عن أدونيس وصادق العظم.. والثورة
وائل السوّاح
نشرت الشاعرة خالدة سعيد رداً على الفيلسوف السوري صادق جلال العظم بسبب نقده لمواقف الشاعر أدونيس من الثورة السورية. وأعادت الشاعرة، وهي كما يعرف الجميع زوجة أدونيس، الحرارة إلى السجال الأبدي حول دور المثقف من الثورة عموماً والنقاش الجاري منذ سنتين حول دور المثقف أو موقفه من الثورة السورية. كما أثار ردها عاصفة من الردود على مواقع التواصل الاجتماعي، فكتب كاتب سوري مرموق على صفحته: “من يود رؤية مثال على الوفاء الفكري الزوجي، عليه بقراءة ردّ خالدة سعيد على صادق جلال العظم، “.
والحق أن ثمة انقساما كبيرا بين مواقف المثقفين السوريين من الثورة. فبينما نرى مفكرين وكتاباً وفنانين وقفوا مع الثورة حتى النهاية من مثل صادق جلال العظم وحسان عباس وبرهان غليون وسمير سعيفان وسمير عيطة ومي سكاف ورشا عمران وسمر يزبك وعمر قدور وغيرهم كثر، وقف آخرون ضد الثورة، وصبت مواقفهم بشكل أو بآخر في طاحونة النظام، من مثل أدونيس وفراس سواح ونزيه أبو عفش ورغدا ودريد لحام وحسن م. يوسف، وغيرهم كثر.
بيد أن من التسرع إطلاق أحكام موحدة على جميع المثقفين فقط من منطلق موقعهم اليوم وموقفهم من الثورة. لم يكن أدونيس في يوم من الأيام موالياً لنظام الأسد الأب أو الابن، ومعروف أن كتبه كانت في فترات طويلة ممنوعة من التداول، ولم تُدَرَّس نصوصه، وهو أهم قامة شعرية عربية معاصرة، في الجامعات والمدارس السورية، وأخيراً قام اتحاد الكتاب العرب بفعلة شائنة هي فصله من الاتحاد، ما حدا بقامتين أدبيتين كبيرتين هما الراحل سعد الله ونوس وحنا مينة إلى تقديم استقالتهما من الاتحاد احتجاجاً على الفصل وتضامناً مع الشاعر؛ وبعد عشر سنوات طلب إليه ضابط الأمن المعين كرئيس لاتحاد العرب أن “يتراجع عن الخط الذي تبناه” لكي يسمح له بالعودة إلى فردوس الاتحاد.
أدونيس مسكون بفكرة الحداثة، وهو يعتقد أن الحداثة شرط لأي تقدم حقيقي وانتقال من طور إلى طور. والحداثة بالنسبة إليه هي إعادة النظر المستمرة في معرفة الطبيعة والمجتمع والفن وتعميق هذه المعرفة من خلال طرح تساؤلات مستمرة والعمل على إنشاء حركات ونظريات وأفكار جديدة، ومؤسسات وأنظمة تؤدي إلى زوال البني التقليدية القديمة في المجتمع وقيام بنى جديدة. ويؤسس الرجل مشروعه التحديثي – إذا اقتبسنا من ميشال شيحا – باعتباره امتداداً لرموز وحركات التحديث، كفكر المعتزلة و”ابن الرّوندي” و”ابن المقفع” و”الرازي” وحركات الرّفض والتمرّد كثورة الزنج والقرامطة فضلاً عن رموز الحداثة الشعرية “أبو نواس”، و”أبو تمام” و”جميل بثينة.
ولكن الرجل انقلب من حداثي ثوري إلى محافظ، لأنه لم يرد أن يجازف بما عمل عليه عقوداً طويلة في الترويج لفكر الحداثة في مغامرة غير مضمونة العواقب، هي الثورة السورية.
أدونيس يريد الخروج بالمجتمع، ثقافيّاً وسياسيّاً من “زمن السماء، الجمعي والإلهيّ” إلى زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ. ولكنه يفشل في أن يرى في الثورة السورية وجهها الحداثوي التقدمي. وهو رأى في معارضي الأسد أفراداً يحملون “وجهات نظر وتطلّعات نبيلة وعادلة”، ولكنه لاحظ مسرعاً أن لدى بعضهم “لحمة ضدّية عنفية، تغلب عليها نبرة التهييج والثأرية والدينية الطائفية أو السلفية”. لم يقل أدونيس هذا الكلام اليوم أو أمس. قاله في حزيران 2011، عندما لم يكن في المعارضة من يرفع صوتاً تهييجياً أو ثأرياً أو سلفياً أو طائفياً.
من هنا يحق لمفكر من حجم صادق العظم أن يفترض أن أدونيس يتبنى شعارات النظام الذي روج لها منذ أول يوم من الاحتجاجات السورية، عندما خرج مسؤولوه يقولون إن التحرك يهدف إلى إقامة إمارة سلفية على الأرض السورية. كما يحق للعظم الآن أن يشكك في تخوف أدونيس من الإسلاميين الثوريين وهو قد دعم بقوة الثورة الإسلامية في إيران. والحقيقة أن أدونيس دعم في السنة الأولى الثورة الخمينية في إيران، ورأى فيها مؤشراً على إمكانية أن يلعب الإسلام دور “المحرك” من أجل تحقيق “التحرر في الداخل: العدالة والمساواة، وحرية الإنسان، وكرامته، والإلحاح على أن يكون سيّد نفسه، ومصيره”.
لكن الرجل تراجع بعد فترة من الزمن عن هذا الدعم غير المشروط، وإن لم يقل – شأنه شأن كل المثقفين العرب – إنه كان مخطئاً في تقييمه.
وعموماً، لا يمكن وصف أدونيس بالشجاعة، فقد كان طوال حياته حذراً بالمعنى السياسي، وهو لم يواجه صراحة النظام السياسي في بلده، ولم يكن نصيراً للحريات الفردية الملموسة في أشخاص مضطهدين بعينهم إن كان في ذلك إحراج له، وإن كان مع الحريات الفردية بالمطلق، لأن ذلك لا يحمله مسؤولية محددة. ومن هنا فليس نقد العظم له جائراً في ما يتعلق بموقفه من قضية سلمان رشدي، التي لم يتخذ فيها أدونيس موقفاً واضحاً ضد الفتوى التي أصدرها الإمام الذي كان قد أيّد ثورته قبل سنوات بكل قوة. ولكنه من جانب آخر كان – مع صادق العظم – من بين موقعي بيان الـ 99 الشهير الذي طالب قبل ثلاث عشرة سنة بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي.
لم تأتِ الثورة السورية على مقاسات أدونيس الحداثوية، وليتها فعلت. وواقع الحال أن أدونيس، الذي كان يرقبها من مبعدة، وقف ضدها. وهو لا يمكنه أن ينكر أن موقفه يصب في طاحونة النظام السوري والرئيس الأسد. ولكن من جانب آخر، لا يمكن استسهال القول بأن الشاعر، في كل ما يكتبه، إنما يقدم خدمة للنظام. ولا ننسَ أن الرجل طلب من الأسد التنحي في شهر آب 2011، أي قبل أن يفعل الكثير ذلك وهو موقف يعتبر شجاعاً، بمقاييس أدونيس في الشجاعة.
المدن