رشا عمران
قبل عام تقريباً، أرسل لي أحد الأصدقاء صوراً للمنحوتات التي تنتشر في قريتي (الملّاجة) والتي كانت حصيلة جهد مجموعة من المتطوعين من القرية مع مجموعة من أهم نحاتي سوريا وفنانيها، المنحوتات عبارة عن كتل صخرية ضخمة نسبياً اشتغل عليها الفنّانون على مدار سنوات لتخرج منها أعمال فنية بالغة الجمال أعطت للملّاجة شهرة أخرى تضاف إلى شهرتها الثقافية والاجتماعية الخاصة. لم يكن إرسال الصديق للصور ونشرها على صفحته على الفيسبوك فقط لتذكيري بهذه الأعمال، كان الأمر هو التالي: الصور للمنحوتات وهي محطّمة ومشوّهة بعد أن تعرضت لهجوم مجموعة من (الشبّيحة) المسلّحين من القرى المجاورة في محاولة للانتقام منّي ومن عدد من شباب الملّاجة وأبنائها الذين أعلنوا وقوفهم مع الثورة السورية منذ اليوم الأول. حطموا ما استطاعوا تحطيمه، وما لم يستطيعوا لقساوة الحجر المستخدم، حاولوا تشويهه قدر المستطاع. وما عجزوا عن خدشه أو إزاحته عن قاعدته قاموا بتشويهه بكتابات على نمط: “الأسد أو نحرق البلد، ماهر مازال بالبيجامة، الويل لكم يا عراعير الملّاجة، العراعير الخائنين…”، وكلمات وشتائم نابية كثيرة لعلّ أبسط ما يقال فيها أنها دليل فاضح على الذهنية المشوّهة التي اشتغل نظام البعث على تكريسها طيلة عقود، العقلية المضادة للجمال والمعادية للانتماء الوطني لصالح الشخصي المعاق.. ببساطة، الجمال الأبيض يشوّهه الحقد الأسود، ومادام من الصعب الوصول إلى الأشخاص المعنيين بالحقد للانتقام منهم، فلِمَا لا يتم الانتقام مما يدلّ عليهم وعلى ذهنيتهم “النافرة” والخارجة عن النسق العام ؟
المضحك بالأمر أو المبكي كان تعليق إحدى المؤيدات في قريتي على الحادثة: لماذا لا يتركون هذه التماثيل ويذهبون لإحراق منزلها في القرية؟! طبعاً المنزل المقصود هو منزل (محمد عمران) والذي يضم مكتبته وأعماله وأشياءه الخاصة والذي استضاف على مدى سنوات طويلة أهم كتّاب ومثقفي سوريا والعرب والعالم!
حدث هذا في الملّاجة القرية التابعة لمحافظة طرطوس على الساحل السوري ومن قام بالفعل هم ممن يتهمون شركاءهم في الوطن بالظلامية والتخلف.
بعد أقل من سنة على هذه الحادثة انتشرت على الفيسبوك صورة لتمثال رهين المحبسين الشاعر أبو العلاء المعرّي مقطوع الرأس ومشوّه على يد مجموعة من حاملي السلاح المناوئين، كما يفترض، لنظام البعث بكل ما يمثله. التمثال الموجود في الشمال السوري هو تمثال نصفي لأبي العلاء ومن السهل على أي نحات سوري إعادة ترميمه. الفكرة هي في العقلية التي قامت بهذا الفعل، العقلية التي تأخذ من التاريخ ما لقنت به فقط. غالباً لا يعرف قاطع رأس المعرّي من هو المعرّي وربما لم يسمع به حتى، فعقول هؤلاء رهينة (محبس) واحد فقط، الظلام الذي ينسبونه زوراً إلى الإسلام.. الفن بالنسبة لهم كفر وزندقة والتشخيص كفر وزندقة وبالتالي وجود تمثال لأبي العلاء المعرّي أو لغيره في الإمارة الإسلامية المرجوّة هو كفر وزندقة ولمؤسّسيهم الأسبقية في هذا. ألم يقم الطالبانيون بتهديم تماثيل بوذا العظيمة في أفغانستان؟! لِمَ لا يتمّ هذا إذاً في سوريا وأنصار هذا الفكر يحملون السلاح وقادرون على فرض رؤيتهم بقوته؟!
ثمة عقلية استبدادية جديدة ظهرت في سوريا، لا تقلّ خطورة وعنفاً عن سابقتها وربما تجد لها قاعدة شعبية أكبر حالياً بسبب الطبيعة المتدينة للسوريين خصوصاً في الشمال والأهم بسبب الإحساس بالخيبة الذي يشعر به معظم السوريين من أنهم تركوا منفردين في مواجهة هذا الوحش الذي استحضر كل خيالات الإجرام وطبقها عليهم فليأت أياً كان ليخلصهم منه. الخطر الأكبر سيظهر لاحقاً بعد سقوط النظام حين سيكتشف السوريون أنهم قد يقعون تحن سلطة استبداد آخر تتحكم بمصائرهم وأرزاقهم وحياتهم وتستحضر لهم الظلمات لا نور الحرية.. المعركة الأخرى ستحدث حتماً بين السوريين وهؤلاء الظلاميين. الثمن الباهظ الذي تم دفعه للتخلص من عصابة مافياوية تتحكم بسوريا تحت إسم المقاومة والعروبة والعلمانية سيقف حائطاً قوياً أمام طموح عصابة أخرى تريد أن تتحكم بسوريا بنفس العقلية ولكن هذه المرة تحت إسم الدّين والإسلام.. والثورة مستمرّة.
