صفحات الرأيعلي العبدالله

عنف حركات الاسلام السياسي

علي العبد الله

اعتمدت حركة الاخوان المسلمين استراتيجية دعوية اساسها المحاضرة والصحيفة والمجلة والكتاب والتربية والمدرسة والرحلات والمخيمات والأنشطة الاجتماعية كأنشطة لأسلمة حياة المجتمع في كل جوانبها، حيث كان منهاجها مرتبطاً بإيقاع: رجل مسلم في تفكيره وعقيدته، بيت مسلم في تفكيره وعقيدته، شعب مسلم، حكومة مسلمة. لكنها مالبثت أن شكلت جناحاً عسكرياً تحت اسم “النظام الخاص” بذريعة أن “الإمساك بالسلطة، التي لا تُطلب لذاتها بل لأنها أداة فعالة في سبيل الدعوة، ضرورة لأن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن”، وبالتالي فالجهاد “ضرورة حتمية”، كاشفة عن نيتها استخدام القوة دون تحديد استراتيجية محددة، معتمدة تكتيك سرية التنظيم وعلنية الدعوة.

قام “النظام الخاص” بعدة عمليات اغتيال مثل اغتيال رئيس الوزراء المصري النقراشي باشا، والتي ذهب الأستاذ حسن البنا نفسه ضحية لها، واغتيال القاضي أحمد الخزندار، وقد أشير فيما بعد إلى فشل الأستاذ البنا في السيطرة على “النظام الخاص” حيث تمرّد عبد الرحمن السندي على تعليماته، وقد حاول المرشد العام الثاني حسن الهضيبي (1953-1973) السيطرة على “النظام الخاص” لكن أعضاء هذا النظام قاوموا ذلك، وعندما تعاون المهندس سيد فايز- من كوادر النظام الخاص- معه قام أعضاء “النظام الخاص” باغتياله بطرد متفجر أُرسل إلى بيته يوم 21/11/1953.

اصطدمت الحركة بالنظام السياسي الجديد (نظام ثورة 23 تموز 1952)، ودخل الآلاف من أعضائها المعتقل، وهاجر منهم الآلاف إلى الدول العربية والإسلامية، السعودية بخاصة، حيث برز متغيران أساسيان، الأول تغيُّر فكري بالانتقال إلى فكرة جاهلية المجتمع وتكفير الأنظمة وتبنّي أطروحة الحاكمية التي أطلقها الباكستاني أبو الأعلى المودودي، والثاني التحاق الإخوان المسلمين بالسياسة الخليجية بعامة، والسعودية بخاصة، حيث حصل تلاقح فكري سياسي بين النظرة الإخوانية التي تكفِّر الأنظمة الحديثة والسلفية الوهابية التي تكِّفر المجتمع عبر التمييز بين توحيد الربوبية (ينطوي برأيها على الشرك) وتوحيد الألوهية (التوحيد الخالص)، وترفض وجود أصول وفروع في الدين وتكفِّر المختلف في الفروع كما في الأصول بحيث يصبح إيمان معظم المسلمين موضع تساؤل.

لقد اجتمع تكفير الأنظمة إلى تكفير المجتمع في نشاط سياسي امتد إلى الدول الإسلامية كافة حيث وفّر المال السعودي والدعم السياسي إمكانيات كبيرة للتحرك. وهذا دفع الفكر السلفي الوهابي إلى الانتشار عبر كوادر حركات الإخوان المسلمين في أصقاع الأرض، والاشتراك في معركة ضد القومية العربية والفكر الماركسي وضد الدول الشيوعية في إطار الحرب الباردة التي كانت السعودية طرفاً فيها إلى جانب المعسكر الغربي. وقد ترتّب على بروز هذين العاملين قيام اتجاه أكثر راديكالية في التعامل مع الأنظمة والمجتمعات دشنه الأستاذ سيد قطب في كتابه “معالم على الطريق”، ومحور فكرته قائمة على مفاصلة واعتزال الأنظمة “الكافرة”حتى تتمكن الطليعة المسلمة من إجراء تغيير قاعدي/ شعبي وتُسقِط هذه الأنظمة. لقد أقام الأستاذ سيد قطب نزوعه السياسي على جاهلية المجتمع وكفر الأنظمة ودعا إلى ضرورة اعتزالها وعدم المساهمة في حل مشكلاتها، حيث استنكر تقديم مقترحات وأنظمة تعالج الواقع الحالي للشعوب الإسلامية، واستهجن القيام بأية دراسات من هذا القبيل، واعتمد “الحاكمية” كأساس نظري لكل سلوك سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، ورفض الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية. أفرز هذا التوجه، الذي تزامن مع سيطرة “النظام الخاص” على الحركة بعد عام 1973، خطاً متشدداً بين جيل الشباب بخاصة.

أطلقت أطروحة الأستاذ سيد قطب المتشددة نقاشات داخل الحركة، وفي المجتمعات العربية والإسلامية، نجم عنها بروز تيارات فكرية ومواقف عملية أكثر جذرية من الحركة إنْ في موقفها من الأنظمة أو من المجتمعات عبرّت عن نفسها بحركات جديدة مثل “تنظيم الجهاد” و”جماعة المسلمين” في مصر….إلخ.

أعاد تنظيم الجهاد، الذي خرج من تحت عباءة الإخوان المسلمين، صياغة أفكار الأستاذ سيد قطب وحولها إلى فكرة انقلابية -جسّدها كتاب زعيم الجماعة محمد عبد السلام فرج “الفريضة الغائبة” (يقصد الجهاد)- تدعو إلى الانسلاخ عن المجتمع الذي وصمته بالكفر، وإلى إقامة تجمع إسلامي جديد خارجه, وعندما يتمكن هذا التجمع ينقضّ على المجتمع الكافر ليدمره ويزيله ويقيم المجتمع الإسلامي من جديد، ودعت جماعة المسلمين (التكفير والهجرة)، بقيادة شكري مصطفى، إلى مفاصلة المجتمع الكافر ومهاجمته بكل الطرق، وتبنت جماعة “شباب محمد” بقيادة صالح سرية خيار الانقلاب العسكري. وقد مارست ذلك باستخدام العنف: هجوم الجماعة الفاشل على الكلية الفنية العسكرية في القاهرة عام 1974، خطف واغتيال وزير الأوقاف الدكتور محمد الذهبي من قبل “جماعة المسلمين” عام 1977، اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، والاعتداء على المال العام وعلى السواح الأجانب.. إلخ. وقام نظيرها الجزائري بذبح أسر كاملة، أطفالاً وشيوخاً ونساء، دون تمييز، حتى الحركات المعتدلة، مثل “جمعية الشبيبة الإسلامية” في المغرب، لم تنجُ من جرثومة العنف، فقد قامت عام 1975 باغتيال المحامي عمر بن جلون (عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)،  وحركة النهضة التونسية التي هاجم أعضاء منها مقراً للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في حي القصبة في العاصمة تونس يوم 17/2/1991، وضربوا أعضاء من الحزب المذكور كانوا يناوبون فيه قبل أن يصبوا عليهم البنزين ويوقدوا فيهم النار وهم أحياء، ولم يجد الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس الحركة الذي يُصنَّف كمعتدل، في ما حصل سوى رد فعل على عنف السلطة. وكذلك المشايخ الوسطيون مثل الشيخ محمد الغزالي الذي شهد في محاكمة قتلة الكاتب المصري فرج فودة، وأفتى بقتله بعد أن اعتبره مرتداً، قائلاً بجواز “أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتاً على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة”. مع أن الشَّيخ كان موجوداً في المناظرة، التي قُتل على أثرها فودة، وسمع الأخير يقول أمام الملأ: “الدِّين أسمى وأجل من توريطه في الحزبية والسِّياسة المباشرة” (فيديو المناظرة 1992)،محاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ 12/10/1994 وقيام حركة الاخوان المسلمين بتجميد عضو الدكتور عبدالمنعم ابو الفتوح لأنه زاره في المشفى.

تطوّرت الحركات الجهادية خلال معركة تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي، حيث نشأ تيار جهادي شديد التطرف تحت اسم القاعدة يعطي الأولوية لقتال العدو القريب. لعبت الـ”سي. آي. إيه” دوراً في نشوء ظاهرة الأفغان العرب حيث اشتمل التدريب الذي قدمته لهؤلاء المقاتلين على ملاحظات سياسية حول أنظمة الدول التي جاؤوا منها وما فيها من فساد وتمييز وسياسات لا تخدم المواطنين وحولتهم إلى ناقمين، أطلقت الطريدة وستعمل على اصطيادها تحقيقاً لأهداف إقليمية ودولية، فعادوا بعد انتهاء معركة تحرير أفغانستان إلى تحرير بلادهم من الأنظمة الفاسدة، فانفجر العنف في مصر واليمن والجزائر، قبل أن يدفعه العدوان الأميركي على العراق عام 1991 إلى تعديل أولوياته بتقديم ضرب المصالح الأميركية في كل دول العالم وصولاً إلى مهاجمة نيويورك وواشنطن.

في السياق نشأت السلفية الجهادية من اتفاق أيمن الظواهري وأسامة بن لادن على تشكيل “الجبهة الإسلامية العالمية لمواجهة الصليبيين واليهود والأمريكان” بإدماج تنظيم الجهاد الإسلامي المصري في الخارج في تنظيم القاعدة حيث أصبح تنظيم القاعدة تنظيم ذو امتدادات في عدة دول ببرنامج عالمي، منظمة عالمية تحالفت عبر الظواهري مع مجموعات إقليمية في الجزائر والمغرب والفلبين وكشمير والشيشان وأندونيسيا. وقد أدى هذا الاندماج إلى تطوير الرؤية الجهادية العالمية وتطوير القدرات القتالية والإرهابية أيضاً. لقد أحضر الظواهري الرؤية والأشخاص (المحاربون والمهنيون) من تجربة تنظيم الجهاد الإسلامي المصري مما جعل في الإمكان القيام بتفجيرات متزامنة في السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام” عام 1998، ناهيك عن مهاجمة المدمرة كول عام 2000وناقلة النفط الفرنسية في سواحل اليمن 2002 وتفجيرات المغرب 2003 والرياض عام 2003 وقطارات مدريد عام 2004. وقد شكلت الحركة السلفية فروعاً محلية لهذا التنظيم في دول الخليج (قاعدة الجهاد في جزيرة العرب) ، والمغرب العربي (قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي) ، والعراق (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين)، حيث قاد الاحتلال الأميركي للعراق إلى دمج العدوين، البعيد والقريب، في بقعة جغرافية واحدة، وزاد تكفير هذه الحركات للشيعة وهدر دمهم، في تفاقم العنف في العراق وأخذه اشكالاً أكثر دموية ووحشية، وأخيرا جبهة النصرة لأهل الشام في سوريا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى