مراجعات كتب

عنف الكائن البشري… تكفيراً لا تفكيراً/ موريس أبوناضر

 

 

فجّر الهجوم على مبنى مركز التجارة العالمي في أيلول (سبتمبر) 2001 سجالاً واسعاً في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، حول مشكلة العنف التي غدت في غاية الأهمية، نظراً إلى تأثيراتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، لكونها ظاهرة خطيرة تعبّر عن عنف وقسوة تدمّر الإنسان والمجتمع والحضارة.

في كتابه «سوسيولوجيا العنف والإرهاب» (دار الساقي)، يحاول الباحث العراقي إبراهيم الحيدري الإحاطة بجذور العنف والإرهاب التاريخية، ومعرفة أسباب دوافعهما، ونتائجهما على الفرد والمجتمع، وكذلك دراسة شروط تطوّرهما على المستويين المحلي والعالمي، وتحليل الأسباب والعوامل المختلفة التي تدفع الإرهابي إلى أن يفجّر نفسه بحزام ناسف، أو بسيارة مفخّخة وسط جماعات بشرية، أو وسط سوق شعبي، أو مدرسة للأطفال، بدم بارد من أجل تحقيق حلمه، أياً يكن هذا الحلم.

بداية، يمكن تعريف العنف تعريفاً إجرائياً، بأنه الاستخدام غير المشروع للقوة المادية بأساليب متعدّدة، لإلحاق الأذى بالأشخاص والجماعات والممتلكات، من طريق اليد أو اللسان، أو بالفعل والكلمة. أما كلمة إرهابي فتطلق على أولئك الذين يسلكون طريق العنف والقوة والقسوة، وينهجون طريقة عمل مباشر يرمي إلى إثارة الرهبة والرعب، أي إيجاد مناخ من الخوف والهلع بين السكان. ويستند الإرهابيون إلى منظومة فكرية ودينية وسياسية تسوّغ أعمال العنف، وتحاول تبريره، وإعطاءه شرعية، وتستعين بشعارات ومقولات تخاطب الغرائز، وتدغدغ العواطف البدائية من دون الوعي والعقل. ولهذا يصبح العنف الطريق الطبيعي الذي يقود إلى الإرهاب. ووفق علم النفس الإرهابي، الشخص العصابي هو الذي فقد المرونة وإمكان التفاهم والحوار والتسامح في التعامل مع الأمور.

تاريخياً، لم يتعرّض الفلاسفة الإغريق إلى مفهوم العنف بصورة مباشرة، بحيث إن غالبية حوارات أفلاطون تدور حول العدالة والمساواة والفضيلة والسعادة والعلم. أما أرسطو، فاعتبر أن كل سياسة يجب أن توفّق بين طبيعة الإنسان والقيم التي ينبغي ترسيخها في المدينة الفاضلة. أما الفلاسفة الأوروبيون فتناولوا العنف في سياق آرائهم الفلسفية حول الإنسان والوجود. توماس هوبز (1588- 1697) اعتبر أن الإنسان «أناني بالطبع» يتقبّل اللذة، ويرفض الألم، وينزع نحو استخدام القوة، لأنه يعيش في مجتمع يسوده «قانون الغاب» حيث حرب الكل ضد الكل، وهي صفة المجتمع البدائي. ولكن لما كان الإنسان اجتماعياً بالطبع، فإن عقله هداه إلى التفاهم والحوار والتوصّل إلى «عقد اجتماعي» يلتزم به جميع الأفراد. أما جان لوك (1632- 1704) فتختلف رؤيته للطبيعة البشرية عن رؤية هوبز، فبينما اعتقد هوبز أن الإنسان أناني بالطبع، رأى لوك أن البشرية تسير وفق قواعد مستمدّة من القانون الطبيعي. أما سبب الصراع بين الأبناء فهو السيطرة على الملكية، لأن الصراع منذ البداية كان صراعاً للسيطرة على جزء من الطبيعة، وأن امتلاك جزء من الطبيعة من فرد يتعارض مع حقوق الآخرين. ومن هنا بدأ الاستغلال والصراع ضد هذا الاستغلال.

تأثّر روسو بهوبز حين أكّد أن الحياة الاجتماعية ليست فطرية، لأن الأفراد كانوا قد اضطروا لحاجتهم إليها، غير أنه اختلف مع هوبز حين أشار إلى أن حياة الإنسان الأولى كانت خالية من الشر والشقاء، واعتقد أن كل ما هو طبيعي حسن وخيّر، وكل ما هو من صنع الإنسان فاسد وقبيح. أما فرويد فرفض المفاهيم الفلسفية التي تقول بطبيعة الإنسان العاقلة، وأن الإنسان يتميّز عن الكائنات الحية بامتلاكه العقل، وهو بهذا يقدّم فلسفة جديدة ومغايرة، تقول إن السلوك البشري ليس موجّهاً بالعقل، وإنما بدوافع لاعقلانية تؤثّر في حياتنا. وعبّر عنها بالرغبة والاحتياج والشوق، كما يقول إن هذه الدوافع يمكن إرجاعها إلى غريزتين: غريزة الحياة أو الحب وهي الغريزة الجنسية التي تحافظ على الذات والنوع، وغريزة الموت أو الهدم، وهي غريزة العدوان والتدمير. وهكذا يصبح الإنسان عند فرويد «عدواً لأخيه الإنسان بالفطرة»، ورسالة المجتمع هي تهذيب هذه الدوافع وتشذيبها. وتظهر غريزة العدوان في الرغبة في تحطيم الأشياء وإيذاء الآخرين.

اعتبر الإسلام منذ مجيئه أن لدى الإنسان الاستعداد لعمل الخير والشر، وقد خلقه الله وخلق معه عقلاً يدبّر به أموره ويميّز بواسطته بين الخير والشر، كما جاء في القرآن الكريم: «فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره». ومع ذلك، فقد اختلفت الفرق الإسلامية في تفسير النص القرآني والحديث، وكان هذا مدعاة لاندلاع العنف بينها. أما المفكرون المسلمون، فقد تميّز بينهم في الحديث عن العنف الفارابي، الذي يعتبر أن الغلبة والقهر من خاصيات المدينة الضالة، أي «مدينة التغلّب» التي يقصد أهلها أن يكونوا قاهرين غيرَهم، وممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدّهم اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط. أما ابن خلدون، فيعتقد أن العنف نزعة طبيعية في الإنسان، وهو يقول في هذا السياق : «ومن أخلاق البشر فيها الظلم والعدوان بعضهم على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدّت يده إلى أخذه، إلاّ أن يصدّه وازع». ثمّ يقول: «إن الحرب -والمقاتلة- لما تزل واقعة في الخليقة منذ برَأها الله … لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان، وهذا أمر طبيعي، وإما غضب لله ودينه».

يمثّل العنف من الناحية السوسيولوجية على ما يقول الباحث العراقي، عودة الإنسان إلى حالته البدائية الأولى، ذاك إن إحدى الخصائص السياسية التي تميّز كل حضارة عن غيرها هي الطريقة التي تستطيع بها تنظيم السلوك العدواني، كطاقة غريزية كامنة، وتهذيبه من طريق توجيهه بصورة عقلانية رشيدة، وكذلك تعليم الأفراد كيف ومتى يستطيعون كبح جماح عدوانيتهم. ومع ذلك، فالعنف لا يحدث إلا عندما لا تستجيب المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمصالح الإنسان التي يراها حقوقاً مشروعة له، وعندما لا يستطيع أن يعبّر عن ذاته وآرائه وعقائده بالطريقة التي يراها صحيحة.

يمكن من هذا القبيل، اعتبار العنف عند الحركات الأصولية الراديكالية الحديثة في العالم العربي، ردَّ فعل على الحداثة الغربية والاغتراب الاجتماعي، لكنها تحوّلت -لأسباب سياسية- منظوماتٍ من الحركات الدينية التي تدعو إلى إصلاح المجتمع بالعودة إلى ماضي السلف الصالح. لكن المجتمعات العربية رفضتها، ما جعلها تتبنّى العنف في سلوكها اليومي، محكومة بمنطق «إما الإيمان أو الكفر»، الذي يؤدّي إلى منطق القوة، وليس إلى منطق العقل والتفاهم والحوار. ويقوم منهج الحركات الأصولية كما يرى المؤلف، على نصوص صلبة تقدّم النص الثابت على العوامل الإنسانية والاجتماعية المتميّزة بالحركية والتغيير، وتفرض قراءة واحدة على بقية القراءات المحتملة للنص. وهكذا، فهذه الحركات تجمّد النص في التفكير في مدلول النصوص، ولا تقدّم حلولاً ملموسة، ولا تفتح باباً لحرية الرأي، في تقديم قرارات تعتمد على الذكاء والقدرة والتجربة، معتبرة أن ليس هناك من حاجة إلى قرارات أخرى مع وجود النص. وهذا المنهج ينظر إلى المجتمع على أنه كيان توحّده العقيدة. ولما كانت المجتمعات اليوم مليئة بالبدع والضلالات، فلا بدّ من تربية الأفراد وإصلاحهم بالرجوع إلى النموذج التاريخي المثالي للمجتمع الأوّل وإعلامه، لأن طريقهم أعلم وأحكم، وهم للنصوص أفهم، استناداً إلى نص لأبي داود الترمذي وابن ماجه.

كتاب الحيدري عن العنف والإرهاب كتاب غني بمعلوماته، غني بتحليلاته، يساعد على فهم الحركات الإسلامية المتطرفة، لجهة فكرها وممارساتها، ويطرح أسئلته عن العنف من وجهة نظر سوسيولوجية قلما نراها عند المحللين اليوم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى