عن إخماد النار بالنار وزلزلة الأبد بالأبد
علا شيب الدين*
1
“لا تُوقِف السلطة إلا سلطة مماثلة”، جملة كان غرض مونتسكيو منها سياسياً، يتماهى والغرض نفسه في عموم كتابه “روح القوانين”، إذ يميل الإنسان – إن مُنِحَ سلطة مطلقة – إلى أن يسيء استخدامها، ومن ثم وجب فصل السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) بعضها عن بعض، حتى تتوافر الحرية للأمة. الجملة نفسها، قد تفسح المجال لقراءتها في اتجاهات ومجالات عدة ومتعدِّدة، فقراءتها في “عالم اللغة” مثلاً، قد تفضي إلى كشفٍ كان غائباً عن الأذهان. أنْ تكون اللغة “عالَماً”، يعني أنها واسعة وشاسعة إلى الدرجة التي يصعب عندها اختزالها إلى مجرد وظيفة نقل تقوم بدور الوصل والتواصل، أو إلى مجرد أداة للتعبير عن الأفكار والتصوّرات، كونها الكائن الحيّ الذي يولد، يموت، ينمو، يتطوّر، ينبثق، يعيد تشكيل الذهن، يتجلى، يعقل، يفكّر، يشعر، يحدس، يستدلّ، يغامر، يثور، ينتصر، يَهزم ويُهزم، يدمِّر ويدمَّر. هكذا، فإن اللغة المتسلِّطة، سياسية أكانت، أم دينية، أم اجتماعية ثقافية، أم فكرية، تبدو كأنها تمضي، عبر تسلُّطها، إلى حتفها، وتسير صوب تدمير ذاتها من خلال تأجيج لغة مضادّة، مماثِلة لها في القوة والسلطة، توقفها عن حد تسلّطها وربما تدمّرها، وهذا ما يمكن تسميته “انتحاراً لغوياً” قد تُقدِم عليه السلطة. انتحار على مستوى اللغة، يسبق موتها الواقعيّ المحتَّم بفعل الثورة الشعبية عليها.
2
إنْ أردنا أن نفهم في زمن “الربيع العربي”، كيف تدمِّر اللغة ذاتها، عبر تأجيج لغة ثائرة عليها، فقد يكون السبيل إلى ذلك، هو التفكُّر مليّاً في شعارات الشعوب الثائرة باعتبارها شعارات مثَّلت لغة مقابِلة، في قوتها وسلطانها، للغة الأنظمة الحاكمة المتسلِّطة. بهذا المعنى ربما تكون الثورة السورية، على وجه الخصوص، ثورة لغة بامتياز، إضافة إلى كونها ثورة جسد انعَتَق. فمن بئر بضع كلمات خطَّها أطفال من درعا في جنوب البلاد، على جدران مدرستهم، “الشعب يريد إسقاط النظام”، فاضت ثورة شعبية طالت شرق البلاد وغربها، وجنوبها وشمالها! للمرّة الأولى، بعد عقود غربة واغتراب، وجد السوريّ نفسه متحدّثاً بلغته الخاصة وبمنطقه الخاص، من قلب الشارع، كفضاء عام في دولة سُلِبَت منه حتى أمسى فيها غريب الديار، ليبدأ بعدها رحلة تبديد لغة السلطة أو لغة العائلة التي حكمته بحديد اللغة ونارها. إنها اللغة “الرسمية/ الأمنية” التي لم يكن ليتعرّف المجتمع السوري فيها إلى أحلامه بل إلى مناهجه. فهي اللغة المتعجرفة، التامة الانغلاق، اللئيمة الحاقدة، المتآمرة، الباعثة على العبوس والتجهّم والخوف، والمحمَّلة إيديولوجيا طوباوية أثقلت كاهل العقل والنفس والوجدان بكل أنواع الفصام والتناقض المريض. كان لا بدَّ، في مقابل لغة السلطة تلك، من لغة توازيها قوة وتحدِّياً. إنها لغة الثورة، لغة “الشعب يريد…”. فالنار، على ما يبدو، لا تطفئها إلا النار، ففي حين جابهت السلطة الثائرين عليها بلغة حرْق ودماء، كتعبير شبّيحة السلطة وجنودها ورجال أمنها: “الأسد أو نحرق البلد”، “يا بشار لا تِهْتَمْ عِنْدَكْ شعب بيشرب دم”، فإن الذكاء اللغوي الثوري واجهها بنيران لغةٍ من شأنها الإنارة لا الحرق، فأن يكون “الشعب يريد إسقاط النظام” لغة مقابِلة للغة الحرق والدم، معناه أن ثمة من يريد الحرية والعدالة والكرامة، عبر إسقاط من يريد حرق البلد وإراقة الدماء فيه. بدت لغة السلطة كأنها تدمِّر ذاتها، عبر تشبُّعها بمفردات من شأنها الإضرام وشرب الدماء. مفردات عملت على توليد لغة مضادة من شأنها تحدِّيها والعزم على إسقاطها. ما حدَثَ على الصعيد اللغوي، انتقل إلى الأرض، فاستحال الحرق والدم فعلاً، بعدما كانا لغة. في المقابل، استحال سقوط النظام وتهاويه فعلاً تدريجيَّاً، بعدما كان لغة.
3
مثلما ساهمت لغة السلطة في تشكيل لغة ثائرة عليها، فإن لغة الثورة ساهمت أيضاً في تشكيل لغة سلطة متأثِّرة بالثورة، فتطايرت قدرات اللغة بحيث أصبحت الكلمة تُنتِج وتَستَهلِك. لكن الفارق بين الحالين قد توضحه استعارة قوات النظام بعض كلمات الثورة، أو جُمَلها، أو أسلوب طرحها ولحنها وإيقاعها، كما يبدو، مثلاً، في الشطر الأول من عبارة: “الشعب يريد/ ترباية من جديد” التي كتبها الجنود على الجدران في منطقتي كفرسوسة وداريا الثائرتَين مثلاً، في دمشق وريفها بعد الانتهاء من المجازر “الباسلة”. تشي العبارة بالطريقة التي طالما فكِّرت السلطة من خلالها في “شعبها”، أي اعتبار الناس، أطفالاً غير مؤدَّبين تلزمهم تربية، ووصاية دائمة عليهم، وهي نظرة تتطابق، على كل حال، مع نظرة المستعمِر للشعوب الأصليّة، الذي يعمل على “تَذْويت”* الشعوب المستَعْمَرة بأنْ يسمّيهم همجاً، أطفالاً، برّيين، غير متحضّرين، غير عقلانيّين. إذ تُظهِر العبارة السابقة، بوضوح تام، التعالي الأريستوقراطي حيال كل ما هو “شعبيّ”. بيد أنها تشير، في الوقت عينه، إلى تأثُّر السلطة بالثورة، سواء وَعَتْ ذلك أم لم تعِ، ويُرجَّح عدم الوعي. فالجملة نفسها تبيِّن أن الثورة باتت من القوة بحيث فرضت على السلطة لغتها، وحضورها اللغوي. هذا من جهة. وتُفصِح، من جهة أخرى، عن تناقض السلطة، وضعفها، وتفسّخها، حين يستعمل جنودها لغة الثورة، كون العبارة تعترف، في الشق الأول منها، بإرادة الشعب الذي صار “يريد” (الشعب يريد…)، ويظهر في الشق الثاني (ترباية من جديد)، نَهَم السلطة إلى تركيع الشعب، وترجيعه إلى ما كان عليه قبل أن “يريد”، وعبر هذا التناقض بين شقّي الجملة نفسها، تكون لغة السلطة قد دمَّرت ذاتها.
غير أن الشعب، اعتبر أن السلطة التي تحكمه منذ عقود، ليست إلا استعماراً أو احتلالاً، وقد عبَّر عن ذلك بلغته الخاصة: “سوريا لِينَا وما هِي لَبيت الأسد”، وهي لغة ثائرة على لغة جعلت من سوريا، “سوريا الأسد”، ما يعني، إمعان لغة السلطة في تدمير ذاتها، عبر تشكيل لغة مضادة تخلخلُها، كلمة بكلمة، وعبارة بعبارة، وأسلوباً بأسلوب، ونهجاً بنهج، ونظرة بنظرة، وفكرة بفكرة.
كانت للكلمات المستعمَلة في كتابة تاريخ جديد، يكتبه بين الشعار والتظاهر، شعبٌ طامحٌ إلى استعادة دولته وتحريرها من قبضة المُحتَل (سوريا لِينا..)، كانت لها ذاكرة أخرى تغوص في عمق الدلالات الجديدة بطريقة عجيبة. فما كان عَرَضاً أصبح جوهراً، وغدت “الكتابة الثورية”، كأنها مصالحة بين الحرية والذكرى. إنها تلك الحرية المتذكِّرة التي لا تكون حرية إلا في حركة الاختيار الشعبي. وعليه، فإن لغة “الله سوريا حرية وبَس” و”ما مِنْحِبَّكْ”، قد تفتّحت من وسط الدمار الذي ألحقته بنفسها لغة “الله سوريا بشار وبَس” و”مِنْحِبَّكْ”. لقد ضعضعت لغة الثورة، لغة السلطة، التي اختصرت الوطن بـ”شخص”، ووضعته في موازاة ماهيَّة روحيَّة كليَّة، أي في موازاة “الله”، وبدت اللغة الثائرة كأنها قد لغَّمَت اللغة، حين أحلَّت “الحرية” مكان “شخص” (بشار)، ما يعني تحطيم الغاية العلائقيّة في اللغة، ليحلَّ محلّها تفجُّر الكلمات.
وحيث إن اللسان واللغة هما نتاج طبيعيّ للزمان وللشخص البيولوجيّ، فإن الهوية الشكلية للثائر السوري المتمثلة في لغته، أو في “الكتابة الثورية لتاريخ جديد”، توطّدت بعيداً من المعايير اللغوية للسلطة وثوابتها ومطلقاتها. بذلك، حدث أخطر أنواع القطيعة مع السلطة، أي القطيعة اللغوية. وبدأ الفرز بين الحقيقي والزائف في اللغة، كما لو أن الفعل الثوري الواضح الجليّ، لم يكن ليولّد إبداعاً يكرّسه المجتمع السوري، إلا عندما نجح في تبديد الترسّب اللغوي لديمومةٍ ظلّت حتى لحظة اندلاع الثورة السورية من دون دلالة!
4
لكي نفهم دلالة شعار “قائِدْنا للأبد/ سيِّدْنا محمّد”، يبدو أنه علينا أن نفهم كيف يُستنتَج ما يؤسّس الأنطولوجيا على السيكولوجيا، ويمضي من واحدتهما إلى الأخرى بمساعدة مَلَكَة سيكولوجية وأنطولوجية، ذاتية وموضوعية في آنٍ واحد، تتبدّى في الثائر من دون أن تتبع له حصراً. فاللجوء إلى لغة أنطولوجية (وجوديّة)، تجلّت في تعبيرات “أبدية غيبية دينيّة روحيَّة”، كان بمثابة رد فعل أسَّسَ أنطولوجيا اللغة على حال الثائر السيكولوجية (النفسية)، الساخطة على لغة “الأبدية” في السلطة، أي اللغة التي جعلت من الرئيس، “قائداً أبدياً”. فقد وُرِّثت “الأبدية في اللغة” من الأب (حافظ الأسد) الذي فرض وجوده، كوجود أبدي، إلى الابن (بشار) ليكمل من بعده “مسيرة الأبدية”، حتى أن تسمية الحفيد (حافظ)، بدت كأنها من أدوات “سياسة الأبد” تلك.
إن في استبدال قائد “أبدي”، حيّ ذهنياً (الأسد الأب)، وحيّ واقعياً (الأسد الابن)، بقائد “أبدي”، ميّت واقعيّاً، وحيّ ذهنيّاً (النبي محمد)، دلالة مفادها: إن “لغة الأبد”، لا تبدِّدها ربما إلا “لغة أبدٍ” مماثِلة. على أنه يتعيَّن، من هذا المنظور، التمييز بدقة بين طرح الشعار نفسه على أساس دينيّ بحت، وطرحه على أساس سيكولوجي نفسي. إذ المجتمع السوري معتدل في تديّنه، وتاريخه لا يشكّل تربة خصبة للتطرّف الديني. لذا ينبغي، عند محاولة تفسير الشعار، عدم تجاهل زمنه، فهو لم يُطرَح إلا بعد مرور أشهر طويلة على اندلاع الثورة، بعدما أوغلت السلطة في القتل، وأمعنت في المجازر والتدمير، والتعنيف على أساس طائفي. ما يعني أن لغة شعار “قائدنا للأبد/ سيدنا محمد” ليست داخلة في تكوين الثورة وماهيتها، بل نجمت عن ضغط انفعالي. فمن طبيعة الإنسان، حين يمرّ بظروف عصيبة وبتجارب مأسوية، اللجوء إلى شخصية رمزية يعتبرها قدوة، ويستمدّ منها القوة، والصبر الذي قد يعينه على الخلاص من المأساة أو حتى احتمالها! فاللجوء إلى شخصية مثل شخصية النبي محمد، يُعتبر بمثابة حاجة إلى “الامتلاء” في مواجهة “الخواء” اللازم عن الرعب. في أوقات المِحَن، غالباً ما ينتعش المخيال الديني الذي قد يكون عوناً وهَدْياً يساهم ربما في التخفيف من هول الهول!
5
يمكن، استناداً إلى التحليل اللغوي ذاته، تفسير شعارات أخرى من مثل: “حرية للأبد/ غَصِبْ عَنَّكْ يا أسد”. إذ في الشعار نفسه ووجهَتْ “العبودية الأبدية لشخص”، بـ”نزوع أبدي إلى الحرية”. أي أن لغة السلطة، ساهمت في تشكيل لغة مقابِلة، مماثِلة، ثائرة عليها، مزلزِلة أبديتها بأبدية حرة. بذلك تكون لغة السلطة قد دمَّرت ذاتَها بذاتها.
* مفهوم التذويت، من المفاهيم الأساسية في ما سُمِّي بالدراسات ما بعد الكولونيالية، وقد نظّر له الماركسي الفرنسي لوي ألتوسير، حيث اعتبر أن استدخال السلطة في الذات، يعني ألاّ يغدو أعضاء المجتمع الأفراد “ذواتاً” قبل أن “تستدعيهم” قوى المجتمع الحاكمة، أو ما يدعوه ألتوسير “أجهزة الدولة الإيديولوجية”. فالشخص لا يُولَد “ذاتاً” بل المجتمع هو الذي يحوِّل الشخص إلى “ذات”. هكذا، فإن مفهوم التذويت عند ألتوسير يشتمل على كلّ من دَفْعِ الشخص إلى إدراكٍ واعٍ ومكتمل، ومُسَيْطَر عليه في آنٍ واحد، فيغدو الشخص في كلا المعنيين “موضوعاً”. هكذا أيضاً، يُذَوِّت المستعمِر الشعوب الأصليّة بأنْ يسمِّيهم همجاً، برّيين، غير متحضِّرين، غير عقلانيّين..إلخ وبهذا يغدون خاضعين للمستعمِر بوصفهم “ذواتاً” همجيّة. هذا بالضبط ما فعله المستعمرون الأوروبيّون، كسلطة خارجية، حين كرّسوا كلّ جهودهم لكي يبقى المحليّون في الأماكن التي استعمروها “أطفالاً” بالمقارنة مع حكّامهم الأوروبيّين العقلانيّين، الراشدين.
النهار