عن الأصولية والاتفاق النووي ومصير المشرق/ نجيب جورج عوض
لاحظ الباحثون الغربيون، أمثال هارفي كوكس، برنارد لويس وأوليفييه روي، في الثمانينيات من القرن الماضي، تنامي ظاهرة الأصولية الدينية في المجتمعات الغربية، والعالمية عموماً، وأشاروا إلى تنامي التوجه الأصولي بين ظهراني الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، على حد سواء في تلك الفترة. ترافق هذا مع تنامي خوف منتشر من الفكر النسبوي (relativism) في عصر ما بعد الحداثة الغربي، وعن عدم القدرة على التصالح، فكرياً وسوسيولوجياً وقيمياً، مع ما يعرف بمجتمع “الحداثة والتطور” في العالم بشكل عام. قادت النسبوية والحداثة، كل منها بطريقتها الخاصة، شرائح عديدة من أجيال الشباب والشابات المنتمين لأحد تلك الأديان الثلاثة، والذين يأخذون انتماءهم الديني على محمل الجد، إلى النكوص نحو منطق تفكير ونظرة للعالم، أصولية أحادية، تهرب من نسبوية منطق “المتعدد” إلى منطق “الواحد”، وتحارب منطق “السيرورة والتغيير” بمنطق “المحافظة والثبات”، إلى أن نجحت الأصولية في أن تصبح الممثل المهيمن لمبدأ الاعتقاد بالمطلقات، لا في أوساط المجتمعات الريفية والأمية، والمتخلفة اقتصادياً وبنى تحتية، بل في قلب الأوساط والتجمعات المدنية والحضرية والمجتمعات الصناعية والتكنولوجية الكبرى، والمزدهرة اقتصادياً ومعرفة، بل وتجد لها جمهوراً في أوساط الأجيال، الأكثر تعلماً وثقافة وتلقياً للمعرفة في السياقات المدنية والمدينية المذكورة.
يلمح المراقب تمظهرات هذا النكوص الجارف نحو الأصوليات، مثلاً، في الميل الجارف في الشارع الإسرائيلي، اليوم، نحو دعم سياسات وحكوماتٍ تدعو إلى تهويد الدولة الإسرائيلية، وإلى فرض هوية أحادية، لا يعجز المراقب عن سبر الصفات الدينية والنافية للآخر التي تحملها. يلمح المراقب، أيضاً، هذا النكوص الجارف نحو الأصولية في ميل شريحة لا يستهان بها من المجموع المسيحي العربي، خصوصاً في سورية ولبنان والعراق، إلى دعم ما يسمى بـ “تحالف الأقليات”، أو بتبني دعوة بعضهم إلى ضرورة تسليح المسيحيين، وتشكيل قوة عسكرية منهم، مهمتها حمايتهم، ومن ثم الوصول إلى تأسيس دويلة مسيحية خاصة بهم، وكيان مسيحي خالص، مع كل ما تحمله تلك الدعوات والميول. كما يستطيع المراقب أن يلاحظ، بسهولة، دعوات إلى التمسك بالأحادية على حساب التعدد والتشرذم خلف هوية دينية ضيقة، تماهي الديني بالدنيوي، وتختزل الأول بالثاني. وأخيراً، يستطيع المراقب وبكل سهولة أن يلمح النكوص نفسه نحو الأصولية في الأوساط الإسلامية المشرقية، بوجهيها الشيعي والسني، من خلال انقسام المجتمعات العربية المشرقية، بشكل عميق، إلى فريقين يتشرذمان خلف هويتهما الدينية الأحادية الضيقة (سني أو شيعي) النافية للآخر والمشيطنة له، والداعية إلى الحرب عليه ونفيه من الوجود إن أمكن. نرى هذا في تمظهراتٍ عديدة لكتائب جهادية انشطارية الهوية، سنية صرفة، أو شيعية صرفة، على امتداد الهلال الخصيب والخليج العربي، وصولاً إلى اليمن.
“يقف المشرق العربي منتظراً مصيره المقبل. نأمل، جميعاً، أن لا يكون مستقبل أصوليات وسيطرة، بل مستقبل تغيير وتحرر”
تخبرنا الدراسة التحليلية النقدية لتاريخ الأديان المذكورة أن تلك الأديان أنجبت الأصولية من لدنها، حين تحولت من رسائل سماوية، غايتها تغيير الحياة وتحرير العالم من تعاسته، إلى خطابات دوغمائية مقفلة، هدفها السيطرة على العالم، وحكمه حكماً مبرماً صارماً وجامداً. هذا التحول من رسالة تغيير للعالم إلى أداة سيطرة وتحكم بالعالم هو ما نشهده في أي نظام ذي هوية دينية، أو يقوم على منطلقات دينية، أو يعمل على تقسيم الناس على قاعدة الدين والطائفة، أو يختزل الهوية القومية والأممية بالولاء الديني.
ما علاقة كل ما سبق بإيران واتفاقها مع الغرب بشأن مشروعها النووي؟ يهتم المراقبون والمتابعون، في المشرق العربي، بالتساؤل، حالياً، عن فوائد الاتفاق المبدئي الأميركي-الإيراني، أو مساوئه، على المنطقة. أعتقد أن تلك الفوائد والمساوئ ترتبط بكيفية تعامل إيران مع الاتفاق، وكيفية فهمها لما حصلت عليه بفضله. إن كانت ستنظر إلى الاتفاق باعتباره اعترافاً بأهميتها ودورها في المشرق، لاعباً بين لاعبين آخرين، مكافئين ومساوين في الأهمية، فالاتفاق سينعكس إيجابياً على المنطقة، لأنه قد يكون عندها بداية استكانة إيران واعترافها بباقي دول المنطقة، وانفتاحها عليهم، بتواضع وإيجابية وتعاون صادق، سيجعل من الاتفاق المذكور بداية “تغيير للمشرق العربي”، وتحرير له من مآسيه العديدة والفاجعة. من جهة أخرى، إن كانت إيران ستفهم هذا الاتفاق على أنه تفويض أميركي وأوروبي لها بالهيمنة على المنطقة، ولعب دور الشرطي فيها، واستباحة دولها وأممها، بتحويلها إلى محميات إيرانية، فسيكون الاتفاق، عندها، إعلان بداية إيران إطلاق العنان لطموحاتها الأحادية والنافية للآخر، وإعلانها الصريح والصارم عن رغبتها الجارفة في تحويل ثورتها الدينية، التي أسست لإيران المعاصرة، إلى أيديولوجيا هدفها “السيطرة على المشرق وحكمه”، أي أن إيران اختارت أن تكون الراعية والمصدر الأول للأصولية، إن لم يكن الأصوليات، في المشرق.
هذا هو مقياس فائدة الاتفاق من سوئه: إما أن تفتح إيران بسبب الاتفاق ذراعيها، وتعانق الآخرين في المنطقة، وتعترف بالتعددية والتنوع والاختلاف، وتعمل معهم على تحرير المنطقة وتغييرها، أو تنغلق أكثر على نفسها وتقسم المنطقة وتشيطن الآخر وتعاديه، وتعمل على نبذ التعدد والاختلاف، وتخلق فضاء أصولياتٍ، هدفها الأوحد التقاتل مع بعضها، بغرض “السيطرة على المشرق وحكمه”. ما بين منطقي “التغيير” و”السيطرة”، يتجلى مفهوم الأصولية. وما بين قراءة إيران الاتفاق النووي وفق المنطق الأول، أو الثاني، يقف المشرق العربي منتظراً مصيره المقبل. نأمل، جميعاً، أن لا يكون مستقبل أصوليات وسيطرة، بل مستقبل تغيير وتحرر.
العربي الجديد