مراجعات كتب

عن الانتفاضات العربية والتأسيس لمجتمع جديد/ كرم الحلو

 

 

 

الأحداث الكبرى التي عصفت بالشرق الأوسط في السنوات الماضية، والتي تُعيد تشكيل مستقبله على نحو غير مسبوق، لا تزال موضع نقاش ومراجعة نقدية في الأوساط السياسية والأكاديمية على السواء. فهل هذه الأحداث تندرج في عداد الثورات التي تقلب البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، مؤسسةً لعالم جديد وعهد جديد، أم يجب إدراجها في خانة اللحظة الثورية التي تتطلب فسحة زمانية لكي تؤتي ثمارها، وهي في أثناء ذلك عرضة للإجهاض أو الاختطاف أو الانتكاس؟ في الأحوال كافة، وأياً تكن هويتها، من المنطقي والمشروع التساؤل: كيف انبعثت هذه الأحداث؟ ما مقدماتها وما دوافعها وما مستقبلها؟ وهل هي حقيقة تؤسس لواقع عربي مختلف؟

على خلفية هذه التساؤلات عمد أكاديميون في «مركز الشرق الأوسط في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية» في جامعة لندن، إلى صياغة رؤى نقدية في الأحداث الكبرى التي تشكل مصير الشرق الأوسط الحديث، والتي تضمّنها كتاب «الشرق الأوسط الجديد، الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي»، مركز دراسات الوحدة العربية، 2016.

في هذا السياق ذهب فواز جرجس إلى أن الحروب الأهلية بعد الانتفاضات العربية، أمر طبيعي ومتوقع، وبعض آلام المخاض في عالم جديد. ورأت ليزا أندرسون أن الانتفاضات العربية تمنحنا فرصة للاحتفاء بأول جهود أصيلة للتحول الديموقراطي في الوطن العربي. فيما رأى صادق العظم أن الثورات العربية، وإن كان نجاحها ناقصاً، سوف تفضي الى عصر جديد في الفكر السياسي العربي.

هذه الرؤى والتصورات تنقض مقولات الاستشراق الأتنولوجية التي عزت الاستبداد والافتقار إلى الديموقراطية في العالم العربي إلى استثنائية العرب وتراث الاسلام، حيث ذهب إيلي خدوري إلى أن فكرة الديموقراطية غريبة تماماً عن تركيبة العقل في الإسلام، فيما اعتقد برنارد لويس أن التاريخ السياسي في الإسلام هو تاريخ من الاستبداد الدائم، وأن لا شيء في هذا التاريخ سوى القوة الحاكمة التي تدين لها الرعية بالولاء المطلق بوصفه واجباً دينياً مقدساً.

وبعدما أسقطت هذه المقولات، لم يعد أمام الباحثين سوى البحث في مقدمات الانتفاضات العربية وأسبابها في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية، بكل تشوهاتها وأزماتها وما يعتريها من خلل بنيوي. عليه، رأى فواز جرجس أن مصادر السخط في تونس ومصر واليمن وسوريا تكمن في الفقر المدقع في الريف، الى جانب الاهمال والتمييز، فضلاً عن الفساد المستشري بين الحكام المستبدين وأسرهم وأعوانهم، ما حوّل الدولة الى «عزبة» عائلية لا دول للشعب، حيث تركزت الثروة الوطنية في أيدي 10 في المئة من السكان. وقد تسبّبت هذه السياسة باخفاق عام في التطور، وبطالة 40 في المئة من الشباب. ففي مصر وسوريا واليمن تتراوح نسبة الفقراء في الأرياف بين 40 و80 في المئة، في حين أن الأقطار العربية هي الأقل أمناً غذائياً في العالم وأكثر من يعاني اللا مساواة في امتلاك الأراضي، ما يفسّر المشاركة الفاعلة للفقراء في الانتفاضات. فلم يعد السؤال لماذا قامت الانتفاضات، بل لماذا لم تقم قبل ذلك؟ واذا كانت هذه قد فشلت حتى الآن في إحداث التغيير الجذري المنشود بسبب تناقض الرؤى الثورية وغياب الإجماع والانشقاقات بين الإسلاميين والمعارضة، فهذا ما يجب الاحتفاء به لا خشيته في رأي جرجس. إذ لن يكون ثمة انسداد ولا نهاية في المستقبل المنظور للحظة الثورية التي زعزعت النظام السياسي من أساسه.

يرجع علي قادري ورامي زريق وآن غوف إلى المقدمات الاقتصادية والاجتماعية التي انطلق منها جرجس. فقادري وجد في ركود معدل دخل الفرد، والاعتماد على النفط بدل الاستثمار المنتج، والخضوع لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والإنفاق العسكري، والفقر المستشري في الأرياف، الأسباب التي أسست للانتفاضات. فأغلبية العرب العاملين هم في فقر مدقع، و50 في المئة من السكان يعيشون على أقل من 2 دولار في اليوم، ويمثل العالم العربي أعلى تباين في المدخول في العالم. على غرار جرجس رأى رامي زريق أن الأقطار العربية بمجموعها تعاني تفاوتاً شاملاً في توزيع الثروة بين الطبقات، وهي أكثر منطقة في العالم عوزاً للاستقرار في مجال الغذاء. ويعود السخط الاجتماعي الى التحول السريع من اقتصاد زراعي منتصف القرن العشرين إلى اقتصاد يقوم على الخدمات والتجارة والعقارات والنفط. عليه، فإن فهم الأسس الزراعية ضروري لفهم الانتفاضات. فالسياسات الزراعية كانت في اللب من السخط العربي، خصوصاً أن العالم العربي أكبر مستورد للغذاء في العالم، وهو يعاني فضلاً عن ذلك من تفتت المجتمع الريفي وزيادة البطالة والفقر المدقع. على سبيل المثال، 62 في المئة من فقراء سوريا من سكان الأرياف، و77 في المئة منهم لا يملكون أرضاً، وفي تونس كذلك 25 في المئة من الفلاحين لا يملكون أرضاً، ولعل ذلك، في رأي زريق، أحد أسباب العنف السياسي في الشرق الأوسط.

أما صادق العظم فقد رأى أنه من الضروري عند تناول الثورات العربية، الانتباه الى نزعتين مترابطتين، متأصلتين، وارتداديتين في الحياة السياسية العربية على نحو عام. الأولى ان الإنسان الإسلامي يظل على حاله، يرتد دائماً الى نمطه المعهود، ويظل مخلصاً لجوهره المتسامي، على حد تعبير برنارد لويس، أما الثانية فتتمثل في تمسّك النظام بالسلطة. هكذا كانت الأفكار القومية والوحدوية غائبة في «الربيع العربي»، بينما كان الإسلام حاضراً جلياً، إلا أنه سيكون لمفهوم عودة الإسلام الذي تراجع حضوره في الحقبة القومية، مغزى تاريخي واجتماعي. فالتأسيس لعصر جديد للعرب يشترط انقطاعاً تاماً عن الماضي، ونقد كل موروث وسائد وشائع، بلغة أدونيس، وتفجير الاطارات التقليدية للمجتمع العربي، بلغة ياسين الحافظ، ما لا يستقيم مع الإفراط في الرهان على الانتفاضات لإحداث تحولات جذرية في المجتمعات العربية. مع ذلك، يمكن القول إن انتفاضات «الربيع العربي» تدل، في رأي العظم، على انعطافات معرفية وعقائدية وسياسية كبرى بعيداً من وضع سياسي خلّفه الاستعمار من الطغيان والركود والاستبداد.

] مجموعة باحثين «الشرق الأوسط الجديد، الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي»، مركز دراسات الوحدة العربية 2016، 478 صفحة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى