صفحات الرأي

عن الأمن الثقافي/ حوّاس محمود

هناك انطباع يشوبه كدر لا بأس به من الالتباس وعدم الوضوح في مفهوم الأمن الثقافي ناتج عن الجمع بين كلمتين قد تكونان متضادتين في معنيهما: الأمن والثقافة (الأمن الذي يدل على الدفاع ويجانس الانكماش والتقوقع، أما الثقافة فتعني الابداع والانفتاح والتفاعل) ولكن الامعان في تركيب الكلمتين معاً وبالارتباط مع مقومات الأمة ووجودها الحضاري نصل الى ان هذا التركيب يأخذ معنى مفيداً وضرورياً وبخاصة في اللحظة التاريخية الراهنة.

فمفهوم الأمن الثقافي قد ارتبط استعماله ببروز ظاهرة العولمة في فجر التسعينيات من القرن المنصرم، وهو كما أسلفنا اقتران ذو دلالة من وجهين من حيث ان الثقافة ما عانت كثيراً مشكلات أمنها الذاتي، حيث كان نطاقها القومي مدار اشتغالها وفاعليتها، ومن حيث أن العولمة نفسها ما صارت كذلك أي عولمة إلا حيث حملت على ركاب ثقافي وأنتجت ثقافتها العابرة للحدود.

فالأمن الثقافي يعد عنصراً لا غنى عنه من عناصر النهضة الاجتماعية، ومظهراً من مظاهر القدرة على التحرر من المؤثرات الخارجية الوافدة، فهو أعلى مظاهر استرداد الهوية التي سعت قوى الشر والبغي عبر التاريخ الى إنهاء خطوط الدفاع الفكرية والعقدية كخطوة أولى لعملية الاستيعاب والسيطرة.

إن الأمن الثقافي يعني توفير الثقافة الصالحة الثقافة المحصنة والمتفاعلة والواثقة والحامية للناس حتى يتمكنوا من خلالها أن يعيشوا حياتهم المعاصرة بشكل سليم وإيجابي.

وهو يعني بناء قوّة الوجود الثقافي الذاتية، التي تقوى لا على المقاومة والصمود فحسب، وإنما على الاندفاع والملاحقة والفعل المؤثر.. ولكي تتحقق هذه المقولة نشير الى ان مفهوم الأمن الثقافي يعتمد على عنصرين أساسيين:

[1 الاعتزاز بالذات الثقافية الحضارية:

حيث ان الذات الثقافية بمثابة الاطار أو الوعاء الذي يستوعب منتوج المثقف، لذلك فإن منتوج المثقف ينبغي أن ينطلق من الخطوط العريضة وروح الثقافة الذاتية، بما تمثله هذه الثقافة من رموز وأفكار وقيم ومبادئ. ومشكلتنا المعاصرة ليس في الثقافات الاخرى وقدرتها على الوصول الى مخادع نومنا وطرق منازلنا في كل لحظة، بل في الممارسات التي نمارسها جميعاً أفراداً ومؤسسات في خنق الذات الثقافية والتضييق عليها.. لهذا فإن تجاوز الآثار السيئة والخطيرة للثقافات الغازية لمجتمعاتنا وشعوبنا، هو في ان نطلق الحرية لثقافتنا الذاتية بأن تعبر عن نفسها بأي طريقة شاءت.. إن اعطاء المجال للثقافة الذاتية رموزاً وافكاراً هو الخيار الاستراتيجي الذي نتمكن من خلاله تحقيق مقولة (الأمن الثقافي).

وبهذا نعطي للثقافة الذاتية المجال الطبيعي والفسحة المريحة للدفاع عن كينونتها الاجتماعية والتاريخية.

[ 2 الانفتاح والحوار مع الثقافات المعاصرة:

وبحسب الدكتور سعد الصويان فإنّ الثقافة في حقيقتها وفي معناها الشامل أشبه ما تكون بالصرح الشامخ الذي يحتاج الى صيانة وتشغيل، أو قل هي كائن حيوي معقد يتألف من أجزاء وأوصال يختلف تكوينها باختلاف وظائفها لكنها في نهاية الأمر تتلقى توجيهاتها من مركز عصبي واحد.

وباعتبار ان الثقافة عبارة عن عملية مستمرة لا تتوقف عند حد أدنى تكتفي بتوفيره للناس، وإنما هي تهيئ الأرضية لعملية انطلاق ثقافي، تأخذ من الموروث الثقافي والانفتاح على الثقافة المعاصرة نقطتي انطلاق وارتكاز في جهدها الثقافي الراهن. فالأمن الثقافي لا يعني بأي شكل من الأشكال الاحتماء تحت متاريس الماضي عن الثقافة المعاصرة.. بل يعني الاعتزاز بالذات الحضارية مع هضم معطيات الآخر الحضاري لأن الانطواء والانغلاق والتقوقع وعدم التكيف مع متغيرات العصر ومنجزاته هو بحد ذاته إفقار للوجود الذاتي وإضعاف لمكونات الثقافة الغنية الفاعلة والمتفاعلة وبالتالي الثقافة الديناميكية المتطورة.

وبالتالي فإن أي مجتمع لا يتمكن من صيانة أمنه الثقافي واستمرارية فعله الجماعي إلا بالثقة بالنفس والتفاعل مع منجزات العصر أو بعبارة مختصرة التفاعل الواعي والتلاؤم المحصن.

وكل هذه الأمور تحفزنا للبحث عن الذات الثقافية وابراز مضامينها وتطلعاتها، وتربية المواطن على ضوئها وهداها، وبهذا الطريق يمكن الحصول على الحد الأدنى من الأمن الثقافي المطلوب.

ولا بد لنا من التوضيح بأن هناك فرقاً كبيراً بين الأمن الثقافي والثقافة الأمنية، فالأخيرة: هي مجموعة من الأنشطة التي تستهدف خلق الوعي الأمني، أما الأمن الثقافي: فالمقصود به هو بيان الأسس والقواعد المتوفرة في ثقافة ما، التي تمنع حالات الاختراق الثقافي والغزو الفكري.

[ تحديات الأمن الثقافي:

يمكن القول بأن كل تغير في عالم الثقافة يؤدي بالضرورة إلى وعي ثقافي يأخذ شكل أفكار حول الواقع، والوعي الثقافي يدخل في عملية تناقض أو حتى صراع على الثقافة الموضوعية، إذا كان واقع الثقافة موضوعياً لم يعد قادراً على الاستجابة لوعي ضرورة التغير والانتقال من حالة إلى أخرى.

هنا نحن أمام مسألة لا تندرج في اطار ما نسميه الأمن الثقافي، نحن نعيش شروطاً موضوعية جعلت من الثقافة عنصراً خاضعاً لأشكال وعي مختلفة من حيث وجودها ومن حيث وظيفتها.

والدليل إلى ذلك ان هناك جملة من المصطلحات التي انتشرت وذات علاقة بما نحن فيه، الاختراق الثقافي، الغزو الثقافي، الدفاع عن الثقافة الوطنية، وأخيراً الأمن الثقافي.

ان تدقيقاً في ما ذكر من مصطلحات، ومنها المصطلح الذي نتناوله هنا في هذه المقالة وهو الأمن الثقافي يفضي الى ان النخبة العربية وبالتالي الخطاب العربي يتجه الى فض العلاقة التناقضية بين الثقافة العربية والثقافة الغربية وذلك ان ثقافة تقوم بالاختراق وثقافة تقف بصورة دفاعية عن نفسها، وتعبير الأمن الثقافي يعد من بين التعابير الأكثر ارتباطاً بالمواجهة وهو الذي يرتبط بجملة أشكال من البحث عن الأمن القومي كالأمن الاقتصادي والأمن السياسي والأمن العسكري والأمن المائي.. الخ.

وفي كل جانب يرد فيه مصطلح الأمن هنا إنما يراد منه تحقيق قدر من المنفعة والقوة لتحقيق نوع من الطمأنينة الدائمة على الوجود الذاتي، هنا تبدو العلاقة ترابطية بين كل أشكال الأمن المطلوبة الآنفة الذكر.

ختاماً: ان تطوير الثقافة العربية في المجتمعات العربية بحيث تغدو ثقافة معتزة بالذات ومتفاعلة مع محيطها بكل ديناميكية وحيوية وترفع عن نفسها عقدة النقص والدونية، فإنّ هذه المجتمعات سوف تقف على قدم المساواة مع المجتمعات والأمم المتحضرة تتأثر بها وتؤثر على حد سواء وتربطنا بها علاقات الأخذ والعطاء المتبادل ونكسر طوق الحصار التكنولوجي والهيمنة الثقافية المطلقة والتبعية الفكرية التامة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى