عن الإسلام السياسي والديموقراطية في بلداننا
عبدالناصر العايد *
صعد الإسلاميون إلى سدَّات الحكم التي سقط عنها الطغاة العرب، فتعالت أصوات اللادينيين، من علمانيين وليبراليين ويساريين، محذرة من الغول الإسلامي الذي ولدته الديموقراطية، ليبتلعهم بالقضاء على حريتهم تحديداً. لكن نظرة منصفة وموضوعية للواقع تقول إن صعود الإسلاميين لا يعدو كونه محطة في مسار تطور تجربة شعوبنا السياسية والاجتماعية، ولن يحمل في طياته السلطة المديدة للإسلاميين كما يتمنى هؤلاء أو يخشى خصومهم، لأن ذلك يقتضي شروطاً ذاتية وموضوعية يستحيل على الإسلاميين حشدها.
كان مرور مدحلة السلطة القمعية في المجتمعات العربية على البنى السياسية والاجتماعية المدنية الحديثة التي يحتمل أن تنازعها السلطة ساحقاً؛ فيما نجت البنى التقليدية أو المرتبطة بالتجربة التاريخية والثقافة العامة للشعوب، لاحتمائها بالضمير الشعبي، ووجود مركز ثقلها في الريف بعيداً من المدن حيث بؤر القمع الأشد.
وبسقوط الأنظمة وجدت تلك التشكيلات طريقها إلى السلطة سالكاً وخالياً إلا من بعض القوى الحداثية الكسيحة، والتي بالكاد تستطيع مواكبتها حتى نهاية الشوط.
أبرز الأساليب التي اتبعتها الأنظمة لإلغاء دور الحركات الحداثية والحد من فاعليتها كان عزلها عن المجتمع، بحرمانها من إمكانية العمل والتفاعل العريضة النطاق من نشاطات عامة وإعلام وغيره. وعزل المجتمع ذاته عن العالم وعن القوى التي تطمح بالوصول إليه، وإدخاله في حالة خمول وانكفاء اكتئابي على الذات، لا تنفتح حلقته المفرغة إلا على العوالم الهوامية الخيالية المرتبطة بعقله الباطن، أي بالدين.
وقد وجد الإسلاميون أنفسهم أمام حالة مثالية لنشر وإقامة دعاواهم في أعلى سقف لها: الدولة الدينية. فعنصر النقاء هو العنصر الأساسي التالي لإقامة الدولة أو المجتمع الديني بعد توفر الأيدولوجيا. ومن دون مجتمع مأزوم يتماهى أفراده في رؤية دينية واحدة لا يمكن أن يزدهر هدف دنيوي خلاصي مشتق من تلك الرؤية.
لكن هل بمقدور الإسلاميين أن يحافظوا على هذا العنصر في المرحلة المقبلة، مرحلة التحضير لإقامة الدولة الدينية أو ما يشبهها؟ نعتقد أن ذلك غير ممكن لسببين، ذاتي وموضوعي، يتعلقان بالنقاء.
فالحركات الإسلامية قبيل سقوط الديكتاتوريات لم تكن سياسية بالمعنى الكامل، وإن تمكن بعضها من إقامة سلطة رمزية موازية في بعض حيزاته ومنعزلاته، لكنها لم تدخل في منازعات السلطة الفعلية ومكاسبها التي تؤدي، في ما تؤدي، إلى تفرق المتحدين عقائدياً، وفي الحالة الدينية من السهل مهاجمة الذين يتولون السلطة منهم وإحباط عملهم باستمرار من قبل زملائهم في العقيدة الذين لم يحظوا بتلك السلطة. وفي هذا العصر من السهل أيضاً التعبير عن ذلك، ويستطيع رجل يؤدي فروضه الدينية أن يدين حزباً أو تياراً إسلامياً كاملاً في السلطة في ما لو تصيد أخطاءه وانزياحاته عن الصراط القويم وفق الرؤية الدينية، وما أكثر ما تنزاح السياسة، فن التسويات الممكنة، عن جادة الدين المطلقة. وتالياً، لا بد أن تحتشد الصورة النقية للجبهة الدينية بتدرجات لونية تصل إلى حد التناقض بين الديني المتعالي، والبراغماتي الدنيوي.
أما السبب الموضوعي فيتمثل في بديهية أن من يعمل في السياسة ويصبح في مركز السلطة لا مناص له من التواصل مع الآخرين ومع الخصوم ومع العام ككل؛ وبما أن الظرف الكوني اليوم لم يعد يسمح بأن يكون التواصل مع العالم حلالاً على النخب حراماً على الشعب، فإن الجمهور سيتواصل بدوره ويتأثر بالكثير من النزعات اللادينية الشمولية، وعلى رأسها النزعة التجزيئية التوفيقية التي يدفعها تيار العولمة إلى كل مكان من العالم في سعيه إلى خلط وتوحيد أنماط الاستهلاك والعيش والسلوك والتفكير على مستوى الكوكب. وبالتالي، ستحدث أيضاً خروقات واسعة لنقاء القاعدة الاجتماعية للمشروع الإسلامي. وسيتضافر كلا هذين المستجدين ليقوضا جزءاً كبيراً من المنصة السياسية العالية التي انطلق منها الإسلاميون بُعيد سقوط الديكتاتوريات، ويحطَّها شيئاً فشيئاً لتعود إلى حجمها الواقعي، مقتصرة على المؤمنين الحقيقيين، وهم لا يزيدون كثيراً عن المؤمنين بمعتقدات أخرى.
هذه الترسيمة المبسطة قد تطرأ عليها بعض التعديلات هنا وهناك تبعاً للنموذج الذي سيتم تطبيقه. لكنها في العموم لن تخرج عن السياق الموصوف، لأن تلك النماذج تنوس بين المشروع السياسي الذي يخرج به الإسلاميون الذين كانوا معاً في السجون أو المنعزلات الاختيارية أو الإجبارية، ومشروع الإسلاميين الذين عاشوا في الغرب، أو تعايشوا مع ثقافة مختلفة بطريقة أو بأخرى. فمن المحتمل أن تستخدم بعض الحركات السلطة المخولة لها بالاقتراع لإدامة حالة العزل، وحماية النقاء بحجب المجتمع عن المؤثرات الخارجية.
وعلى رغم استحالة ذلك في عصر المواصلات والاتصالات الفائقة، إلا أن ثمَّة من قد يفكر به معتقداً أن حظَّه في النجاح سيكون أفضل من حظ القاعدة وطالبان، أو ملالي إيران. ويحتمل أيضاً أن تحاول بعض الحركات أن تحقق في مرحلة حكمها نجاحات على صعد تنمية المجتمع والفرد لزيادة شعبيتها، وهو خيار نعتقد أنه النموذج القائد لمعظم الإسلاميين اليوم، لكنه النموذج الذي يعود ليقوض الأساس العالي الذي وفرته لها الأنظمة القمعية في ما مضى.
فالنماء والبحبوحة لن يقودا إلا إلى مزيد من التخفف من الطابع الديني للمجتمعات، لمصلحة مشاغل وسعادة دنيوية، وسينتهي الأمر بالحركات والأحزاب الإسلامية تلك إلى تفضيل العلمانية والتمسك بها لتحافظ على جمهورها، على النحو الذي فعله أردوغان، أمثولة هذا النوع من الإسلاميين.
وتمسك كثير من الساسة الإسلاميين بالعلمانية، أو بصيغتها الأقل استفزازاً: المدنية، يجب ألا يدهش خصومهم. فمدنية الدولة دستوراً ستكون المشجب الوحيد الذي يستطيع الإسلاميون الواصلون إلى الحكم أن يعلقوا عليه فشلهم في تحقيق الوعود المقطوعة لجمهورهم بإقامة الدولة الدينية، المستحيلة واقعياً.
نميل إلى تشبيه الحيوية السياسية الناشئة اليوم في مجتمعاتنا العربية بالتفاعل الكيميائي. ومن أجل أن نحصل على نواتج مستقرة له ينبغي أن نسمح للعناصر بالتفاعل حتى النضوب. لهذا نرى أن من الأجدى للقوى والحركات الديموقراطية بتلاوينها كافة، أن تدفع نحو استمرار دوران العجلة الديموقراطية، على قاعدة أن مشاكل الديموقراطية تحل بالديموقراطية. وأن تكرس نفسها للعمل بهدوء وجلد لكسر عزلتها والوصول والتواصل، واستقطاب مكونات من مختلف فئات المجتمع، بالاستفادة القصوى من سندهم المكين: الحداثة. وعدم إضاعة الوقت والجهد في الشكوى، أو الدعوة إلى وقف التجربة الديموقراطية، وهو ما يناقض شعارات الديموقراطيين ومطالباتهم التاريخية، وتصب مستقبلاً في مصلحة خصومهم الدينيين.
بل أسوأ من ذلك: قد تجعل الديموقراطيين يقعون في الفشل المتوقع للإسلاميين في إقامة المجتمع الذي ينشدون، وبدلاً عنهم، ولكن بصيغة مقلوبة.
* كاتب سوري
الحياة