيف، هو الآن أدب التعليم والعظة والعبرة، أي انه أدب التكيف والقبول والحض والتبشير والدعوة. هذا لم يعد الآن شأن الأدب أو الفكر، قد يكون شأن السياسة وقد يكون شأن الدين لكنه بالتأكيد ليس من الأدب والفن اللذين لم يعد من شأنهما الوعظ والتبشير والدعوة. لنقل أن الأدب والفن منذ ردح طويل يحويان جرثومة عدمية نقضية، أي انهما منذ ردح طويل لا يجمّلان ولا يداريان ولا يزينان، انهما يصدمان ويعاركان. الأدب من ذلك الحين معركة، انه كاسر هادم ناقض، أي انه متصل بالعنف بل العنف بؤرته. العنف هنا انطولوجي عضوي، لكن العنف الانطولوجي هو غير العنف الفروسي الذي رافق بدايات الأدب. ما ندعوه بالشعر الملحمي الذي عرفناه في أوليات الشعر العربي، أو ما نطلق عليه بعبارة أخرى الشعر الفروسي والحربي، لم يكن من هذا الباب ولم يكن العنف فيه انطولوجيا عضويا. لم يكن في أصل كينونته وعلاقته بالوجود، لم يكن جرثومة أصلية فيه. الشعر الفروسي الحربي الملحمي اذا جاز القول هو شعر الانشاد والارتجاز قبل المعركة والمغامرة بعدها، انه اعتداد القبيلة بحربها وانتصاراتها، لهذا لم تكن هذه القصائد سوى مديح للحرب التي لم تكن بالطبع عنفاً عضوياً بقدر ما كانت، وفي الشعر خصوصاً، ارتجازا وتمظهراً، كانت الحرب النموذجية، الحرب في مثالها وفي صورتها النمطية، الحرب التي هي عنوان القبيلة ومفتاحها. مثل هذا لم يكن عنفاً إلا في مظهره، بل كان حتى في ذلك تجميلاً للعنف واغتباطاً به. كان الشعر يسود بقدر ما يستطيع أن يبهر بهذه القعقعة الحربية. وبقدر ما يستطيع أن يجعل منها نمطاً أسطورياً ونحن جميعاً نعرف قصة الحرب التي دامت قرابة عقدين من الزمان ولم تسفر إلا عن جريح واحد. كما أننا نعرف قصة الشاعر الذي زعم في قصيدة انه كان في المعركة يلعب بالسيف ثم حين سئل عنها قال انها كانت بلا سيوف وانها كانت لعبا بسعف النخل. لا نتعجب فهذا التضخيم ليس من باب «أعذب الشعر أكذبه»، لكنه من باب تنميط الحرب والوصول في وصفها إلى مثالها الأعلى. هذا بدون شك ذو صلة بالقيم القبلية، فهكذا يكون الشعر وهكذا تكون الحرب وهكذا تقال المعارك التي لا تكون إلا ملاحم ضارية مهما يكن أصلها وواقعها. لكن الاغتباط بالعنف والتمدح له وأمثلته لا تعني بأنه لم يكن وارداً، فالحياة القبلية كما نعلم قائمة على الغزو، الغزو الذي لا يصل إلى أن يكون حرب إبادة. العنف هو شريعة الحياة القبلية لكنه عنف محسوب، عنف لا تسمح تقنياته بأن يكون ضارياً، فهو ليس كذلك إلا في الشعر. الحرب لعبة القبائل والشعر هو ملعبها وحرب القصائد هي بالتأكيد أضرى من الغزوات المتقطعة. لكننا أمام عنف لا يخترق الواقع ولا يلويه بل هو عنف متكيف معه، بل ويكاد يكون ألعوبته ويكاد يكون أُلهيته، لذا يُتغنى به كما يُتغنى بالأعراس، ويقال كما لو كان متعة ولهواً.
لذا ينبغي أن نفرّق بين هذا العنف الشعري والعنف الانطولوجي. ينبغي أن نفرق بين تلك الحرب التي تستحق أن تكون أغنية وإيقاعا، وبين الحرب التي هي رغبة في التدمير ونزاع مع العالم. لن نجد في الشعر القبلي إلا تلك الحرب الماتعة المشروعة المغناة، وإذا ذهبنا بعيداً في الشعر العربي لا نجد الا الغرار نفسه، حتى نصل إلى شاعر بدا له العنف حاجة انطولوجية وبؤرة انطولوجية. انه المتنبي الذي لم يعش عصر غزوات قبلية، ولكن عصر ثورات تدمر وتبيد وتفتك، عصر العنف فيه مقدس والعنف فيه ميتافيزيقي وإلهي، العنف فيه دين او يقرب من الدين. نحن الآن أمام عنف القرامطة ولم يكن المتنبي قرمطياً لكنه كان داعية ثورة وأفضت به دعوته إلى السجن حيث قضى سنوات. عنف المتنبي الذي يتغنى بتقطيع رؤوس ملوك كبيرهم أحق بضرب الرأس من صنم. كان صورة عن ملحمة كونية تطغى على الواقع وتجتثه. ملحمة تدمر وتغير وتحمل إلى السدة فرسانه الملثمين. هكذا لا يكون العنف أغنية شعرية بل رؤيا وعالم ينقلب ويُجتث من أصوله.
نسير في الشعر إلى أن نصل إلى غرض للشعر نكاد نتفرد فيه، اذ لا أظن إلا أن الشعر الوطني خصيصة عربية، والشعر الوطني يكرر من بعيد ملاحم القبيلة. هنا العنف يعود من جديد أغنية والشعر يعود من جديد فروسياً. هنا يبدو العنف جميلاً ومثالياً وهنا يفترق العنف الشعري عن العنف الواقعي، فيغدو الأول تعويضاً عن غياب الثاني وإنذاراً به. يعود العنف في هذه الحال لفظياً وكلامياً وكلما استرسل في ذلك زاد صخبه وزادت قعقعته، وأسفر عن انتصارات وهمية كبرى وعن دماء مقدسة وشهداء مطهرين. هكذا نجد الشعر الوطني يدير حروباً لا تقع إلا في القصائد. محمود درويش خرج عن ذلك وهو مع قليلين لم يتطاولوا إلى انتصارات كاذبة. مع قليلين ذهب محمود درويش إلى المراثي. لقد بدا العنف بالنسبة له انكساراً وهزيمة ومآسي ضاربة، لقد تغيرت الأغنية. المأساوي يرث الانتصار والعنف العضوي ينهار إلى انكسارات ومآسٍ في القصيدة. الشعر يعود مراثي، أي يعود عضوياً كأنما يجد في ذلك أحد أصوله، وأحد مجاري غنائه.
لكن القصيدة بعد حين أو في الأثناء تصل إلى قصيدة قلما تغني، بل تخنق ألمها وتراكمه. انها تبدو يائسة وخائبة وأقل من خسارتها. ليست مأساة خاصة بل هي أقرب إلى جردة خسارتها، انها قصيدة القسوة التي تراكم أكثر مما تغني، مصرة أكثر على أن تكون إشعاراً كونياً. قد يكون سركون بولص أحد روادها، لكنها أي قصيدة القسوة تنتشر في شعر الشبان، وترث عنفا صامتا بقدر ما هو ينطلق من أساس تدميري ومن مشهد للخراب.
السفير