عن أعمارنا المنهوبة…/ موسى برهومة
نَحسِبُ أعمارَنا بالسنوات، ونتوهّم أننا قد عشنا ثلاثينَ أو أربعين أو خمسين أو سبعين سنة. بيْد أننا لم نعشْ كذلك. نحن صرفنا هذه السنوات كيفما اتفق، وكيفما أرادت الأقدارُ والظروف، واقتتلنا وافترقنا، وأنفقنا العمرَ في إنتاج الأنانية والكراهية والمؤامرات الصغيرة والأذى!
الحياةُ الحقيقية تُحسبُ بلحظات الفرح والنشوة والإنجاز والتفوّق والسعادة المغمورة بالعطاء والحبّ والخير. ولو قمنا بحِسبة هذه اللحظات، لوجدنا أنّ بعضنا عاشَ سنواتٍ قليلة، وهذا هو المحظوظ العظيم، لأنّ هناك أشخاصاً عاشوا أشهراً أو أسابيعَ… أي أنهم لم يبلغوا سنّ الفطام في العيش السعيد!
ولو أن أحداً عاد إلى طينته الأولى، وفكّر بعقل مجرد في ما يفعل وينهمك به ويطارده ويُفني الوقت والجهد والعمر لتحقيقه، لألفى أنه لا يختلف عن «دونكيشوت» الذي يحارب طواحين الهواء بسيفه الخشبي، وفي ظنّه أنه يجندل الأعداء ويرميهم صرعى!
ثمة حروب لا طائل منها نخوضها بكل تصميم، وبلا وعي. وثمة منازعات ننشئها مع أصدقاء ومقرّبين لأسباب بلهاء بائسة، وثمة من يموت لخطأ طائش، وهناك من يقضي عمره وراء القضبان لأنه لم يَعدّ للعشرة قبل أن يُقدِم على فعلته، أو قبل أن يتمتم في سرّه، كما كانت تفعل جداتنا: «يخزيك يا شيطان»!
وإن كان بعضهم يفعل ذلك، على خسرانه، من أجل أن يظفر بلحظة هانئة في حياته، أو يبني لغده وغد أبنائه، إلا أنه في هذه الغضون المتهالكة، يقضم شيئاً فشيئاً إنسانيته، وتتلاشى فسحة السكينة في أعماقه وتتصحّر، وتظل روحه تغلي كمرجل، فهو لم يعتد الاسترخاء، ولم تألف نفسه الهدوء والطمأنينة والرضا.
سيقول أحدهم إن الحياة معركة، أو حرب، وأن على المرء أن يخوضها كفارس مقاتل لا يتوقف عن التقدم، ولا يعرف الاستسلام، فمن يتوقف، في ظن هؤلاء، فقد خسر نقطة، ومن يفعل ذلك يخسر جولة، فيخسر بخسرانها المعركة، ويخرج من الحلبة، أو لا يعود لاعباً أساسياً، فيُنسى!
وليكن، فالنسيان (أن تَنسى وتُنسى) ليس أمراً مذموماً. إنه فسحة تمنحها لك اللحظة المعطوبة كي تسند فيها ما تبقى من حرّيتك المتداعية، وتشرّع نوافذك الموصدة للهواء، وتتذوق طعماً مختلفاً لا يشبه المرّ الذي كنتَ تتجرعه وأنت «تقاوم» من دون أن تحقق أي انتصارات مرئية!
ثم إنك فانٍ، لا محالة، وتنتظرك عتمة لا نهاية لها، فأضئ لحاضرك شمعة كي تتذكّر النور. فإن لروحك عليك حقاً: أن تترفق بها، وتوفّر لها الجمال، وتعتني بذوقها الرفيع، وتجهد في تأمين ما تحتاجه من زهد وتعفّف، وتذكّرها دائماً بقول عنترة العبسي: «يخبرك من شهد الوقيعة أنني/ أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم»، فالروح المفعمة بالضياء يطربها هذا النبل السخيّ.
ولأننا منشغلون في حروبنا الصغيرة، ولأنّ ميراثاً إنسانياً عمّق في نفوس بعضنا مفاهيم التحدي، وأن الحياة وقفة عزّ، ففهمنا العز على أنه إراقة الدماء، وتجفيف الكون من الرخاء، وإعطاب الازدهار، ورفع معمار الموت والفناء، فإننا نطيل الوقوف على أطلال المسرّات، لتكون في عداد الشؤون العابرة التي لا تثير الحماسة، ولا تحرّض على تدفق الدم في عروق تود أن تحافظ على درجة غليانها..
ولو أن المشاعر الفياضة، التي نغدقها في تشييع الراحلين، نمنحهم إياها وهم على ذمة الحياة، لأطلنا في أعمارهم، أو على الأقل لجعلناهم يموتون مبتسمين!
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة