عن اقتصاد الثورة السورية/ عمر قدور
مع انقلاب «البعث» في آذار (مارس) 1963، انتهت الصيغة الكلاسيكية من العلاقة بين الاقتصاد والسياسة. فـ «البعث» كان صريحاً في تحطيم البورجوازية الناشئة والمُلكيات الكبيرة تحطيماً نهائياً. ضباطه الذين باتوا متحكمين بالقرار البعثي، والذين أتوا من بيئات ريفية فقيرة، كان التحكم بالاقتصاد في طليعة مطامعهم، ولم يكونوا ليكترثوا بأثر قراراتهم على فرص النمو العام، بخاصة على صعيد الرسملة الضرورية لأي اقتصاد ناشئ. هكذا صار الإمساك بالسلطة مدخلاً للإمساك بالقرار الاقتصادي. وعلى الصعيد الإعلامي، جرى تجريم الشرائح الثرية المقضي عليها، مع تجريم تطلعاتها السياسية ومن ثم تجريم المال السياسي ككل.
طوال خمسة عقود، ظلت التجربة السياسية منفصلة عن الحركة الاقتصادية في البلاد، الطبقات الثرية الناشئة على الفساد ترى مصلحتها في النظام واستمراره، والأحزاب المعارضة على قلّتها وضآلة فاعليتها لا ترى نفسها ممثلة لمصالح اقتصادية عامة، باستثناء ادّعاء غالبيتها تمثيل مصالح الطبقات الفقيرة، وهو ما يدّعيه «البعث» أصلاً. الليبرالية كانت رجساً في نظر غالبية هذه الأحزاب، وأيضاً ضمن الثقافة السياسية السائدة. وحدهم «الإخوان» غرّدوا خارج السرب ضمن تصوراتهم الإسلامية التي تحترم الملكية الخاصة، واستطاعوا في حقبة السبعينات من القرن العشرين استقطاب جزء من الطبقات الوسطى. لذلك، وحدهم كانوا يحصلون على تبرعات ذات وزن، ويديرون بعض المشاريع الإسلامية والخيرية التي ما لبثت السلطة أن انقضّت عليها.
إلى حد كبير، لم يكن مفهوماً أو مقبولاً أن تتموّل التنظيمات السياسية، وقرنت الثقافة السائدة إلى وقت قريب جداً التمويلَ بالعمالة أو الارتزاق. ذلك يعني ضمن ما يعنيه غياب التقاليد المتعلقة بالتمويل السياسي، وعدم وجود ضوابط شفافة تحدّ من الفساد، وتمنع الانزلاق إلى تغليب مصالح المموّلين على المصالح المفترضة للجهات المتموّلة وجمهورها. مع انطلاق الثورة، تحديداً مع تفاقم الوضع الإنـساني وبدء العـسـكرة، قفـزت مسألة التمويل إلى الصدارة، فالقوى المنخرطة في الثورة ليست من الشرائح الاقتصادية العليا في دولة «البعث»، وانتبه النظام مبكراً إلى حيوية الإجهاز عليها وعلى مواردها القليلة أصلاً.
ثلاثة مستويات، منفصلة أحياناً ومتصلة أحياناً أخرى، يمكن الحديث عنها عند التطرق إلى «اقتصاد» الثورة: المستوى السياسي والمستوى العسكري والمستوى الإغاثي. وعلى رغم غياب الشفافية في ما يُنفق عليها، يمكن الاستدلال بمؤشرات عامة ملموسة، أو على الأقل الاستدلال على أنماط من السلوك قد يكون لها تأثير كبير الآن ومستقبلاً.
على المستوى الإغاثي، تتداخل المسؤوليات ويكثر التنصل منها أيضاً، أحوال اللاجئين في مخيمات الشتات تقول إن ما يُنفق غير كافٍ ولا يلبي الحدود الدنيا. مساهمة تنظيمات المعارضة في تمويل الجهد الإغاثي ليست الأهم مقارنة بجهود المنظمات الدولية والمنح المقدمة من بعض الدول، أو تسهيلات الضيافة من دول أخرى كتركيا وكردستان العراق. أيضاً مساهمة تنظيمات المعارضة ليست الأهم في مراكز الإيواء الداخلية، وجزء معتبر مما يُصرف عليها قائم على التبرعات الأهلية. بعض التبرعات يتجاوز الانقسام السياسي العميق مُركّزاً على الدوافع الإنسانية، لكن ما يُنفق بأكمله غير كافٍ لاحتواء المتضررين. الخطورة هنا تأتي من التقصير وآثاره المديدة، بخاصة على الأطفال الذين لا يلقون رعاية غذائية وصحية ونفسية وتعليمية كافية.
على المسـتوى السـياسي والعسكري تختلف الصورة، وصار في الإمـكان الحديث عن طبـقة سياسيـة وطبـقة عســكريـة ناشـئتين بفعل التمويل المتعدد الاتجاهـات والـمشارب. الملاحظ أن كل الجهات السيـاسية والعسكرية تتغاضى عن كشـف مـصـادر تمويلها ومقدار التمويل، المواقف الـسياسية والتجاذبات بينها هي التي تتكفل بالإفصاح عن مصادر التمويل من دون معرفة حجمه. لا يخفى مثلاً أن بعض الانقسـامات فـي صفوف المعـارضـة يرجع إلى الاختلاف في التوجهات بين الدول الراعية والمموّلة لها، ولا يخفى أيضاً أن عدم توحيد الجهد العسكري الميداني مرده إلى الخلاف بين الجهات الداعمة على أولويات المعارك، وحتى على الحد المسـموح به للكـتائب للتحرك ميدانياً.
عسكرياً، شاع في البداية مفهوم الغنيمة، حين كان «الجيش الحر» في بداية تشكله، ولم يكن لديه مصدر سوى الاستيلاء على مستودعات تابعة لقوات النظام. في ما بعد توسع مفهوم الغنيمة لدى بعض الكتائب ليشمل الاستيلاء على الممتلكات العامة في المناطق المحررة، وتجيير عائداتها كمكسب خاص وعدم الإنفاق منها على المتضررين الذين هم أصلاً أصحاب الملكية العامة. ذلك لا يقتصر على انعدام ثقافة التفريق بين النظام وما هو عام، فعدم التمييز هنا ليس بريئاً تماماً. كتائب أخرى لم تتورع عن المس بالملكيات الخاصة، الكبيرة والصغيرة، على منوال ما يفعله شبيحة النظام عند اقتحامهم المناطق الثائرة. حتى الغنائم من الأسلحة لم تسلم أحياناً من الاحتكار أو المتاجرة بها، ولا يندر أن تبقى في مخازن بعض الكتائب بلا استخدام في الوقت الذي تتعرض فيه كتائب أخرى «في المنطقة ذاتها» إلى هجوم عنيف من قوات النظام.
الغرب لم يكن بعيداً دائماً من إهدار الأموال، فمنذ سنتين على الأقل نشطت بكثافة مؤسسات تُعنى بالتحول الديموقراطي، واستقطبت نسبة مهمة من كفاءات الشباب تحت لافتة تأهيلهم لليوم التالي. ليس في وسعنا الاكتفاء بحسن النيات، لأن لهذه المؤسسات تجارب مماثلة في بلدان أخرى، العراق نموذج قريب جداً، وفي الكثير منها كان الإنفاق بمثابة هدر للأموال والإمكانات. فمع طول الأمد فقد الناشطون علاقتهم ببلدهم الأم، ونسبة كبيرة منهم رتبت أمور بقائها في البلدان الأوروبية فلم تعد لتمارس دورها المفترض. الآن هناك نسبة كبيرة من الشباب السوري الذي يعتاش على أموال تلك المنظمات، وبات يُنظر إليها كما يُنظر إلى الطبقتين السياسية والعسكرية بصفتهما نخبة منفصلة عن معاناة الجمهور الواسع.
في المحصلة، صار للثورة اقتصادها الذي يعتمد غالباً على الخارج، ويعتمد جزئياً على الغنائم في الداخل، في الوقت الذي انحدرت القاعدة الاجتماعية للثورة إلى أسوأ أوضاعها، وفقدت قدرتها على التكافل الذي ميّزها في البداية. للتذكير، الفساد وانعدام الشفافية، وغياب العدالة وتكافؤ الفرص، والصعود الانتهازي خارج المنافسة التي تحكمها القوانين والكفاءات؛ كلها كانت من الأسباب الأساسية للثورة على النظام.
الحياة