عن الانسحاب الروسي من سورية –مقالات مختارة-
انسحاب بوتين: الظاهر أصدق إنباءً من الخافي/ صبحي حديدي
في وسع امرىء، متعقل عند الحدود الدنيا فقط، أن يطمئن إلى نفسه إذْ يضرب صفحاً عن تسعة أعشار ذلك النمط من التحليلات التي تُعنَون على هذا المنوال وتنويعاته: الأسباب الخفية (ثلاثة، أربعة، خمسة…) وراء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانسحاب من سوريا. أسهل، بكثير في الواقع، وأشدّ احتراماً للعقل، أن يتمعن المرء في الظاهر من القرار، وليس في ما خفي داخل الكواليس ويظلّ طيّ الترجيح والرجم بالغيب؛ خاصة وأنّ في الخيار الأول مادّة وفيرة، بيّنة لتوّها، بل ساطعة، أقرب إلى تحصيل حاصل لا يستدعي مشقة الاستنتاج والاستنباط والتكهن.
ففي الواضح الجلي إعلان بوتين أنّ الهدف من التدخل العسكري في سوريا هو محاربة «الإرهاب» في عقر دياره، وقبل أن يتفشى فينتقل إلى الديار الروسية؛ وهذا هدف باء بفشل ذريع، رغم آلاف الطلعات، لأنّ «داعش»، المحور الأوّل المعلَن خلف مجيء موسكو، ما تزال حيّة تتمدد وتسعى وتتسع. ولم يكن مراقبو الشأن السوري على الصعيد العالمي، وربما في ما تبقى من أطلال إعلام روسي موضوعي، بحاجة إلى تطبيق قواعد منطقية تفضي إلى هذه الخلاصة؛ لا لشيء إلا لأنّ طلعات القصف الجوي الروسية طالت المشافي التي تديرها منظمات دولية محايدة مثل «أطباء بلا حدود»، بعد أن استهدفت المستوصفات المدنية ورياض الأطفال والمدارس والمساجد والأسواق الشعبية، وأودت بحياة قرابة 2000 مدني سوري أعزل.
وكذلك، على قدم المساواة، كان الهدف الحقيقي غير المعلن هو انتشال ركام جيش النظام من حافة الهاوية، ثمّ إصلاح التوازنات على الأرض عبر معادلة تقول بإمكانية ترجمة القصف الجوي (ضدّ المعارضة وفصائل الجيش الحرّ، تحديداً) إلى مكاسب ميدانية: سواء عن طريق استعادة ما تمّ خسرانه من مناطق، أو وقف خسران مناطق أخرى ذات أهمية فائقة للنظام (الساحل وشمال حلب وسهل الغاب، أساساً)؛ إنْ لم يكن عن طريق ركام الوحدات النظامية والميليشيات الموالية، فعلى الأقلّ عن طريق مقاتلي «حزب الله» ومرتزقة الميليشيات المذهبية الإيرانية والعراقية والأفغانية وسواها. هنا، أيضاً، لا تبدو الحصيلة هزيلة تماماً ـ بالقياس، دائماً، إلى الحجم الهائل من القوّة التدميرية التي استخدمتها موسكو، بالأسلحة الأرقى ـ فحسب؛ بل ثمة ما هو فاضح بالمعنى العسكري الصرف، لأنه كشف الكثير من عيوب الجيش الروسي، والكثير من نقاط ضعفه (ليس أبرزها سقوط الصواريخ، عابرة القارات إلى سوريا، في الباحة الإيرانية!).
وفي الظاهر، ثالثاً، أن بوتين شاء افتتاح ساحة قتال إضافية في سوريا، تستكمل حروبه مع الغرب والولايات المتحدة، التي تُخاض منذ سنوات على ثلاث جبهات: العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، وخفض أسعار النفط، والمسألة الأوكرانية. ليست أقلّ ضراوة تلك المواجهات الشرسة، الدامية أيضاً، التي تستنزف من موسكو خسائر بقيمة 600 مليار دولار أمريكي، خلال الفترة بين 2014 و2017؛ وليس في وسع الـ»سوخوي 25» أن تكون فيها فيصلاً حاسماً، سواء خيض الصراع مباشرة في كييف عاصمة أوكرانيا، أو بالإنابة في سوريا عبر مطار حميميم! لكن هذه الساحة القتالية (التي قدّر لها الكرملين ثلاثة شهور لكي تأتي أكلها)، أسفرت عن مآل أقرب إلى نقيض: تآكل مضطرد لديناميكيات التدخل الجوهرية، بل والبسيطة أحياناً، حتى بعد أن استطالت الأشهر الثلاثة إلى سبعة، وتكثفت أوحال «المستنقع السوري»، وأخذت شباك الورطة تلتف حول عنق الدبّ الروسي أكثر فأكثر، واتضح أنه يوشك على استئناف سجيته التاريخية المأثورة: التخبط في مخزن خزف!
وفي الظاهر، رابعاً، أنّ نطاسي السياسة الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، أقنع سيد الكرملين بأنّ «عقيدة أوباما» ـ الذي جاء لانتشال أمريكا من حروب سلفه جورج بوش الابن، لا للانخراط في أي مستوى من الاحتراب ـ هي الفرصة الثمينة لكسر أحادية القطب، والعودة إلى المنطقة، بل للانقضاض على ما لأمريكا فيها: عبر مياه المتوسط الدافئة، وبالتراضي مع إسرائيل بنيامين نتنياهو، ليس دون إغفال إيران وبوابتها العراقية. فات لافروف، مع ذلك، خاصة وأن ثقافته في تاريخ المنطقة ضحلة وسطحية واستشراقية (خشي ذات يوم من «دولة سنّية» في سوريا لا يكون فيها مستقبل لـ»ديانات» أخرى مثل العلويين والمسيحيين و… الكرد!)؛ أنّ الفخّ الأمريكي لم يكن يتشوّف إلى تطوّر آخر مثل تشوّفه إلى تورّط موسكو في «المستنقع السوري» إياه: كانت واشنطن سعيدة بحربَيْ استنزاف مجانية يخوضها خصمان، إيران و»حزب الله»، في صالح إسرائيل أولاً؛ فباتت أسعد بانضمام موسكو إلى النادي، بثمن بخس دائماً في إنفاق واشنطن، وباهظ تماماً في مديونية الكرملين…
هذه، مع اختلاف ضروري في التفاصيل، ليست حال جديدة على بوتين، وفي وسع المرء أن يعود بالذاكرة عقداً من الزمن إلى الوراء، ليكتشف بوتين المتمرد على نظام القطب الواحد، «اللاديمقراطي» في توصيفه. آنذاك لاح أنّ الرئيس الروسي أشبه بنافخ في قربة مثقوبة. فما الذي، في سؤال واحد كافٍ، منع موسكو من استخدام حقّ النقض (الـ»فيتو») في مجلس الأمن الدولي، لتجريد واشنطن من غطاء «الشرعية الدولية» في غزو أفغانستان والعراق، وذاك كان أضعف الإيمان على درب اختراق نظام القطب الواحد؟
أيضاً، حين كانت أنظار العالم منشدّة إلى أمريكا على أكثر من صعيد (مجازر جيش الاحتلال الأمريكي في مدينة الفلوجة العراقية، وذبح مئات الأبرياء من أبنائها بذريعة محاربة الإرهاب، واستقالة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، وتوطيد صفوف «الصقور» في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية…)؛ مَن الذي دخل على الخطّ بغتة، ودونما دعوة؟ بوتين، بالطبع، حين عقد اجتماعاً دراماتيكياً مع أركان القيادة العسكرية الروسية، وباغت العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه القوى النووية الأخرى في العالم أجمع.
الصواريخ تلك لم تُنشر، بالطبع، ولكن قبل أيام معدودات سبقت رياضة التصريحات الملتهبة كان رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، يقوم بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (بوصفه الدائن الأكبر) اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً عن ارتفاع أسعار برميل النفط. آنذاك توجّب على موسكو أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي، وكان واضحاً أنّ بوتين يتخاطب مع راتو بصدد تأجيل تلك الديون، عن طريق التلويح بأنّ الصبر على المدين أفضل كثيراً من حشره خلف منصّة صاروخ نووي! المدهش، رغم هذا، أنّ إدارة بوش لم تأخذ تلك التصريحات على محمل الجدّ، وأعلن الناطق باسم البيت الأبيض آنذاك، سكوت ماكليلان، أنّ أخبار موسكو ليست جديدة على الإدارة: «نحن على اطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية».
وهكذا فإنّ خلاصة الحال سبق أن اختصرها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس، في أنّ حرباً باردة واحدة تكفي، وأمريكا لا تنوي استئناف أيّ من تلك المعارك الافتراضية العتيقة مع موسكو. وأمّا اليوم فإنّ إدارة بوتين هي التي تختصر حالها، بذاتها، دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي أُطُر وأخلاقيات أحادية القطب دون سواها: رحم الله قوّة عظمى عرفت حدّها، فوقفت عنده؛ أو ارتدت إليه، اضطراراً أو رضوخاً أو تعقلاً، إثر مغامرة قاصرة الحسابات، عاثرة!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
بوتين ترك الأسد وحيدا/ بشير البكر
عدة جمل معبرة أفلتت، طوعاً، من أحد المسؤولين الروس الذين علقوا على قرار الرئيس فلاديمير بوتين سحب الجزء الأكبر من القوات الروسية من سورية. فقد قال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في حديث مع صحيفة واشنطن بوست، عشية القرار إنه “بات بفضل التدخل الروسي من الصعب إطاحة الرئيس السوري بالقوة”، ووضع قرار الانسحاب في سياق الضغط على الأسد بقوله “إن الانسحاب من سورية يمكن اعتباره بمثابة رسالة من موسكو، بأن الدعم الروسي للأسد لم يعد بلا حدود”.
لن يصدر عن موسكو، في الفترة المقبلة، موقف أوضح من هذا، ولا سيما أن دبلوماسيين أجانب أكّدوا أن تصريحات بيسكوف لم تكن زلة لسان، وهناك من يجزم بأنه ما كان للناطق الرسمي أن يفسّر القرار على هذا النحو، لو لم يتم الطلب منه أن يتكلم عن الانسحاب بهذه الصراحة، فهو، في نهاية المطاف، يتحدّث باسم القصر الرئاسي الذي يشغله ضابط الكي جي بي السابق الذي يزن كل كلمةٍ من كلماته، ومن المعروف أن وظيفة الناطق الرسمي هي، أولاً وأخيراً، نقل رسائل أو “شيفرة”، والتعبير بدقة عن رأي الجهة التي يتكلم باسمها. صحيح أن بيسكوف لم يدل بهذا الحديث، في بيان رسمي باسم الكرملين، لكنه كان يتحدّث، من دون حرج، إلى صحيفةٍ معروفةٍ، وهو يعلم أنها ستنقل عنه هذا الرأي الذي كان سيفصح عنه لها، أو لغيرها، كونه ينطوي على رسائل سياسية، تريد موسكو الإعلان عنها.
من دون شك، أبلغت موسكو الرسائل، في صورة رسمية، للمعني بها مباشرة، أي الرئيس السوري بشار الأسد. وبالتالي، فإن لتسريبها للإعلام مغزى آخر. والهدف الأول من ذلك القول إنها التزمت بقرار مجلس الأمن 2254 القاضي بوقف إطلاق النار في سورية، وأن الهدنة التي أعلن عنها المبعوث الدولي، في السادس من شهر مارس/آذار الحالي ولمدة أسبوعين، صارت دائمة، وتحولت إلى وقف إطلاق نار دائم. والهدف الثاني أن موسكو لم تتدخل في سورية، من أجل تثبيت بشار الأسد في الحكم، وإنما لتغيير موازين القوى، وهذا ما يفسر القول إن موسكو حالت دون سقوط الأسد عسكرياً، وهذا يعني أنها لا تمانع في رحيله سياسياً، ويتقاطع هذا مع تحليلاتٍ كثيرة اعتبرت أن اتخاذ قرار الانسحاب، عشية بدء اجتماعات جنيف، هو رد على التصريحات التي أدلى بها وزير خارجية النظام، وليد المعلم، قبل يومين من بدء الاجتماعات، وأطلق خلالها لاءاتٍ عدة، تصب في اتجاه نسف مضمون جنيف، وخصوصا رفض التفاوض حول مصير الأسد الذي يشكل عقدة العقد، فيما يتعلق بهيئة الحكم الانتقالية التي تم النص عليها في بيان جنيف 1.
لم يكن الجانب الروسي صريحاً كما هو عليه هذه المرة، فهم قالوا لرأس النظام إنهم لم يعودوا مسؤولين عن سلوكه، من الآن فصاعدا، وهذا أمر عكسه تصرف النظام، سواء بيان القصر الجمهوري السوري، أو تصريحات رئيس وفد النظام إلى جنيف، بشار الجعفري، فبيان القصر أراد نفي الخلاف مع موسكو، لكنه لكثرة ما بالغ في النفي أوحى بوجود خلاف فعلي. أما الجعفري الذي كان يتغنى بالموقف الروسي في السابق فقد صار يكتفي بتقطيبة حاجبٍ، ويمر سريعا على المسألة.
هناك شبه إجماع في الصحافة الغربية على أمرين: الأول، أن الانسحاب ترجمة لخلاف بين الحليفين، والثاني أن كلام المعلم هو القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد لمس الروس خلال خمسة أشهر من انخراطهم المباشر إلى جانب الأسد أنه ليس هناك وسيلة ضغط على رئيس النظام السوري أكثر جدوى من تركه وحيداً، لأنه من دون ذلك سوف يظل يشبّح ويكابر، ويطلق عنترياتٍ لا رصيد لها في الميدان.
العربي الجديد
عن الانسحاب الروسي ودلالته/ راتب شعبو
أثار قرار روسيا سحب القسم الأكبر من معداتها العسكرية من سورية خيبةً كثيرة على ضفة الموالين للنظام السوري، مقابل ارتياح كثيرين على ضفة المعارضين له، حتى أن أحد المعارضين المخضرمين عبّر عن فرحته بالقول “إن هذا الخبر يعادل لدي خبر سقوط النظام”. الواقع أن ثمة مبالغة في المشاعر هنا وهناك، وأن الخطوة الروسية هذه لا تحمل بعداً سياسياً يتجاوز ما كان قد صرّح به المسؤولون الروس قبل التدخل أو بعده.
حين تدخل الروس في سورية تدخلاً عسكرياً مباشراً في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، قالوا إن مهمتهم لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وقالوا قبلها وخلالها إنهم لا يدافعون عن شخص، وإنهم لم يأتوا لكي يساعدوا النظام في الحسم التام ضد معارضيه، وهذا ما جعل الروس يحتجون على تصريحات الأسد الذي ذهب إلى القول إنه لن يتوقف حتى استعادة كامل سورية. منذ البداية، كان الفارق واضحاً بين ما يريده الروس وما يريده النظام السوري. وظهر هذا الفارق جلياً للإعلام في اللغة الحادة التي استخدمها المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، تعقيباً على تصريحات الأسد تلك: “عليه أن يلتزم الخط الروسي”، مضيفاً بما ينطوي على تحذير “إذا ما اتبعت السلطات السورية خطى روسيا لحل الأزمة، فلديهم فرصة للخروج منها مع حفظ كرامتهم”. جاء ذلك بعد أيام من تصريح لرئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيدف، يقول فيه إن روسيا دخلت إلى سورية “من أجل هدف محدد وملموس هو التوصل إلى اتفاق”.
من البديهي أن التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية لم يكن لضروراتٍ سورية، بل لضرورات روسية أساساً. لم تكن حاجة النظام السوري إلى روسيا هو ما جلب تدخلها، بل حاجة روسيا إلى النظام منصة يطل منها الروس إلى سورية المقبلة. ويدرك الروس، بلا شك، أن سورية المستقبل لن تكون سورية الأسد بأي حال. وهذا بالضبط ما أحدث التباين بين الفهمين، الروسي والسوري، وما جعل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يقول إن “الأسد يغرد خارج السرب”، أي إنه لا يدرك حقيقة الأمر.
ظن مسؤولو النظام السوري الذين يقرّ في وعيهم أن النظام هو بشار الأسد، وأن بشار الأسد
“هل سيدرك النظام معنى الخطوة الروسية وحقيقة التفاهم الدولي الخاص بسورية؟” هو النظام، أن روسيا قادمة لإنقاذ الأخير من السقوط، المهمة التي يدرك الروس جيداً أنها مستحيلة، كما أدركوا جيداً استحالة استعادة “رئيسهم” في أوكرانيا. بين إنقاذ النظام السوري، ممثلاً ببشار الأسد، وإنقاذ موقع روسيا وتعزيزه في سورية وفي العالم، يكمن الفارق الذي لم يرغب رئيس الدبلوماسية السورية، وليد المعلم، في رؤيته، فأطلق تصريحه الطفولي: “بشار الأسد خط أحمر”، والذي أثار جون كيري فقال إنه “يعرقل المفاوضات”، واعتبره وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرو، “استفزازياً”، وقد يكون هو ما دفع بوتين إلى إعلان خطوته الانسحابية بهذا الشكل، لإعادة المعلم ومعلميه إلى أرض الواقع بواسطة العلاج بالصدمة. وربما كان إسقاط طائرة الميغ 21 السورية بمنظومة دفاع جوي محمولة على الكتف في 13 مارس/آذار الجاري إشارةً، في هذا الاتجاه، للنظام ولحلفائه. وكان لافتاً نفي المعارضة السورية إسقاط الطائرة بصاروخ، مؤكدة إسقاطها بالمدفعية، وذلك، فيما يبدو، لعدم عرقلة المفاوضات في اتهاماتٍ بشأن الدول التي زودت المعارضة بالسلاح الجوي.
تكثر التكهنات في تفسير سبب الخطوة الروسية، بين كونها تحت ضغط أميركي أو تحت ضغط اقتصادي، أو تعبيراً عن صفقةٍ ما، أو عن صراعات داخل الكرملين ..إلخ، غير أن الخطوة الروسية تبدو منسجمة مع المهمة العسكرية الروسية، كما ارتسمت منذ البداية، فالروس تدخلوا لتحسين موازين القوى، بما يخدم تحقيق تسويةٍ، تحافظ في النظام على الجزء الصلب الذي تقف عليه المصالح الروسية. ولا تفسير للطريقة الصادمة سوى أنها محاولة صب الماء البارد على رؤوس ممثلي النظام الحامية، قبيل جولة التفاوض. وربما جاء هذا “التبريد” تحت ضغط أميركي بعد أقوى تصريح يصدر عن كيري، قبيل لقاء المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مع وفد النظام السوري في جنيف، وينطوي على نفاد الصبر من مناورات النظام السوري، وتهرّبه الدائم من تقديم تنازلاتٍ فعلية، حيث هدّد كيري النظام وحلفاءه: “إذا اعتقد النظام وحلفاؤه أنهم قادرون على اختبار صبرنا أو التصرف بطريقةٍ لا تحترم تعهداتهم (…) فإنهم واهمون”.
حقق التدخل الروسي الغرض الأساسي منه، ويجب الآن تكثيف دور روسيا في الوساطة للتوصل إلى اتفاق سلام في سورية، كما جاء في كلام بوتين. يمكن أن يُفهم من هذا أن ما حققه الروس، عسكرياً ودبلوماسياً، يقع في مكان أدنى من استمرار الأسد، وأعلى من سقوط النظام، ويتكثف هذا في آليةٍ معينةٍ للحفاظ على استمرار مؤسستي الجيش والأمن، بإدخال تعديلاتٍ في التركيبة لن تكون جوهرية، مع المرونة في المستوى السياسي، وصولاً إلى رحيل الأسد. وهذا يشكل، كما يبدو، النواة الصلبة للاتفاق الروسي الأميركي حيال التسوية السورية.
كان نجاح الهدنة التي بدأت في 27 فبراير/ شباط مؤشراً على مدى تبعية “الداخل” إلى “الخارج”، وعلى أن التسوية باتت قريبةً، لأن “الخارج” توصل إلى اتفاق بشأن “الداخل”. وإذا نجح هذا الخارج في فرض الهدنة، فإنه يقف، اليوم، أمام اختبار قدرته على فرض التسوية. والحق أن الانسحاب الروسي (الجزئي بطبيعة الحال) هو أهم مقومات نجاح التسوية، لأنه يفرض على النظام وممثليه أن يروا ذاتهم، وأن يدركوا مرغمين أن “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”.
ويبقى السؤال المهم: هل سيدرك النظام السوري معنى الخطوة الروسية وحقيقة التفاهم الدولي الخاص بسورية، أم سيتعامى مجدداً، ويلجأ إلى خلط الأوراق والمناورة، ليضيف جرائم جديدة إلى جرائمه السابقة؟
العربي الجديد
الانسحاب الروسي في ذكرى انطلاق الثورة السورية/ بكر صدقي
من المرجح أن فلاديمير بوتين لم يشأ هذه المصادفة المشار إليها في العنوان أعلاه، بل أراد لقراره بسحب «القسم الرئيسي» من قواته من سوريا أن يتزامن مع موعد استئناف مفاوضات جنيف المعلن عنها سابقاً، ليكون لهذا الانسحاب مفعوله على مناخ المفاوضات. وربما العكس هو الصحيح، أعني أن موعد استئناف المفاوضات الذي تأجل، أكثر من مرة في غضون الأسبوع السابق عليه، ربما تحدد بناءً على تقدم الاستعدادات الروسية لسحب قواتها قبل الإعلان الرسمي عن ذلك.
هذه مجرد تكهنات ستفصل فيها التطورات اللاحقة بدءًا من المسار الذي ستمضي فيه مفاوضات جنيف، وانتهاءً بالسلوك الذي سيتبعه النظام الكيماوي وحلفاؤه في الميدان. لكن المؤكد أن التوافق الأمريكي ـ الروسي حول تسوية سياسية في سوريا يبدو، في ظل تطورات الأشهر الثلاثة الماضية، أكثر جدية وثباتاً من أغلب التوقعات. وإذا كان صمود الهدنة التي تم فرضها على الأطراف المؤشر الأول لجدية التوافق المذكور، فقرار الانسحاب الروسي المفاجئ يشكل مؤشراً أقوى، على رغم ادعاء واشنطن بعدم علمها المسبق بهذا القرار. أما نظام دمشق وحلفاؤه المصدومون بالقرار الروسي، كما يظهر بوضوح في تعاطي إعلام الممانعة معه، فقد حرص الروس على تأكيد أن الرئيس بوتين اتخذ القرار وحده، بخلاف ما زعمه بيان النظام عن «تنسيق» بشأنه بين موسكو ودمشق.
هذه التفاصيل ترجح التحليلات القائلة بأن قرار الانسحاب العسكري الروسي، في جانب منه على الأقل، يستهدف الضغط على النظام ليدخل في المسار التفاوضي بجدية. وكان ممثل روسيا في مجلس الأمن فيتالي تشوركين واضحاً في رده على سفاح دمشق الذي كان قد خرج عن النص الروسي في خطاب له أمام مجلس نقابة المحامين منتصف شباط /فبرايرالماضي، حيث عبر عن رغبته في استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، ما يعني عملياً مواصلة الحرب إلى ما لا نهاية.
فنصحه تشوركين بـ»الخروج من الأزمة بكرامة» من خلال الالتزام بعملية التسوية السياسية التي تقودها موسكو وواشنطن وفقاً لخارطة الطريق المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2254. هذا بخلاف التحليلات القائلة بأثر تصريحات وليد المعلم النارية، قبل يومين، على قرار موسكو الذي لا يمكن أن يكون ابن لحظته. بل على العكس، ربما كانت التصريحات النارية المذكورة هي ردة فعل غاضبة من نظام دمشق على ضغوط روسية متواصلة لإرغامه على الالتزام بالهدنة، أولاً، وبالدخول الجدي في التسوية المقررة أممياً، من جهة ثانية.
بررت موسكو قرارها بالقول إن القوات الروسية قد أنجزت المهمات الموكلة إليها. فهل تحققت كل الأهداف المعلنة من التدخل حقاً؟ لا شك أن موسكو فرضت، بتدخلها، أمراً واقعاً على العالم وهو أن روسيا أصبحت صاحبة الكلمة الأولى في تحديد مصير النظام، وشريكة للولايات المتحدة في أي تسوية سياسية للصراع السوري. إضافة إلى تمكينها للنظام من استعادة بعض المناطق الحيوية ضمن حدود ما يسمى «سوريا المفيدة»، بما يدخله في التسوية السياسية من موقع قوي لم يكن يملكه قبل التدخل الروسي في 30 أيلول/سبتمبر 2015. كما كرست روسيا وجودها العسكري الدائم في القاعدة الجوية في اللاذقية والقاعدة البحرية في طرطوس، مهما كانت نتيجة العملية السياسية في جنيف. وتبقى الاتفاقية الموقعة مع النظام التي منحت روسيا حق التدخل العسكري بلا حدود زمنية، حتى بعد الانسحاب الجزئي الذي بدأ فور صدور القرار.
بالمقابل ثمة أهداف، قطع القرار الروسي الطريق أمام استكمال تحقيقها، أهمها استعادة حلب وريفها الشمالي وصولاً إلى الحدود مع تركيا، وما يعنيه ذلك من إخراج تركيا نهائياً من الصراع السوري. ومنها أيضاً السيطرة على الغوطة الشرقية، حيث لم تتوقف محاولات قوات النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية التقدم نحوها على رغم الهدنة المعلنة. كذا فيما يتعلق باستعادة مدينة جسر الشغور ذات الأهمية الاسترتيجية في إشرافها على مناطق القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام على الشريط الساحلي.
القطع الذي شكله الانسحاب الروسي أمام تحقيق هذه الأهداف الحيوية، حتى من وجهة نظر المصالح الروسية وحدها، يشير إلى عنصر آخر في التفاهمات الروسية ـ الأمريكية: الحفاظ على توازن قوى دقيق لا يسمح بنصر صريح للنظام ولا للمعارضة، بما يخدم التصور الأمريكي – الروسي للتسوية السياسية: أي مشاركة في الحكم بين النظام والمعارضة للتفرغ لـ»محاربة الإرهاب». وقد اكتشف الروسي، في غضون الأشهر الخمسة والنصف التي انخرط فيها في الصراع بصورة مباشرة، أن النظام أكثر ضعفاً مما كان يتوقع، وغير قادر على استثمار قصف الطيران الروسي في تحقيق مكاسب كبيرة على الأرض، وهو يتصرف، فوق ذلك، بعنجهية وتصلب سياسيين لا يتناسبان مع هشاشته، و»يبيع من كيس روسيا» وكأن القوات الروسية خادمة في إمرته، في حين أن العلاقة بينهما معكوسة تماماً.
لسان حال الروسي الذي تضغط عليه تكاليف الحرب الباهظة (مليونان ونصف من الدولارات كل يوم) في ظل أزمة موارد كبيرة، يقول للنظام: لن أقوم بالعمل كله نيابة عنك. عليك الالتزام بالتسوية السياسية أو تواجه مصيرك وحيداً.
دي ميستورا بدوره هدد بالعودة إلى رعاة التسوية السياسية بعد خروجه من اللقاء مع وفد النظام. ما يعني دلالة إضافية على جدية الإرادة الدولية في إرغام النظام على التسوية السياسية التي يرفضها، في حقيقة الأمر، جملة وتفصيلاً.
ترى هل ما زال النظام يملك من الوسائل ما يبعده عن تجرع كأس السم؟ وإلى أي حد يمكن لموسكو أن تمضي في محاولة إخضاعه؟
قد يأتينا الجواب على السؤال الأول من داعش، بعدما أعلنت جبهة النصرة عن قسطها من «المهمة» بنيتها في شن حملة عسكرية كبيرة ضد النظام في غضون 48 ساعة. أما السؤال الثاني فالأيام القادمة ستجيب عليه.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
نهاية الحرب السورية/ برهان غليون
كان المحرّك الرئيسي للحرب السورية الداخلية، وبقي، خلال السنوات الخمس الماضية، رفض الأسد ونظامه الانتقال السياسي، وسعيه من خلال شن العدوان والحرب على شعبه، وبيع ولائه للدول الأجنبية، إيران ثم روسيا، من أجل تأمين وسائل الاستمرار في الحرب، العسكرية منها والسياسية، للبقاء في السلطة.
خطوة الروس الانسحاب المفاجئ من سورية رسالة موجهة للأسد، أن حقبة التلاعب والهرب من الاستحقاق التفاوضي، والعمل على تقويض المبادرات الدولية، انتهت، وأن عليه التخلي عن أحلامه، والقبول بالمشاركة الجدية في مفاوضاتٍ سوف تفضي، لا محالة، إلى نهاية نظامه وحكمه. وقد جاءت هذه الخطوة رداً واضحاً على تعنت الأسد، ورفضه الاعتراف بالتوافق الدولي حول إعادة إطلاق مفاوضات الحل السياسي، وسعيه، بجميع الوسائل، إلى تقويضها، سواء بإصدار قرار تنظيم الانتخابات التشريعية في الشهر المقبل، ليقطع الطريق على الانتخابات التي حدّدها التوافق الدولي، بعد 18 شهراً، وتحت إشراف دولي وبمشاركة المعارضة، أو من خلال دفعه وزير خارجيته إلى الإعلان عن رفض النظام التفاوض حول الانتخابات الرئاسية، واعتبارها خطاً أحمر، أي في الواقع اعتبار مصير الأسد موضوعاً خارجاً عن التفاوض، أو أخيراً اعتقاد الأسد أنه يستطيع أن يستخدم الروس، من أجل القضاء على المعارضة، واستعادة ملكه، كما لو كانوا خدماً لديه، وهو ما رد عليه، في وقتها، ممثل روسيا في الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، قائلاً: لا تركّزوا على ما يقول الأسد، ولكن، على ما سيفعله.
جاءت الخطوة لتقول إنه طفح الكيل عند بوتين من تلاعب الأسد وألاعيبه، والأهم من ذلك، أكدت خطوته هذه أن هناك فعلاً توافقاً وتفاهماً دوليين، من أجل دفع المفاوضات السياسية، هذه المرة، نحو النجاح، وأن روسيا تريد أن تلعب دوراً إيجابياً في ذلك. لا ينبغي أن نتفاءل كثيراً، ونعتقد أن سبب نشوء هذه الإرادة الإحساس المفاجئ بالمعاناة السورية، أو القلق على مصير المحاصرين والمجوّعين والمشرّدين أبداً. ما وراء الاتفاق الدولي هو الخوف من أن يقود استمرار البركان السوري بنفث لهبه إلى زعزعة استقرار المنطقة، وبشكل خاص، أوروبا والعالم، سواء نتيجة تفاقم أزمة المهجّرين واللاجئين الذي أصبحوا يشكلون، اليوم، عبئاً كبيراً على الدول المستقبلة، ولا أحد يعرف ما الذي سيكون عليه مصير أبنائهم، والأجيال الجديدة الفاقدة للتعليم والأمل معاً، إذا استمر الوضع سنوات أخرى، أو بسبب الانتشار المتوسع للتنظميات المتطرفة، في أكثر من منطقة، انطلاقاً من سورية والعراق، وتزايد العمليات الإرهابية في أوروبا وبلدان عديدة.
جاء التوافق الروسي الأميركي والدولي من منطلق الاعتقاد المتنامي، بعد فشل القضاء على داعش وأخواتها، بأن من المستحيل احتواء مضاعفات الأزمة السورية، من دون وضع حدٍّ للحرب، والدفع في اتجاه التهدئة، والعودة إلى الحالة الطبيعية والاستقرار. لكن نهاية الحرب بهذا المعنى، أي زوال مبرّر استمرارها، مع التوصل إلى اتفاق دولي للحل، وتبني الدول له والعمل عليه، ما يجعل من العودة إلى الحرب مناهضةً للقرار الدولي، ولمصالح دول كبرى، لا تعني وقف الأعمال القتالية تماماً، أو عدم حصول معارك وصدامات. هذا يمكن أن يحصل ضمن إطار الحفاظ على المواقع الراهنة للأطراف، أو في مواجهة قوى من النظام، أو من خارجه، تريد أن تغير في واقع وطبيعة المعادلة التي قام عليها الاتفاق الدولي. بل أكثر من ذلك لا تعني نهاية الحرب، أي زوال مبرّراتها الكبرى، أن روسيا لن تستخدم قوتها الباقية في سورية ضد هذا الطرف أو ذاك، وضد المعارضة إذا حاولت أن تستفيد من الانسحاب لصالحها. أعتقد أن هناك اتفاقاً، أيضاً، على تثبيت مبدأ لا غالب ولا مغلوب، وحرمة الحسم العسكري لأي طرف. وأي طرفٍ يحاول خرق هذا المبدأ أو يظهر وكأنه يقوم بذلك سوف يتعرض للرد الروسي. وربما سيكون ثمن وقف العمليات الروسية لصالح مشروع الأسد، وتوجه الروس لدعم المشروع الدولي لإنجاح مفاوضات التسوية السياسية هو وقف حلفاء المعارضة تزويدها أيضاً بالسلاح، وربما كان هذا أحد بنود التوافق أو الاتفاق.
في جميع الأحوال، نحن مقبلون على مرحلةٍ، ستكون فيها الكلمة الأولى في الصراع السوري للسياسة والدبلوماسية وليس للسلاح. وسيكون من المفيد جداً لنا، أي للشعب السوري الذي عانى أشد العذاب في السنوات الماضية، أن يعيد إحياء روح التظاهر والتفنن في التعبير عن لفظه النهائي لهذا النظام ورجالاته، وتأكيد حقه الذي لا يمكن نقاشه في إحقاق الحق، وتطبيق قانون العدالة، وإنزال العقاب بالقتلة والمجرمين، من أي جهة كانوا.
هذه هي اللحظة التي تعود فيها القضية إلى الشعب، والتي يعود فيها الشعب للعب دوره الحاسم. والكلمة الآن للناشطين في ساحات سورية وأحيائها. وهذه هي، أيضاً، دعوة لهم، كي يعودوا، لمن يستطيع أن يعود، ليستعيد دوره ونشاطه من داخل سورية التي تتهيأ للحرية والانتصار.
باختصار، فرض القبول بالانتقال السياسي على الأسد، وهو ما يعني ضمناً نقل السلطة منه إلى طرف آخر ونظام آخر، يعني إزالة أهم دافع ومنبع للحرب: مصير الأسد نفسه.
نهاية الأسد تعني، ببساطة، نهاية الحرب تماماً كما تعني نهاية الحرب نهاية الأسد.
العربي الجديد
خطوة الانسحاب من سورية: ضغط روسي على الأسد؟
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
في خطوةٍ مفاجأةٍ، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية، ابتداءً من يوم الثلاثاء الموافق 15 مارس/ آذار 2016. وقد ورد في البيان الصادر عن الكرملين أنّ قرار الانسحاب “جاء بعد أن حققت القوات الروسية الجزء الأكبر من أهدافها”. وعلى الرغم من أنّ ديمتري بيسكوف الناطق الصحافي باسم الرئيس الروسي نفى أن يكون قرار سحب القوات الروسية من سورية يستهدف الضغط على نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، للانخراط بصورة جدّية في العملية السياسية التي يؤمل أن تؤدي إلى حلٍ، فإنّه أكّد أنّ “المهمة الرئيسة لموسكو في سورية تكمن، في المرحلة الراهنة، في المساهمة بمنتهى الفاعلية في عملية التسوية”.
سياق التدخل الروسي:
مع أنّ موسكو أعلنت أنّ الهدف الرئيس من تدّخلها العسكري في سورية الذي بدأ في 30 سبتمبر/ أيلول 2015 هو مواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، بدلًا من انتظار شنّه هجمات داخل روسيا، في ظل معلومات عن التحاق مئاتٍ من حملة الجنسية الروسية بالتنظيم، فإنّ الغارات الجوية التي شنّها سلاح الجو الروسي في الشهور الماضية تركّزت على قوات المعارضة المسلحة، ما يشير إلى أنّ هدف روسيا الفعلي من التدخل كان يتمثّل في وقف انهيار الجيش السوري، واستعادة التوازن على الأرض، بما يسمح بإطلاق عمليةٍ سياسيةٍ، لا يخرج منها النظام مهزوماً. لكنّ هذه المهمة لم تكن يسيرة، كما اعتقدت موسكو، إذ اتضح للروس، منذ البداية، مدى الإنهاك والعطب الذي أصاب الجيش السوري، بعد خمس سنوات من القتال، وتمثّل في عجزه أول الأمر عن استعادة أي جزءٍ صغيرٍ من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة، على الرغم من كثافة القصف الروسي. وقد مثّلت معارك ريف حماة الشمالي، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2015، حين استخدمت المعارضة صواريخ “تاو” الأميركية لمواجهة دبابات النظام ومدرعاته، إحراجاً كبيراً لموسكو؛ ما دعاها إلى استدعاء الأسد لمناقشة الموقف.
وبالتوازي مع الحملة الجوية التي قادتها لوقف تقدّم المعارضة، قبل دفعها إلى التراجع، فتحت
“اتضح للروس، منذ البداية، مدى الإنهاك والعطب الذي أصاب الجيش السوري، بعد خمس سنوات من القتال”
موسكو مساراً سياسياً يستهدف منع انزلاقها، أو جرّها إلى حرب استنزاف في سورية، وبما يسمح، في الآن نفسه، بفتح حوارٍ مع واشنطن، يؤدي إلى تكريسها شريكاً رئيساً في معالجة جملة من القضايا في المنطقة، وفي مقدمتها سورية. وبعد شهرٍ فقط من بدء الحملة الجوية الروسية، انطلقت مسيرة فيينا التي بدأت رباعية (روسيا – الولايات المتحدة – تركيا – السعودية) قبل أن تتوسع لتشمل 17 دولة، من ضمنها إيران، في إطار ما أصبح يعرف “بمجموعة دعم سورية”. لكنّ هذا المسار، لم يلبث أن انتهى ثنائياً، في ظل توجّه موسكو وواشنطن إلى التوصّل إلى تفاهماتٍ مشتركةٍ، بينهما تستبعد جميع الأطراف الأخرى، مثل الأوروبيين، وكذلك إيران التي طالما أصرّت روسيا على إشراكها في محادثات حلّ الأزمة السوريّة.
أسفر مسار فيينا عن التوصّل إلى اتفاقٍ عُرف باتفاق فيينا الذي قدّم خريطة طريق لحلّ الأزمة السورية، جرى تضمينها في قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وحمل الرقم 2254 بتاريخ 18 ديسمبر/ كانون أول 2015، ونصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكم /حكومة شاملة وذات طابع غير طائفي، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات خلال 18 شهراً، تحت إشراف الأمم المتحدة.
وبعد فشل الجولة الأولى من مفاوضات “جنيف 3” التي انطلقت في 29 يناير/ كانون الثاني 2016، في ظل استمرار القصف الروسي ومحاولة النظام وحلفائه استثمار المفاوضات غطاءً لتحقيق نتائج على الأرض، تمكّن الروس والأميركيون في 11 فبراير/ شباط من التوصل إلى اتفاقٍ لوقف “العمليات العدائية” في سورية، على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، على الرغم من استمرار الخلاف حول شموليته، والفصائل التي ستستبعد منه، إلى أن بدأ تنفيذه في 27 فبراير/ شباط بعد تذليل آخر العقبات أمامه، في اتصال هاتفي بين الرئيسين بوتين وأوباما في 22 فبراير/ شباط 2016.
وخلال الأسبوعين اللذيْن أعقبا إعلان وقف إطلاق النار، ومع حصول خروق كبيرة من النظام وحلفائه، فإنّ الاتفاق ظلّ صامدًا، ليعكس إصراراً روسيًا على إنجاحه مع إعلان فرنسا أنّ القوات الروسية توقفت، في الأثناء، عن استهداف فصائل المعارضة المسلحة.
دوافع الخطوة الروسية: خلاف الأجندات
جاء القرار الروسي الانسحاب الجزئي من سورية متزامناً مع استئناف المفاوضات في جنيف، وقد بدا واضحاً أنّ الرئيس بوتين اكتفى بإبلاغ الأسد بقراره هاتفياً؛ ما يعكس استياء روسيا من محاولة نظامه التملّص من التفاهمات الروسية – الأميركية التي تمّ التوصّل إليها، وشملها قرار مجلس الأمن 2254، وكذلك القرار 2268 بتاريخ 26 فبراير/ شباط 2016، والذي تضمّن شروطاً وآليات مراقبة وقف إطلاق النار في سورية.
وقد بدأت الخلافات بين النظام السوري وموسكو تطفو على السطح بوضوح في الفترة الأخيرة؛
“بدأت الخلافات بين النظام السوري وموسكو تطفو على السطح بوضوح في الفترة الأخيرة”
إذ اعتبر السفير الروسي في الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، تصريحات الرئيس الأسد، من أنه سيواصل القتال، حتى استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، بأنها تسيء إلى الجهد الدبلوماسي المبذول للتوصّل إلى تسوية سلمية، وأنّ “روسيا استثمرت كثيراً في هذه الأزمة، سياسياً ودبلوماسياً، والآن عسكرياً، وبالتالي، تريد بالطبع أن يأخذ بشار الأسد هذا الأمر بعين الاعتبار”.
وشكّل إعلان النظام السوري عزمه إجراء انتخابات تشريعية في أبريل/ نيسان المقبل من دون التشاور مع الروس مادةً أخرى للخلاف؛ إذ اعتبرت روسيا أنّ هذه الخطوة تخالف ما جرى النص عليه في القرار 2254، لجهة أن تكون أي انتخابات جزءًا من الاتفاق النهائي على حل الأزمة. وفي أثناء زيارةٍ أخيرةٍ، قام بها نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى طهران، أبلغه الإيرانيون أنهم يدعمون موقف الأسد بشـأن إجراء انتخابات تشريعية، وهو موقف أزعج الروس، وأظهر أنّ الأسد يحاول الاستثمار في اختلاف المصالح والسياسات الروسية والإيرانية في الأزمة السورية.
يدفع هذا كله إلى الاعتقاد بأنّ قرار الرئيس الروسي سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية، عشية بدء مفاوضات جنيف، جاء على خلفية اتساع حجم الخلافات مع الأسد وإيران، بشأن العملية التفاوضية والنتائج المتوقعة؛ إذ لا يُخفي النظام السوري المدعوم إيرانياً رفضه أي حلٍ سياسي، لا يضمن بقاء الأسد وسيطرته على القرار الأمني والعسكري في أي صيغة حكم مستقبلية؛ وهو الأمر الذي عبّر عنه وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، عندما قدّم تفسيره لمعنى الانتقال السياسي في القرار 2254، فقال: المرحلة الانتقالية “في مفهومنا هي الانتقال من دستور قائم إلى دستور جديد، ومن حكومةٍ قائمةٍ إلى حكومةٍ فيها مشاركة مع الطرف الآخر”. وتعليقًا على تصريحات مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي مستورا، حول ضرورة أن تنتهي المرحلة الانتقالية بانتخابات رئاسية وبرلمانية في غضون 18 شهراً من تشكيل حكم شامل غير طائفي، أضاف المعلم إنّ الأخير غير مخولٍ الحديث أو البحث في إجراء انتخابات رئاسية في سورية لأنّ “بشار الأسد خط أحمر”.
وفيما تبدي روسيا ميلاً نحو تحقيق حلٍ سياسي ينطلق من موقعها، متحكّماً سياسياً وعسكرياً بالمشهد السوري، ويكرّس شراكة مع واشنطن، تستند إلى قدرتها على العمل معها، ولو من منطلق “شريك أصغر” Junior Partner لضبط الفوضى الإقليمية، فإنّ إيران والنظام السوري يظهران إصراراً على هزيمة المعارضة عسكرياً وسياسيًا. وفيما تتمسك موسكو بإنجاح الهدنة، يسعى حلفاؤها لكسرها، اعتقادًا منهم بأنهم باتوا قادرين على تحقيق نصرٍ ميداني كامل. من هنا، يستمر النظام والميليشيات الداعمة له بحشد قواتهم في أكثر من منطقة، وخصوصاً في حلب، استعدادًا لإعلان انهيار الهدنة واستئناف القتال. يجري هذا كله في الوقت الذي بات معه الأسد متشككاً بنيات الروس حيال بقائه على رأس النظام، وحول ماهية التفاهمات التي توصلوا إليها مع الأميركيين بشأن مصيره.
كيف يؤثر القرار الروسي في المفاوضات؟
بدأت الجولة الحالية من المفاوضات في 14 مارس/ آذار 2016، وسط خلاف على جدول
“يتعين عدم الذهاب بعيدًا في قراءة الخطوة الروسية؛ فهي لا تعني أنّ الروس قد تخلوا بالمطلق عن النظام السوري”
الأعمال؛ إذ يصرّ النظام على مكافحة الإرهاب أولاً قبل الانتقال إلى بحث القضايا السياسية، فيما تصرّ المعارضة على البدء بتشكيل هيئة حكم/ أو حكم انتقالي وفق القرار 2254، وأنّ هذه الهيئة يجب أن تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية، بما في ذلك تشكيل الحكومة الانتقالية، واتخاذ إجراءات وضع دستور جديد والاستفتاء عليه وإصدار قانون الانتخابات الجديد وإدارة الانتخابات بمراقبة دولية. ويتمسّك وفد المعارضة برفضه مناقشة أية قضية أخرى، قبل التوصل إلى اتفاق حول هيئة الحكم الانتقالي، كما لا يقبل إضافة أي طرفٍ ثالثٍ للمفاوضات، بوصفه ممثلاً للمعارضة. وقد تلقّى وفد المعارضة دعماً لموقفه بإعلان دي مستورا أنّ جوهر كل قضايا البحث في جنيف هو الانتقال السياسي، وأنّ هدف جولات المفاوضات الثلاث المقبلة هو التوصّل إلى خريطة طريق لبلوغ الهدف الرئيس.
من هنا، اعتبر دي مستورا أنّ قرار الانسحاب الروسي يخدم مفاوضات السلام في جنيف، أما المعارضة فقد ترجمته بالمنحى نفسه إذا كان يهدف إلى ممارسة ضغط على النظام، للدخول في مفاوضاتٍ جديةٍ تؤدي إلى تجنيب سورية مزيداً من السيناريوهات الكارثية في حال استمرار الصراع.
وعلى الرغم من التوقعات بعدم تحقيق الجولة الحالية نتائج ملموسة على صعيد الحلّ، من الواضح وجود إرادة دولية للدفع باتجاه الحل السياسي، وهو ما لم يكن يتوفر في السابق. ويفتح ذلك الباب نحو بدء جولةٍ ثانيةٍ، بعد استراحةٍ قد تمتد أسبوعين آخرين. وسوف تساعد هذه الجولة في سبر حقيقة النيات الروسية بصورة أفضل، وفي الإضاءة على طبيعة الحلّ الذي يسعى إليه الروس في سورية، وحقيقة التفاهمات التي توصلوا إليها مع الولايات المتحدة.
بناء عليه، يتعين عدم الذهاب بعيدًا في قراءة الخطوة الروسية؛ فهي لا تعني أنّ الروس قد تخلوا بالمطلق عن النظام السوري، فانهياره سيمثل ضربةً لهم، بعد أن استثمروا كل هذا الجهد لإنقاذه. كما أنّ انسحابهم لن يكون كاملًا؛ إذ سيستمر الروس في الاحتفاظ بوجودٍ عسكري مهمٍ في سورية، وخصوصاً في قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس. إنّ خروجهم بصورة كلية من سورية يعني التضحية بنفوذهم الذي كلفهم الكثير، وتقديم هدية مجانيةٍ لإيران. وفي الوقت نفسه، يبدو أنّ موسكو أجرت حسابات، أيضاً، لوقوع الأسوأ، فاختارت الوقت المناسب للخروج، خشية أن يتحوّل وجودها في سورية إلى ورطةٍ، إذا فشلت المفاوضات، ولجأت الدول المنافسة إلى خطة بديلة قوامها تحويل سورية إلى أفغانستان روسيّة جديدة. فروسيا ليس في وسعها التورط عسكريًا مدداً طويلة في مناطق بعيدة، وثمّة حدود لقدرتها الاقتصادية على التحمّل، لكنّها لا تريد انهيار النظام، بل الدفع باتجاه تسويةٍ تحافظ على مؤسسات الدولة والجيش، في الوقت نفسه.
العربي الجديد
روسيا والمرحلة السورية الجديدة/ غازي دحمان
كشفت مناقشات “تادي فالداي” الذي تعقده روسيا سنوياً، ويعبر بشكل جلي عن مؤسسات صنع القرار في موسكو، كما يعكس رؤاها ونظرتها إلى العالم وأدوارها، أنّ منطقة الشرق الأوسط باتت تحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية الجيو- سياسية بعد الفضاء الأوراسي، والذي يشكّل غلاف روسيا المباشر، وهو ما يرفع من احتمالية زيادة الانخراط الروسي السياسي والعسكري بشكلٍ أكبر في المنطقة، في المرحلة المقبلة، خلافاً لما تتوقعه معظم التقديرات، والتي غالباً ما تربط التدخل الروسي بظروف سياسية آنية.
هذا تطور مستجد في التفكير الجيوإستراتيجي الروسي، ويقطع مع مرحلةٍ سابقةٍ كان اهتمام موسكو فيها محصوراً ببلدان الجوار الجغرافي، ويقف خلف هذا التحوّل عاملان مستجدّان أيضاً، الأول الانسحاب الأميركي من المنطقة، وحالة الفراغ التي تعيشها في ظل الصراع الإقليمي بين الدول، وعدم وجود دولة أو منظومة دول قادرة على ملء الفراغ، أما العامل الثاني فهو التدخل الروسي في سورية الذي دفعها إلى تطوير دورها، إلى درجةٍ ربما يشمل مساحة واسعة من الشرق الأوسط. على ضوء ذلك، يمكن تقدير طبيعة المرحلة المقبلة، ورسم صورة تقريبية لها في سورية، وما حولها:
على المستوى السوري الداخلي: من الواضح أن الهدنة، وبغض النظر عن التقديرات التي تتوقع نهايتها، سوف تستمر مدى طويلاً، وخصوصاً في المساحة التي جرى تسميتها “المنطقة الخضراء”، والتي تشكل اصطلاحا “سورية المفيدة”، والأرجح أنه سيجري تمديدها فترات طويلة، وتحويل الصراع فيها إلى صراع موضعي، في بعض النقاط والذي لن يؤثر إجمالا على استمرارية الهدنة. ومن الواضح أن مكائن الحرب قد أطفأت محركاتها، ونتيجة الأعطاب التي طاولت تلك المحركات التي اشتغلت بكامل طاقتها خمس سنوات، يصعب إعادة تشغيلها مرة أخرى، ذلك أن تلك المكائن باتت بحاجة إلى تجديد كامل قطع غيارها، وهو ما لا يبدو متوفراً في الزمن المنظور، وخصوصاً على مستوى الكادر البشري، بعد أن استهلكت أطراف الصراع رصيدها من الشباب القادر والقابل للحرب، وأن الجولة الأخيرة كانت آخر فترات الصراع الساخن.
في هذه المرحلة، ستعمل روسيا على ترتيب مسرح الحدث وإعادة صياغته، وذلك عبر استخدام مزيج من السياسة الناعمة والصلبة، بما يضمن تغيير ديناميكية الصراع، ويضعها بموقع الضابط المدير له:
عسكرياً: من المرجّح أن تعمل روسيا على اختراق القوة العسكرية للمعارضة، وفرط هيكلياتها، ومحاولة دمجها ضمن أطر جديدة تقترحها، تحت مسمى التعاون في محاربة الإرهاب، أو إعادة بناء قوة وطنية سورية، وهو ما بدأت عمله بالفعل عبر عمليات الاتصال والتنسيق مع الفصائل، لإنجاح الهدنة، وتسعى إلى تحويل هذا الأمر إلى عمليةٍ متكاملةٍ، وليس مجرد اتصالات لحظية، ولا شك أن روسيا ستواجه رفض بعض الفصائل المسلحة، لكن الغالبية ستدرك أن الخيارات والبدائل معدومة أمامها، في ظل تلاق روسي وأميركي، وانكفاء الحلفاء مكرهين، كما أن الفصائل التي ستبقى خارج العملية لن تستطيع وحدها، وبعد تفكيك المشهد العسكري وتجزئته، إنتاج مقاومة ناجحة ضد نظام الأسد وحلفائه، أما الآلية التي ستعتمدها روسيا، فهي في الاغلب عن طريق الاتصال المباشر، عبر ضباطها الموجودين في قاعدة حميميم، وستعرض روسيا على الفصائل مساعداتٍ من نوع معين، تثبت فيها حسن نيتها تجاهها.
“ستعمل روسيا على ترتيب مسرح الحدث وإعادة صياغته، وذلك عبر استخدام مزيج من السياسة الناعمة والصلبة، بما يضمن تغيير ديناميكية الصراع، ويضعها بموقع الضابط المدير له”
سياسياً: ستبدأ روسيا تشكيل تيار سياسي واسع من المعارضة والنظام، تيار ثالث يؤيد سياستها في سورية، وستذهب خطوة أوسع في هذا المجال، من خلال الاتصال بالزعماء المحليين العشائريين والدينيين، وستقوم بمبادرات مهمة في هذا المجال، عبر رفع الحصار عن المناطق المحاصرة، والضغط على النظام لإخراج جزء من المعتقلين. وفي هذه الأثناء، ستبدأ روسيا في البحث عن ثمن لبشار الأسد، بعد أن جرّدته من حاضنته، واستقطبت حولها جزءاً من رجاله، وهي في طور اختبارهم وفحص إمكانياتهم ومقبوليتهم.
على المستوى الإقليمي: من المرجّح أن تشكّل سورية منصّة لروسيا، وربما لأميركا، لضبط الحراك الإقليمي، وترتيب الفوضى الإقليمية، وضبط عمليات صعود القوى وصراعاتها، وصولاً إلى إعادة تشكيل المنطقة، جغرافياً وديمغرافياً، ويبدو أن لدى إسرائيل علما بهذا الأمر، والدليل اندفاعها للتنسيق الكامل مع روسيا في سورية ولبنان، وربما هذا ما أدركته، أخيراً، إيران وتركيا، وعلى أساسه تجري إعادة صياغة العلاقات بينهما، بناءً على هذا المتغير. ومن الواضح، هنا، الإشارة إلى حقيقة أن أميركا قرّرت ألا تسير خلف حلفائها، ولا تسمح للرؤوس الحامية داخل الإدارة بتطوير التناقض مع روسيا، ولا تريد التورط في حربٍ عالميةٍ بسبب سورية، وتريد من روسيا أن تفكك الصراع في الإقليم، بتفكيك ديناميات الأزمة السورية. وثمة هدف أميركي آخر، يتمثل بإشغال روسيا في ترتيبات الشرق الأوسط واستنفاد قوتها هناك، لأن إخراجها من سورية سيدفعها إلى الالتفاف إلى دول البلطيق (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وهو ما قد يهدد بإشعال حرب عالمية حقيقية، أو يدفعها إلى التنسيق مع الصين، بما يعرقل النشاط الأميركي في منطقة شرق آسيا.
روسيا الآن في وضع يسمح لها بالسيطرة والتحكم وتلقي العروض وفحصها، وطرح الشروط، لم تعد تسيطر فقط نارياً على المعارضة، بل هي باتت في وضعٍ، يسمح لها بالعبث باستقرار أوروبا، وإعادة تشكيل العالم العربي، وحتى الشرق أوسطي، وهي تمسك بكل المفاتيح اللازمة لإدارة خطوط سير الإنتاج، ويمكنها تحديد مواصفات المنتج وشكله، هل هذه مبالغة؟ الواقع أن هذه حقيقة مجردة وصادمة، فقد اختبرت روسيا حدود قوة كل اللاعبين إلى أقصاها “بما فيهم إيران ونظام الأسد”، وأوصلتهم إلى مرحلةٍ لا يملكون معها خيارات قوية، ولا هوامش مناورة، استثمرت في جنونها، وفي جبنهم، وهي تراهن على أنها لا تزال قادرةً على اللعب على الحافة، وأنهم ما زال لديهم ما يتنازلون عنه.
واجهت روسيا قوى غير منظمة، وغير جاهزة للحرب، وكل ما فعلته أنها كشفت مزاعم هذه القوى، وفككتها ونزعت كل أغطية الحماس عنها. وواجهت قوى منهكة بسبب فوضوية إدارتها للصراع، بدءاً من إيران التي هرولت مستنجدة بروسيا، وانتهت إلى قوة هامشية ومستأجرة لدى روسيا. كل الأطراف المواجهة لروسيا، أو تلك الحليفة لها، خاضت المعركة من دون رؤية إستراتيجية ناضجة، وافتقدت للمبادرة، في غالب الأحيان، وفي وقت استثمرت فيه روسيا عناصر القوة التي تملكها بشكل جيد، وأدارت مواردها وأصولها بكفاءة، وهو ما أهلها لفرض قواعد التعامل الخاصة بها على الآخرين، لم تستطع الأطراف الأخرى استثمار عناصر قوتها، ولا حتى اجتراح طرائق مناسبة، للخروج من خانة العجز التي وضعتها بها روسيا.
العربي الجديد
لهذا قرّر بوتين الانسحاب/ مروان قبلان
فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم بقراره سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية، تماماً كما فاجأه يوم قرّر التدخل عسكرياً فيها. وقع المفاجأة يزيده حضوراً عدم قدرة كثيرين، بمن فيهم الأميركان، على قراءة نيات الرئيس الروسي، والتنبؤ بسلوكه. وما يزيد الصورة تعقيداً بالنسبة إلى منطقتنا العربية عدم القدرة على تحديد أهداف السياسة الخارجية للرئيس بوتين وفهمها على وجه الدقة، لأننا نستمر، في محاولة قراءتها، من زاوية ما يعنينا منها (سورية تحديداً)، وليس من زاوية ما يعني روسيا ويهمها في بيئتها ومحيطها، وهي زاويةٌ، بالتأكيد، أوسع وأشمل، إذ تتضمن قضايا وملفات عديدة، لا صلة لنا بها. فوق ذلك، يبدو الرئيس بوتين مستمتعاً بمشاهدة الحيرة تعلو الوجوه حيال سياسته وتصرفاته. لذلك، تجده لا يفتأ يحاول ابتكار المزيد منها، حتى يزداد العالم حيرة، ويزداد هو إعجاباً بذاته وقدراته في ممارسة الدبلوماسية السرية، ومحاكاته رموزها وأبطالها (مترنيخ، أندروبوف، كيسنجر).
واقع الأمر أنه يصعب فهم السلوك الروسي في سورية، إذا حاولنا ربطه بحيثيات الأزمة السورية وجدولها الزمني، وهو بحق لا يعد ممكناً إلا إذا عدنا إلى خطاب بوتين الشهير الذي ألقاه في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، وصرخ فيه، للمرة الأولى، في وجه الغرب، وخصوصاً إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، احتجاجاً على مساعي تطويق روسيا بالثورات الملوّنة، التي بدأت في جورجيا عام 2003، وانتقلت إلى أوكرانيا عام 2004، ثم قرغيزيا في العام الذي يليه، فضلاً عن إعلان واشنطن نيتها إنشاء درع صاروخي في التشيك وبولندا، يجرّد روسيا من قدراتها الصاروخية الاستراتيجية. منذئذ، قرّر بوتين أن عليه أن يستغل فرصة انشغال واشنطن واستنزافها في العراق وأفغانستان للرد.
بدأ بوتين العمل من جورجيا، حيث غزاها في أغسطس/آب 2008، وسلخ عنها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، من دون أن تستطيع إدارة بوش أن تفعل شيئاً لإنقاذ حليفها الرئيس ساكاشفيلي من هزيمة نكراء. استكمل بوتين مخططه بالخطوة الأهم، وهي استعادة أوكرانيا من حضن الغرب، فتمكّن من خلال دعم حليفه، فيكتور يانوكوفيتش، في انتخابات عام 2010 من إطاحة النخبة الموالية للغرب، والتي ظل يضيّق عليها بقطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، كلما اشتدّ فيها برد الشتاء، حتى لفظها الناخب الأوكراني. ومستفيداً من الارتفاع الكبير في أسعار النفط، وبناء احتياطي كبير من العملات الصعبة، وبعد تأمين حدوده الجنوبية عبر إجهاض محاولات جورجيا الانضمام إلى “الناتو”، واستعادة أوكرانيا، قرّر بوتين أن أمامه نافذة تمتد إلى مطلع عام 2015 ليتمكّن من إنجاز مشروعه الأكبر (الاتحاد الأوراسي)، وذلك قبل أن تكمل واشنطن الانسحاب من أفغانستان، وتعود إلى التركيز بشكل كامل على أوراسيا.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوراسي الذي تم التوقيع على اتفاقية إنشائه في 29 مايو/أيار 2014، يمكن أن يضم نظرياً كل دول الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن بوتين ركّز تحديداً على دولتين، هما كبرى جمهوريات آسيا الوسطى (كازاخستان) وكبرى جمهوريات أوروبا (أوكرانيا)، وتعد هاتان الدولتان بحق بمثابة الجناحين، الآسيوي والأوروبي، لقلب روسيا الأوراسي. لكن الأميركان الذين كانوا ينظرون، بقلقٍ شديد، إلى مخططات بوتين فيما يعتبره خبراء الجيوبوليتك الغربيين قلب العالم (أوراسيا) ما كانوا ليسمحوا له بتحقيق مراده. لذلك، وقبل أشهر فقط من التاريخ المحدّد لإعلان الاتحاد الأوراسي الذي كان يطمح بوتين أن يعيد، من خلاله، أمجاد روسيا ونفوذها على الساحة الدولية، تم اختطاف أوكرانيا منه. رد بوتين بغضب شديد، فالاتحاد الأوراسي لا يعود أوراسياً من دون أوكرانيا، وكان البديل غزو القرم وضمها، وكأن بوتين أراد أن يأخذ الجزء (القرم) تعويضاً عن خسارة الكل (أوكرانيا).
فرض الغرب، على الفور، عقوبات قاسية على موسكو، رفضها بوتين، من زاوية أنها توحي بمعاملته كما تعامل أي دولة عالمثالثية متمرّدة على الغرب. ولذلك، رد عليها بإلغاء خط غاز “السيل الجنوبي” الذي يمر عبر البحر الأسود إلى بلغاريا، ثم إلى أوروبا. وأعلن من أنقرة إنشاء خط “السيل التركي” عوضاً عنه، في مؤشرٍ إلى رغبته في تعزيز العلاقة مع تركيا، على الرغم من الخلاف بينهما حول سورية. لكن بوتين لم يكتف بذلك، بل ظل يتحيّن الفرص لردٍّ أكبر، يساعده في إثبات ذاته، وموقع بلاده دولةً عظمى على الساحة الدولية. وهنا، برزت سورية فرصةً سانحة للرد.
تدخل بوتين في سورية لأسباب عديدة، لبعضها علاقة بالصراع الدائر فيها، وأكثرها مرتبط بمصالح روسيا الكبرى، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، فقد أثاره التقارب التركي-السعودي الذي أخذ منحى جدياً، بعد تسلم الملك سلمان مقاليد الحكم، وإعلان تركيا دعمها التدخل السعودي في اليمن. وقد ظهرت نتائج التقارب السعودي-التركي جلية في سورية، مع تداعي قوات النظام سريعاً في مناطق مختلفة في شمال غرب البلاد وجنوبها أيضاً.
استغل بوتين التوسّل الإيراني له بالتدخل عسكرياً في سورية، باعتبار أنه يخدم غرضه في الرد
“يقول بوتين للأسد في الانسحاب “الدراماتيكي” أنه ربما حان الوقت ليعيد إجراء حساباته” على الغرب والسعودية التي اتهمها بالوقوف وراء انهيار أسعار النفط، السلعة الرئيسة التي تبيعها روسيا لتقتات منها. وعبر هذا التدخل أيضاً، لاحت لبوتين فرصة إنشاء حزام من عدم الاستقرار، يقع خلف الحزام الذي يحاول الغرب تطويق روسيا به، واستخدام ذلك أداةً لمعاقبته على سلوكه غير “اللائق” في التعامل مع روسيا. وعليه، كان الهدف الروسي، في الأشهر الخمسة الماضية، ليس فقط إنقاذ نظام الأسد، بل تهجير وضخ أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين باتجاه تركيا، ومن ثم أوروبا، حتى كادت أزمة اللاجئين تعصف بالاتحاد الأوروبي الذي كاد يتفكك تحت ضغط الأزمة السورية. خلاف ذلك، سارع بوتين إلى فتح مسار سياسيٍّ، حاول من خلاله جر الأميركان الذين طالما عاملوه باستخفافٍ بلغ حد الاحتقار (عندما وصف أوباما روسيا استصغاراً بأنها دولة إقليمية) إلى تفاهماتٍ مباشرة معه. وهكذا، انطلقت مسيرة فيينا بعد شهر تماماً على التدخل الروسي، وتمكّن بوتين خلالها من إقناع الأميركان باستبدال العمل في إطار مجموعة دعم سورية المؤلفة من 17 دولة بالعمل في إطار ثنائي. وبذلك، يكون بوتين قد حقق بعض أهم أهداف تدخله في سورية، وفي مقدمتها تأكيد مكانة بلاده باعتبارها دولة كبرى فاعلة وذات وزن، كما نجح في جرّ الأميركان إلى تفاهماتٍ ثنائيةٍ معه ذات علاقة بسورية وغيرها، بعد أن داوموا على رفض الحديث معه، منذ أزمة أوكرانيا. ويبدو أيضاً أن روسيا في طريقها إلى تحقيق تفاهماتٍ مع السعودية بشأن أسعار النفط، وقد تجلى ذلك في اتفاق الدوحة الذي ضم، إلى جانب الدولة الراعية، كلاً من السعودية وروسيا وفنزويلا، وقرّر تجميد إنتاج النفط، وفق معدلات شهر يناير/كانون الثاني الماضي، ما استدعى ارتفاعاً في الأسعار تجاوز 40% من أدنى مستوى لها عند حدود 27 دولاراً إلى حدود 40 دولاراً للبرميل الواحد، وقد ساعد على ذلك خروج كثير من الحفّارات من العمل في الولايات المتحدة بسبب انهيار الأسعار.
هل يعني تحقيق هذه الأهداف أن بوتين قد قرّر سحب كل استثماراته العسكرية والسياسية والاقتصادية في سورية؟ الأرجح أنه لم يفعل، فمن جهةٍ، لم تعلن روسيا نيتها سحب كامل قواتها، بل قرّرت الاحتفاظ بوجود عسكري في قاعدة حميميم وميناء طرطوس. ومن جهة أخرى، يبدو أن روسيا غير مستعدة للتخلي عن التنسيق الذي بدأ، الآن، بين الجيشين الروسي والأميركي في سورية لمواجهة تنظيم الدولة، وهو مطلب ألحّ الروس عليه طويلاً، وظلت ترفضه واشنطن قبل أن توافق عليه أخيراً. لكن الأهم من ذلك كله أن بوتين سيستمر في محاولة البرهنة للعالم أنه الوحيد القادر على اجتراح معجزة الحل في سورية. هذا الأمر سوف يؤدي على الأرجح إلى اتساع الخلافات مع نظام الأسد حول مقتضيات التسوية التي تسعى إليها موسكو وفق التفاهمات والأثمان التي تم التوافق عليها مع واشنطن. والأرجح أن بوتين يقول للأسد في إعلانه “الدراماتيكي” عن الانسحاب أنه ربما حان الوقت لكي يعيد إجراء حساباته، فموسكو لم تأت لإنقاذه، بل جاءت لإنقاذ نفسها ومصالحها، وهي لن تسمح لأحد بإعاقتها.
العربي الجديد
في ما وراء صفعة بوتين/ بدرالدين عرودكي
بعيداً عن مبالغات وأوهام التفكير الرغبي الذي ساد عدداً من الكتابات العربية التي تناولت القرار «المفاجئ» بسحب جزء من المعدات الحربية الروسية من سوريا، هاهي تنجلي شيئاً فشيئاً مقاصد وأهداف هذا القرار الذي مهَّدت له مجموعة من تصريحات علنية متتالية أدلى بها كبار المسؤولين الروس منذ أن بدأ بشار الأسد، وقد أخذته العزة بالإثم بعد مباشرة الروس القتالَ إلى جانبه منذ 30 أيلول/سبتمبر الماضي، إطلاقَ تصريحات، ولا سيما في 15 شباط/فبراير الماضي، مفادها عدم إمكان «أن يكون وقف إطلاق النار كما يسمونه بلا هدف أو بلا زمن..» ونيته مواصلة القتال حتى «استعادة كامل الأراضي»، فضلاً عن تحديد معنى المرحلة الانتقالية باعتبارها تستهدف إعادة الاستقرار إلى البلاد؛ وإعلانه بعد ذلك الدعوة إلى انتخاب «أعضاء مجلس الشعب» في 13 نيسان/ابريل المقبل، وأخيراً إيعازه إلى وزير خارجيته التصريح قبيل اجتماع جنيف في منتصف شهر آذار برفض أي حديث عن انتخابات رئاسية في نهاية المرحلة الانتقالية التي يجب أن تقتصر في نظره على حكومة وحدة وطنية وانتخابات تشريعية ووضع دستور جديد من دون أن تطال «مقام الرئاسة»!.
كان طبيعياً أن يُستخلص من هذه التصريحات أن النظام الأسدي لم يقرأ كما تجب القراءة ما كان يجري على صعيد الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة بصدد إنهاء «الأزمة السورية» أو طبيعة «الحل السياسي»، أو أنه قرأ وأدرك لكنه حاول المناورة ـ كما هو ديدنه ـ من أجل توجيه مسار المفاوضات بجنيف على نحو يفرغها من كل معنى طالما لم تستجب لما يريد. ولهذا جاء الرد الروسي مباشراً رغم لهجته الدبلوماسية من خلال ما صرح به فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، لصحيفة «كوميرسانت» الروسية بعد ثلاثة أيام من تصريحات الأسد، بأن هذه الأخيرة «لا تتفق مع جهود موسكو الدبلوماسية» مشيراً إلى أن «روسيا بذلت الكثير من الجهود في هذه الأزمة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً» وأنه بالتالي يرجو «أن يأخذ الرئيس الأسد ذلك بعين الاعتبار». ثم بوجه خاص: «إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا على الرغم من التصنيفات السياسية الداخلية وخط الدعاية السياسي التي يجب عليهم العمل بها، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعباً للغاية بما في ذلك بالنسبة لها». مع التذكير الحثيث بأن «الجيش السوري لم يكن ليستطيع وحده الدفاع عن دمشق ودحر خصومه لولا العملية الجوية الروسية التي ساعدته في ذلك» وأنه «قد يتمكن هذا الجيش من تحرير حلب، وقد يقولون إنهم لم يعودوا في حاجة إلى الهدنة أو وقف إطلاق النار، وإنه لابد من مواصلة القتال حتى لحظة النصر، وهو ما يعني أن أمد الحرب سيطول كثيراً، وكثيراً جداً» مضيفاً: «إن نصف سورية وربما أكثر من النصف تحول إلى أطلال، فيما فرَّ ما يزيد عن نصف سكانها إلى الخارج، بينما يبحث النصف الآخر عن ملاذ آمن في الداخل».
لم يكن هناك مجال أن يخفف من دلالات هذه التصريحات والتي سارعت صحف العالم إلى نقلها حرصُ السفير الروسي على وضعها في عداد «التقديرات الشخصية». وعلى أن مختلف الدوائر السياسية قد أدركت أن صدعاً ما عميقاً استدعى مثل هذا «التأنيب» غير المسبوق، فإن النظام الأسدي سار غير عابئ بدلالاتها وأطلق على لسان وزير خارجيته التصريح الخاص بـ»مقام الرئاسة» بوصفه خطاً أحمر، والذي كان كما هو واضح «القشة التي قصمت ظهر البعير»! إذ سرعان ما تم الإعلان بطريقة دراماتيكية عن اجتماع بوتين بوزيري دفاعه وخارجيته من أجل الإعلان عن سحب جزء كبير من القوات الجوية الروسية من سوريا وأنه قد تم «إعلام الأسد بذلك» كما قال الإعلام الروسي، لا أن ذلك قد جرى «إثر اتفاق تمَّ بين..» كما نشر الإعلام الأسدي.
لم يكن القرار الروسي الذي اتخذ لأسباب عديدة أخرى اقتصادية ولا شك، ولأسباب سياسية أيضاً تتعلق بمشكلة القرم، والذي إريدَ إخراجه على نحو يفاجئ الجميع كما رأينا، إلا صفعة أريدَ منها تنبيه النظام الأسدي إلى ضرورة السير على خطى من ساعده في ترميم بعض صفوفه وأنقذه من سقوط محقق. ويبدو أنها صفعة إن كانت قد أدت وظيفتها فإنها لن تثني من تلقاها عن الاستمرار في عناده واستخدام كل ما يسعه استثماره من أجل عرقلة ثم إفشال فكرة الحل السياسي نهائياً. إذ سرعان ما قام بإرسال مبعوث خاص إلى إيران (فيصل المقداد) لبحث هذا الأمر على عجل، وإعطاء التعليمات لوفده بجنيف كي يستخدم كل ضروب المماطلات الشكلية التي تحول دون الدخول في صلب الموضوع. ترافق ذلك كله من جهة، مع تصريحات تقييم إيجابي لخطوة الانسحاب من ديمستورا الذي أثنى عليها مثلما أكد في الوقت نفسه على أن أول موضوع الفترة الانتقالية هو الموضوع الأول على جدول أعمال المؤتمر بجنيف، من دون أن يتراجع من ناحية أخرى عما سبق وصرح به بصدد الانتخابات الرئاسية في نهاية الفترة المذكورة التي رفضها وزير خارجية الأسد، ومن جهة أخرى مع تصريحات لافروف التي أثنى فيها على السعودية ودورها في جمع المعارضة السورية.
لم تكن هذه الصفعة تعني بأي حال إذن أدنى تغيير في مقاصد بوتين وأهداف تدخله أو في عناصر الاتفاق حول الحل الذي تم الاتفاق عليه بينه وبين إدارة أوباما، بل محاولة ضغطٍ تحمل النظام الأسدي على الإذعان لما تفرضه عليه التزاماته قِبَل من سارع إلى إنقاذه. ومن ثم فقد استمر المسؤولون الروس يؤكدون على المفاوضات وعلى ضرورة الوصول إلى حل سياسي، مع إحالة موضوع بقاء الأسد من عدمه إلى «إرادة الشعب السوري».
وإمعاناً في السير على الطريق ذاته، صدرت عن المسؤولين الروس تصريحات بصدد ما أطلق عليه الفيدرالية مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية من جهة، وضرورة وجود تمثيل للأكراد في المفاوضات الجارية من جهة ثانية، يمكن تفسيرها بوصفها بالونات اختبار أو من أجل الزجِّ بمثل هذه الموضوعات على مائدة المفاوضات بما يؤدي إلى تحقيق ما اتفق عليه أمريكياً وروسياً.
وهو اتفاق يحتاج من وقت إلى آخر إلى تأكيد أو إلى تذكير يستدعيه موقف هذا الطرف أو ذاك في المفاوضات إزاء أهمِّ المشكلات الخلافية، أي موضوع الفترة الانتقالية: هل المقصود مرحلة انتقالية بهيئة تتمتع بكافة السلطات دون استثناء كما ينص على ذلك بيان جنيف1 أم حكومة مختلطة من النظام والمعارضة كما يريد النظام الأسدي اختصار الأمر؟ سوف تبقى هذه النقطة العقبة الكأداء نظراً لأنها تمسّ في الواقع الموضوع الأساس الذي لم يتفق عليه راعيا المفاوضات من حيث المبدأ: مصير بشار الأسد. فالإصرار على بقائه يعني أن الحكومة الانتقالية لن تتمتع بالصلاحيات الكاملة، والإصرار على حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة يلغي بالضرورة أي دور للأسد ويجعل من بقائه بلا أيِّ معنى.
يعلم الجميع أن النظام الأسدي لن يقبل مثل هذا الحل، وأنه سيحاول بكل ما يملكه من وسائل العرقلة والمناورة والمراوغة و»الإغراق في التفاصيل» كما نبه وليد المعلم ذات يوم، لا أن يطيل أمد المفاوضات فحسب بل أن يفرغها من معناها شيئاً فشيئاً بما يؤدي في نهاية الأمر إلى تثبيت ما يطمح إليه سرّاً: سوريا المفيدة. قد يلائم ذلك حليفه الإيراني. ولأن هذا الحليف لن يستطيع الذهاب إلى أبعد مما يمكن أن يقبل به الراعيان، الروسي والأمريكي، على الأقل، فإنه سيكتفي بدعم مسعاه من وراء ستار. ذلك ما يحاول النظام التثبت منه حين التفت فور تلقيه الصفعة الروسية إلى إيران. لا يناور النظام الأسدي من أجل بقاء بشار الأسد خلال الفترة الانتقالية فحسب، بل يناور من أجل استمراره بعدها، إما باستكمال ما يعتبره الفترة الرئاسية الحالية وإما بإمكان ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة، أياً كان الموعد الذي يمكن أن يُحَدَّدُ لها.
على أن الضغوط لن تمارَسَ على النظام الأسدي فحسب كي يذعن لضرورات الحل السياسي، بل ستمارس كذلك، وبقوة، على الهيئة العليا للمفاوضات كي تذعن لما يريد الراعيان تحقيقه في هذا الحل والذي يتلخص في الإبقاء على بُنى النظام الأسدي المتمثلة خصوصاً في الجيش وفي الأجهزة الأمنية. ولن تستثني هذه الضغوط، على الأقل من جانب الطرف الروسي بالطبع، مسألة بقاء بشار الأسد كورقة ضغط، أو مسألة الفدرالية التي تعني الأكراد خصوصاً. لكن الهيئة تملك كل ضروب الشرعية لتقاوم هذه الضغوط جميعاً طالما استمرت دائمة الإصغاء إلى صوت الشارع السوري في الداخل وفي مخيمات اللجوء. من هذا الصوت وحده يمكن لها أن تستمد القوة كي تنجح فيما تصدت للقيام به.
القدس العربي
لافروف والتاريخ: فلسفة المصاهرات/ صبحي حديدي
في مقالة بعنوان «سياسة روسيا الخارجية: خلفية تاريخية»، نشرتها مؤخراً مجلة «روسيا في الشؤون الكونية» وترجمتها وزارة الخارجية الروسية إلى الإنكليزية على موقعها الرسمي؛ يبدأ سيرغي لافروف، وزير خارجية الاتحاد الروسي، من التذكير بماضي الزيجات الملكية التي أتاحت لروسيا أن تتصدّر تيجان أوروبا: في القرن الحادي عشر كانت ثلاث بنات للأمير الكبير ياروسلاف الحكيم قد أصبحن ملكات النروج/ الدانمرك، هنغاريا، وفرنسا؛ وشقيقته تزوجت ملك بولندا، وحفيدته إمبراطور ألمانيا. ولكي تقترن قائمة المصاهرات هذه بتيجان أخرى، ثقافية وعلمية وأدبية، يقتبس لافروف شاعر روسيا القومي ألكسندر بوشكين: «لم يتجاسر البرابرة على ترك روسيا خلف ظهورهم، فنكصوا إلى هضابهم الشرقية، والتنوير المسيحي تمّ إنقاذه على يد روسيا مستباحة ومحتضرة». قبل هذه وتلك، كان لافروف قد ذكّر قارئه بأنّ اعتناق المسيحية في روسيا، سنة 988، هو الذي عزّز مؤسسات الدولة والعلاقات الاجتماعية والثقافة، وجعل البلد في قلب سيرورات التحديث الأوروبي…
وبعد أن يؤكد، «بدون شكّ» كما يقول، أنّ ثورة 1917 كانت «مأساة لأمتنا»، على غرار كل الثورات؛ يشير إلى أنّ أوروبا الغربية استلهمت المفكر الروسي بيتيريم سوروكين في كثير من نماذج التحويل الرأسمالي والاشتراكي، ومع ذلك فإن العقود الأخيرة شهدت عملية معاكسة، في أمريكا أيضاً، من حيث انحسار الطبقة الوسطى، وازدياد اللامساواة الاجتماعية وتفكيك معايير ضبط الاستثمارات الهائلة. في المقابل، كان توسيع الحلف الأطلسي، ليشمل دول أوروبا الشرقية وبقايا حلف وارسو، بمثابة «خطأ مأساوي». وهكذا فإنّ جوهر مشكلة السياسة الأوروبية يكمن في إغفال الطابع المترابط للعالم المعاصر، وأنّ العلاقة مع روسيا لا يمكن أن تستأنف تقاليد الحرب الباردة…
حسناً، فما مبرر هذه الاستعادة التاريخية/ الاقتصادية/ الفلسفية، في هذا التوقيت بالذات؟ لكي يبلغ لافروف، ناطقاً بلسان سيّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما تقول مؤشرات عديدة ـ هذه الخلاصات: خلال القرنين المنصرمين، كل محاولة لتوحيد أوروبا بدون روسيا انتهت إلى مأساة قاتمة»؛ ولهذا فإنّ «شراكة الحضارات» ضرورية، على غرار لقاء الرئيس الروسي بوتين والأمريكي باراك أوباما، أسوة بلقاء البطريرك الروسي كيريل مع البابا فرنسيس!
أفكار لافروف نُشرت قبل الانسحاب الروسي العسكري المفاجىء من سوريا، ولكن مع استمرار مغامرة موسكو في أوكرانيا، وبقاء الحصيلة هزيلة في الحالتين؛ الأمر الذي يفضي إلى سؤال مشروع أوّل: أهكذا تستأنف روسيا أمجادها القيصرية، وتستردّ مكانتها في العلاقات الدولية، وتسهم في «شراكة الحضارات»؟ من الواضح أن قلق الكرملين الأكبر لا يدور حول تاريخ روسيا وموقعها في التاريخ الإنساني، بل حول اقتصادها ونفطها في مواجهة عولمة طاحنة فعلية هيهات أن تشبه المعارك اللفظية خلال الحرب الباردة. وليس أقل وضوحاً أنّ الغرب، بما في ذلك أمريكا، لا يبدي اكتراثاً بمغامرات بوتين في هذا الصدد، بل على العكس يرى فيها انجرافاً إلى مستنقعات ورمال متحركة.
كذلك فإنّ لافروف ليس أفضل مَنْ يساجل حول العلاقة بين التاريخ والجيو ـ سياسة، وهو صاحب المقولة السطحية الضحلة، والجاهلة الفاضحة، التي أطلقها أواخر 2012: «فى حال انهار النظام القائم في سوريا، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد»؛ وهذا سوف «يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق»! وبمعزل عن حاجته إلى مَنْ يذكّره بأنّ الأكراد سنّة أيضاً، في غالبيتهم الساحقة؛ كان في وسع لافروف أن يقيس على فلسفة المصاهرات الروسية، لكي يدرك أنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض، وعُرى المصاهرة فيه عريقة متينة لا تنفصم.
القدس العربي
بوتين يشهر البطاقة الحمراء/ علي العبدالله
شكل قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب “الجزء الأكبر” من قواته العاملة في سورية اليوم (الثلاثاء 15/3/2016) مفاجأة للنظام السوري وبطاقة حمراء في وجهه ردا على محاولته التفلت من الزامات القرارات الدولية حول الصراع في سوريا وعليها، وخاصة القرار الذي حدد طريقا للحل السياسي يبدأ بوقف الاعمال العدائية، ولعبه على التباينات التي ظهرت بين موسكو وطهران ان في الموقف من وقف الأعمال العدائية، الذي وجدته طهران غريبا جاء في ذروة تقدم عسكري وقبيل فرض حصار على مدينة حلب واغلاق الحدود التركية السورية، أو حول اقامة نظام فدرالي في سوريا، وتجاهله للإشارات الروسية والرسائل المتكررة المطالبة بعدم تخطي الالتزامات السياسية الروسية والتصرف في إطارها(تصريحات نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والناطقة باسم الخارجية ماريا زاخاروفه والمندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين والناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف)، وتعبيرا عن كيل طافح من تصرفاته التي كان آخرها تفسير وزير خارجيته في مؤتمره الصحفي الأخير للعملية الانتقالية حسب وجهة نظر النظام (الانتقال من الحكومة الحالية إلى حكومة جديدة تضم المعارضة والانتقال من الدستور الحالي إلى دستور جديد)، والخط الأحمر الذي اعلنه، واعلان رئيس وفده الى جنيف رفضه لمرحلة انتقالية(قدم ورقة للمبعوث الدولي فيها أفكار للحل السياسي عرف منها دعوته إلى تشكيل حكومة موسعة من النظام والمعارضة)، بالإضافة إلى الإعلان عن انتخابات برلمانية بالتزامن مع الإعلان عن بدء وقف الأعمال العدائية، وإرسال نائب وزير الخارجية فيصل المقداد إلى طهران برفقة وفد عسكري رفيع المستوى، قال المراقبون: “انه أمر غير طبيعي أو معتاد”.
رأى الكرملين في تكتيك النظام وسعيه للتفلت من الالتزامات الدولية تحديا لسياسته ومسا بهيبة “القيصر” وضربا لصدقيته، وتهديدا للانجازات التي حققها، خاصة نجاحه، عبر الاتفاق مع الرئيس الأميركي على الحل السياسي في سوريا، في تحقيق جزء رئيس من طموحه بإعادة روسيا إلى المسرح الدولي والاعتراف بها كلاعب مهم، ما يستدعي المحافظة على هذا التفاهم وتنفيذ الاتفاق واستثمار اللحظة في تعزيز موقع روسيا التفاوضي وحضورها الدولي، ورأى (الكرملين)ضرورة وضع القطار على السكة ثانية وضبطه بحيث لا يخرج منها ثانية.
عبر القرار الروسي عن تباين في المواقف مع النظام بلغ حدا حرجا عكسه صدور القرار من موسكو بشكل منفرد ودون تشاور مسبق مع النظام، لم يغير نفي النظام وجود خلافات بين الطرفين من حقيقة الموقف وطبيعة الخطوة وخطورتها، تعبيرا عن استياء من النظام وتذمر من أدائه وتقييدا لتصرفاته.
تنطوي الخطوة الروسية على أهمية فائقة بالنسبة للمبعوث الدولي إلى سوريا السيد ستيفان دي ميستورا، إن على صعيد طمأنته بجدية وعود راعيي الحل السياسي (واشنطن وموسكو) بدعمه في مهمته، الوعود التي سمحت له بالإعلان في مؤتمره الصحفي الأول يوم أمس “إن الانتقال السياسي هو النقطة الأساسية في كل القضايا”، و”أن جدول الأعمال وضع استناداً إلى القرار الدولي 2254، وفي إطار توجهات إعلان جنيف بالطبع”، وتذكيره باتفاق مجموعة عمل من الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وتركيا ودول عربية في 30 حزيران/يونيو 2012 في جنيف، على مبادئ مرحلة انتقالية تتضمن هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة”، وتأكيده “أن الجلسات الحالية حاسمة”، أو على صعيد الضغط على النظام عبر استثمار تموضعه العسكري الراهن وانتشاره في مناطق بعيدة عن حاضنته الاجتماعية وتحصيناته القوية ما جعله مكشوفا وهدفا سهلا للخصوم، بوضعه أمام الحقيقة الصلبة: الكف عن اللعب على التناقضات الإقليمية والدولية والانخراط في العملية السياسية والقبول بالانتقال السياسي والحل الوسط الذي ينهي الصراع ويعيد إلى سوريا الاستقرار والأمان، أو لجهة رفع معنويات المعارضة، وخاصة العسكرية التي الحق بها القصف الروسي خسائر كبيرة بالرجال والعتاد واجبرها على التخلي عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها، فوقف الحملة العسكرية الروسية يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترميم الصفوف ومواجهة “داعش” في المناطق المحاذية لمناطق سيطرتها وطرده والسيطرة على الأراضي التي يحتلها، ما يعدل التوازن العسكري ويمنحها الشعور بالثقة ويدفعها إلى الانخراط في العملية السياسية دون تردد أو تحفظ. وهذا كله يمكن أن يشيع مناخا ايجابيا يسمح بإجراء مفاوضات جدية وتحقيق تقدم حقيقي.
المدن
الأسد إذ يصفق الباب في وجه بوتين/ لؤي حسين
بغض النظر عن الموقف من روسيا ومن دعمها النظام السوري، بل من تدخلها العسكري في سورية أيضاً، وبغض النظر كذلك عن الموقف من النظام وما نتمناه له، فإن انسحاب القوات الروسية من سورية بهذا الشكل المفاجئ ليس لمصلحة سورية والسوريين. هذا لأن العملية السياسية التي بدأت في شكل حاسم بقرار وقف إطلاق النار وانطلاق العملية التفاوضية في جنيف تقوم على معادلة توازن قوى دقيق، وقسمة ضمانات تتكفل فيها روسيا ضمان النظام وتتكفل إيران ضمان المجموعات الشيعية و «حزب الله»، في مقابل أن تتكفل الولايات المتحدة التزام الدول الإقليمية الداعمة للمجموعات المسلحة المناوئة للنظام السوري.
وهذا الضمان يقوم على ثلاثة مستويات، ضمان وقف القتال، وضمان مقاتلة «داعش والنصرة»، وضمان المشاركة في العملية السياسية التسووية.
الانسحاب الروسي جاء مفاجئاً وغير متوقع ومن دون مقدمات، إذ إنه وحتى بعد ظهر الاثنين الماضي كان الروس ما زالوا يتعاملون مع الوضع السوري باعتبارهم طرفاً رئيساً في العملية السياسية السورية على جميع الأصعدة، يحصون عدد الخروقات التي قامت بها الفصائل المعارضة، ويعلنون عن اتفاقات وقف إطلاق النار مع مجموعات مسلحة، بل يرسلون شخصيات سورية تمثل قوى وتيارات سياسية للمشاركة في اجتماعات جنيف التي انطلقت صباح ذاك اليوم. كل ذلك كان يجري كالمعتاد إلى أن صدرت تصريحات الكرملين تعلن عن اتصال جرى بين الرئيسين الروسي والسوري أبلغ فيه بوتين الأسد بأنه سيسحب الجزء الأكبر من قواته.
غير معروف الحديث الذي دار بين الرجلين، لكنني أعتقد أن تصريح وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، في اليوم السابق الذي قال فيه «لا يحق لدي ميستورا ولا لغيره كائناً من كان أن يتحدث عن انتخابات رئاسية»، لم يكن عبارة تفاوضية القصد منها الرد على تصريحات المعارضة بأنها ستشارك فقط في مفاوضات عن هيئة حكم انتقالية من دون بشار الأسد، بل إنه أثار حفيظة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، الذي رفض ادعاءات المعلم التي تناقض التعهدات الروسية والإيرانية أيضاً، وفق قوله.
وأغلب الظن أن الوزير الأميركي أخبر نظيره الروسي بضرورة امتناع المعلم أو أركان النظام السوري عن مثل هذه التصريحات. لكن أغلب الظن أن السيد لافروف لم يلق استجابة مرضية من المعلم، ما استدعى اتصالاً تلفونياً من بوتين للأسد طلب فيه الزعيم الروسي الالتزام بما اتفقت عليه روسيا مع الولايات المتحدة، أو في حال عدم الالتزام سيكون مضطراً لسحب قواته من سورية.
ربما كان الرئيس بوتين يعتقد بأن الرئيس السوري لا بد أنه بدأ يشعر بعدم مقدرته على الانتصار من دون وجود القوات الروسية، وأنه آن لهذه القوات، وفق ما نعتقد أنه تصور بوتين، أن تحصد بعض النتائج التي جاءت من أجلها، أي إخضاع الأسد وإرادته لمشيئة قائد هذه القوات. لكن، وبالنظر إلى معرفتنا بحجم اعتداد الأسد بكونه بات رئيساً منتخباً، ولو بانتخابات زائفة، وأنه لم يعد مجرد وريث لأبيه، يمكننا أن نتصور رفضاً متعنتاً منه لطلب الرئيس بوتين الذي اضطر أمام هذا الموقف لاتخاذ قرار سحب القوات.
إن صح هذا التصور لما جرى بعد ظهر يوم الاثنين الماضي، وأعتقد أنه صحيح، فإن تداعياته على سورية والسوريين ستكون مصيبة. إذ في أغلب الظن أن يؤدي هذا الأمر إلى انهيار العملية السياسية برمتها، بما في ذلك وقف إطلاق النار الذي نجح لأكثر من أسبوعين في تخفيض نسبة العنف في البلاد بنسبة تفوق ٩٠ في المئة. فلن يكون في مقدور روسيا بعد انسحابها أن تضمن أي شيء يتعلق بالنظام، بل لن تقبل أميركا منها بعد الآن أي ضمانة، وهذا يعني بوضوح انهيار مسألة الضمانات التي تقوم عليها العملية السياسية لحل الأزمة السورية.
إذاً ستكون سورية تحت تهديد انهيار الأوضاع فيها إلى أسوأ بكثير مما كانت عليه، إذ سيختل التوازن الذي تمكّن من الحفاظ على عدم انتصار أي طرف من أطراف النزاع المسلح على الآخر. فعلى الأغلب ستتخلى القيادة الروسية عن حماية الأسد ونظامه، وستتركه يواجه مصيره وحيداً نتيجة الجرح الذي سببه لها، ظناً منها أنه سيعود إليها مستنجداً وخاضعاً. وفي المقابل فإن الدول الإقليمية المعادية للأسد ستقتنص هذه الفرصة وتحاول الدفع بالمجموعات المسلحة التي تدعمها إلى خرق وقف إطلاق النار بحجة الدفاع عن النفس، لنعود حينها إلى دوامة عنف أكثر انفلاتاً هذه المرة.
لكن هذا الموضوع بكله وبتفاصيله لا يخدم التوجه الأميركي الجديد الذي اعتمدته واشنطن منذ اجتماع فيينا الثاني، وهو التوجه إلى القضاء على «داعش» وعدم الاكتفاء بمناوشتها أو التضييق عليها، والذي بناء عليه وافقت واشنطن على التعاون مع روسيا للبدء بعملية سياسية تمكّنها من تجيير جميع المقاتلين في سورية لمعركتها ضد «داعش». فمن المستبعد أن تترك واشنطن الأمور تذهب باتجاه المزيد من الفوضى المنفلتة، بل بكل تأكيد ستكون حريصة على ألا تسمح للفوضى أن تعم دمشق، وهذا مطلب إسرائيلي صرف. لكن من غير المؤكد أن تنجح في ذلك، إذ إن تعقيدات الأوضاع الميدانية في سورية قد تحول دون مقدرة واشنطن على ضبط الأمور وتسييرها كما تريد، وهذا قد يدفعها في حال ذهبت الأمور في هذا الاتجاه إلى اختيار التعاون العسكري المباشر مع النظام السوري، بما يخالف توقعات ورغبات الغالبية من المعارضين وداعميهم.
من غير المعروف إن كان موقف الأسد مبنياً على تنسيق مع إيران أم أنه ارتجل موقفه من دون استشارة طهران، وهذا هو المرجح، إذ لا مصلحة ظاهرية لطهران في مخالفة التوجهات الدولية بحيث تعود دولة مارقة بعد نجاحها في التوصل إلى اتفاق نووي.
وهذا ربما يجعلنا نتوقع ضغطاً إيرانياً على الأسد للقبول ببعض ما يطرحه الروس، مع عدم ضمان ألا يقوم الأسد بصفق الباب في وجه طهران كما صفقه في وجه بوتين، فالرجل فقد جميع معايير معرفة الأخطار.
* رئيس «تيّار بناء الدولة»
الحياة
طبيعة الانسحاب الروسي من سوريا ودلالاته
ثمة عدد من المؤشرات على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر سحب معظم قوات من سوريا قبل ساعات فقط من الإعلان عنه. شاركت في اتخاذ القرار مجموعة صغيرة محيطة بالرئيس الروسي جاءت، مثله، من خلفية استخباراتية، وتؤمن بأن سرية القرارات وإعلانها بصورة مفاجئة يؤكد استقلال روسيا وامتلاكها زمام أمرها.
حقَّقت موسكو بعض أهدافها من العملية السورية، سواء على مستوى الساحة السورية نفسها أو على المستوى الدولي، ولم تحقق أهدافًا أخرى. ولكن استمرار التواجد الكبير، نسبيًّا، في سوريا لم يعد محتمًا، سواء لأن وضع روسيا المالي والاقتصادي لا يدعو إلى الاطمئنان، أو لأن موسكو أدركت أن تحقيق كل أهداف العملية لم يعد ممكنًا، مهما طال أمدها الزمني.
من الواضح أن موسكو تسعى لتقديم صورة صانع الحل والتسوية السياسية للأزمة السورية. وبالرغم من أن بوتين عمل، في خطابه يوم 17 مارس/آذار، على تطمين الأسد، لم يكن خافيًا أن الخطاب حمل أيضًا رسائل لحثِّ الرئيس السوري على أخذ العملية التفاوضية مأخذ الجد.
مقدمة
أُعلن في موسكو، مساء يوم الاثنين 14 مارس/آذار، وبصورة مفاجِئة، أن الرئيس فلاديمير بوتين أصدر أوامره بسحب معظم القوة الروسية الجوية في سوريا. سرعان ما أثارت هذه الخطوة المفاجئة تعليقات واسعة النطاق، داخل روسيا وخارجها. جاء قرار بوتين بعد مُضي أكثر من خمسة أشهر بقليل على بدء العملية الجوية الروسية في سوريا في نهاية سبتمبر/أيلول 2015، في الذكرى السنوية الخامسة لاندلاع الثورة السورية، متزامنًا مع انطلاق المباحثات بين وفدي المعارضة والنظام للتوصل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية في ما بات يُعرف بـ “جنيف الثالثة”.
هذه قراءة أولية حول طبيعة هذا القرار، والصورة المفاجئة للإعلان، والأسباب التي دعت إليه.
طبيعة الانسحاب
ثمة عدد من المؤشرات على أن قرار بوتين بسحب القوات من سوريا لم يُتخذ إلا في صباح يوم 14 مارس/آذار، وقبل ساعات فقط من الإعلان عنه. ويُعتقد بأن مجموعة صغيرة من مستشاري الرئيس الروسي شاركت في الاجتماع الذي تمخَّض عنه اتخاذ القرار، منهم: وزير الدفاع، ومدير مكتب الرئيس، ورئيس مجلس الأمن القومي، ورئيس الاستخبارات الروسية (FSB). أغلب هذه المجموعة الصغيرة المحيطة بالرئيس الروسي جاء، مثله، من خلفية استخباراتية، ويؤمن بأن سرية القرارات وإعلانها بصورة مفاجئة يعزِّز من صورة القيادة الروسية لدى الرأي العام، ويؤكد استقلال روسيا وامتلاكها زمام أمرها. وليس ثمة شك في أن الطريقة التي أُعلنت بها الخطوة الجديدة خدمت بوتين؛ إذ إن قرار بوتين سيطر على برامج التلفزة الإخبارية، داخل روسيا وخارجها، طوال الساعات التالية للإعلان وطوال اليومين التاليين.
إحدى النظريات التي تم تداولها في تحليلات المعلقين والمراقبين لفهم القرار أنه يعكس اتفاقًا روسيًّا-أميركيًّا حول الطريق الذي ينبغي على عملية التفاوض في جنيف أن تنتهجه؛ بل وحول مستقبل سوريا كذلك. الحقيقة، أن ليس هناك من دليل على الإطلاق على أن واشنطن كانت على دراية بالقرار الروسي قبل الإعلان عنه، أو أن القيادة الروسية شاركت أيًّا من الأطراف الأخرى المعنية بالمسألة السورية في اتخاذه. عندما أُعلن عن القرار، كان المؤتمر الصحفي اليومي للناطق باسم البيت الأبيض منعقدًا بالفعل؛ وعندما وجَّه له أحد الصحافيين سؤالًا حول الأمر، أعرب عن دهشة مفاجئة. ولم يَفُتْ وزيرَ الدفاع الروسي أن يؤكد في مؤتمره الصحفي بعد الإعلان على أن موسكو لم تشرك أي طرف خارجي في قرارها. وحتى الرئيس السوري، بشار الأسد، فقد تم إبلاغه، بلا مبالاة، خلال اتصال هاتفي من الرئيس الروسي، وقبل ساعات فقط من بدء عملية الانسحاب.
يدور السؤال الأول المهم الذي يطرحه القرار الروسي حول طبيعة هذا الانسحاب وحجمه. والواضح، أولًا، أن القرار الروسي لا يتعلق بالقاعدة البحرية في طرطوس، التي ستستمر في أداء مهماتها للأسطول الروسي في المتوسط بلا تغيير يُذكَر، ولا بالخبراء الروس الملحقين بأفرع جيش الأسد. كما لا يمس القرار قاعدة حميميم الجوية كلية، التي يحكم تحولها إلى قاعدة جوية روسية لخمسة وعشرين عامًا اتفاق رسمي مع نظام الأسد. ما يعنيه القرار الروسي هو سحب الكتلة الأكبر من الطائرات والمعدات والجنود والضباط الروس من قاعدة حميميم، وليس جميعهم. ثمة عدد من الطائرات والطيارين والجنود سيبقى في القاعدة، إضافة إلى بطاريات إس 400 المضادة للطائرات، التي نشرها الروس في الشمال السوري بعد أسابيع قليلة من بدء عملياتهم الجوية.
وقد أشار بوتين في كلمته يوم 17 مارس/آذار، خلال استقباله للعسكريين العائدين من سوريا، إلى استعداد بلاده للعودة إلى سوريا خلال ساعات، بمعنى إعادة بناء القوة الجوية في قاعدة حميميم، إن تطلبت الأوضاع ذلك. ولكن، وبالرغم من هذا التهديد، وبالنظر إلى ردود الفعل الكبيرة التي ولَّدها قرار سحب “معظم” القوة الجوية، فإن السؤال الثاني المهم الذي يطرحه القرار الروسي هو: لماذا قرَّر بوتين اتخاذ خطوته هذه في هذا الوقت؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من التذكير بالأسباب التي دفعت موسكو إلى إرسال قوة جوية مهمة إلى سوريا والتورط بصورة مباشرة في النزاع السوري.
محركات التدخل العسكري
اتخذ بوتين قرار المشاركة العسكرية المباشرة والمحدودة في الأزمة السورية في ظل ظروف دولية وسورية خاصة؛ فمن ناحية، كانت روسيا قد خسرت، وإلى حدٍّ كبير، معركة أوكرانيا، وأصبحت ملزمة أمام القوى الغربية، الأوروبية والأميركية، بتنفيذ اتفاق مينسك الثاني حول التوصل إلى حلٍّ للنزاع في شرق أوكرانيا. وقد تسبَّب النزاع في أوكرانيا وقيام موسكو بضم شبه جزيرة القرم في فرض عقوبات مالية واقتصادية قاسية على روسيا، وتراجع كبير في العلاقات الغربية-الروسية. كما أن القوى الغربية أبدت عدم اكتراث واضح لرفض موسكو استمرار توسع الحلف الأطلسي في شرق أوروبا والبلقان. إضافة إلى ذلك، فإن سقوط بعض حكومات دول الثورات العربية والحُكم الأوكراني الموالين لموسكو رسَّب قلقًا عميقًا في أوساط القيادة الروسية من أن الغرب يستخدم نشر الديمقراطية للإطاحة بمن يريد من الدول، مما قد يهدد نظام الحكم الروسي نفسه في المستقبل.
على مستوى الوضع السوري، حققت مجموعات الثوار السوريين تقدمًا مستمرًّا خلال ربيع وصيف 2015 في حربها ضد نظام الأسد، سيما في شمال وجنوب سوريا، إضافة إلى ريف اللاذقية الساحلي. ويُعتقد بأن زيادة كبيرة في الدعم التسليحي من تركيا والسعودية وقطر، إضافة إلى نجاح المجموعات السورية المسلحة في إقامة غرف تنسيق محلية في الجبهات الساخنة، ساعدا معًا على ترجيح كفة الثوار السوريين.
ادَّعى الروس، عندما بدأوا عملياتهم الجوية في سوريا، أن هدفهم هو مواجهة الجماعات “الإرهابية” ومحاصرة خطرها قبل أن يصل الخطر روسيا نفسها. ولكن الحقيقة أن الغارات الجوية الروسية وُجِّهت في معظمها ضد مجموعات الثوار التي توصف عادة بالمعتدلة، وليس ضد تنظيم الدولة وجبهة النصرة، التي تعتبر جماعات إرهابية طبقًا لتصنيف الأمم المتحدة. كما وفرت القوة الروسية غطاء جويًّا لقوات النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية، ولقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا.
ما أراد الروس تحقيقه في ساحة النزاع كان إيقاف تقدم الثوار السوريين وحماية نظام بشار من السقوط بقوة السلاح، بعد أن بات ممكنًا في صيف 2015. كما أمَّلوا في أن يستطيعوا تحقيق انقلاب في توازن القوة العسكري على الأرض لصالح النظام وحلفائه. لكن، ومهما كانت طبيعة العملية الروسية في سوريا، فإن أهدافها تجاوزت بالتأكيد الوضع السوري.
ليست سوريا، في نهاية الأمر، منطقة بالغة الحيوية والأهمية في التصور الاستراتيجي الروسي، الذي بُني، ومنذ نهاية التسعينات، على أساس تأمين الجوار الروسي القريب في أوروبا، القوقاز، ووسط آسيا. ولذا، فالأرجح أن بوتين تصوَّر أن العملية في سوريا ستوفِّر له مقعدًا مؤكدًا على مائدة التفاوض حول تقرير مستقبل الأزمة السورية، وتُجبر الغرب على التعامل معه كشريك في رسم الخارطة الدولية، وعلى التفاوض من جديد حول أوكرانيا وملف توسع نطاق حلف الأطلسي.
قياس الإنجازات
في الإعلان الأول عن بدء سحب معظم القوة الجوية من سورياُ، قالت موسكو: إن العملية حققت أهدافها بصورة عامة، وإنها أوقعت هزيمة بالجماعات “الإرهابية”، على وجه الخصوص. وفي خطاب بوتين يوم 17 مارس/آذار، أضاف الرئيس الروسي سببين آخرين لخلفية قراره: الأول: أن تكلفة تواجد القوة الجوية كبيرة؛ والثاني: أن معدل العمليات، بعد وقف إطلاق النار، في سوريا قد تراجع بصورة ملموسة. الحقيقة، أن الأسباب خلف قرار موسكو بسحب معظم القوة الجوية يتضمن بالفعل بعض ما أشير إليه في الإعلان عن الانسحاب الجزئي وفي خطاب بوتين، وليس الكل. كما أن هناك أسبابًا أخرى لم يُصرَّح بها.
كان واضحًا من البداية أن العملية الروسية في سوريا، مهما كانت أهدافها، ستكون محدودة نوعيًّا وزمنيًّا. الرئيس الروسي مسكون بهاجس التورط السوفيتي في أفغانستان، وكان حريصًا على أن لا يورِّط بلاده من جديد في أزمة باهظة التكاليف وبالغة التعقيد؛ وهذا ما جعل التدخل في سوريا مقصورًا على العمليات الجوية، وأن الإعلان عنه في نهاية سبتمبر/أيلول 2015 رافقه التصريح بأن المهمة ستستمر حتى ديسمبر/كانون الأول. لكنْ تراجَعَ الكريملين عن التحديد الأول وقال: إن العملية ستكون مفتوحة زمنيًّا، ربما بتوصية من مستشارين عسكريين. الأميركيون، بالطبع، لم يعارضوا التدخل الروسي، ورأوا أن سعي الروس إلى الحفاظ على نظام الأسد من السقوط يخدم، ولو بصورة غير مباشرة، تصورهم للأمور. خلال 2015، بدأ القلق يتسرب إلى واشنطن حول التوجهات الإسلامية لمجموعات الثوار السوريين وتشظي هذه المجموعات، وما إن كانت قادرة على تشكيل بديل متماسك للنظام ومنع تنظيم الدولة من التوسع في سوريا. ولم تُخْفِ واشنطن الإعراب عن هذا القلق لحلفائها في أنقرة والرياض. مهما كان الأمر، فإن التعاون والتنسيق الأميركيين مع القيادة العسكرية الروسية أثارا المزيد من الهواجس في موسكو بأن الغرب يدفع روسيا نحو الغرق في سوريا.
من زاوية النظر هذه، لابد أن يُعدَّ قرار سحب معظم القوة الروسية من سوريا باعتباره خطوة بالغة الذكاء من قِبل القيادة الروسية، وأن موسكو تجنَّبت بالفعل التورط بصورة عميقة في الأزمة السورية.
بيد أن هذا لا يعني أن موسكو حققت كل أهداف العملية. نجح التدخل الروسي في حماية نظام بشار من السقوط، وأحدث تغييرًا محدودًا في ميزان القوى على الأرض لصالح النظام على حساب قوى المعارضة المسلحة. ولكن موسكو تدرك بالتأكيد أن ليس باستطاعتها مساعدة قوات الأسد على استعادة السيطرة الكاملة على سوريا، بدون تورط روسي عسكري واسع النطاق؛ الأمر الذي عملت القيادة الروسية على تجنبه من البداية. من جهة أخرى، لم يُوقِعِ التدخل الروسي ضررًا بالغًا، لا بالمجموعات المصنَّفة إرهابيَّة ولا بتلك الموصوفة بالمعتدلة. وفي حال توقف الروس كلية عن القصف الجوي وانهارت الهدنة، فمن المشكوك به أن تستطيع قوات النظام الحفاظ على المناطق التي استعادتها من سيطرة مجموعات المعارضة.
على نطاق دولي، ليس ثمة شك في أن روسيا أصبحت طرفًا لا يمكن تجاهله في تقرير مسار الأزمة السورية؛ وهذا في حدِّ ذاته مكسب كبير لسياسة بوتين. ولكن الواضح، في المقابل، أن الغرب فصل من البداية بين سوريا، من جهة، وأوكرانيا وتوسُّع الحلف الأطلسي، من جهة أخرى. لم تزل القوى الغربية مصرَّة على تنفيذ اتفاق منسك الثاني؛ وقد سارع الحلف الأطلسي، حتى بعد بدء العمليات الروسية في سوريا، إلى منح مونتينغرو عضوية الحلف. عادت الاتصالات الغربية المنتظمة مع موسكو، ولكن العقوبات الاقتصادية والمالية لم تُرفَع، ولا حتى خُفِّفت. والأخطر، من وجهة نظر موسكو، أن الميزانية المخصصة لبرنامج “تطمين أوروبا” الأميركي، الذي يتضمن مساعدات عسكرية للدول الأوروبية المجاورة لروسيا ونشر قوات أميركية في هذه الدول، ارتفعت من 700 مليون دولار في العام الماضي إلى ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار هذا العام.
بكلمة أخرى، حقَّقت موسكو بعض أهدافها من العملية السورية، سواء على مستوى الساحة السورية نفسها أو على المستوى الدولي، ولم تحقق أهدافًا أخرى. ولكن استمرار التواجد الكبير، نسبيًّا، في سوريا لم يعد محتمًا، سواء لأن وضع روسيا المالي والاقتصادي لا يدعو إلى الاطمئنان، أو لأن موسكو أدركت أن تحقيق كل أهداف العملية لم يعد ممكنًا، مهما طال أمدها الزمني.
شكَّل قرار سحب معظم القوة الجوية الروسية صدمة لا تُخفَى لنظام الأسد وأنصاره وحلفائه الإقليميين. وقد انعكست هذه الصدمة في تقارير وتعليقات الصحف اللبنانية المؤيدة للأسد وإيران، في اليوم التالي لصدور القرار الروسي؛ كما انعكست على سلوك الوفد السوري في مفاوضات جنيف. وفي الوقت الذي استُقبلت فيه الخطوة الروسية بمظاهر فرح وابتهاج في مناطق سيطرة الثوار في سوريا وفي تصريحات المعارضين السوريين، أعربت واشنطن ومسؤولون أوروبيون آخرون عن ترحيب حذر بالقرار الروسي. وعبَّر دي ميستورا، المبعوث الدولي في مباحثات جنيف، عن أمله بأن تدفع الخطوة الروسية مباحثات الحل السياسي إلى الأمام.
تشير التقديرات إلى أن روسيا ستحتفظ باثنتي عشرة طائرة قاذفة ومقاتلة في قاعدة حميميم، إلى جانب سرب من طائرات الهليوكوبتر، وزهاء الألف من الجنود والطياريين والفنيين. سيكون باستطاعة هذه القوة الصغيرة تنفيذ عدد محدود من المهمات؛ وقد شاركت بالفعل في غارات مساندة لقوات النظام والميليشيات الشيعية المشتبكة مع تنظيم الدولة في منطقة تدمر في 16 مارس/آذار. ولا يُستبعد أن تقوم هذه القوة بمهمات أخرى خلال الأيام والأسابيع المقبلة.
بيد أن الواضح أن موسكو تسعى لتقديم صورة صانع الحل والتسوية السياسية للأزمة السورية؛ وهو الأمر الذي أكَّد عليه بوتين في اجتماعه بوزيري دفاعه وخارجيته لحظة إعلانه عن أمر سحب القوة الجوية الجزئي، عندما قال: إن المرحلة المقبلة تُلقي بمسؤوليات إضافية على عاتق الدبلوماسيين الروس. تعليقات المسؤولين الروس المعارِضة لموقف الأسد المتصلِّب خلال مقابلته مع وكالة فرانس برس قبل أسبوع من استئناف مباحثات جنيف، ولتصريحات وزير خارجيته، وليد المعلم، قبل يومين من انطلاق جنيف، تشير بوضوح إلى أن موسكو تدرك أن ليس ثمة من حلٍّ عسكري للأزمة، وأن التفاوض هو النهج الوحيد الممكن لحل الأزمة. وبالرغم من أن بوتين عمل، في خطابه يوم 17 مارس/آذار، على تطمين الأسد، لم يكن خافيًا أن الخطاب حمل أيضًا رسائل لحثِّ الرئيس السوري على أخذ العملية التفاوضية مأخذ الجد.
كما أن مجمل التصور الروسي لمستقبل سوريا ليس واضحًا بعد. على سبيل المثال، فبالرغم من أن فكرة الفيدرالية وُلِدت في موسكو، عارضت روسيا إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي، مساء 17 مارس/آذار، تشكيل إقليم فيدرالي كردي في مناطق سيطرة الحزب. وقالت الخارجية الروسية: إن النظام الفيدرالي يجب أن يُترك لقرار الشعب السوري بكل فئاته، لا لجهة واحدة منفردة. وقد علَّق الأميركيون بصورة مشابهة على الخطوة الكردية. ولكن المؤكد أن موسكو وواشنطن تتفقان حول أن النظام الفيدرالي يمكن أن يكون أحد طرق التسوية السورية.
يعمل الروس، سواء على صعيد التسليح أو عبر جهود خبرائهم العسكريين في سوريا، على استغلال فترة الهدنة من أجل إعادة تسليح وتنظيم ما تبقى من قوات جيش الأسد. وقد تقوم الدول المؤيدة للثورة السورية بجهود مماثلة لإعادة بناء قوات المعارضة، وتسليحها بشكل أفضل، وتشجيعها على توحيد صفوفها لمنع ميزان القوى من الاختلال. في نهاية الأمر، تتساوى في هذه اللحظة، وبالرغم من أجواء التفاؤل التي أشاعتها خطوة الانسحاب الجزئي الروسية، حظوظ نجاح عملية التفاوض وفشلها. وفي حال أخفق المتفاوضون في التوصل إلى صيغة تسوية، ستعود الحرب، ربما بصورة أشد وأثقل وطأة.
موسكو تعترض الصلاحيات «السيادية» و… تنسحب/ حازم الامين
في أحد تفسيراته لخطوة الانسحاب من سورية، قال الكرملين إنه «أنجز المهمة» التي قدمت القوات الروسية من أجلها إلى سورية. «المهمة» كانت بحسب مانيفستو التدخل في سورية القضاء على «داعش»! هذه المهمة لم تتحقق. تمكنت القوات الروسية من وقف تقدم الفصائل السورية الأخرى، وعززت مواقع النظام بالقرب من مدينة حلب، وجرى صد تقدم الفصائل إلى مناطق الساحل. جرى أيضاً مد الطموحات الفيديرالية الكردية بمساعدة أكيدة. أما «داعش» فبقيت في منأى عن «الفاعلية» الروسية.
والحال أن تفسير الخطوة الروسية يبقى أسير معطيات العلاقة بين النظام والكرملين، لكن درس التدخل الروسي يمتد ليشمل ما إذا كانت هناك رغبة فعلية في القضاء على «داعش». فمقاتلات السوخوي طوال مرحلة عملها في سورية كانت مواقع «داعش» في أسفل لوائح أهدافها، وهو أمر يعيدنا إلى جوهر المهمة الروسية المتمثل في تغيير ميداني يتيح للنظام شروط مفاوضة مختلفة.
لكن المهمة الروسية هذه ترافقت مع إقرار دولي بها، وان لم يكن معبراً عنه بشكل واضح. فالأميركيون تعاملوا مع المهمة الروسية بصفتها أمراً واقعاً، لا بل حاولوا استثمارها بالضغط على قوى إقليمية، لكي ينتزعوا منها تنازلات تفاوضية، وهو أيضاً ما بدا على بعض المواقف العربية غير القريبة من النظام، لكن المتحفظة على الدور التركي، والمتوجسة من الاحتمالات الإخوانية. مصر والأردن نموذجان على هذا الصعيد.
خطوة الانسحاب الروسي المفاجئ يجب النظر إليها أيضاً وفق ما «أنجزه» التدخل على هذه المستويات. والفشل لم يقتصر على تلك العلاقة الملتبسة بين النظام السوري وموسكو، إنما أيضاً هو فشل الرهان الأميركي على الدور الروسي. فما أنجزته السوخوي هو مساعدة النظام على البقاء وعدم التعرض لـ»داعش»، والهدفان معاً من المفترض أن لا يكونا جزءاً من الطموح الأميركي.
بعد الانسحاب الروسي على العالم أن يكاشف نفسه بما إذا كان فعلاً راغباً في القضاء على «داعش». فالإقرار بالدور العسكري الروسي، مترافقاً مع قناعة بأنه لا يستهدف «داعش»، هو تواطؤ ينطوي على حقيقة أن خطاب الاستعداد للقضاء على التنظيم الإرهابي ليس سوى لغو، وأن لا مانع من تأمين شروط بقاء النظام.
لكن صفعة واضحة تعرضت لها قابلية العالم لهذه السقطة الأخلاقية. فبشار الأسد لن يستقيم مع شروط إعادة إنتاجه، وطبيعة نظامه لا تنسجم مع شروط المفاوضة، حتى لو كانت هذه الأخيرة تهدف بالدرجة الأولى للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من نظامه. إما كل شيء وإما لا شيء. على موسكو أن تأتي للحفاظ عليه كما هو، لا كما تريده أن يكون. وهو على كل حال يتمسك بما يطمح إليه، ذاك أن دخوله في أي شراكة سياسية أو أهلية كفيل بالقضاء عليه.
العالم كله يعرف ما جرى في أروقة العلاقة بين الكرملين وبشار الأسد، والجميع كان يرصد لحظات الافتراق بين ما تعهدت به موسكو ونوايا فريق النظام المفاوض. وهذه المعرفة تُضمر إقراراً بأن ما شُهِر بوجه السوريين بصفته تشوهاً أصاب ثورتهم، أي «داعش»، لم يكن سوى قناع، وأن العالم بصدد أن يخذلهم.
الانسحاب الروسي «قبل إنجاز المهمة» يعني فشلاً، وهو فشل لن يُصارح العالم نفسه به. وكل من قَبِل بـ»المهمة» ونسق مع أصحابها طاوله شيء من هذا الفشل. فرنسوا هولاند، عندما زار فلاديمير بوتين في أعقاب تفجيرات باريس الإرهابية، لحقه شيء من فشل المهمة الروسية، والإسرائيليون كذلك عندما ثبتوا علاقة ميدانية مع غرفة عمليات حميميم، ناهيك عن التفاهمات التي أقامتها موسكو مع غرفة العمليات الإقليمية في عمان (موكا) والتي تم خلالها تنظيم الغارات الروسية على جنوب سورية.
لكن الأهم من الفشل، هو وجهه الآخر المتمثل بأن ما كان يجري لم يكن حرباً على «داعش»، وأن ثمة إقراراً دولياً بأن الحرب هي في مكان آخر. ويبدو أن الفشل أيضاً هو فشل العالم في حماية النظام، وهذه عودة إلى مقولة سبقت قيام «داعش»، وتتمثل في أن النظام السوري لم يعد قابلاً للتكيف مع شروط البقاء في هذا الزمن.
«داعش» كانت وظيفتها تأجيل هذه القناعة عبر تجسيد قيم أبشع من تلك التي مثلها النظام. لكن ذلك لا يكفي على ما كشفت تجربة موسكو في سورية، فإعادة إنتاج شروط شراكة مع بشار الأسد ليست مهمة ممكنة، وسيناور الرجل حول هذه الحقيقة طالما هو في موقعه. قد تمده «داعش» ببعض الوقت، وقد تسعفه موسكو، وقد تمنع طهران انهياراً مفاجئاً لنظامه. لكن ذلك لن يحصل بانتظار تسوية، ليس لأن خصومه لا يريدونها، إنما لأن طبيعة النظام لا تحتمل تسوية! إذاً ستكون وظيفة بقاء النظام فقط مزيداً من الدماء في سورية.
ما جرى تسريبه لجهة أن موسكو غاضبة من تحديد الأسد موعداً للانتخابات البرلمانية في نيسان (أبريل) المقبل، ورده على طلبها تأجيل الخطوة بانتظار مفاوضات جنيف، بالقول إن تحديد موعد الانتخابات خطوة «سيادية» يرفض التخلي عنها!، هذا الرد يكشف كيف يفهم بشار الأسد المهمة الروسية في بلده. فـ»الخطوة السيادية» لم تكترث لحقيقة أن «السيادة» محمية بجيش روسي وآخر إيراني، وبميليشيات غير سورية جاءت من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان.
كيف يمكن حماية نظام هذه حال رئيسه؟ وكيف يمكن تصور مفاوضات تفضي إلى شراكة معه؟
الحياة
لحساب بوتين… وعلى حساب الأسد!/ محمد مشموشي
كما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، بعملية خلط أوراق شبه كاملة عبر تدخّله العسكري المباشر في سورية، فإنه أعاد خلط الأوراق مجدداً في 15 آذار (مارس) الجاري، بقراره سحب القسم الأكبر من قواته المسلّحة منها. الفارق أنه، في الحالة الأولى، قام بخطوته لمصلحة نظام بشار الأسد (ومصلحته هو بالطبع)، أي ضد معارضي النظام، فيما لا يمكن أن تكون حركته الأخيرة إلا ضد هذا النظام، وربما لمصلحة المعارضين في نهاية المطاف.
أبعد من هذا، لـيس مبالغاً به اعتبار أن قرار سحب القوات يرقى الى مستوى إعادة تصويب البوصلة بعد أن تبيّن للقيادة الروسية أن ما كسبته من العملية (الدور المقبول إقليمياً ودولياً، القاعدة الجوية في حميميم والأخرى البحرية في طرطوس، ومنع سقوط سورية في أيدي «داعش» أو «جبهة النصرة») لن يعطيها سياسياً، في ظل تعنّت الأسد ومحاولته تجيير التدخل الروسي ونتائجه كلها لمصلحته، سوى سورية معادية شعبياً من ناحية، وعالم عربي رافض لموسكو وسياساتها في المنطقة من ناحية ثانية.
ذلك أن بوتين، الذي يعرف جيداً حدود لعبته السورية، والدولية والإقليمية طبعاً، كان يعتقد أن إعادة توازن القوى على الأرض (خطة بوتين منذ البداية) ينبغي أن تقنع الأسد بالدخول في تسوية سياسية تكون مقبولة من الشعب السوري، كما من العالم العربي فضلاً عن العالم، بعد خمسة أعوام من القتل والتدمير والتهجير الى حد تهديم معظم البلد وتشريد نصف الشعب في أنحاء المعمورة.
ولم يكن هذا موقف الأسد، ولا كذلك ربيبته إيران، اللذين تصرفا منذ ما وصفاه بـ «عاصفة السوخوي» وكأن روسيا تعمل لحسابهما ومن أجل تنفيذ أجندتهما الخاصة، ليس في سورية فقط إنما في المنطقة كلها أيضاً، كما بدا جلياً لموسكو خلال الفترة الماضية. وليس خافياً، أن القيادة الروسية لم تكتف بلفت نظر الأسد الى ذلك، بل إنها عمدت الى تأنيبه في ثلاث مناسبات علنية على الشكل التالي:
أولاً، عندما تنطّح الأسد، غداة الاتفاق الروسي – الأميركي على وقف «الأعمال العدائية» وصدور القرار الدولي الرقم 2254، للقول أنه يوافق على الهدنة لكنه يتمسّك بما وصفه «استكمال تحرير الأراضي المحتلة من الإرهابيين»، لم ينتظر ممثل روسيا في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين طويلاً للرد عليه بكلمات صارخة: «هذه ليست سياستنا في سورية». ومعنى كلام تشوركين، لمن يفهم، أن تدخّل قوات بلاده في سورية كان لإنقاذ النظام من السقوط، وبالتالي لمنع سيطرة «داعش» أو غيره من التنظيمات الإرهابية على البلد، وليس لأي هدف آخر.
ثانياً، لكن الأسد لم يفهم الرسالة (أو أنه لم يرد أن يفهم!)، لأنه عمد بعد أيام قليلة من كلام تشوركين الى الدعوة لإجراء انتخابات نيابية في سورية وحدّد لها موعداً يوم 13 نيسان (أبريل) المقبل. وجاء الرد عليه من موسكو هذه المرة أيضاً، عندما أصدرت الخارجية الروسية بياناً قالت فيه أن الانتخابات في سورية تجري فقط بعد تشكيل الحكومة الانتقالية والاتفاق على دستور جديد… أي عملياً، بعد التسوية السياسية التي نصّ عليها القرار الدولي 2254.
ثالثاً، لم تكن المحادثات في «جنيف2» قد استؤنفت بعد، عندما خرج وزير خارجية النظام وليد المعلم، ليردد كلاماً مفاده نسف المؤتمر من أساسه. بين ما قاله أنه «لا يحق لستيفان دي ميستورا (مبعوث الأمم المتحدة الى سورية) ولا لغيره (أي للدول الراعية للمؤتمر، بما فيها روسيا) أن يحدّد مواعيد لأي من الانتخابات النيابية أو الرئاسية في سورية… وأن بشار الأسد هو في النهاية «خط أحمر» لا يمكن أحداً أن يمسّه أو يتجاوزه. ومرة أخرى، جاء الرد من موسكو بالتشديد على ضرورة العمل على إنجاح المحادثات في جنيف.
ليس هذا فقط، فقد حرص بوتين ووزير دفاعه على إعادة تأكيد الرسالة إياها الى الأسد بإعلانهما أن القوات الروسية التي ستبقى في سورية ستواصل ملاحقة الإرهابيين عندما تجد فرصة لذلك. وفي هذا الكلام ما يعني (لمن يفهم مجدداً؟!) أن التدخل الروسي لم يكن إلا لمنع سقوط النظام في أيدي هذه التنظيمات، وأن المهمة لهذه الناحية قد أنجزت الى حد ما… وأن لا مهمة سواها، ما قد يكون الأسد أو حلفاؤه يفكرون فيه.
وفي هذا المجال تحديداً، يكون بوتين كمن يبلغ الأسد بأن الحرب على الإرهاب في سورية، كما في غيرها، هي مهمة روسية/ أميركية/ عربية/ أوروبية مشتركة قبل كل شيء. بل إن وزير خارجيته سيرغي لافروف، لم يكن يقول غير ذلك عندما حرص، بعد يومين فقط من بدء سحب قوات بلاده من سورية، على الإشادة بالدور الذي تقوم به السعودية ودول الخليج العربية، سواء في مجال محاربة الإرهاب أو في السعي للوصول الى تسوية سياسية في سورية.
غني عن القول، بعد ذلك كله، أن روسيا التي حددت منذ 30 أيلول الماضي، فترة ثلاثة أشهر لتدخلها العسكري في سورية ثم مدّدتها لاحقاً ثلاثة أشهر أخرى، لا تريد لمغامرتها أن تتحول مستنقعاً تغرق فيه… كما يبدو أن الأسد ومن يقف وراءه يريدون لها.
كذلك، فإن ما قيل عن «صفقة» عقدتها مع واشنطن، وحصلت فيها على تفويض أميركي بإنهاء الملف السوري (فضلاً عما يمكن لمعالجة الوضع في أوكرانيا والعقوبات ضدها) ليس مما تبدو موسكو راغبة في تعريضه للخطر… ولماذا؟، كرمى لعيني الأسد وحربه المجنونة للبقاء في السلطة على حساب تدمير بلده وإبادة شعبه؟!.
واقع الحال، أنه تحت هذه العناوين، ولهذه الأسباب بالذات، جاء قرار بوتين سحب قواته من سورية. وهو، من أية زاوية نظر إليه فيها، لحسابه في المقام الأول… وعلى حساب الأسد أولاً وأخيراً.
الحياة
بوتين يقرر ونحن نحتار../ دلال البزري
كان يمكن لبوتين أن يمرّر “إنسحابه الجزئي” من دون إعلان، كما هي عادته في “مبادرات” أخرى. ولكنه لم يفعل. أحاط تحرّكه العسكري هذا بما يكفي من “الإنكشاف” الإعلامي لكي يصلنا، أينما وُجدنا، لكي يبلغنا “رسالته”، أو بالأحرى رسائله. ولو شاهدنا الإستقبال البطولي الذي حظيت به طليعة الطاقم العسكري الروسية العائدة إلى الوطن، لكنا وضعنا واحدة من هذه الرسائل في خانة “الأسباب” المحفِّزة للإنسحاب: موسيقى وجمهور وخطاب قومي عالي النبرة، وفرح في الوجوه، فرح “الإنتصار في سوريا”، و”تحقيق المهمة”، ورفع روسيا إلى مصاف الدول العظمى، كما كانت أيام الإتحاد السوفياتي التليد.
لكننا لم نأبه للرسالة الداخلية المحْمولة على قرار الإنسحاب. احترنا فقط بما يعنينا نحن: لماذا انسحب بوتين؟ ورُحنا ندقق بكل سبب من أسبابه، نعيد تصريحات المعلم والأسد، والأزمة الإقتصادية الروسية، عدم الانغماس في المستنقع السوري، إحراج الحلفاء والخصوم، من دون الذهاب الى حدّ الكسر مع الأميركيين، “التوافق مع الأميركيين”… إلى ما هنالك من “أسباب جوهرية”، نحملها ما نود من مصداقية، حسبما استبسلنا “فكريا”. ولكننا، في النهاية، نبلغ النتيجة اياها؛ من ان بوتين، بانسحابه المفاجيء هذا، يؤكد على صحة ما قلناه، أو كتبناه، في هذه أو تلك من المناسبات: فاذا كنا من أعداء بشار الأسد، قلنا ان هذه المبادرة هي إشارة إيجابية، أو تطور يدعو إلى التفاؤل في محادثات جنيف، أو خطوة إلى الأمام نحو الحل السياسي. أما إذا كنا من محور بشار، فندعي بأن القرار الروسي أُخذ بالتشاور مع بشار، وانه لم يغير شيئا في “المعادلة”، وان القوتين العظميين السورية والروسية تنسقان لما هو أخطر وأهم، في طريق النصر الأكيد الخ. كلنا احتار من هذا الانسحاب، ولكن كلنا وجد له في النهاية، مكاناً في وجهة نظره، يطمئنه على قناعاته.
مع اننا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا؛ ثمة تناقض صارخ يجب الا يفوتنا. بين وهج الرسالة البوتينية، وبين غموضها السيّال. ذلك ان صاحبها، بوتين، ضابط سابق في المخابرات السوفياتية، وريثة ستالين الرهيب. وهو مصاب بالمرض المهني الخاص بتلك المخابرات؛ مرض الكذب المغلّف بالعضلات وبالغضب المشروع، غضب المناضلين ضد الإمبريالية… يكذب حينما يقول انه أتى إلى سوريا لحماية الشرعية من السقوط ومحاربة الإرهاب؛ ويكذب الآن حينما يدعي بأنه ينسحب بعدما أنجز مهمته. وهو لا يصدُق إلا عندما يقول في “خطاب الانسحاب” ان الحرب في سوريا “كانت فرصة نادرة ومهمة ان نختبر في ميدان المعركة تقنياتنا، وهذا ستكون له فوائد كبرى”؛ بما ان هذه التقنيات ليست فنية ولا طبية ولا فضائية، فلا يمكن فهم هذا القول بغير ان بوتين كان يلعب بالسلاح في سوريا، ويقتل ويدمر ما يشاء من الحجر والبشر السوريَين، فيختبر الجديد منه، الذي يعظِم حجم حصته السورية، ويثبّتها. كأننا أمام حلقة مفرغة: بوتين يحضر إلى سوريا، بصفته الأقوى من الجميع، أقوى من بشار وإيران وإسرائيل وتركيا والخليج، ثم “ينسحب” منها بعدما صار بسلاحه الجديد أقوى من الأقوى… وحدهم الإسرائيليون يفهون بعمق هذه النقيصة الأخلاقية. لذلك، هم الذين يريدون لأنفسهم حصة أمنية من الكعكة السورية، سارعوا الى إرسال رئيسهم، رؤوفين ريفلين، ليتفاهم مع بوتين على “مرحلة ما بعد الإنسحاب الروسي من سوريا”، مذكرا بخطوط اسرائيل الحمراء، وبمطالبها الأمنية الخ.
والحال، ان هذا الرجل، بالشراكة فوق الطاولة او تحتها، مع كل قوة، بحسب قدراتها النارية، هو الرجل الذي يرسم الآن قدر سوريا. فتحُ “المندل” وحده يعلمنا بغيبه. كنا نكره الإمبريالية لوقاحتها، الصريحة في استكبارها؟ نكره أحادية القطب؟ والتفرّد الأميركي بمصير العالم؟ سوف نعشق بوتين، الآن، و”تعدد الأقطاب” الدولية الذي يقوده في ديارنا، ولعبه على حبال الهواء، فوق مستقبلنا.
حتى هذه اللحظة، وبفضل “سلمية” باراك أوباما، و”توافقه” مع بوتين، أصبح جوفْ سوريا وسطحها يضجّان بقنابل موقوتة: قاعدة حميميم في اللاذقية، إتفاق يضمن لروسيا حرية تقريرها للمصير السوري، الفدرالية الكردية، المدعومة من روسيا. قنابل موقوتة، وثلاثة “كيانات”: علوي، كردي، غني و”مفيد”، والإثنان في جيب روسيا. ثم “كيان” سني، صحراوي “غير مفيد”، إلا كذريعة للضربات العسكرية النافعة.
المدن
لغز الخروج المفاجئ/ فهمي هويدي
أمران شغلا الإعلام الدولى فى المنطقة المحيطة بنا خلال الأسبوع الماضى: الأول دلالة الانسحاب الروسى الجزئى من سوريا والثانى إطلاق مشروع إقامة الفيدرالية الكردية على الحدود السورية المتاخمة لتركيا.
الخبران فوجئ بهما الجميع، ولاتزال التعليقات والتحليلات تحاول سبر أغوار كل منهما والآثار المترتبة عليهما فى الخرائط الجديدة التى ترسم للمنطقة السياسية منها والجغرافية، وإلى الآن لم يتفق على تفسير مفاجأة الانسحاب الجزئى للقوات الروسية.
إذ رغم أن هناك شبه اتفاق على إجابة السؤال: لماذا جاءوا، فإن السؤال التالى لماذا ذهبوا، حير الجميع الذين لايزالون يضربون أخماسا لأسداس كى يعثروا على إجابة له تقنع الجميع.
الشىء الوحيد الذى اتفقت عليه أغلب التحليلات ان ما فعله الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أعاد تثبيت مكانته كلاعب مهم فى الساحة الدولية والشرق الأوسط بوجه أخص، كما أنه أعلن للجميع أن مصير سوريا (قلب العروبة النابض!) أصبح معلقا على قرار موسكو التى صار لها موطئ قدم راسخ فى سوريا (قاعدتها البحرية فى طرطوس والجوية فى حميميم).
فهمنا الأسباب التى دفعت الروس للقدوم، التى كان على رأسها انقاذ نظام الأسد من السقوط (وليس محاربة داعش كما قالوا) ورد موسكو على محاضرة الغرب لها ردا على مغامرتها فى أوكرانيا. أما الرحيل المفاجئ فقد تعددت بشأنه التأويلات.
أحدها أشار إلى نجاح التفاهمات الروسية الأمريكية حول ضرورة الانتقال إلى الحل السياسى.
الثانى لوح بضغط موسكو على الأسد الذى عاندها فرفض فكرة الفيدرالية التى دعت إليها ولجأ إلى انتخابات تشريعية فى منتصف الشهر المقبل.
الثالث ربط بين القرار وبين الأزمة الاقتصادية التى واجهتها روسيا بعد انخفاض أسعار النفط الذى أدى إلى خفض الموازنة العسكرية خصوصا أن تكلفة القوات الموجودة فى سوريا قدرت بثلاثة ملايين دولار يوميا.
الرابع أرجع قلق الرئيس الروسى إلى توجسه من قرار الرئيس الأمريكى نشر قوات قتالية دائمة على طول دول البلطيق وأوروبا الشرقية المتاخمة للحدود الروسية… إلخ.
أسباب الرحيل المفاجئ ستتضح أكثر خلال الأسابيع المقبلة. لكن أصداءه وتداعياته تبلورت إلى حد كبير، أحدها وأهمها أن مصائر العالم العربى خرجت من يديه، بالتالى فإن القرار العربى لم ينتقل من دول الماء إلى دول النفط كما ادعى البعض، ولكنه انتقل بالكلية خارج المنطقة بأسرها. (ثمة كلام عن أن التفاهم الأمريكى ــ الروسى حول الملف السورى يمكن أن يشمل اليمن فى مرحلة لاحقة). أما الانتقال الأول المشار إليه فهو لم يغادر التجاذبات والصراعات المحلية التى تستمد القوة فيها من القدرات المالية وتستثمر فيها أجواء الفراغ السياسى المخيم.
إلى جانب ذلك فهناك أطراف فى المنطقة رحبت بالرحيل وأطراف أخرى أقلقها ذلك، إذ لا يشك أحد فى أن تركيا على رأس المرحبين، وإيران بدرجة أقل. وبعدهما السعودية ثم الأردن وداعش. ذلك أن الوجود الروسى المكثف أزعج الأتراك وقيد مشروعهم حركتهم، كما أنه تسبب فى توتير العلاقة بين أنقرة وموسكو خصوصا بعد إسقاط الأتراك للطائرة سوخرى. فضلا عن الوجود الروسى منع الأتراك من تنفيذ فكرة المنطقة الآمنة التى أرادت أن تقيمها داخل الحدود السورية المتاخمة لها.
السعودية أراحها الرحيل أيضا لأن الوجود الروسى أضعف الأمل فى إزاحة الرئيس الأسد طوال الأشهر الخمسة الماضية على الأقل، كما أنه أوقف تقدم قوى المعارضة السورية التى تؤيدها الرياض. إيران أراحها ما جرى أيضا لأن روسيا نافستها على الأراضى السورية ووضعت حدودا لحركة حزب الله. ثم إن التنسيق الإسرائيلى مع الروس سبب حرجا شديدا لها. أما الأردن فإن وجود الروس وغاراتهم على حدودها الشمالية سببت صداعا مستمرا لعمان التى ما تمنت أن تمتد شرارات المعارك إلى حدودها. وحل لها الرحيل الإشكال. أخيرا فمما لاشك فيه أن جماعة «داعش» كانت من المرحبين أيضا لأن الغارات الروسية قلصت نفوذهم وطموحاتهم واضطرتهم إلى الانسحاب إلى الجنوب السورى.
الذين أقلقهم الرحيل ثلاثة أطراف. الأول النظام السورى الذى خسر أحد داعميه الرئيسيين خصوصا أن وجود الروس جدد أمل النظام فى البقاء والاستمرار. الثانى إسرائيل التى اعتبرت أن الروس كانوا مصدر اطمئنان لهم، كما أنهم حالوا دون تمدد نفوذ إيران وحزب الله على الأراضى السورية. (الرئيس الإسرائيلى رويين ريفلين التقى بوتين فى موسكو للاتفاق على ترتيب الوضع على الأرض بعد الانسحاب الروسى). الطرف الثالث الذى أضير من الانسحاب هو أكراد سوريا الذى مكنهم الروس من التمدد على الحدود التركية لتأسيس فيدرالية شجعتها موسكو وأيدتها واشنطن، وشكل الطيران الروسى غطاء لهم افتقدوه.
ليس لدى العواصم العربية أى إجابة على السؤال: ماذا بعد، لأن «أهل الذكر» فى الموضوع باتوا موزعين بين موسكو وواشنطن. وما علينا إلا أن ننصت إلى الإذعان وتطالع الأخبار الواردة من العاصمتين فى صحف الصباح، مع ذلك فإننى لا أشك أن الإجابة الصحيحة الوحيدة التى يمكن اعتمادها تظل لدى الشعب السورى المدهش، الذى لم يتنازل عن حلمه رغم كل ما جرى طوال السنوات الخمس التى خلت.
الشروق المصرية
درس بوتين وجدار الأسد/ زهير قصيباتي
مع بدء إقلاع مقاتلات روسية تنسحب من سورية، لوّحت الأمم المتحدة بإعداد ملفات قانونية ضد «مجرمي الحرب»، وتجرّأت «جبهة النصرة» على إعلانها خطة لشن هجوم خلال 48 ساعة. ثلاث خطوات تلت صدمة القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس فلاديمير بوتين بسحب الجزء الأكبر من القوة الروسية المرابطة في سورية، والتي قلبت ميزان القوى لمصلحة نظام الرئيس بشار الأسد، وأنهكت الفصائل المقاتلة المعارضة، من دون أن تسحق «داعش» أو «النصرة».
قرار قيصر الكرملين جاء في الذكرى الخامسة لانطلاقة الثورة السورية التي أرغمها النظام على «العسكرة». وإذا كان الإعلام الروسي هلّل للخطوة- الصدمة، باعتبارها نصراً لبوتين الذي استوعب الدرس الأفغاني، ونجح في عدم الانزلاق إلى مستنقع سوري، فالمسألة الحاسمة ليست في تشديد الضغط المعنوي على نظام الأسد فحسب، لكي يسهّل مفاوضات جنيف، فيما الكرملين يُدرك تماماً أن جوهر الحلقة المفرغة التي ما زالت المفاوضات أسيرة لها منذ الجولة الأولى، هو مصير رأس النظام السوري. وأن يعلن المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين ما لم يجهر به الكرملين، حول الدافع الرئيسي للصدمة، أي «تشجيع حل سياسي للصراع»، فذاك إدانة للنظام لأنه لا يقدّم ما يكفي لتشجيع التسوية.
لعل أبسط مثل على أن الأسد ما زال يراهن على عامل الوقت لسحق المعارضة المسلّحة، هو تجديد رئيس الوفد السوري إلى جنيف، معزوفة شكل الوفد، ومَنْ يمثّل مَنْ، ومَنْ هو «الإرهابي» الذي يجب استبعاده… أما «الخط الأحمر» للتفاوض، والذي جدّده وزير الخارجية وليد المعلم، عشية الجولة الجديدة في جنيف، ليجعل منصب الرئاسة فوق عملية السلام وكل مرحلة «انتقالية»، فلا يؤدي عملياً إلا إلى استبعاد خريطة الطريق بالكامل، لأن المعارضة لن تفاوض لمجرد المشاركة في «حكومة وحدة وطنية»، يرعاها المتهم بالدور الأول في تدمير سورية وسقوط حوالى 380 ألف قتيل من شعبها.
كان واضحاً أن نظام الأسد استقوى بالتدخُّل العسكري الروسي، ليكرّس مقولته أن لا ثورة ولا معارضة ولا حرب أهلية، بل صراع مع «الإرهاب». تسلّح النظام بالغارات الروسية ووثيقة التفاهم التي سبقت التدخُّل العسكري للكرملين في 30 أيلول (سبتمبر). في الجو تحميه «السوخوي»، وعلى الأرض «الحرس الثوري» والميليشيات التي ترعاها إيران. تجاوز بوتين المهلة التي حددها للتدخُّل وعملية سحق كل مَنْ يرفع السّلاح في وجه النّظام. بدلاً من مئة يوم، مئة وخمسة وستون، واللافت الارتباك في موسكو، في صيغة إعلان بدء الانسحاب، والتضارب مع البيان السوري، والارتباك في واشنطن التي فوجئت أيضاً بقرار القيصر.
أولى الملاحظات التي تؤشر إلى الارتباك، إعلان الناطق باسم الكرملين أن بوتين تحدّث هاتفياً إلى الأسد لإبلاغه القرار، ثم أوضحت الرئاسة الروسية أنه اتُّخذ بالتنسيق مع الرئيس السوري. وفي حين حرصت موسكو على تأكيد عدم تناول مصير الأسد، خلال الاتصال، حرص بيان رسمي في دمشق على صيغة «اتفاق» الرئيسين على «خفض القوات الجوية الروسية في سورية». الأكيد، أن لجيش بوتين من الطائرات الحربية الباقية في اللاذقية، ما يكفي لمزيد من الغارات التي لا تفرّق بين فصيل معارض وآخر يحارب مع «داعش». بهذا المعنى، قد يعني قرار الخفض لـ «تشجيع» الأسد على التفاوض، ورقة تلوِّح بها موسكو لإبلاغه أن سقف الدعم ليس بلا حدود.
ولكن، بعد كل الذي حصل منذ «جنيف 1»، ألا يُدرك بوتين نيات الأسد وأهدافه؟… وأن قلب ميزان القوى سيشجّع النظام السوري على مزيد من التصلُّب، وأن الورقة الإيرانية جاهزة ليلوّح بها مجدداً بديلاً من «السوخوي»؟ ليس بلا دلالة ما أوردته صحيفة «كومرسانت» الروسية من أن هدف موسكو لم يكن انتزاع كل الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة فذلك «قد يستغرق سنوات، من دون ضمانات» بإنجازه. الأهم أن الدب الروسي خرج من عزلته الدولية، وبات على تنسيق يومي مع «شريكه» اللدود الأميركي الخائب في المنطقة… والمهم بعيون الروس أنهم لن ينزلقوا إلى أفغانستان ثانية.
في الوقائع أن تسعة آلاف غارة روسية لم تنقذ نظام الأسد إلى الحد الذي يمكّنه من سحق كل مَنْ يرفع السلاح في وجهه… لم تنقذه من الفصائل المعارضة ولا من «داعش»، بافتراض إضعاف الروس التنظيم وموارده النفطية.
الانسحاب- الصدمة، خبر سيء للنظام، إلا إذا كانت طهران المرتاحة إلى قرار القيصر بعد غضب صامت من تدخُّله، قادرة على تحصين ما بقي من قوة للجيش السوري، وإرسال أفواج أخرى من الميليشيات، كفيلة بتمديد الحرب سنوات إضافية. وقد تكون نتائج جولة جنيف الحالية مفصلية في تبديل أوراق روسيا التي كسرت جدار العزلة حولها، لكنها لن تحطّم عناد النظام السوري في رفضه التغيير من الرأس إلى القاعدة، ولا إصرار المعارضة على عدم بيع نفسها لـ «حكومة وحدة وطنية»، لا يصعب التكهُّن بما فيها من الوحدة الجدّية، والوطنية التي تستجيب طموحات السوريين.
بين كابول ودمشق مسافات طويلة، بمقدار ما يبدو الطريق إلى السلام في سورية.
الحياة
أي حل سوري تريد روسيا؟/ رندة تقي الدين
إعلان فلاديمير بوتين عن سحب قواته من سورية جاء يوم بدأت مفاوضات جنيف بين ممثلي النظام السوري والمعارضة. وأيضاً عشية الذكرى الخامسة المؤلمة لبدء الحرب الوحشية التي يخوضها بشار الأسد على شعبه. وبعد تصريحات وليد المعلم أن منصب بشار الأسد كرئيس لسورية خط أحمر، وكأن الرئاسة ملك معلمه.
إن توقيت إعلان القرار الذي كان بوتين قرره منذ فترة ليس مصادفة. فبوتين دخل الى سورية لحماية بشار الأسد وخصوصاً حماية موقع روسيا الوحيد على المتوسط في قاعدة طرطوس وتعزيز وجوده في منطقة كان الاتحاد السوفياتي يهيمن عليها. فهو فعلاً صدق بقوله انه حصل على أهداف دخوله. فقد أظهر للولايات المتحدة وإدارة اوباما الضعيفة ان في إمكان روسيا التدخل العسكري السريع في أماكن مهمة لمصالحها، لذا أصر على القول إن الجيش الروسي سيحتفظ بأحدث أنظمته للدفاع الجوي. وأن لروسيا رأياً في مستقبل هذه المنطقة وفي إمكانها أن تكون رغم مقاطعتها من الغرب صانعة السلام وعلى الغرب ان يعيد لها الاعتبار في اعطائها الرأي الأساسي في ما يخص الانتقال السياسي في سورية. ثم إن بوتين لا يريد إغراق قواته في مستنقع حرب أهلية مكلفة خصوصاً أن اقتصاده متدهور وهو يشعر بأنه حصل على ما يريده. وروسيا لم تدخل لمحاربة «داعش» كونها قصفت بقوة ووحشية قواعد الثوار والمعارضين. فبوتين لا يتحرك بعواطف او مشاعر انسانية. وترك قواته الجوية تقصف وتدمر وتقتل حتى اعتبر انه وصل الى ما يريده في وجه القوى العظمى المتخاذلة مثل الولايات المتحدة وحلفائها. فكما جاء ليحمي بشار الأسد سيكون هو الذي سيقول كلمته في المسار الانتقالي.
إن بوتين يدرك أن مستقبل سورية لن يكون مع الرئيس الذي حماه. فمنذ البداية كان الروس يرددون انهم لا يرتبطون بعلاقة دائمة مع الأسد، ولكن لم يجدوا غيره حتى الآن والمعارضة لم تقنعهم. ولكن قد تكون لدى بوتين فكرته بالنسبة الى التخلص من بشار الأسد. فحرب الأسد على شعبه منذ خمس سنوات أسقطت اكثر من ٣٥٠ الف قتيل ودمرت المدن العريقة من حلب الى إدلب وحمص واللائحة طويلة. وشردت خمسة ملايين سوري وأكثر من ٣٠٠ ألف من أطفال سورية ولدوا لاجئين وفق «اليونيسيف» وأكثر من 8 ملايين طفل هم في حاجة الى مساعدات انسانية. ففي ظل هذه الكارثة الانسانية تستمر الحرب طالما أن الأسد موجود وطالما جماعته مثل المعلم وبشار الجعفري متمسكون بسلطة مسؤولة عن هذه الكارثة. فالحرب بدأت قبل خمس سنوات في سورية بتظاهرات سلمية في درعا رد عليها الأسد وجماعته بقتل الأطفال وتعذيب أهلهم وأخرج من السجون العناصر التي انضمت الى «داعش» الى أن أصبح هذا التنظيم تهديداً له وللعالم. ولكنه استخدم «داعش» ليقول للعالم: إما أنا أو «داعش». وبدأ البعض في الغرب المتخاذل يقتنع بأن الأسد هو الخيار الأفضل لأنه يحمي الأقليات. مع أنه غير قادر على حماية أحد حتى جماعته. إن الانسحاب الروسي قد يكون ايضاً للضغط على الأسد كون بوتين أدرك كارثة قيادته وتعنته وأخطائه وانه غير قادر أن يقاتل إلا بواسطة قوات خارجية مثل الروس و «حزب الله» والايرانيين. والقرار الاساسي في المستقبل لن يكون لا لايران ولا لـ «حزب الله» ولا للأسد بل لروسيا. والسؤال سيكون كيف ستتعامل روسيا مع هذا المستقبل وكيف ستفرض رأيها على الولايات المتحدة وكيف ستتعامل مع المعارضة المعتدلة؟ا
أسئلة عديدة مطروحة في هذه المرحلة وغير مطمئنة لأنه سبق لروسيا ان فرضت وجوهاً سورية معارضة لا تدفع الى التفاؤل. ولكن مستقبل سورية لا يمكن أن يكون مع الأسد حتى لو دفعت روسيا ثمن حمايته وكان ذلك لعودتها بقوة في المعادلة الدولية، وهذا كان أهم أهداف بوتين في وجه إدارة أوباما التي انسحبت من المنطقة واستسلمت أمام روسيا.
الحياة
لغز الانسحاب الروسي من سورية/ جهاد الخازن
قرار الرئيس فلاديمير بوتين سحب معظم القوات الروسية من سورية «فزّورة» أو «حزورة»، فلا أحد يعرف السبب الحقيقي غير الرئيس الروسي.
ربما كان الأمر أن القوات الروسية، في ستة أشهر من القتال، حققت الهدف من دخول سورية، لكن يُضعِف من هذا الاحتمال أن البيان الروسي الرسمي أشار إلى تحقيق «معظم أهداف» التدخل الروسي، ما يعني أن الحقيقة في مكان آخر.
إذا كان لي أن أقدم سبباً على سبب، فأنا أرجح أن الرئيس الروسي مستاء من عدم تجاوب الرئيس بشار الأسد معه. هو أنقذ النظام من السقوط، والانسحاب جاء مع انعقاد مؤتمر جنيف وبعد هدنة هشّة بدأت في نهاية الشهر الماضي. الموقف السوري المعلن هو أن لا حديث عن حكم انتقالي أو انتخابات رئاسية، أو أي طلب آخر للمعارضة الوطنية وللدول العربية التي تؤيد هذه المعارضة.
أريد قبل أن أكمل أن أسجل أن الانسحاب جزئي، فروسيا ستحتفظ بنظام الصواريخ أس 400، أرض جو، ما يقيد عمل دول معارضة للنظام مثل تركيا، وربما الولايات المتحدة نفسها. ثم أن روسيا ستحتفظ بقاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدة برية و «مستشارين» على الأرض لن أحاول تقدير عددهم.
كنت أدرجت بين الاحتمالات أن تترك روسيا سورية لإيران، ومعها حزب الله، لتتحمل عبء حماية النظام، بعد أن رفضت إيران الالتزام بالحد من إنتاج النفط الذي توصلت إليه روسيا والمملكة العربية السعودية. غير أنني وجدت هذا الاحتمال ضعيفاً عندما عارضت روسيا الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ورفضت أن يصدر مجلس الأمن قراراً يدين التجارب الصاروخية الإيرانية، بحجة أن الاتفاق النووي لا يشملها.
ما لا جدال فيه أن القرار الروسي تزامن مع مؤتمر جنيف الذي يبحث عن حل للحرب المستمرة في سورية منذ خمس سنوات، ومع الذكرى الخامسة لبدء القتل في سورية.
كانت سورية بيتاً عامراً بأهله، وهي اليوم «خرابة» يسكنها مَنْ لا يقدر على الرحيل. هناك ثلاثمئة ألف قتيل وأكثر من سبعة ملايين سوري هُجِّروا داخل بلادهم، وحوالي خمسة ملايين في دول الجوار. والمهاجرون السوريون يلقون أسواراً وأسلاكاً شائكة حيثما ذهبوا في أوروبا، فتزامن كل ما سبق مع رؤيتي مهاجرين سوريين يحاولون عبور نهر في شمال اليونان إلى مقدونيا.
القرار الروسي ترك النظام وهو أقوى مما كان قبل ستة أشهر، إلا أنه ترك الإرهابيين من نوع داعش في مواقعهم، وفي «عاصمتهم» الرقة. ولا سبب منطقياً لتوقع أن يُهزم الإرهاب غداً أو بعد غد، فالمنطق يقول إن الأزمة السورية ستستمر وقد تتفاقم إذا انهارت مفاوضات جنيف.
في النهاية، المستفيد الوحيد هو فلاديمير بوتين، فقد رد في سورية على العقوبات الغربية بسبب أوكرانيا وغيرها. وهو انسحب ويستطيع أن يعود، فهو قوي في بلده لأن الدوما سيؤيد أي قرار له، بعكس الكونغرس الذي يعترض على كل موقف للرئيس أوباما، فيستعمل الرئيس الفيتو، ويرد الكونغرس بمحاولة الحصول على غالبية الثلثين لإحباط فيتو الرئيس وهكذا…
أهل سورية، أهلنا، هم ضحية النظام والإرهاب وروسيا وأميركا. وإسرائيل هي المستفيد الوحيد من موت السوريين.
الحياة
ماذا يعني الانسحاب من سورية بالنسبة إلى موسكو؟
أ ف ب
تعكس لقطات عودة أولى الطائرات المقاتلة الروسية من سورية على شاشات التلفزيون انطباعاً بأن «المهمة أنجزت»، لكن يبقى بعض الأسئلة حول قرار فلاديمير بوتين سحب «الجزء الأكبر» من قواته.
فهل يشكل القرار الأخير للرئيس الروسي انسحاباً أو تراجعاً تكتيكياً بسيطاً؟ وهل تراجع دعم الكرملين للرئيس السوري بشار الأسد؟
أعلن بوتين منذ البداية أن تدخل القاذفات والمقاتلات التابعة للجيش الروسي سيكون محدوداً. وبعد أكثر من خمسة أشهر على بدء الغارات الجوية، تغيرت الأوضاع العسكرية على الأرض، واستعاد الجيش السوري تفوقه، بعد النكسات التي مني بها منذ ربيع العام 2015.
بالنسبة إلى موسكو، فقد حان الوقت للعودة إلى «المسار السياسي»، وترجمة التوازن الجديد للقوى ميدانياً على طاولة المفاوضات.
وهناك ذريعة إضافية، فقد حقق الجيش الروسي بعد آلاف الغارات الجوية، انتصاراً سهلاً من دون أضرار مع مقتل ثلاثة جنود فقط.
لكن قوات النظام السوري لم تستعد السيطرة على كامل حلب، ثانية مدن البلاد، والخطر كان كبيراً للتورط في محاولة الدفع أكثر باتجاه ذلك.
وكما يلخص بقساوة رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية» فيودور لوكيانوف، فإن الرسالة إلى دمشق واضحة: «نحن لا ننوي القيام بكل الأعمال من أجلك».
من جهته، يقول كريم بيطار، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» في باريس، إن «بوتين حقق أهدافه، وهي التوطيد والسيطرة على سورية المفيدة»، أي المناطق المأهولة في وسط سورية وغربها.
والنقطة الأخيرة هي المال، عصب الحرب. وتشير تقديرات صحيفة «آر بي كاي» الروسية، إلى أن كلفة الحملة العسكرية تلبغ 2.5 مليون دولار في اليوم الواحد. ما يشكل نفقات لا يستهان بها بالنسبة إلى هذا البلد الذي يستعد للعام الثاني على التوالي لركود اقتصادي مع انتفاء أي أمل في تحسن ملحوظ لأسعار النفط المنخفضة.
وأعلن بوتين انسحاب غالبية قواته، لكنه شدد على الاحتفاظ بـ «موقع لوجستي جوي» في قاعدة حميميم العسكرية.
ومع أن الكرملين لم يعلن مطلقاً في شكل رسمي عديد عناصره أو طائراته المنتشرة هناك ولم يؤكد كم سيعود منهم، قدّر رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الروسي عدد القوات التي ستبقى منتشرة في سورية بأكثر من 800.
كما أن الجيش الروسي سيحتفظ أيضاً في المكان بمنظومة صورايخ «أس 400» المضادة للطائرات. بعبارة أخرى، بدلاً من الانسحاب، يجب التحدث عن خفض وجود موسكو العسكري.
بدوره، يقول الخبير في مركز «كارنيغي» في موسكو أليكسي مالاشينكو، إن الكرملين ليس مقيد اليدين.
ويضيف أن «قرار سحب القوات، الذي بدا أنه غير متوقع في البداية، لا يمكن أن يكون تم اتخاذه من دون التشاور مع الولايات المتحدة، فهو نتيجة تسوية صعبة. لكنها إذا لم تعمل، فلا شيء يمنع موسكو من إرسال قواتها الجوية إلى سورية».
ولكن بيطار يعتبر ذلك «مؤشراً إلى التهدئة» مضيفاً أن «هناك مخاوف روسية من الغرق في مستنقع في الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أن «تجربة التدخلات الأجنبية في المنطقة تؤكد أنه ستكون ردود فعل عنيفة».
وكما في كل مرة تحرك روسيا قطعة على رقعة الشطرنج السورية، يسارع المراقبون إلى التدقيق في مؤشرات على وجود تغير في الدعم الروسي للأسد.
ويتابع بيطار: «لا أعتقد أن الروس في طريقهم للتخلي عن الأسد. إنها كمن ينظر إلى تمنياته كحقائق ليؤكد ذلك الآن».
ومع ذلك، أشار العديد من الخبراء إلى أن الرئيس السوري يزعج بعض الأحيان موسكو، وأن روسيا تريد زيادة الضغوط عليه في بداية مفاوضات السلام، الأمر الذي نفاه الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف اليوم.
وتقول ساره لاين من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» في لندن، إن «مسألة رحيل الأسد أو بقائه في السلطة تشكل نقطة خلاف ضخمة تستمر في عرقلة المفاوضات في جنيف».
وختمت: «أعتقد أن الانسحاب الروسي يهدف إلى تسريع المناقشات في شأن الانتقال السياسي».
من جهة ثانية، يرفع إعلان روسيا المفاجئ سحب الجزء الأكبر من قواتها من سورية، معنويات الناشطين والفصائل المقاتلة الذين يعتبرون قرار موسكو بمثابة «نكسة» لقوات النظام، على رغم شكوكهم في دوافع حليفة دمشق.
ويقول القائد المحلي في فصيل «جيش التحرير» في محافظة حماة (وسط) رائد العلوي، إن «المعنويات مرتفعة إلى أعلى حد، والنظام لن يتمكن من الصمود وحده»، ويؤكد العلوي «هذا انتصار للشعب السوري»، ليضيف مستطرداً «روسيا لم تهزم ولكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها».
ويعبر القيادي المحلي في فصيل «الجبهة الشامية» مضر نجار، عن سعادته بالانسحاب الروسي. ويقول إن «هزيمة الروس معنوية، وتظهر أنهم لم يتمكنوا من القضاء على الثورة»، ويؤكد أن «الثورة مستمرة حتى إسقاط النظام».
ومنذ بدء التدخل الروسي في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، «قتل مدنيون ودمرت مستشفيات ومدارس فضلاً عن البنية التحتية». وفي بداية الشهر الجاري، وثق «المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 1733 مدنياً من جراء الغارات الروسية».
ويقول أبو أنس، الناشط في مدينة داريا الواقعة تحت حصار قوات النظام في جنوب دمشق، «بالطبع نشعر بالسرور نوعاً ما، إلا أن الشعب لا يثق بالروس».
ويؤكد أبو إبراهيم، القيادي في فصيل «اللواء العاشر» المتواجد في ريف اللاذقية الشمالي (غرب) أن «قرار الانسحاب كان مفاجئاً، ولم نر تبعاته على الأرض حتى الآن». ويضيف: «لا يجب أن نكون عاطفيين، وأنا لا أراها هزيمة» للروس.
ويعتقد أبو إبراهيم أن الإعلان الروسي مرتبط أساساً بالمفاوضات في جنيف. ويقول: «أنا في حيرة من أمري، ولدي شكوكي، فهناك أمر ما سيحصل»، مضيفاً «روسيا لا تتصرف بطريقة عشوائية، هناك أمر ما تحت الطاولة، ولا يمكن أن ينسحبوا من دون مقابل».
أما من جهة النظام، يقر ضابط في الجيش السوري طالب عدم الكشف عن اسمه بأنه «لا نعرف ماذا حدث».
الحياة
الحملة الروسية… ما لها وعليها/ رائد جبر
ماذا حققت موسكو من الحملة العسكرية في سورية؟
يبدو الجواب عن السؤال الأكثر تردداً حالياً، واضحاً من وجهة النظر الروسية. لكن مساراته تتشعب ويبدو متناقضاً عندما تتصدى له الأطراف الأخرى خصوصاً في طرفي المعادلة، فلا النظام يبدو مقتنعاً بأن «موسكو أنجزت المهمة»، ولا المعارضة تخفي «شماتتها» بما وصفه بعضهم «بدء الانكفاء الروسي».
وفي الحالين، يخطئ الطرفان كما يقول خبراء روس لأنهما «يريدان أن يخلعا على سياسة الكرملين أمنياتهما».
خلف التباين في الأرقام والمعطيات التي يقدمها العسكريون الروس بصفتها «حصاد الحملة» يؤكد مقربون من الكرملين أن التدخل الروسي المباشر في سورية كان منذ بدايته في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي «محدوداً زمنياً»، يرتبط بإحداث تغييرات محددة على المشهد، وهو أمر تم تنفيذه بالكامل وبنجاح واضح.
وليس مهماً أن يقول وزير الدفاع سيرغي شويغو أن الطيران الروسي ساعد في «تحرير» 400 بلدة، بينما يقول نائبه الموجود في قاعدة حميميم نيكولاي بانكوف أن البلدات التي انتقلت إلى سيطرة النظام بلغ عددها 200. الأهم من هذا التباين أن الكرملين يبدو مرتاحاً تماماً للنتائج، بصرف النظر عن عدم توجيه الضربة القاضية للإرهاب بحسب عنوان الحملة.
ويرى خبراء قريبون من مركز صنع القرار الروسي أن التدخل المباشر نجح في إسقاط نظرية إطاحة النظام عن طريق استخدام القوة، وبدل ملامح المشهد الإقليمي والدولي بما يضمن مكانة أساسية لموسكو ليس فقط في تسوية الملف السوري بل وفي رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد. وتبدو موسكو مطمئنة حالياً لتسليم الغرب نهائياً بدورها الجديد، كذلك عبر تأمين التواجد العسكري الدائم في قاعدتي حميميم وطرطوس بما يلبي مصالح مواجهة حلف شمال الأطلسي جنوباً، وتأمين تحركاتها في المتوسط. بهذا المعنى لا تكون موسكو انكفأت في سورية، بل فتحت على مرحلة جديدة من إدارة الصراع.
ويبدو أن المفاجأة كانت تكمن ليس في القرار الروسي بل في توقيته، مع انطلاق جولة المفاوضات الجديدة في جنيف، وبعد تصريحات نارية أطلقها ممثلو النظام.
يلفت البعض إلى أن موسكو تعتبر أن الإنجازات التي تحققت حتى الآن يمكن أن تتعرض لهزات في حال فشل المفاوضات وبدء بعض الأطراف البحث عما وصف بـ»الخيارات البديلة»، وفي هذا الإطار فإن سيناريو تسليح المعارضة بأسلحة أرض – جو كان يمكن أن يسفر عن انزلاق الروس إلى مواجهة أوسع كما يقول معلق عسكري، مشيراً إلى إعلان موسكو السبت الماضي عن أن إسقاط مقاتلة «ميغ» السورية كان باستخدام صاروخ أرض – جو محمول.
ومن مكاسب الانسحاب الحالي، انخراط موسكو كلاعب أساس في التسوية، وهذا يفسر حرص الرئيس فلاديمير بوتين على ربط قراره «العسكري» بتوجيه أوامر إلى وزير الخارجية سيرغي لافروف بتكثيف الجهد لإنجاح العملية السياسية. وتأمل موسكو بتخفيف الضغط الغربي عليها بعد التطور. بينما كان يمكن لاستمرار العملية أن تفاقم من مشكلتها ولا تحقق لها مكاسب إضافية.
يبقى السجال في شأن مصير الأسد، خصوصاً على خلفية التباين بين إعلان دمشق عن «تنسيق روسي – سوري لتقليص التواجد» وتأكيد الكرملين أن «بوتين أبلغ نظيره السوري بالقرار الروسي». ويعتبر خبراء روس أن أداء النظام في جنيف وما بعده ستكون له أهمية كبرى في تحديد مستقبل الرهان عليه.
الحياة
هل احتاج بوتين إلى استراتيجية خروج من سوريا؟/ روزانا بومنصف
تتحرك روسيا في سوريا على أنها اللاعب الدولي الوحيد الذي تم التسليم أميركياً بمرجعيته في الشأن السوري. ليس واضحا إذا كانت روسيا توجه رسالة عبر إعلان انسحابها في التاريخ نفسه لانطلاق الانتفاضة السورية بأنها تضع اللبنة الأساس في الموعد نفسه، إنما لانطلاق العملية السلمية بدلا من الحرب إذا كانت صادقة في سحب قواتها ولم يكن ذلك مجرد قنبلة دخانية، لكن الانسحاب كما التدخل الروسي من شأنه أن يغيّر قواعد اللعبة في سوريا وحولها. تدخلت روسيا بأهداف مخفية وبأسباب معلنة تبين الوقائع عدم صحتها لجهة محاربة تنظيم “الدولة الاسلامية” ما دامت تنسحب من دون ان تقضي على هذا التنظيم كما قالت، فيما عمدت الى انتشال الرئيس السوري من السقوط. وفجأة يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته الرئيسية، فيما لم تنته العواصم الكبرى من تحليل تداعيات تدخله ليترك هذا القرار الجديد مثار تكهنات حول تداعياته وما إذا كانت ستدفع في اتجاه تزخيم العملية السلمية السورية في جنيف أو أنها ستدفع النظام وايران وحلفاءه من الميليشيات الشيعية الى استكمال استعادة السيطرة، فلا يحرج هو أمام الدول الخليجية أو الرأي العام السني في الجمهوريات السوفياتية سابقا، ما دام لن يكون مسؤولا عن اندفاع النظام وحلفائه بعد سحب قواته، او انه في حاجة الى استراتيجية خروج من سوريا وفّرها بدء العملية السلمية في ضوء أوضاع روسية داخلية صعبة. فالقرار الاستعراضي المفاجئ والسريع والفوري التنفيذ يشي بأنه لم يأت في سياق طبيعي، بل في سياق إشكالي، وهو باعه للداخل الروسي، بمقدار محاولة بيعه للدول الغربية، على نحو ساهم في إعادة تحسين سعر الروبل الروسي في مقابل الدولار الاميركي نظرا الى الارتياح الذي أثاره قراره لدى الروس، في ظل اختناق اقتصادي يواجه الوضع في روسيا وقلق من الغرق كما كانت الحال في افغانستان. ومع أن ديبلوماسيي العواصم الغربية أعربوا عن أملهم في أن يشكل سحب روسيا قواتها العسكرية ضغطا على النظام من أجل المضي في العملية السلمية، فإن ثمة شكوكا في أن يكون هناك سيناريو آخر مبني على انسحاب بوتين مما يمكن ان يحصل ميدانياً من جانب الاسد وحليفه الايراني، انطلاقا من توافر معلومات موثوق بها عن استحالة ان يقدم النظام اي تنازلات في التفاوض، وهو غدا أكثر وثوقاً من قدرته على استعادة السيطرة بعد الدعم الذي قدمه له الروس. وتاليا، فإنه سيحاول أن يستكمل تقدمه في بعض المناطق ليضيق هامش المعارضة. فأن يكون وزراء خارجية الدول الغربية أبدوا رد فعل سلبيا على ما اعلنه وزير خارجية النظام وليد المعلم من خطوط حمر، تبدأ بالاسد وصولا الى الانتخابات الرئاسية والمرحلة الانتقالية، لا يعني أن هذا النظام لن يسعى الى تحقيق أهدافه أو يحاول على الأقل.
فقبل أيام قليلة، نقل عائدون من العاصمة الاميركية أن التسوية التي كان مزمعا إطلاقها، وهي بدأت في 14 آذار في جنيف ويتوقع الوصول اليها في سوريا، لا كلام كثيرا حولها في واشنطن، بل ان الانطباع هو أن الولايات المتحدة تركت المبادرة لروسيا. ولدى أي اعتراض غربي أو عربي، يقابل المسؤولون نشاط الروس في سوريا بمرونة، وأحيانا بعدم اكتراث، وأحيانا بمحاولات للضغط على الروس ديبلوماسياً، انطلاقاً من أن الولايات المتحدة باتت خارج معادلة القوى الفاعلة والفعلية في سوريا. والانطباعات الأخرى التي نقلها زوار العاصمة الاميركية هي أن الحل في سوريا غير وشيك، على غير ما ينقل عنهم في بعض مواقفهم، إذ لا يزال بشار الاسد، كما سيظهر خلال الأيام والأسابيع المقبلة، رافضا التفاوض، وهو لن يفعل، وان الروس قالوا للاميركيين انهم وعدوهم بأنهم سيأتون بالاسد الى المفاوضات، لكننا لم نعد بتقديمه تنازلات. والأمر الآخر هو أن لا خطة “ب” لدى الاميركيين بتقسيم سوريا أو أي مسار آخر للحلول على رغم تلويح وزير الخارجية جون كيري باحتمال ذهاب سوريا الى التقسيم في حال فشل مسار الحل السلمي.
في أي حال على غرار ما شكل التدخل الروسي في سوريا في نهاية ايلول الماضي صفعة للولايات المتحدة، فإن إعلان روسيا سحب القسم الاكبر من قواتها من سوريا هو صفعة إضافية لادارة الرئيس باراك أوباما، حتى لو لم تكن هذه الادارة تكترث لسوريا، وهي سلمت او تركت الوضع السوري في يد الروس. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين استطاع ان يظهر ان دولة مهتمة وليست فقط كبيرة يمكنها أن تتدخل من أجل حماية ما تعتبره خطوطا حمرا، على غرار تدخل روسيا لمنع سقوط بشار الاسد، من دون أن تنغمس طويلا في الوحول السورية، كما تنبأ اوباما للتدخل الروسي، وهذا التدخل يمكنه أن يغير موازين القوى على الارض. وهما أمران نظّر الرئيس الاميركي لهما خلال الاعوام الاخيرة في تبريره عدم التدخل في سوريا، عارضا خططاً على غرار التدخل في العراق او افغانستان، ليخلص الى عدم التدخل على الإطلاق لعدم القدرة، وفق قراءاته المشابهة في رأي مراقبين كثر لقراءات الاكاديميين وليس رؤساء الدول، على تغيير موازين القوى على الارض. فهل ينجح انسحاب رئيسي لروسيا من سوريا في إرباك حسابات الولايات المتحدة كما حسابات اللاعبين الداخليين، ولا سيما النظام وحليفته ايران؟ هذا ما يعتقد كثر انه سيحصل كيفما كان اتجاه هذا الارباك.
النهار
أخيراً إنتقال يُخرج الأسد؟/ راجح الخوري
لم يكن قرار فلاديمير بوتين بدء الإنسحاب من سوريا مفاجئاً، على الأقل بالنسبة الى السوريين الذين لاحظوا تناقص الطائرات الروسية في مطار حميميم واختفاء السفن عند شواطئ طرطوس، فهل حسب النظام السوري الأمر عملية تبديل للقوات، ولم يتوقع انه سيتلقى تلك الصفعة القاسية من موسكو التي تحميه؟
انها “لحظة الحقيقة” تماماً كما قال دو ميستورا يوم الاثنين في جنيف، مؤكداً “ان الإنتقال السياسي في سوريا هو النقطة الأساس” وانه اذا لم ينجح هذا الأمر فسيعيد طرح القضية على مجلس الأمن.
لم يكن كلام دو ميستورا سوى مجرد فاصلة في تسونامي الإمتعاض الأميركي والروسي المتصاعد من محاولة نظام الأسد تخريب وقف النار والتملّص من الاتفاق الذي بات من الواضح انه تم التوصل اليه بين أميركا وروسيا بمعرفة الإيرانيين، الذين باتت حاجتهم بعد الإتفاق النووي والانفتاح على الغرب، الى خروج متدرّج من خنادق بشار الاسد توازي حاجة بوتين الى قطف تفاحة الحل في سوريا في الوقت الملائم تماماً، وهو وقت لم يعد يتسع لمناورات النظام ولا حتى لبقاء “الأسد رئيسنا الى الأبد”.
في الإتفاق الأميركي الروسي الذي ابتلعه الإيرانيون “الإنتقال السياسي هو الاساس”، لكن بشار الأسد كرر رفع إصبعه مرة جديدة في وجه حماته الروس، اولاً عندما قال انه يريد ان يحرر البلاد “وبعد عشر سنين أريد ان أكون قد تمكنت من إنقاذ سوريا”، ليرد عليه فيتالي تشوركين فوراً بأن كلامه يناقض المساعي الديبلوماسية لحل الأزمة السورية، ثم ليقول ميخائيل بوغدانوف إن على الأسد وأطراف آخرين [يعني ايران] الإستماع الى نصائح موسكو “عليه إتّباع نصائح موسكو للخروج من الأزمة بكرامته وان قواته لم تكن لتصمد طويلاً لولا التدخل الروسي”.
ثم جاءت تصريحات وليد المعلم عن “ان الأسد خط أحمر وان دمشق لن تسمح لجماعات أو دول [المقصود روسيا] بمصادرة القرار السوري”. وعلى خلفية هذا جرت اتصالات مستعجلة بين واشنطن وموسكو وقال جون كيري مخاطباً بوتين: أنظر كيف يتصرف بشار الأسد، انه يتعمّد تعطيل وقف النار والتسوية، وقد أرسل وزير خارجيته كي يخرب ما وافقتم عليه أنتم والإيرانيون… واذا إعتقد انه لن تكون لذلك عواقب وخيمة سيكون واهماً.
واضح ان الإتفاق الاميركي الروسي صلب الى درجة جعلت ايران تنخرط في الترويج له بدليل قول أميرعبد اللهيان عشية بدء محادثات جنيف “إن الجيش السوري منهك، وان المفاوضات في جنيف تهدف الى تحديد اعضاء المجلس الإنتقالي”، الذي نكره بشار الجعفري.
في كل هذه التطورات يبدو بوتين مايسترو اللعبة سواء في دخوله العسكري الى سوريا أم في انسحابه منها لفرض التسوية التي من الواضح انها لن تتسع للأسد!
النهار
بوتين ضاق ذرعاً بالأسد/ موناليزا فريحة
برزت في الأسابيع الاخيرة علامات واضحة على تململ روسي من القيادة السورية. تململ علني هو الاول من نوعه عكس ضيق موسكو من سلوك النظام الذي حاول ان يعصى تعليماتها ويظهر مظهر سيد القرار الحر، منكراً فضل حليفه الروسي في انتشاله عن حافة الهاوية.
حاول الرئيس بشار الاسد التصرف مع بوتين كما يتصرف مع المعارضة السورية، في انفصام تام عن الواقع. فما كادت المقاتلات الروسية تفك الحصار عن قواته في بعض القواعد، حتى أطلّ على الاعلام ليعلن عزمه على القتال الى حين استعادة كل البلاد وتحقيق النصر. هذا التصريح، استدعى رداً قاسياً من موسكو، إذ حذره المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة السفير فيتالي تشوركين علناً، من أن عليه الامتثال لقيادة موسكو “إذا كان يريد حل الازمة”. وبعد أسبوع، سُجّل هجوم روسي آخر، وهذه المرة بلسان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، مفاده أن سوريا يمكن أن تصير “دولة فيديرالية”.
الهجوم الاعنف ورد في صحيفة “كومرسانت” الروسية التي انتقدت سلوك الاسد بعد رفضه اتفاق النار الذي أنجزته موسكو وواشنطن في ميونيخ، وشبهت تصرفات المسؤولين السوريين بعد المكاسب التي تحققت على الارض بـ”الكلب الذي يبدأ تحريك ذيله”.
فَهِم العالم كله أن أحد الاسباب التي حملت بوتين الى سوريا هو فرض بلاده لاعبا أساسياً الى طاولة المفاوضات للحل السوري، وتالياً على الساحة الدولية. ولا شك في أن الاسد مدرك ذلك، لكنه ربما خال نفسه يتعامل مع المعارضة السورية أو في أبعد تقدير مع المسؤولين اللبنانيين، متجاهلاً حيثيات المعادلة الجديدة.
بالطبع لن يقلب بوتين الطاولة على نفسه وينسحب من سوريا . مقاتلاته التي عادت الى قواعدها يمكنها أن تحط في سوريا متى شاء القيصر الحاصل على تفويض مفتوح من الحكومة السورية.
أنظمة “اس 400- ” باقية لتحذير تركيا من محاولة اللعب بالنار. قاعدة حميميم ستبقى محمية روسية ممنوعة على أكبر ضابط سوري، وميناء طرطوس سيظل القاعدة الروسية الوحيدة على المتوسط.
لكنّ الانسحاب الروسي المفاجئ يشكل بالتأكيد ضغطاً على الاسد بقدر ما يوجه رسائل مهادنة للغرب. أما انجازات المغامرة الروسية خلال ستة أشهر فلا ترقى الى مستوى أهدافها المضمرة. صحيح أنها منعت سقوط نظام الاسد، إلا أن المعارضة لم تُهزم وجبهات الكرّ والفر لا تزال مشرعة. هذا ناهيك بأن “داعش” بقي، وإن لم يتمدد.
أهداف أخرى لم تتحقق، ليس أقلها ابتزاز الغرب لرفع العقوبات عن بلاده.أما المنافسة مع واشنطن فلن تُحسم قبل بت المصير النهائي لسوريا.
المهمة لم تنجزْ، الا إذا كانت مثل مهمّة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن في العراق في أيار 2003.
النهار
الانسحاب الروسي… إشارات وحسابات/ عبد الوهاب بدرخان
الأرجح أنه لا تمكن المراهنة على الانسحاب الروسي كتغيير مهم وجوهري. نعم، فيه اشارات لكنها لا تتعلّق بالوضع الميداني، فالقوة الجوية التي قلبت المعادلة لمصلحة النظام باقية في قاعدة حميميم. هو بالأحرى سحبٌ لقدرات عسكرية استقدمت اضافياً وتحسّباً لاحتمالات ثلاثة: توجّه اميركي – اطلسي الى التصعيد، انخراط تركيا في مواجهة واسعة ولو بدعم أطلسي محدود، دخول قوات برّية تركية – سعودية. هذه احتمالات تراجعت الآن، لأن واشنطن لم تحِد عن تفاهماتها مع موسكو، وإنْ كانت الأخيرة هي التي تستخدم تلك التفاهمات بتصرّف مفرط أحياناً، كما فعلت أوائل الشهر الماضي عندما غطّت جويّاً هجمات النظام السوري والميليشيات الايرانية والكردية بالتزامن مع الانطلاقة المفترضة للمفاوضات في جنيف. بعد ذلك تفاوض الاميركيون والروس على وقف لإطلاق النار، وهو ما رفضه الاسد والايرانيون دائماً، ولم يكونوا يحبّذونه على الاطلاق. وبطبيعة الحال لم يُستشَروا قبل انجاز الاتفاق مثلهم مثل المعارضة السورية.
واقعياً، لم يحصل تغيير دراماتيكي يمكن أن يقلق النظام السوري أو ايران. لكن الاعلان الروسي يوم “استئناف” المفاوضات في جنيف، وعلى خلفية هدنة “صامدة” رغم هشاشتها، يضطر دمشق وطهران الى التواضع في طموحاتهما وحساباتهما. هذا ينطبق بالضرورة على أي سيناريوات تعتمدانها لنسف المفاوضات وإسقاط الهدنة للعودة الى خطة الحسم العسكري الشامل. لا يزال بإمكان الاسد والايرانيين القيام بخروقات خطيرة لوقف اطلاق النار، لكن أي تصعيد بهدف الحسم لا بدّ من أن يمرّ بموافقة الروس. وهؤلاء اتفقوا مع الاميركيين على اعطاء فرصة حقيقية للمفاوضات، ولا يريدون أن يكون النظام الطرف الذي يُفشلها. لذلك نبّه جون كيري موسكو الى أن تصريحات وليد المعلم عن “الاسد خط أحمر” و”الانتقال السياسي هو حكومة قائمة يشارك فيها الطرف الآخر” تعبّر عن تصميم مسبق على عرقلة المفاوضات وافشالها، وبادر سيرغي لافروف الى انتقاد تلك التصريحات من دون تحديد، لكن دمشق تلقّت الرسالة.
الجديد في الموقف الراهن ورد عابراً في أحد تصريحات ستافان دو ميستورا، الذي شرح أن المفاوضات ستكون على ثلاث جولات وإذا فشلت سيعاد الملف الى مجلس الأمن. هذا يعني، بالنسبة الى الاسد والايرانيين، أن التفاهمات الاميركية – الروسية تفرض عليهم أقصى احترام ممكن للهدنة وبذل جهد لإنجاح المفاوضات. وهي التزامات فُرضت أيضاً على المعارضة (وداعميها). لكنه يعني تالياً أن ما بعد فشل المفاوضات سيكون شأن اميركا وروسيا أولاً، وبشكل ثانوي شأن “مجموعة فيينا”، قبل الوصول الى مجلس الأمن. قد تشكّل هذه مرحلة المباشرة في اخراج سيناريوات التقسيم أو الفدرلة الى العلن. صحيح أن الاسد والايرانيين لا يرفضونها، بل يرحّبون بها، لكنهم يفضّلون أن تأتي الخطوة الأولى من حلفائهم الأكراد، وهذا حاصل.
النهار
هل يفضي خروج الروس لرحيل الأسد؟ وهل وجد الكرملين نظاماً بديلاً له؟/ إبراهيم درويش
بوتين حقق أهدافه في سوريا… حمى مصالحه العسكرية وجرب أسلحته وقوض المعارضة ودعم النظام
كعادته في اتخاذ قرارات الحرب والسلم فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حلفاءه السوريين والرئيس الأمريكي باراك أوباما بقرار سحب جزئي لقواته العسكرية من سوريا بعد ستة أشهر من التدخل العسكري الذي أضعف المقاومة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد. وجاء قرار بوتين عشية الذكرى الخامسة للإنتفاضة السورية وبدء محادثات السلام في جنيف.
وأثارت خطوة الكرملين عدداً من التكهنات حول توقيتها وفيما إن كانت هروباً سريعاً من الساحة السورية أم أنها محاولة للضغط على الأسد للقبول بتسوية مع معارضيه إن لم تكن تخلياً عنه.
ولن تعرف آثار القرار الروسي إلا بعد مرور وقت غير قصير خاصة أن الروس تحدثوا عن مواصلة للعمليات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية في سوريا من القاعدة العسكرية في حميميم قرب اللاذقية. وكان تبرير بوتين للقرار أن الحملة العسكرية قد حققت أهدافها وأن الجيش السوري تقدم بمساعدة من الطيران الروسي في مناطق واسعة.
وخلال الأشهر الماضية شنت المقاتلات الروسية 9.000 غارة وساعدت في «تحرير» 400 منطقة وبلدة أي ما مجموعه 4.000 ميل حسب تقديرات وزارة الدفاع الروسية.
وفي هذا السياق ترى صحيفة «واشنطن بوست» أن الرئيس الروسي بعد إنقاذه حليفه في دمشق يقوم بالضغط عليه كي يتوصل لصفقة. ونشرت روسيا في سوريا 2.400 جندي. وحتى مع بدء عودة الجنود الروس إلى ثكناتهم فقد قررت وزارة الدفاع الإبقاء على النظام الدفاعي أرض- جو أس- 400 وهذا يعني استمرار روسيا في التحكم بالأجواء السورية.
أي بناء ردع قوي ضد دول مثل تركيا والسعودية والولايات المتحدة التي قد تفكر في إنشاء منطقة حظر جوي على بعض المناطق في سوريا. وتقول الصحيفة إن الحملة الروسية ساعدت في منع خيار تغيير النظام بالقوة وعززت موقعه باعتباره الحليف الوحيد الباقي لموسكو في العالم العربي.
ودفع التدخل بروسيا إلى المسرح الدولي كلاعب مهم بشكل أجبر الولايات المتحدة والدول الغربية على التعامل معها بعد عامين من العزلة بسبب أوكرانيا.
وبعد وقف إطلاق النار في نهاية شباط/فبراير عبر المسؤولون الأمريكيون عن إحباطهم من الروس حيث واصلت القوات السورية هجماتها ضد المعارضة للنظام حتى بعد وقف الأعمال العدائية. وترى الصحيفة أن بدء سحب القوات الروسية أمس الثلاثاء سيفاقم من الضغوط على القادة السوريين للتوصل لاتفاق. وفي الوقت نفسه سيكون لدى القيادة الروسية المرونة لنشر القوات من جديد إن استدعت الحاجة. ويظل قرار بوتين «المتعجل» لسحب «الجزء الأكبر» من قواته غير واضح المعالم ولا التداعيات.
مفاجآت بوتين
وعلقت صحيفة «نيويورك تايمز» في افتتاحيتها «اترك الأمر للرئيس فلاديمير بوتين كي يقوم بإعلان النصر بشكل متعجل في سوريا وسحب الجزء الأكبر من قواته وإعادتهم إلى الوطن».
و»التداعيات غير معروفة وقد تفضي لتحرك بناء نحو تسوية سياسية شاملة. وقد يكون الدافع وراءها حاجة عملية وتعكس رغبة في عدم الولوغ في المستنقع السوري لمدة طويلة.
ومثلما اكتشفت الولايات المتحدة فمن السهل الدخول في حروب ولكن الخروج منها أصعب». وأشارت الصحيفة للرواية الرسمية حول «تحقيق أهداف المهمة» في سوريا.
وقد فوجئ المسؤولون الأمريكيون بتوقيت الإعلان وهم غير متأكدين إن كان تخفيضاً للوجود الروسي فقط أو أنه وقف للغارات الجوية بشكل كامل. ولن يؤثر قرار بوتين على عمليات القاعدة البحرية التي تعمل منذ العهد السوفييتي في طرطوس ولكنه سيؤثرعلى عمل الطائرات من القاعدة الجوية في حميميم.
وتعترف الصحيفة أن التدخل العسكري منح موسكو فرصة كي تستعرض قواتها العسكرية وأجبرت الولايات المتحدة على معاملتها كصنو في البحث عن طرق لحل الأزمة السورية.
وتقدم «نيويورك تايمز» تفسيراً آخر للقرار بأنه محاولة لتجنب التورط في حرب طويلة. وكانت إدارة الرئيس أوباما قد حذرت من «مستنقع» سوريا ونتائج غير محمودة من ناحية استعداء روسيا للسنة في العالم العربي. ومع ذلك فما حققه الروس في سوريا ليس كبيراً، فسيطرة الأسد على البلاد لا تزال ضعيفة وفي الوقت نفسه يعاني الإقتصاد الروسي من أزمة بسبب تراجع أسعار النفط العالمي. ويتوقع أن ينخفض أكثر بنسبة 1% هذا العام.
ويضاف إلى هذا العقوبات التي فرضها الإتحاد الأوروبي على موسكو بعد غزو أوكرانيا وضم القرم. ويظل القرار الروسي محلا للتكهنات فقد يعبر عن ثقة روسية بقدرة الأسد على تحقيق الاستقرار بنفسه ومحاولة للضغط عليه للتفاوض مع المعارضة.
وفي النهاية فالتحرك الروسي لن يترك الأسد وحيداً خاصة أن إيران ووكيلها حزب الله اللبناني لا يزالان يقدمان الدعم له بالإضافة إلى أن روسيا لن تترك سوريا بشكل كامل. ولاحظ المراقبون خلافاً بين الكرملين والنظام السوري حول مباحثات جنيف 3 والتي دفعت لعقدها كل من روسيا والولايات المتحدة وبإصرار. ومن هنا كان على الأسد أن يتبع ما تقوله روسيا خاصة أنه يخشى من فكرة تخليها عنه. مع أن أندرو تابلر، الزميل الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى يشك في فكرة التخلي عن النظام السوري مشيراً إلى قرار بوتين هو محاولة لتحميل الأسد الأعباء العسكرية ودفعه لتلطيف موقفه في محادثات جنيف.
وتقول «نيويورك تايمز» إن روسيا تشعر بالإحباط من الأسد خاصة بعد قيام الأسد وأركان نظامه بإصدار تصريحات لم تعجب الكرملين واعتبرت غير متناغمة مع استراتيجيته وكان آخرها ما صدر عن وليد المعلم، وزير الخارجية السوري الذي اعتبر حكم الأسد «خطاً أحمر».
تكهنات
وتشير الصحيفة إلى أن التكهنات حول التحرك الروسي زادت في الآونة الأخيرة بين الموالين للنظام على مواقع التواصل الإجتماعي إلى درجة دفعت الحكومة السورية لإصدار بيان وضح أن القرار اتخذ بناء على دراسة مكثفة.
واتهمت الحكومة المعارضة بالمسؤولية عن الشائعات حول الإنسحاب الروسي. ولا يخفى أن موسكو حققت عدداً من أهدافها الرئيسية خاصة منع تغيير النظام وملاحقة الجهاديين الروس وتأكيد موقع موسكو في سوريا. هذا بالإضافة لحماية الأسد الذي كان في الصيف الماضي في وضع صعب.
وبمساعدة الطيران الروسي تم ضرب المعارضة السورية وإجبارها على التراجع من المناطق التي سيطرت عليها كما أن الروس أسهموا بقطع خطوط الإمداد عن الجزء الواقع تحت سيطرة المعارضة في حلب وتدمير الطرق المؤدية لتركيا.
وهذه الإنجازات ليست كافية لاستعادة السيطرة على كامل البلاد كما تعهد الأسد إلا أنها تعيد الأمور لحالة الإنسداد في عام 2014 والتي أعطت النظام نوعاً من التفوق على المعارضة. ومن هنا فانسحاب روسيا في صيغته التي أعلن عنها لن تغير من الواقع شيئاً. فبإمكان الطيران الروسي شن غارات لدعم النظام والميليشيات الموالية له. ونقلت «نيويورك تايمز» عن أليكسي ماكاركين، الباحث في مركز التكنولوجيا السياسية في موسكو «كان الهدف هو الحفاظ على النظام بشكل ما وضمان الوجود الروسي بالمنطقة من خلال القاعدة البحرية والجوية». وتعي روسيا تاريخها السابق في التدخلات العسكرية في أفغانستان- في ثمانينيات القرن الماضي- وكلفة الحرب اليومية في سوريا والتي تصل إلى 3 ملايين دولار في اليوم بشكل يؤثر على عافية الاقتصاد المتأثر أصلا بانخفاض أسعار النفط والعقوبات الأوروبية.
وكما علق روجر بويز في صحيفة «التايمز» فلم يحقق الكرملين الانتصار في سوريا، وعليه لن يكون هناك استعراض للنصر في الساحة الحمراء. والسبب هو أن تنظيم «الدولة» السبب الرئيسي وراء دخول روسيا الحرب في سوريا لا يزال يتحرك بحرية في كل من سوريا والعراق. ومجرد الإعلان عن اكتمال المهمة يعني أن تدمير تنظيم الدولة لم يكن في رأس أولويات الحرب الروسية في سوريا. فقد تركز الهجوم الجوي على جماعات المعارضة للأسد وتدمير قوتها العسكرية. واعتبر الروس أي جماعة مرتبطة بـ»جبهة النصرة»- تنظيم «القاعدة» في سوريا- هدفاً للغارات.
والإستثناء الوحيد في الغارات هو قيام الطيران الروسي بضرب مواقع التنظيم في مدينة تدمر التاريخية وفي حالة استعادة قوات الأسد المدينة فعندها سيزعم بوتين بأنه حافظ على الآثار التاريخية من الدمار.
ويسود شعور ترقب وتفاؤل في الوقت نفسه في مناطق المعارضة. ففي مدينة إدلب التي تسيطر عليها مجموعة من الجماعات المسلحة بقيادة «جبهة النصرة» قال مقاتل إنهم وزعوا الحلوى وأطلقوا نداءات الله أكبر من المساجد «هناك فرحة ولكننا لا نعرف ما هو مخبأ لنا» كما نقلت عنه صحيفة «نيويورك تايمز».
وفي حمص نقلت الصحيفة عن فراس قوله «كان الروس رعاة لوقف إطلاق النار» و»سيتركوننا الآن للنظام والإيرانيين وهذه كارثة».
أسباب
وبالمحصلة تنحصر الأسباب التي دفعت الرئيس بوتين إلى سحب قواته في أربعة لخصها بويز في صحيفة «التايمز» وهي التخلي عن الأسد، فسحب القوات يعني دعم موسكو لحكومة انتقالية تقود هذا إلى التخلص من العقبة الكبيرة لنجاح المحادثات وهي الأسد خاصة أن بوتين يعاني من مشاكل معه. وربما قد يكون عثر على بديل له من داخل المؤسسة العسكرية وذات صلات مع المخابرات الروسية. أما التفسير الثاني فيشير إلى انسحاب تكتيكي قبل انهيار المحادثات في جنيف التي تتوقع روسيا فشلها. خاصة أن موسكو تعتقد أن القوات السورية باتت في وضع جيد للتعامل مع المعارضة الضعيفة الآن. وتستطيع موسكو مساعدة الأسد من خلال المخابرات والوحدات الألكترونية والصواريخ طويلة المدى في داغستان.
أما التفسير الثالث فله علاقة بأوكرانيا ورغبة بوتين الإستفادة منها وإقناع واشنطن وحلفائها الغربيين لتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا. كما أن موسكو لا تستطيع خوض حربين في وقت واحد. ويقول التفسير الرابع والأخير أن النفط هو السبب. فتوقيع صفقة مع السعوديين فيما يتعلق بأسعاره قد يخفف من حدة الأزمة الإقتصادية الروسية.
ويخطط الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة موسكو، لكنه ربط زيارته بوقف القصف الجوي في سوريا.
ويرى مسؤول أمريكي نقلت عنه صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أن الولايات المتحدة لا تتوقع انسحاباً كاملاً للقوات الروسية من سوريا في الأشهر المقبلة. وأضافت أن إعلان بوتين سحب قواته جاء من أجل الضغط على الأسد التنحي جانباً والسماح لتشكيل حكومة موالية لروسيا تسلم السلطة.
فرحيل الروس عن سوريا يعني خسارة المناطق التي استعادها النظام خلال الأشهر الماضية. وفي الوقت الحالي لا أحد يريد تصديق أو التعامل مع الإعلان الروسي الأخير بجدية نظرا لتاريخ بوتين في نقضه للعهود. فتعهده بإنهاء تنظيم الدولة لم يتحقق وما قام به طوال الأشهر الماضية هو إضعاف الطرف الوحيد الذي يشكل بديلاً عن الأسد أي المعارضة. وتقول صحيفة «الغارديان» إن أحداً لا يريد النظر ولو بشكل سريع لخريطة الغارات الروسية كي يكتشف «حقيقة» المهمة التي قامت بها موسكو.
ويرى محللون ان هدف تقوية الأسد ومؤسسات الدولة ومنعها من السقوط كما حدث في العراق وليبيا كان ثانوياً للعملية السورية. ويقول المحلل العسكري الكسندر غولتز «لم يرد أحد التعامل مع روسيا بعد أوكرانيا ولهذا فقد كان هدف الحملة في سوريا هو إجبار الغرب للتعامل مع روسيا من جديد» و»تحقق هذا وهم يخرجون من الحرب الآن بأقل الخسائر، أعتقد أن هذا تحرك ذكي».
هل يرحل الأسد؟
وكتب كل من بول مكليري وجون هدسون عن فرص بقاء الأسد. ففي مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» قالا إن خروج الروس قد يقود لحكومة يقودها شخص غير الأسد؟ ويربط الكاتبان هذا السؤال بموقف الحكومة السورية من إعلان المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا حول المفاوضات في جنيف التي قال إنها ستفضي إلى حكومة انتقالية ودستور وانتخابات.
وردت الحكومة في دمشق بالإعلان عن سلسلة من الخطوط الحمر. ومن هنا فالإعلان الروسي يمكن فهمه كمحاولة لإجبار الحكومة السورية على تغيير حساباتها.
ونقل الكاتبان عن أندرو تابلر من معهد واشنطن قوله «يبدو أن روسيا تقوم بإعادة ضبط دعمها للأسد كي يقدم تنازلات على طاولة المفاوضات» و«لم يبد الأسد حتى الآن استعداده التنازل عن أي شيء».
والسبب راجع للتغير في ميزان القوة لصالحه بسبب التدخل الروسي. وعبر الرئيس أوباما وقادة غربيون وإن بشكل خاص عن قبولهم استمرار الأسد في منصبه أثناء الحرب ضد تنظيم «الدولة». إلا أن هذا الموقف أغضب الدول الداعمة للمعارضة كالسعودية وتركيا. ونقل التقرير عن جوشوا لانديز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما إنه استبطن حالة من الثقة بالنفس لدى قادة النظام السوري.
حيث قال إنه تحدث الأسبوع الماضي مع عدد منهم في دمشق وكلهم كانوا واثقين من استعادة كل شبر من سوريا وبدعم روسي.
ويرى لانديز أن خطة بوتين الإنسحاب تعني أنه لا يريد دعم الأسد «حتى النهاية».
ويضيف أن التحرك الروسي لا يستهدف الأسد فقط ولكن الأمريكيين الذين رفضوا التعاون مع موسكو في الحرب ضد تنظيم «الدولة».
وبهذا التحرك يقول الروس للأمريكيين «سنغادر، أما انتم فستبقون متورطين في سوريا». ويقول كريستوفر كوزاك من معهد دراسات الحرب بواشنطن إن بوتين يسعى لتقوية مكتسباته في سوريا والتحكم بمسار المفاوضات في جنيف «يشعر بوتين إنه في وضع للحصول على الحد الأدنى من الفوائد وبأقل ثمن».
وعليه فموقف متشدد من الأسد يؤدي لاشتعال العنف من جديد سيؤثر على هذه المكتسبات. فبقاء النظام في دمشق يعني الحفاظ على المصالح العسكرية الروسية في سوريا خاصة النظام الصاروخي قرب الحدود التركية. في الوقت الحالي حقق بوتين ما يريده من المهمة، وليس الهدف الأصلي أي تدمير تنظيم الدولة. ولم يحصل السوري إلا على سلام هش ومفاوضات لها حظ قليل من النجاح.
تقسيم
وكما ترى صحيفة «التايمز» في افتتاحيتها « سواء عاد الروس من جديد للقصف أم لم يعودوا إلا أن فرص تشكيل حكومة لديها سلطة تنفيذية وتحترم التعددية السياسية هي قليلة». وتضيف أن النتيجة النهائية للعملية السلمية ستكون التسليم بحقيقة أن سوريا لن تبقى موحدة «وفي حالة فشل الأسد تسليم السلطة لحكومة شرعية فالمستقبل البديل هو التقسيم. فتمزيق البلد إلى محمية روسية يحكمها العلويون في اللاذقية ومنطقة سنية ومنطقة كردية يبدو خياراً جذاباً على السطح».
وتشير الصحيفة إلى ما كتبه الأدميرال الأمريكي جيمس ستارفيديس والقائد السابق لقوات الناتو في «فورين أفيرز» الأسبوع الماضي إن التقسيم الرسمي للبلاد سيسمح للمشردين السوريين بالعودة إلى مناطقهم الآمنة.
وتناقش الصحيفة ضد الفكرة قائلة إن تقسيم البلاد سيجعلها أخطر. فالتفجير في أنقرة والذي نفذه على ما يبدو متعاطفون مع حزب العمال الكردستاني يهدف إلى تسريع إقامة كردستان مستقلة.
وأفعال إرهابية كهذه يجب أن لا تكافأ باعتراف دبلوماسي حتى لو انضم الأكراد للتحالف ضد تنظيم «الدولة».
كما أن تفكيك سوريا سيقدم سابقة لتفكيك بقية الدول الضعيفة في الشرق الأوسط. فالوضع أصعب مما يتخيل الواحد منا، ويقول بوتين إنه يريد تكثيف الجهود الدبلوماسية بعد أن بدد ثقة الغرب به. وفي النهاية يجب على كل القوى المسؤولة العمل معاً إن أرادت إنهاء المأساة السورية.
القدس العربي
لعبة «الروليت» الروسية تصيب بشار الأسد؟
رأي القدس
يمكن القول، من دون مغالاة كبيرة، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فاجأ العالم بقراره بدء سحب قواته العسكرية من سوريا.
تبدأ المفاجأة بالطبع من حليف بوتين المفترض، الرئيس السوري بشّار الأسد، الذي تبلّغ القرار باتصال هاتفيّ، وكانت التبريرات التي قدّمها نظام دمشق مثيرة للسخرية حول أن ما حصل «تم بالتنسيق الكامل بين الجانبين» في الوقت الذي كانت فيه مظاهرة بالسيّارات تجوب المدينة الساحلية طرطوس منددة بانسحاب الروس من المدينة، وكانت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي للموالين تضج بمشاعر الوجوم والكرب أو بجمل التعزية الجوفاء من قبيل إنه «ما دام القائدان اتخذا القرار فلا بد أن يكون صائباً»!
والأغلب أن الأمر ينطبق أيضاً على الأمريكيين، وهم شركاء الروس في إدارة عملية المفاوضات بين النظام والمعارضة السوريين، والذين عبّروا في البداية عن شكّهم في انسحاب الروس متبعين ذلك باتصال هاتفي بين الرئيسين باراك أوباما وبوتين يطالب «بتركيز الجهد على التسوية السياسية».
والحقيقة أن انسحاب الروس، وهم من يفترض أن يكونوا خصوم الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، لن يقع موقعاً حسناً على آذان الإدارة الأمريكية، فالاندفاعة الروسية في المنطقة أعفت واشنطن من التصرف، بدءاً من تعهد أوباما الشهير بضرب النظام إذا تجاوز «الخطّ الأحمر»، والذي تمّ طيّه من خلال الشراكة مع موسكو التي رتّبت اتفاق التخلّص من أسلحة النظام الكيميائية، وصولاً إلى سيطرة روسيا على الجوّ وهو ما برّر لواشنطن التحرّر من ضغوط تركيا والدول العربية الراغبة في إسقاط النظام بخصوص المنطقة الآمنة أو التدخّل العسكريّ والحظر الجوّي باعتبار كل ذلك نذرا لـ«حرب عالمية» لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تخوضها بالنيابة عن «حلفائها»، او بإمكان تورطها عبر السماح لهم بالتصدّي للروس.
لكن ما الذي دفع روسيا أصلاً لاتخاذ هذا القرار المفاجئ؟
أول ما يكشف أسباب هذا القرار هو التوقيت الذي صدر فيه والذي تزامن مع بدء اجتماعات جنيف للتفاوض بين النظام والمعارضة، وسبقته تصريحات ناريّة لوزير الخارجية السوري وليد المعلم تعيد الأزمة السورية إلى مربعها الأول بالقول إن «بشار الأسد خطّ أحمر»، وأوضحت التصريحات الأمريكية والفرنسية التي تطالب الروس بإبلاغ الأسد أن رحيل الأسد بات أمرا متفقا عليه مع روسيا… وإيران، ما يحيل إلى علاقة مباشرة بين الانسحاب وتصريحات مسؤولي النظام.
وكانت قد سبقت ذلك تصريحات للأسد تحدث فيها عن رغبته بمواصلة الحرب حتى النهاية، وهو يبدو أمراً خارج السيناريو الروسيّ – الأمريكي، ولابد أن إجراءات أخرى قام بها النظام على الأرض ساهمت في نشوز النظام الكبير عن ذلك السيناريو.
هناك بالطبع أسباب أخرى يمكن الإشارة إليها، من قبيل نفقات الحرب الكبيرة، وتزايد الضغوط الجيو ـ استراتيجية على روسيا عبر الفضاء الأوراسي، وتآكل مصداقيتها في الدول الإسلامية، والعقوبات الأوروبية والأمريكية ضدها، والصراع المكتوم بين الحليفين الروسي والإيراني في مسائل اقتصادية (كعدم التزام إيران باتفاق لرفع أسعار النفط) وسياسية (في سوريا والعراق ولبنان) وعسكرية (موضوع تسليم صواريخ إس 300)، وهو ما أظهره ترحيب إيران بإعلان الانسحاب الروسي.
لكنّ ذلك كلّه لا يفسّر السرعة المفاجئة التي حصل فيها القرار والانسحاب بعد أن كانت روسيا، في مرحلة اشتداد عنفوانها، تتطلّع إلى التدخّل في العراق أيضاً، وصدرت عن مسؤوليها تصريحات إن مهمتها في سوريا مفتوحة… لينتهي كل ذلك بين يوم وليلة.
في مقابلته الأخيرة مع «ذي أتلانتيك» قدّم أوباما الصورة التالية عن بوتين قائلا إنه «مهذّب وصريح جدا» وأن لقاءاته به كانت مثل «اجتماعات البزنس»، ولكنّه عندما وصف روسيا قال إن وضعيتها في العالم «تضاءلت بشكل كبير».
الانسحاب الروسي، على ضوء هذا الوصف، هو جماع شخصيّة بوتين، مع وضعية روسيا. لعبة الروليت الروسية، هذه المرة، أصابت الأسد ولكن، «بتنسيق كامل بين الطرفين»!
القدس العربي
مفاجأة بوتين في جنيف!/ محمد كريشان
جنيف لم تكن بحاجة إلى مزيد من البرد هذه الأيام حتى يقال إن قرار بوتين سحب قواته من سوريا نزل «بردا وسلاما» على المشاركين في المباحثات الحالية حول سوريا أو المتابعين لها من الصحافيين أو المحللين. الخبر قد يكون بعث ببعض الدفء في أوصال وفد المعارضة لكنه الأرجح أنه لم يكن كذلك بالنسبة إلى وفد النظام، لكن في كل الأحوال كان وقعه على الجميع هنا مفاجئا إلى أبعد حد.
حتى الصحافيون الروس الموجودون في جنيف لمتابعة الحدث فوجئوا بالخبر ولم يكونوا قادرين على تفسيره لمن جاؤوهم من الصحافيين الآخرين متلهفين لفهمه أو معرفة بعض خلفياته. شيء واحد فقط فهم هؤلاء الصحافيون الروس دلالته: الآن فقط عرفنا لماذا تعامل معهم رئيس الوفد السوري بشار الجعفري بفظاظة لم تكن معهودة منه تجاههم… و كذلك السفير السوري هنا… يبدو أنهما كان يعرفان أن شيئا ما من هذا القبيل من موسكو على وشك أن يعلن.
كلمة «المفاجأة» هي الأكثر ترددا على ألسنة المحللين والسياسيين في تعليقاتهم الفورية على الحدث الساخن مساء أول أمس، ومن قبل الروس أنفسهم قبل غيرهم، فالمحلل السياسي الروسي ديمتري بابيش على سبيل المثال وصل حد القول إن «موجة من الدهشة عمت الداخل الروسي بسبب هذا القرار المباغت». أما سيرجي ماركوف النائب الروسي السابق فاعتبر أن قرار الرئيس «بوتين مفاجئا من حيث التوقيت لكنه ليس كذلك من حيث الاستراتيجيا» لأن التدخل الروسي، حسب رأيه، لم يكن إلا لإنقاذ الأسد الذي كان على وشك السقوط لكنه الآن قادر على السيطرة على مساحات أفضل بفضل الضربات الجوية الروسية مما يجعل الانسحاب الروسي الآن هدفه «خلق جو جيد في المباحثات في جنيف». أما الدبلوماسي الروسي السابق فيتشسلاف ماتوزوف فاعتبر أن وزارة الخارجية الأمريكية فوجئت بالقرار الروسي مما يدل على أن الخطوة الروسية لم تتم بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية مشددا على أن انسحاب القوات الروسية «فتح الباب أمام حل سياسي حقيقي» وإن رأى أن توقع سقوط النظام نتيجة الانسحاب الروسي «أمرٌ غير صحيح».
أما في الجانب الأمريكي، الذي يرى البعض أنه كان على الأرجح في صورة القرار الروسي، فلم ترصد سوى تعليقات فورية من قبيل ما قالته «وول ستريت جورنال» من أن «مأزق بوتين السوري يوحي بانتهائه» أو اعتبار «فورين بوليسي» أن «الانسحاب السوري قد يمهد السبيل لتنحي الأسد».
بعض المعلقين العسكريين الأمريكيين أشاروا في تعليقاتهم الساخنة فور الإعلان الروسي المفاجئ إلى أن الأيام المقبلة هي الكفيلة بمعرفة عدد القوات التي سيسحبها بوتين بالضبط فهو «من دون شك سيبقي على قواته في قاعدتي اللاذقية وطرطوس حتى أن العديد من المحللين يذهبون إلى أن سبب تدخل بوتين من أساسه هو لحماية قواعده هناك» على حد ما صرح به الجنرال الأمريكي المتقاعد مارك هارتينغ الذي لم يتردد في القول إن «بوتين ربح كثيرا من خلال مساندته للأسد حيث نجح في نسج علاقات جيدة ليس فقط مع الحكومة السورية واستفاد من العلاقة مع إيران والعراق وبدرجة أقل مع بعض الحكومات في المنطقة الذين يرون أنه رجل يعرف جيدا استراتيجيته وقام بعمليات عسكرية وخرج ولم يتعثر كما فعلت الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه قدم لحليفه المساعدة التي يحتاجها ليعود من نقطة الدمار حيث أصبح الرئيس الأسد في موقف أحسن بكثير اليوم مما كان عليه في الستة أشهر الماضية، ومن المستبعد أن تنسحب روسيا بصورة كلية من سوريا وإنما ستُبقي على حضور عسكري هام لدعم حليفها الأسد».
هذا الرأي ينسفه بالكامل الدكتور فواز جرجس أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن حين يقول بلا مواربة «لو كنت محل الرئيس الأسد سأقضي الليلة بلا نوم لأن هذا القرار سيغير ديناميكية المفاوضات (..) وبالتالي ما حدث هو مفاجأة كبرى وصفعة في وجه نظام الأسد وستكون لها عواقب كبيرة على مستقبل الأسد والمسار السياسي في سوريا».
في مباحثات جنيف الحالية حول سوريا التي انطلقت أول أمس ويفترض أن تستمر لعشرة أيام سيكون الإمتحان الأول لمثل هذا الكلام.. فإما أن يبدو وفد النظام السوري متساهلا أكثر من أي وقت مضى أو يتصرف كالنمر المجروح أو يظل يراوح بين المنزلتين لأنه لم يتمكن بعد من إعادة النظر في حساباته في ضوء ما أقدمت عليه موسكو.
إذا لم يتسرب شيء محدد من فحوى مباحثات المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا ومدى تقدمها، فيكفي هذه الحالة رصد مزاج بشار الجعفري وفريقه فهي معبرة للغاية. أحد الصحافيين الغربيين كان على وشك أن يسأله والمسؤول السوري يقف متحدثا إلى الصحافيين عن السبب الذي جعله معكر المزاج هذه المرة إلى هذا الحد، ويضيف هذا الصحافي «حضرت كل الجولات السابقة في جنيف ولم أره أبدا متجهما ومكسورا وعصبيا كما أراه الآن»…
٭ كاتب وإعلامي تونسي
القدس العربي
نظرة من موسكو: بوتين قَصَفَ،قَتَلَ، وقَفلَ عائداً/ بسام مقداد
تصدر خبر الانسحاب الروسي “التكتيكي” من سوريا، كما يصفه موقع “Forbes” الروسي، جميع المواقع الإلكترونية والصحف الروسية، كما في العالم ككل. وللحقيقة، بقي الرئيس الروسي صادقاً مع نفسه، وأميناً لما يقوله. فقد قال في لقاء نادي فالداي في العام 2014، رداً على سؤال حول استيلائه على القرم: “الدب لا يطلب الإذن من أحد”. وهو، بالفعل، لم يسأل أحداً الدخول إلى سوريا، كما لم يسأل أحداً الخروج منها. أما اتصاله بالرئيس السوري بشار الأسد، كما أكد الكرملين نفسه، فكان بعد اتخاذ القرار النهائي في لقاء بوتين مع وزيري الدفاع والخارجية الروسيين، أي كان بمثابة إبلاغ الأسد بالقرار لا أكثر.
لكن القرار بالانسحاب لم يكن وليد الساعة، كما تؤكد صحيفة “كومرسانت” في مقالة مجموعة من محرريها نُشرت الثلاثاء، جاء فيها “تقول مصادر رفيعة المستوى في وزارة الدفاع لصحيفة كومرسانت، أن قرار الرئيس لم يكن عفوياً، إذ إن مثل هذا التطور للأحداث تم بحثه غير مرة في اجتماعات مجلس الأمن القومي”. ويقول كيريل مارتينوف في صحيفة “نوفايا غازيتا” في عددها المؤرخ ب 14 آذار/مارس الحالي: “كنا نتوقع مثل هذا التصريح (بالإنسحاب) في شهر تشرين الأول (اكتوبر)، حتى (كنا نتوقعه) بصيغة مشابهة. ووفق معطياتنا في حينه ( كنا نتوقعه) إذا لم يكن بين أسبوع وآخر، فخلال شهر. مصادر الصحيفة كانت تؤكد: لن تكون هناك حرب طويلة في الشرق الأوسط بمشاركة روسيا. لكن في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) أسقطت تركيا القاذفة الروسية Cy-24 وتحولت (تركيا) في لحظة من الشريك الأقرب إلى الخصم الأسوأ”.
أما ما الذي كانت تتوخاه روسيا من أهداف للعملية، التي تقول صحيفة “كومرسانت” إنها جرت تحت اسم عملية “الثأر”، فإن جميع الصحف والمواقع الإلكترونية تُجمع على أن الهدف الأساسي كان خروج روسيا من عزلتها. فقد كتبت صحيفة “فيدوموستي”، الثلاثاء، أن مهمة الحد الأدنى كانت تتمثل في وضع بداية للعملية السلمية “وقد تم إحرازها”، أما مهمة الحد الأقصى فكانت تتمثل في إخراج روسيا من العزلة، وهي “ما زالت بعيدة المنال”. وتنقل الصحيفة عن عقيد متقاعد أن الحصيلة الرئيسية للعملية الروسية تتمثل في توسيع رقعة المناطق التي تقع تحت سلطة الحكومة السورية، إذ أصبحت تضم 80 في المئة من سكان سوريا (!)
وقد أدت العملية، حسب قوله، إلى اختصار عدد المناطق التي كانت ساحة للمعارك من 12 منطقة إلى “5 أو 6 مناطق”، وذلك “يمنح الجيش السوري فرصة للاستراحة”، والاستعداد لمواصلة الهجوم على “مجموعات الدولة الإسلامية وجبهة النصرة “.
ويقول هذا الخبير، وفق الصحيفة، إن انسحاب القوات الروسية أصبح ممكناً لأنه أمكن إقامة “تعاون عملياتي طبيعي بين الولايات المتحدة وروسيا”.
كان من الممكن أن يكون لدى موسكو منذ البداية خطتان للعمل، كما يعتبر مدير مركز تحليل الإسترتيجيات والتكنولوجيات رسلان بوخوف. خطة الحد الأقصى “الهروب من العزلة والتقرب من الغرب بخوض صراع مشترك ضد الدولة الإسلامية، كما كان الأمر بعد العمل الارهابي في 11 ايلول (سبتمبر) العام 2001. لكن حين تزعزت هذه الخطة بعد العمل الإرهابي في باريس، واتضح أنه، على الرغم من هذه الأحداث، لن يكون هناك من تقارب، تم اختيار خطة الحد الأدنى، التي تقوم على استقرار النظام واطلاق العملية السلمية في سوريا”.
وتنقل الصحيفة المذكورة أيضاً عن خبير المجلس الروسي للشؤون الخارجية (منظمة تأسست العام 20011 بمبادرة من الرئيس الروسي، وتضم وزارة الخارجية واكاديمية العلوم الروسية وسواهما) يوري بارمن، “أن الإعلان عن انسحاب القوات الروسية، قد يكون مرتبطاً مباشرة بالجولة الثانية من المفاوضات السورية التي بدأت في جنيف: القرار الأولي اتخذته روسيا، على الأرجح، بالاشتراك مع الولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية، وكان أحد الشروط (للشركاء السياسيين الخارجيين) بدء سحب روسيا لقواتها من سوريا”. ومن المحتمل “أن يكونوا قد قطعوا وعداً لموسكو بشيء ما مقابل ذلك، لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر”.
وتنقل الصحيفة عن فلاديمر يفسييف من معهد “الدول المستقلة”، أن إيران تنوي أيضاً سحب 2500 عنصر تقريباً من سوريا من اصل 6000 عنصر عسكري. إن سحب القوات الذي بدأ، قد يعطي، بحسب هذا الخبير، فرصاً إضافية للتسوية السلمية.
تقول صحيفة “كومرسانت” إن مسألة استعادة كافة الأراضي السورية إلى سلطة بشار الأسد، كان يمكن أن يمتد لسنوات، مع العلم أنه ليس من ضمانة تؤكد أن المهمة قابلة للتنفيذ. دمشق تعتمد، بالدرجة الأولى على الأقلية العلوية، التي غدت منهكة جراء الحرب. إن هذه المقاربة المتطرفة، التي كان يميل إليها بعض المحيطين ببشار الأسد، كان من شأنها أن تفضي إلى أن تغرق موسكو في حرب على مسرح عمليات بعيد، وأن تثير ضدها لاعبين إقليميين أساسيين، مثل تركيا ودول الخليج. إن موسكو، إذ تعلن عن الانسحاب من الحرب، لها ملء الحق باعتبار نفسها خرجت منتصرة من الحملة السورية، كما تقول الصحيفة.
وتقول الصحيفة عينها، إن رئيس مجلس الدفاع والسياسة الخارجية فيودور لوكيانوف ذكّر الصحيفة بأن “فلاديمير بوتين حذر في المؤتمر الصحافي في كانون الآول (ديسمبر) الماضي، بأنه لا يرى حاجة لوجود القوات الدائم في سوريا. وأن نبدأ الإنسحاب، فهذا لا يعني سحب جميع الوحدات دفعة واحدة. إجمالاً، ينبغي تقييم كل هذا بأنه إشارة إلى دمشق بأننا لا ننوي القيام بكل العمل نيابة عنكم”.
بعض القوى السياسية أيضاً عبّرت عن موقفها من عملية الإنسحاب. فاعتبر رئيس الحزب “الليبرالي الديموقراطي” فلاديمير جيرينوفسكي أن هذا الانسحاب كان مبكراً، ويشبه عملية الإنسحاب من أفغانستان، حيث كان ينبغي في حينها إرسال المزيد من القوات والتقدم إلى باكستان بدلاً من الإنسحاب.
أما زعيم الحزب “الديموقراطي الروسي الموحد” (يابلاكا) غريغوري يافلنسكي، المرشح الجدي الرزين للرئاسة بوجه بوتين، فقد تبنى على حسابه في “فايسبوك” مقالة لعضو قيادة الحزب أندريه بيونتكوفسكي، اعتبر فيها أن ثمة شيئاً ما حدث بين بوتين والأسد، مما اضطر هذا الأخير إلى الإنسحاب على عجل من سوريا. واعتبر الإنسحاب بمثابة هزيمة مجلجلة لبوتين “وشركاءه”، ودعا الأوكرانيين لأن يحذوا حذو السوريين.
بوتين المولع بالمفاجآت../ أيمـن الـحـمـاد
يخلط فلاديمير بوتين أوراق الأزمة السورية من جديد، فالرجل الذي فاجأ الجميع بإرساله قوات روسية إلى سورية في سبتمبر الماضي، ها هو يفاجئ المتابعين للأزمة السورية والمعنيين بها بسحب “الجزء الأساسي” من قواته بعد ستة أشهر، وفي اللحظة التي انطلقت فيها الجولة الأولى من المفاوضات في جنيف زادت وتيرة الضربة العسكرية الروسية، ما أدى إلى إنهاء الجولة من قبل “دي ميستورا” تفادياً لانهيار المباحثات، وفي اللحظة التي بدأت فيها الجولة الثانية من المفاوضات يقوم الرئيس الروسي بإنهاء الحملة العسكرية على سورية!.
ما يدور في رأس بوتين لا يمكن التنبؤ به، هذا ما يخبرنا به مسار الأحداث على الأقل في الأزمة السورية، لكن بالإمكان استنباط بعض الأسباب التي قد تكون دفعت الكرملين إلى اتخاذ هذه الخطوة المفاجئة، فالحملة التي بررتها موسكو بأنها موجهة ضد الإرهاب لم تقض عليه، فمواقع “داعش” والنصرة لم تتأثر بل من تأثر في الحقيقة هي مواقع المعارضة المعتدلة التي يصنفها نظام الأسد بأنها قوات إرهابية، وتضعها موسكو محل اشتباه يرتقي لمستوى الإرهاب.
الهدف الحقيقي من وراء الحملة العسكرية كما يظهر اليوم إلى حد كبير كان تأهيل النظام وإعادة تعويمه؛ ليخوض المفاوضات من منطق القوة لا من منطق الضعف فيحافظ من خلال ذلك على مصالح روسيا الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وبالنسبة لموسكو فنظام الأسد هو الضامن لمصالحها، وهو من يرجّح كفتها في هذه الأزمة، ويمثلها في هذه المفاوضات، وبالتالي فإن الحفاظ عليه كان أولوية تكتيكية، وليست إستراتيجية، بعد ذلك يمكن لنا أن نتساءل: أي السلال سيضع بوتين مصالحه فيها؟ هل سيستمر النظام بنسخة أقل تلوثاً أم سيولد فصيل آخر على أنقاضه؟
الثابت لدى موسكو أنها بالنسبة للسوريين غير مستساغة بعد أن فضلت الاصطفاف بجانب النظام ضد شعبه، ولذا لا مستقبل لها إلا بحليف موثوق.
سورية بالنسبة لروسيا منطقة ذات أهمية جيو سياسية مهمة فهي عملياً ملاصقة لإحدى أهم دول الناتو وهي تركيا، لكن سورية نفسها ليست في المجال الحيوي أو المفضل بالنسبة لموسكو، فالمنطقة بعيدة، و الصراع معقد، والحملة العسكرية وما تجره من تكاليف باهظة للخزانة الروسية أمر لا يمكن احتماله لفترة طويلة، لذا كانت الضربة الروسية عنيفة جداً على حلب وبعض مناطق نفوذ المعارضة المعتدلة والهدف منها تسجيل أكبر عدد من النقاط لصالح النظام في أقل وقت، وكذلك كسر ظهر المعارضة في أهم مواقعها، هنا وضع بوتين النظام في مواقع متقدمة وقد يكون ذلك جزءاً من الاتفاق الأميركي – الروسي بعدم المساس بهذه الترتيبات التي فرضتها روسيا على الأرض نظير انسحابها العسكري من المشهد، وهذا بدوره سيسجل لصالح بوتين من جهة أنه يضغط بذلك على النظام بشكل أكبر، وفي ذات الوقت يدفع بالمسار السياسي الدبلوماسي الذي تريده وتشجعه واشنطن، وينقذ موسكو في الوقت نفسه من الاستنزاف، وهنا يكون الرئيس الروسي قد حوّل ما ظن المتابعون أنها لعبة “روليت روسي” خطيرة للغاية إلى لعبة “ماتريوشكا” تعتمد المفاجأة في كل أجزائها.
الرياض
هل انتهت المغامرة الروسية؟/ مشاري الذايدي
في وقت ماض قال رئيس تركيا رجب طيب إردوغان إن التدخل الروسي في سوريا، سيكون مصيره مثل مصير تدخلهم السابق في أفغانستان، الهزيمة والورطة.
هل يكون الرئيس الروسي بوتين، بسحبه «الجزئي» كما عبر الروس، لقواتهم من سوريا، تجنب هذا المصير؟
راهن كثيرون على انغماس روسيا في الوحل السوري، وجلس الجالسون على ضفة النهر الأسود، يفركون كفوفهم بانتظار مرور جثة الدب الروسي على صفحة الموت السوري.
دخلت القوات الروسية مفاجئة الجميع في سبتمبر (أيلول) الماضي بجلبة وصخب للمشهد السوري، نصرة للنظام، وتحسينا لمواقعه، وكان النظام ومعه ميليشيات سليماني و«حزب الله»، في موقع حرج، لصالح المعارضة. فتغير الميزان لصالح النظام بفعل العسكرية الروسية.
لكن ربما أدرك العقل الروسي لاحقا أن القصة ليست في غارة جوية هنا أو هناك، النهاية الحقيقية للمعضلة السورية تكون بحل سياسي، وليس ببلطجة عسكرية. خطورة الموقف الروسي في سوريا، كما قيل سابقا، هي مغازيه التي تصل للعقول والقلوب، وهي أن روسيا انغمست في الصراع السوري لصالح المحور الإيراني الأسدي، يعني بصريح العبارة، لصالح الشيعة، ضد السنة، فهكذا فهم الناس الأمر، فهل تطيق روسيا تكلفة هذا الانحياز في العالم كله؟
الأمر الآخر التكلفة الاقتصادية الباهظة للتدخل العسكري، الأنباء تقول إن بوتين قرر تخفيض ميزانية الدفاع الروسي بنسبة 5 في المائة خلال العام الحالي. وهو ما لم يحدث منذ عام 2000. أيضا تدني سعر البترول أكثر من 70 في المائة، وتراجع الاستثمارات في الاقتصاد الروسي بدءًا من عام 2012. وتأثير العقوبات الاقتصادية الغربية المتزايد على الاقتصاد الروسي، وقيل أيضا إن رفع سعر البترول صار مطلبا حيويا لموسكو، ولذلك ربما قدمت بادرة حسن نية للسعودية من خلال هذه الخطوة، بانتظار ما ذكر عن زيارة منتظرة للعاهل السعودي إلى روسيا.
صحيفة «التايمز» البريطانية ذكرت عن محللين قولهم إن بوتين قرر التحرك والخروج من سوريا لتجنب التورط بحرب طويلة هناك.
قيل أيضا إن «عناد» وغرور بشار الأسد وموظفيه في الاستماع للنصيحة الروسية، في المفاوضات السياسية بين المعارضة والنظام، أثار غضب سيد الكرملين، وهذه الخطوة محاولة لتذكير بشار بواقع الحال. ففي فبراير (شباط) الماضي، قال ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي إن على «بشار الأسد أن يستمع لنصيحة موسكو».
يبقى أن هذا الانسحاب مهما قيل عن طبيعته ودلالاته، إشارة إيجابية للمستقبل السوري، وأنه لا يمكن هزيمة الحقيقة والحق.
الحقيقة أن أغلب السوريين لن يستسلموا، والحق أن بشار خطير على السلام والإنسانية.
الشرق الأوسط
الانسحاب الروسي من سوريا/ سهى الجندي
ليس تشفيا ولكن
لا يمكن النظر إلى الانسحاب الروسي من سوريا إلا في سياق المفاوضات الدائرة في جنيف، فهو دليل قدمه بوتين على حسن النوايا الروسية، بهدف عدم جعل التدخل العسكري الروسي موضوعا على مائدة المفاوضات، ومن ثم مناقشة الأمور الجوهرية، أي أنها خطوة شكلية، ففي البداية تم فرض الهدنة والآن يأتي الانسحاب الروسي استكمالا لذلك وتمهيدا للدخول في الموضوعات الجادة، ولتشجيع المعارضة السورية على الدخول في المفاوضات وتقديم طروحاتها وتهدئة للعرب الذين بدا غضبهم واستعدادهم للقتال لحماية بلادهم واضحا في الفترة الأخيرة، ولكنه لا يغير شيئا على أرض الواقع، فروسيا لديها قاعدة طرطوس التي تستطيع اسئتناف القصف في أي وقت لزم الأمر. كما أنها يمكن أن تنسحب إلى خلف المشهد، وتعمل بواسطة إيران وحزب الله، وهو ليس بالأمر العسير خاصة بعد أن أضعفت جميع الأطراف المناوئة للأسد.
إن المشكلة الحقيقية في سوريا هي إيران، وهي الدولة العنيدة التي تتمتع بطول نفس عجيب، ولديها من المقاتلين الذين يسعون إلى الشهادة والحور العين في الجنة، كما أن تصدير الغاز الإيراني من خلال سوريا جزء من الأمن القومي الإيراني الذي يستحق التضحية بكل شيء.
على أية حال، فإن وقف النزيف السوري يثلج الصدر، ولكن بقاء إيران في سوريا وسحب سوريا وحزب الله من الصف العربي إلى الصف الإيراني هو ما تأسى له النفس، نظرا لأنه يمد العدو الفارسي ببعد استراتيجي في المنطقة العربية، ويطلق الأطماع الإيرانية فيها، وربما سيجد الأسد يوما ما جماعة من الشيعة المتشددين الذي يحاولون الإطاحة بنظام الحكم وتنصيب نظام ولاية الفقيه، فليس هناك حال يدوم، فإيران موجودة في سوريا بظهير روسي ولها مأربان أحدهما عقائدي والآخر اقتصادي. وسوف تحصل عليهما بالتدريج، خاصة وأن حزب الله أصبح منبوذا عربيا، وليس له سوى التمسك بالدعم الإيراني والتنسيق الوثيق معه على الأرض السورية، لقد أصبح النظام السوري والحرس الثوري الإيراني وحزب الله أسرة واحدة وسوف يعملون معا على ضوء الإرشادات الروسية.
باختصار، إن الانسحاب الروسي لم يغير شيئا على أرض الواقع، فلا زالت روسيا حليف إيران القوي بسبب المصالح الاقتصادية المشتركة، ولا تزال إيران متحالفة مع النظام السوري وحزب الله على أساس عقائدي، ولم تنفرط عرى هذا التحالف، ولكن خطوة الانسحاب هي شكلية لاستئناف المفاوضات، والخروج بغنائم ترضي الجميع ما عدا الشعب السوري.
ايلاف
أسرار الانسحاب الروسي من سوريا: تقسيم سوريا حدث وبقي الإطار/ مجدي الحلبي
يؤكد قرار روسيا الانسحاب من سوريا أن إقامة دويلة علوية على الساحل السوري بات امرًا واردًا، كما يعكس عدم رغبة روسيا بأي مواجهة عسكرية مع السعودية.
القدس: أمر فلاديمير بوتين جيشه بالخروج من سورية في خطوة ترى فيها المصادر قناعة لدى الرئيس الروسي بأن قوات التحالف العربي وفي مقدمتها السعودية لن تتردد في التدخل العسكري الذي أعلنت عنه.
من نافل القول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رجل لا يمكن توقع مفاجآته. فلا أحد توقعه آمرًا قواته الأساسية المنشرة في سورية بالانسحاب من الميادين، وترك الأراضي السورية برمتها. إلا أن مصادر مطلعة قالت لـ«إيلاف» أن في قرار الانسحاب تأكيدًا على أن بوتين كان على قناعة تامَّة خلال الفترة الأخيرة في أن قوات التحالف العربي، وفي مقدمتها المملكة العربيَّة السعوديَّة، على أكمل استعداد لتنفيذ عمليات بريَّة واسعة النطاق ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وقوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد إذا اضطرت لذلك، بهدف تأمين سلامة المناطق السورية في وسط وشرق سوريا.
تضيف المصادر لـ «إيلاف» أن روسيا تتفادى أيَّ صدام عسكريّ مع السعوديَّة، في حال فشلت المساعي الدبلوماسية لحل الأزمة السوريَّة، الأمر الذي دفع بالرئيس الروسي إلى اتخاذ قرار الانسحاب من سوريا، اضافة إلى مجموعة من القرارات الأخرى، بينها مثلا على تقاسم النفوذ بين روسيا والسعودية في سوريا.
هل أعلن بوتين نهاية بشار الأسد والحرب السورية؟
ويقول المصدر الذي تحدث لـ «إيلاف» إن وساطة غربية جرت في الآونة الأخيرة بهدف الاتفاق على تقاسم النفوذ بين روسيا والسعودية من دون أن ينفي حصول تنسيق بين روسيا وأميركية قبيل اعلان روسيا عن قرارها بالانسحاب من سوريا.
الدويلة العلوية آتية
ولا شك أن مستشاري بوتين منكبون على دراسة تداعيات هذا قراره المفاجئ بالانسحاب من سوريا.
يقول مصدر روسي تحدث لـ «إيلاف» إن الأهم بالنسبة للقيادة الروسية الحفاظ على مصالحها ونفوذها في منطقة المتوسط.
يؤكد المصدر لـ «إيلاف» أنَّ تقسيم سوريا وإقامة كونفدراليَّة بات أمرًا واردًا، لافتًا إلى أن مباحثات مباشرة وغير مباشرة تمت مع السعوديَّة.
ولا يستبعد المصدر الروسي لـ «إيلاف» تقسيم سوريا، لافتًا إلى أنَّ احتمال إقامة «دويلة علوية على الساحل» بات امرًا واقعًا، على أن تكون المنطقة مؤمنة من روسيا، بحيث تحافظ هناك على مصالحها وأسطولها ومطاراتها العسكرية.
مصير الأسد
ورفض المسؤول الروسي تسمية رئيس للدولة العلوية التي ستقام على الساحل السوري، مؤكدًا أن «لا خطوط حمراء لدى روسيا تجاه من يرأس هذه الدويلة»، ولافتًا إلى أن مصير الأسد تقرره الانتخابات والاتفاقيات التي من الممكن ان تعقد بين أطراف النزاع السوري وبرعاية دولية.
من جانب آخر، تؤكد مصادر موثوقة لـ «إيلاف» أنَّ الرئيس السوري تبلغ قرار روسيا بالانسحاب عبر وسائل الإعلام ومن دون أي تنسيق مسبق، ما شكل صدمة للقيادة السوريَّة.
هل نام الأسد ليلتها؟/ طارق الحميد
مثلما فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم بتدخله عسكريا في سوريا، فاجأهم مرة أخرى بإعلانه الانسحاب جزئيا من هناك، والسؤال هنا ليس لماذا أعلن الروس هذا الانسحاب الجزئي، فمن المبكر معرفة التفاصيل، خصوصا أن العالم انتظر مطولا لفهم الأسباب الحقيقية للتدخل، وإنما السؤال هو: هل نام بشار الأسد ليلة ذاك القرار؟
القراءة المتأنية لبياني الكرملين والنظام الأسدي تظهر فروقا جوهرية، البيان الروسي يبدأ بعبارة مختلفة عن البيان الأسدي، حيث يقول الروس، وبحسب «روسيا اليوم» إن بوتين أجرى اتصالا بالأسد: «ليبحث معه سير تطبيق الإعلان الروسي الأميركي حول وقف الأعمال القتالية في سوريا»، وهذا ما لم يشر له البيان الأسدي! وذكر البيان الروسي أن بوتين «أقر بأن القوات المسلحة الروسية قد نفذت المهمات الرئيسية التي كلفت بها، وتم الاتفاق على سحب الجزء الأكبر من مجموعة الطيران الحربي الروسي من سوريا، مع إبقاء مركز مكلف بضمان تحليقات الطيران في سوريا، وذلك بهدف مراقبة تنفيذ شروط وقف الأعمال القتالية». ونقلت «روسيا اليوم»: «كما أشار بشار الأسد إلى استعداد دمشق لبدء العملية السياسية في البلاد، بأسرع ما يمكن».
بينما استهل البيان الأسدي بالقول: «إن روسيا تعهدت بمواصلة دعم سوريا في مجال محاربة الإرهاب، وجاء ذلك بعيد إعلان موسكو عن بدء سحب القوات الرئيسية من هناك الثلاثاء». مضيفا أنه: «بعد النجاحات التي حققها الجيش العربي السوري بالتعاون مع سلاح الجو الروسي في محاربة الإرهاب، وعودة الأمن والأمان لمناطق كثيرة». اتفق الجانبان خلال اتصال بين الأسد وبوتين «على تخفيض عديد القوات الجوية الروسية»، مع تأكيد روسي على استمرار دعم سوريا. ومن خلال البيانين، يتضح أن الروس يتحدثون عن أنهم قرروا، بينما الأسد يتحدث عن اتفاق، وتعهد بالدعم، مما يظهر أن الأسد يحاول تفسير القرار الروسي لتطمين أتباعه، وإخفاء قلقه، ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن المتحدث باسم الكرملين قوله: إن بوتين «وبقرار من جانب واحد، ومن دون أي طلب من قبل الأسد» قرر سحب القوات، مضيفة، أي الصحيفة، أن قرار بوتين: «رسالة حادة مفادها أن دعم روسيا للأسد ليس بلا حدود».
ولذا فإن القلق لن يلازم الأسد وحده، بل و«حزب الله» الإرهابي، وإيران، وقادم الأيام سيحمل مزيدا من التفاصيل، سواء كان الانسحاب الروسي حقيقيا أو مناورة، أما الأكيد فهو أن الأسد مذعور، ومثله «حزب الله». كما أن إعلان بوتين أن قواته «نفذت المهمات» سيذكرنا مطولا بإعلان جورج بوش الابن «بأن المهمة قد نفذت»، بينما الدمار متواصل من أفغانستان للعراق. وعليه فإن القادم سيكون أكثر تشويقا، خصوصا مع كثرة التصريحات لمحاولة تفسير الانسحاب الجزئي، إن صدق، بينما الحاضر يقول إن ليلة الأسد وحسن نصر الله كانت سوداء كأفعالهما.
إعلامي و كاتب سعودي ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الّشرق الأوسط”
الشرق الأوسط
قرار «بوتين» المفاجئ وما بعده في سوريا/ ياسر الزعاترة
ليس من العسير القول إن الصراع السوري بات من أكثر الصراعات تعقيدا في العالم خلال العقود الأخيرة، بخاصة في أعوامه الثلاثة الأخيرة بعدما دخلت على خطه قوى كثيرة جدا، وإن بقي الخيط الإسرائيلي حاضرا في مجمل الحسابات الدولية المتعلقة بالصراع.
مساء الإثنين، فاجأ بوتين العالم بقرار سحب الجزء الرئيسي من قواته في سوريا، تاركا العالم يتخبط في فهم القرار وأبعاده وأهدافه، حتى مضت ساعات طويلة على إعلان القرار، من دون أن يصدر من إيران؛ الحليف الأهم لروسيا في سوريا وغيرها أي تعليق، باستثناء تعليق لجواد ظريف كان أشبه بتحليل اضطر إليه في مؤتمر صحفي، فيما يعلم الجميع أن الملف السوري ليس بيده أصلا، ولا بيد روحاني.
في خلفيات القرار يمكن القول إن بوتين ومنذ اللحظة الأولى كان خائفا من تورط طويل في سوريا، وجاء بطء التقدم ليؤكد مخاوفه، لا سيما أنه يدرك تمام الإدراك حقيقة النوايا الأمريكية حياله، والغربية عموما، والتي ترى في تورطه في سوريا فرصة لاستنزافه ورد الإهانة التي وجهها لهم في أوكرانيا.
وهنا يستحضر كثيرون قصة الطائرة السورية المقاتلة التي أسقطت بصاروخ حراري، وإمكانية أن يجري تسريب مضادات طيران للثوار تعيد تشكيل ميزان القوى، وتستعيد في ذاكرة الروس حكاية “ستينغر” في أفغانستان، والتي كانت مقدمة للهزيمة.
لكن تدهور أسعار النفط كان عاملا آخر شكل ضغطا على أعصاب بوتين، وحيث لا يحتمل الاقتصاد الروسي تورطا مكلفا في سوريا.
في السياق السوري، يبدو من العبث تصديق قصة “تحقيق التدخل لأهدافه” التي وضعها بوتين في معرض تبرير القرار، اللهم إلا إذا أخذناه في سياق من تقديرات سابقة، تقول إن هدفه هو تأمين ممرات الدويلة العلوية، وهنا يمكن القول إن شيئا من ذلك قد تحقق، وصار بوسع العلويين أن يحصلوا على دويلة، أو كانتون ضمن خيار فيدرالي لم يعد يخفى على أحد أنه بات مطروحا في الأروقة الدولية، ولا يمانع فيه؛ لا الأمريكان ولا الروس أنفسهم (يؤمن نفوذهم وقاعدتيهم العسكريتيين)، وإن اعتبره الإيرانيون والأتراك خطرا كبيرة لجهة تهديد الأكراد في كليهما بالانفصال.
أما التفكير في حسم عسكري شامل، كما يحلم بشار، وربما سليماني أيضا، فثمنه كبير جدا لا يمكن احتماله.
أن يأتي القرار الروسي عشية بدء مفاوضات جنيف، فلذلك دلالته دون شك، وبالطبع في ظل غطرسة الخطاب الذي قدمه وليد المعلم، وسيده من قبل، والذي يتحدث عن الصراع، كما لو كان صراعا مع وائل الحلقي (رئيس الوزراء)، وليس مع النظام برأسه وبنيته الأمنية والعسكرية الطائفية، وهنا يمكن القول إن بوتين أراد الضغط على النظام، وعلى إيران أيضا كي يتعاملوا مع المفاوضات بروحية من يبحث عن النجاح وليس الفشل؛ معولا على انتصار مقبل بالقوة الروسية. بل إن الدوائر المقربة من النظام السوري لم تتردد في الاعتراف بذلك بكل وضوح.
هل يعني ذلك أن الانسحاب كان جزءا من صفقة روسية مع الأمريكان؟ من الصعب قول ذلك، فالانسحاب كان مفاجئا لواشنطن، لكن التفاهمات الأمريكية الروسية على الحل تبدو صحيحة، وهي لا تعجب النظام ولا إيران، وقد لا تكون مرضية للسعودية وتركيا أيضا.
ماذا يعني ذلك كله؟ يعني إننا صرنا في المرحلة الأخيرة من الصراع في سوريا، لكن هذه المرحلة قد تكون صعبة وطويلة؛ ومفتوحة على الاحتمالات أيضا في ظل تعقيدات المشهد على الأرض، بوجود قوى يصنفها العالم إرهابية، بينما هي ذات حضور مؤثر وكبير، وفي ظل رفض إيراني تركي لفكرة الفيدرالية.
بعد سنوات من الموت والتدمير من التهجير، سيكون من العبث الاعتقاد أن النظام سينتصر، لكن أوهام بشار ومحافظي إيران لا زالت تدفعهم للمزيد من المغامرة.
لو كان هناك بعض العقل والرشد في إيران، لأمكن التوصل إلى تفاهم بينها وبين السعودية وتركيا على حل مقبول لسوريا واليمن ولكل الملفات العالقة، بدل منح الوصاية والتأثير لمن لا يريدون خيرا بالمنطقة وأهلها، لكنها لعنة الغطرسة وغرور القوة التي ستصطدم بالجدار المسدود دون شك، بخاصة أن التطورات في اليمن تمضي في غير صالح إيران، فيما يتحول المأزق في العراق إلى صراع بين القوى الشيعية نفسها، وليس مع تنظيم الدولة وحسب، فضلا عن مأزق حزب الله الكبير في لبنان.
المصدر | الدستور الأردنية
في تفكيك اللغز!/ د. محمد سليمان أبو رمان
فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أول من أمس، الجميع بقرار سحب أغلبية القوات الروسية من سوريا، مع الإبقاء على القاعدتين العسكريتين هناك. وبدا القرار مثلما أن يكون فريق متقدما بنتيجة 7-0، ثم يقرر المدرب فجأة الانسحاب من المباراة!
بالطبع، ما تزال التكهنات والتسريبات طازجة، وهنالك تساؤلات في العمق لمحاولة التعرف على الأسباب التي تقف وراء هذا التطور المفاجئ، في خضم استئناف محادثات جنيف، والتشدد الملحوظ الذي بدا عليه موقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عشية انعقاد المحادثات، عندما أعلن رفض طرح موضوع الانتخابات الرئاسية، معتبرا أنه لا يحق لأحد الحديث عنها، مكتفيا بالموافقة على إجراء انتخابات نيابية.
فيما قلل رئيس الوفد السوري بشار الجعفري، من حجم أي “تنازلات” أو تفاهمات ممكنة مع المعارضة السورية، رافضا في الأصل طرح مصطلح “المرحلة الانتقالية”.
يأتي موقف بوتين، إذن، وكأنه فرمل تماما الموقف السوري في جنيف، وأحرج ممثلي النظام هناك، وقوى من الحالة المعنوية للوفد المعارض، بخلاف الدور الروسي العسكري الذي جاء ليقلب الموازين العسكرية، ويرجح كفة النظام الذي كان على وشك الانهيار عشية التدخل العسكري الروسي، بالرغم من دعم حلفائه الإيرانيين وحزب الله.
هل حقق الروس أهدافهم بصورة كاملة، بما يبرر ما حدث، كما جاء في الديباجة الإعلامية للبيان الروسي؟
بالتأكيد لا؛ فهناك جزء كبير من المهمة العسكرية في سوريا لم ينجز بعد. بل إن الروس تخلوا عن الدور العسكري نسبيا، بدرجة كبيرة، في ذروة التحضيرات لاستعادة تدمر، وغداة تصريح مثير للجدل لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حول تقاسم أدوار بين الروس والأمريكيين في سورية لمواجهة “داعش”.
إذن، ثمة حدث طارئ مفاجئ قلب الموقف الروسي، أو بعبارة أدق دفع ببوتين إلى توجيه رسائل قاسية إلى الرئيس السوري بشار الأسد.
فما هو هذا التطور أو السر؟
إلى الآن، التسريبات الوحيدة المتاحة، وهي التي تقترب بنا كثيرا من تفكيك “اللغز الروسي”، جاءت عبر مقالين في صحيفة “السفير” البيروتية القريبة من النظام السوري، لكاتبين على درجة مهمة من الإطلاع. الأول، هو الإعلامي المعروف سامي كليب. والثاني، محمد بلوط، الذي يحصل على مصادر معلومات أمنية سورية جيدة في العادة.
التحليلان يتوافقان على أن هناك خلافا روسيا-سوريا حول ملفات حيوية وأساسية.
وربما أضيف إلى ذلك تباينا روسيا إيرانيا أيضا، في مقدمة ذلك عدم ارتياح النظام السوري لتوقيت وقف إطلاق النار، الذي جاء في مرحلة المبادرة والتقدم لدى الجيش السوري والإيرانيين وحلفائهم، ما أوقف الخطط الطموحة بتحقيق انتصارات عسكرية على الأرض، في كل من حلب والجنوب وريف حمص.
الأمر الثاني، وهو على درجة أكبر من الأهمية، شعور الروس بموقف سوري معاند ومتشدد للغاية في محادثات السلام في جنيف، والشعور بنشوة الانتصارات الأخيرة، ما جعل النظام السوري يرفض ما يعتقد أنها أفكار روسية.
في ظني، وهنا يأتي دور العامل الإيراني، أن الرئيس بوتين شعر بأن تصريحات وزير الخارجية وليد المعلم، والتشدد السوري في المفاوضات، وقبل هذا الرفض الصريح المعلن لفكرة الفيدرالية التي طرحها الروس بصورة غير مباشرة؛ كل ذلك يعكس الموقف الإيراني المهيمن على القرار السوري، أي أن الخلاف العميق ليس سوريا-روسيا، بل إيرانيا-روسيا.
لا تخفي مصادر دبلوماسية عربية أن هناك تذمرا إيرانيا من تجاهل طهران في التفاهمات الروسية-الأمريكية الأخيرة من جهة، ووجود تسريبات ومعلومات -لدى المصادر نفسها- بأن هناك خلافات عميقة روسية-إيرانية على المرحلة المقبلة، وتقاسم النفوذ وكلفة التدخل العسكري الروسي.
على كل، النتيجة الوحيدة لهذا التطور هي أنه أعاد خلط أوراق اللعبة السورية، وفتح الاحتمالات على مصراعيها.
المصدر | الغد الأردنية
الاسد يحزم حقائبه/ ساطع نور الدين
من المبكر الافتراض ان الرئيس بشار الاسد شرع في توضيب حقائب السفر إستعداداً لمغادرة الرئاسة والعاصمة، لكن الارجح ان الفكرة راودته للمرة الاولى عندما تلقى مساء الاثنين ذلك الاتصال الهاتفي المفاجىء من نظيره الروسي فلاديمير بوتين يبلغه فيه من دون سابق إنذار أنه قرر سحب قواته من سوريا.
ثمة تقارير دبلوماسية سابقة تفيد بان تلك الحقائب جهزت مرة واحدة في إعقاب مجزرة الكيماوي في صيف العام 2013، عندما قرر الرئيس الاميركي باراك اوباما معاقبة الاسد، فظنّ النظام يومها انه مهددٌ بحرب أميركية شبيهة بغزو العراق، قبل ان يتبين أن العقاب لن يتعدى قصفاً اميركياً بالصواريخ البعيدة المدى لبعض المواقع الصاروخية السورية في محيط دمشق. وهو ما تراجع عنه أوباما بعد أيام..
هذه المرة، يبدو ان توضيب الحقائب لن يكون داهماً، ولن يقتصر على رأس النظام وأسرته ومحيطه المباشر. القرار الروسي المدوي يهز بكل تأكيد قيادة الجيش السوري برمتها، ويضعها أمام حقيقة نهائية هي ان دوره العسكري الحالي قد بلغ ذروته لأن الحرب بشكلها الحالي قد إختتمت.. وما لم يكن بالامكان إسترداده في الاشهر الخمسة الماضية بغطاء روسي تام، لن يكون بالامكان إستعادته بعد اليوم.
وبهذا المعنى، فان روسيا اعلنت بالامس أنها قامت بالحد الاقصى من الغارات الجوية والصاروخية وأرتكبت من المجازر وعمليات التطهير ما لم يوفر للجيش السوري سوى فرصة إسترداد بعض البلدات والقرى في ريف حلب وقرب الحدود مع تركيا، وفي توسيع نطاق الحماية الامنية لمنطقة الساحل السوري.. على الرغم مما يقال اليوم عن تحضير وحدات من ذلك الجيش للعمل تحت الامرة والتغطية الروسية من اجل شن هجوم وشيك على تدمر وطرد تنظيم داعش منها.
البيان الروسي الذي يعلن الانسحاب لا يسقط مثل هذا الاحتمال، ولا يستبعد ايضا هجوماً مشابهاً على الرقة، يحظى بتغطية جوية اميركية. فالحرب على داعش ستظل مستمرة لسنوات طويلة مقبلة. وثمة ما يوحي بانها بدأت للتو. لكن الجبهات الاخرى من الحرب السورية دخلت في مسار جديد: هدنة دائمة تخرق يوما وتترسخ أياماً، بالتوازي مع دفع استثنائي -روسي – للحل السياسي الذي يؤدي الى تغيير جذري في بنية النظام ورموزه.
يمكن للقرار الروسي ان يختزل باعتباره صفعة قوية لبشار الذي تصرف بصلافة منذ إعلان موسكو وواشنطن عن الهدنة في نهاية الشهر الماضي، وحاول التمرد على وقف النار ولا يزال، ثم تحدى قرارات مجلس الامن الدولي عندما حدد موعداً للانتخابات النيابية الشهر المقبل، ثم إستبق إرسال وفده الى جنيف بالتحذير من تجاوز الخط الاحمر الذي يمثله مصير الاسد، والتلويح بالانسحاب من المفاوضات بعد أربع وعشرين ساعة فقط.
لكن تأديب الاسد لا يحتاج الى اكثر من إستدعاء عاجل الى الكرملين، كما جرى في مستهل الحملة العسكرية الروسية في نهاية ايلول سبتمبر الماضي، وتوجيه تنبيه شخصي مباشر له بضرورة الالتزام بالتوجيهات السياسية الروسية، التي تترجم المعاهدة العسكرية الموقعة في حينه بين البلدين، والتي وصفت بأنها أشبه بمعاهدة انتداب رسمي روسي على سوريا، لم تسجل في الامم المتحدة، لكنها لم تواجه إعتراضاً جدياً من أي دولة في العالم.
لعل سلوك الرئيس الروسي الفظ ساهم في التوصل الى هذا الاستنتاج المتسرع، الذي يعني ان بوتين غضب من الاسد فإتصل به وأبلغه انه سيخرج من سوريا فوراً! الثابت ان بوتين لا يكن أي ودٍ او إحترامٍ للاسد، وهو لم يرسل قواته الى سوريا لابقائه رئيساً الى الابد، بل لمحاولة تفادي إنهيار الجيش والدولة والمؤسسات السورية، وتجنب الفوضى العراقية او الليبية او اليمنية.
ربما كان هذا هو بعض ما جرى بالامس بين موسكو ودمشق.. مع ان قرار الخروج من الحرب السورية، لا يمكن ان يصدر الا عن رئيس عاقل، ولا يمكن ان يبلغ إلا بهذا الشكل لرئيس مجنون، يرفض الاعتراف بان موعد السفر قد حان.
المدن
في معاني الانسحاب الروسي/ علي حماده
بداية لا بدّ من القول إن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن مساء امس بسحب الجزء الاكبر من القوات الروسية من سوريا على خلفية أن العملية العسكرية أنجزت اهدافها، أتى مفاجئا لكل الاطراف، أكان في سوريا أم خارجها. ربما كانت الولايات المتحدة كما سيتضح في ما بعد، الطرف الوحيد الذي قد يكون بوتين أخطره بالقرار، استنادا الى التناغم الكبير في موقف القوتين العظميين حيال الأزمة السورية.
ثمة سؤالان يطرحان الآن:
– هل حققت روسيا أهدافها من العملية العسكرية؟ الإجابة الاولية تفيد بنعم، اذا ما اخذنا في الاعتبار الاهداف الموضوعية التي يمكن أن تكون القيادة الروسية وضعتها أساسا. فالتدخل العسكري الروسي أدى حتى الآن الى تحقيق جملة أهداف، أولها أنه أبعد شبح سقوط نظام بشار الاسد بالوسائل العسكرية، وخصوصا أنه عشية بدء التدخل كانت منطقة جبال العلويين والساحل في وضعية عسكرية سيئة للغاية، وقد أعلن المسؤولون الروس في ما بعد أن النظام كان على شفير الانهيار، وذلك على الرغم من كثافة الدعم الايراني، إما مباشرة عبر “الحرس الثوري”، وإما بطريقة غير مباشرة عبر ميليشيات شيعية استقدمت من لبنان، العراق، باكستان وافغانستان. أما ثاني الأهداف التي حققتها موسكو فكان انتزاع دور مركزي في منطقة الشرق الاوسط عبر البوابة السورية، تركيز وجودها المستقبلي، فضلا عن مصالحها في سوريا. أما ثالث الأهداف فهو إطلاق مفاوضات سياسية ستكون طرفا مقررا فيها مع الولايات المتحدة.
السؤال الآخر المطروح: ماذا وراء توقيت الاعلان؟ لا معلومات موثوقا بها حتى الان، لكن في الفترة الاخيرة برزت مؤشرات لخلافات بين النظرة الروسية الى مجمل الازمة والحل، ونظرة كل من نظام بشار الاسد والقيادة الايرانية. ففي مقابل استعجال روسيا في استثمار زخم التدخل العسكري للجلوس الى طاولة المفاوضات، برز موقف عبرت عنه مواقف بشار ومعاونيه، بعضها تحدث عن هدف استعادة كل الاراضي السورية (أي الحسم العسكري)، وبعضها الآخر ذهب الى الاعلان عن إجراء “انتخابات تشريعية” في نيسان المقبل (من خارج جدول المفاوضات)، وبعضها الثالث رسم خطا أحمر من دون مصير بشار في المرحلة المقبلة. وفي الخلاصة، يمكن القول إن قرار موسكو سحب القسم الاكبر من القوات اليوم يعكس قرارا على تنفيذ خطة خروج آمنة، فيما جرى تحقيق أهداف مهمة لروسيا من دون التورط اكثر. لا شك في أنه من المبكر رؤية جميع جوانب القرار الروسي، كما انه من المبكر تقدير معنى “سحب القسم الاكبر من القوات الروسية” ومداه، فضلا عن مفاعيل القرار لجهة استمرار أعمال القصف أو توقفها.
إن الايام المقبلة ستكشف أكثر، كما أنها ستدفع جميع الاطراف الى إعادة تقويم مواقفها على طاولة المفاوضات، وفي الميدان على حد سواء.
النهار
أية خلفيات تقف وراء سحب القوات الروسية من سوريا؟/ سامي كليب
حين قررت موسكو الانخراط عسكرياً على نحو مباشر في سوريا، كان القرار ثمرة قمة بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. الشيء الوحيد الذي فاجأ الرئيس الأميركي آنذاك، كان توقيت إرسال الطائرات الروسية والذي أبقاه نظيره الروسي سراً. الآن يأتي القرار الروسي بسحب القوات من سوريا ابتداءً من اليوم، نتيجة اتفاق بين موسكو وواشنطن أولاً ثم تم إبلاغ الآخرين به وفق معلومات دقيقة وموثوقة.
ماذا في خلفيات القرار؟
& يأتي القرار في السياق الطبيعي لاتفاق بوتين وأوباما على رفع مستوى ضغط كل طرف على حلفائه لإنجاح مفاوضات جنيف. الرئيس الأميركي بحاجة لتحقيق إنجاز سياسي في سوريا قبل مغادرة البيت الأبيض، والرئيس الروسي يريد تخفيف الأعباء العسكرية ورفع العقوبات الأوروبية عنه والإفادة الى أقصى حد من فترة السماح الأميركي. كان هجوم أوباما عبر مقابلته مع «اتلانتيك» على السعودية وتركيا في هذا السياق. «جاء موقف بوتين الآن كثمن مقابل وكموقف مكمّل لموقف أوباما»، وفق مصدر في الأمم المتحدة.
& سحب بوتين بقراره هذا ورقة كان معارضوه الغربيون والخليجيون وفي المعارضة السورية يشددون عليها. كانوا يقولون إن دخول قواته هو الذي عرقل الحل وغيّر المعادلات. هو إذاً يريد تسهيل الحل السياسي وإحراج الخصوم.
& سحب أيضاً ورقة من أيدي حلفائه السوريين والإيرانيين. فهو يرى أن تشددهم في التفاوض ناجم عن تغيير المعادلة العسكرية. يبدو أن التقييم العسكري الروسي مختلف عن تقييم طهران. الأولى، ترى ضرورة استكمال الحسم، والثانية، تفضل الحصول على ثمار بالسياسة والمصالحات. هذا بالضبط ما دفع روسيا الى مفاجأة الحلفاء قبل الخصوم بالاتفاق مع الاميركيين على وقف العداوات. لكن المصادر الأممية ترى ان ما قام به بوتين قد يساعد لاحقاً في تقريب المواقف بين إيران والسعودية.
& يدرك بوتين أن رغبته بتسهيل الحل السياسي ستجذب إلى موسكو دول الخليج والمعارضة السورية وتسمح لأوباما بالاستمرار في تسليم مفاتيح الحل له. لكنه لا يريد خسارة الثقل الأكبر لموقعه في المنطقة عبر تحالفه مع الرئيس بشار الأسد وإيران. حصل أكثر من اتصال مع الأسد والقيادة السورية، وجرى الاتفاق على إصدار بيانين، أولهما من الكرملين وبعده مباشرة يصدر بيان عن الرئاسة السورية. لم تستسغ القيادتان الروسية والأميركية موقفي دمشق والمعارضة حيال مصير الأسد. روسيا تقول إن هذا الأمر متروك للشعب السوري وهي بالتالي ربما انزعجت من كلام الوزير وليد المعلم من أنه «لا يحق لدي ميستورا ولا لغيره الكلام عن انتخابات رئاسية لأن الأسد خط أحمر»(من هو هذا «الغير» المقصود). ويبدو أن واشنطن وجهت لوماً عنيفاً للمعارضة حين قال كبير مفاوضيها محمد علوش «إن المرحلة الانتقالية تبدأ برحيل الأسد أو بموته».
ماذا بعد خطوة بوتين؟
+ ليس صحيحاً ما ورد في البيان الروسي من أنه «تم تنفيذ أغلب مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة» فالحرب لا تزال ضروساً والتهديد لا يزال كبيراً. بدا الأمر وكأنه «جزرة» من بوتين للمعارضة وداعميها، بأن القتال ضدها انتهى وأن ما بقي هو محاربة «داعش». هذا يعني رسم خطوط تماس سياسية بدلاً من خطوط التماس العسكرية. يرغب بوتين من خلال ذلك بفرض حضور المعارضة الأخرى والأكراد في مفاوضات جنيف لاحقاً، ولعله يقبل لاحقاً بمشاركة بعض المقربين من جبهة «النصرة».
+ ليس معروفاً حجم ما سيتم سحبه عسكرياً من قبل الروس. فالقاعدتان العسكريتان في طرطوس وحميميم باقيتان. والدفاع الجوي سيستمر في التحرك ضد «داعش». لكن هل سيندرج ذلك لاحقاً في إطار تحالف أوسع يضم روسيا وأميركا وأطرافاً إقليمية عدة بينها إيران والسعودية وتركيا وغيرها؟ هذا ممكن إذا ما حصل بوتين على ضمانات أميركية.
+ ماذا لو دخلت إسرائيل على الخط؟ هي الآن تشعر براحة أكبر. الدول العربية وضعت عدوها اللدود «حزب الله» على لائحة الإرهاب. علاقتها مع بوتين ممتازة. وهي قلقة من نقل أسلحة استراتيجية إلى الحزب. فهل تستغل القرار الروسي بالانسحاب من سوريا للمضي في قرار الحرب؟ هذا ممكن حتى لو أحرج أوباما.
+ هل إيران مرتاحة للقرار الروسي؟ الأكيد لا. فهي أولاً ستواجه ضغوطاً كبيرة للانسحاب من سوريا، وثانياً ستجد نفسها أمام احتمالين، إما الاستمرار في الحرب ما يعني وضعها مجدداً أمام مواجهة محتملة مع تركيا (برغم اتفاقهما مؤخراً) والسعودية (التي مهدت للأمر بمناورات حفر الباطن)، وإما الانكفاء والقبول بخطوط التماس السياسية التي تشي بالفدرالية وربما أكثر. فالقرار الروسي يفسح في المجال واسعاً أمام احتمال إقامة دولة كردية بموافقة أميركية. قد يكون هذا الأمر من بين أسباب الانسحاب الروسي.
لا شك أن بوتين فاجأ الجميع بقراره الذي يريد من خلاله تسهيل المفاوضات وكسب الخصوم، لكن لا شك أيضاً أن قراره يعيد فتح الملف السوري على الاحتمالات كافة. يبدو أنه في الوقت الراهن يعطي الأولوية للاتفاق مع أوباما حتى ولو غضب الحلفاء. لاحقاً قد يغير رأيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن كل ما قام به لم يغير رأي خصومه وخصوم حلفائه. حين يصبح الحسم العسكري مبرراً حتى ولو أنه صار مستبعداً الآن.
السفير
انسحاب روسي «جزئي» يفاجئ واشنطن.. ويضغط على دمشق تفاوضياً، بوتين يتموضع سورياً: «جنيف» بدلاً من الـ”سوخوي”/ محمد بلوط
إعادة تموضع روسي، أو انسحاب تدريجي من سوريا، في لحظة إطلاق عملية سياسية، متعثرة كما يبدو بوضوح من عودة الشروط المسبقة في جنيف، يراهن الروس عليها لاستكمال الإمساك بقرار السلم، بعد الحرب في ميادين الضفة الشرقية للمتوسط حيث دخلت الحرب السورية عامها السادس.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فاجأ من دون شك دمشق، بالإعلان عن «سحب القوة الرئيسية» من الحشد الروسي الجوي، بعد أن أسهم إلى حد كبير، بالعودة إلى جنيف، وخصوصاً، وهذا الأهم بقلب المعادلة الميدانية في سوريا، ودفع الجيش السوري، للخروج من الحصون التي بدأت تضيق حوله في الصيف الماضي، داخل خطوط سوريا المفيدة، وبعد غزو المجموعات المسلحة، تركياً وسعودياً، لإدلب وجسر الشغور.
وقال مسؤولون أميركيون إنهم لم يتلقوا أي إشعار مسبق لقرار بوتين البدء في سحب جزء من القوات العسكرية من سوريا، وعبّروا عن دهشتهم من الإعلان المفاجئ الصادر عن موسكو.
وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تناقش هاتفياً مع بوتين حول «الانسحاب الجزئي» للقوات الروسية.
وبرغم أن الروس أعلموا السوريين مسبقاً، وقبل 24 ساعة، من نشرهم نبأ سحب القوة الرئيسية إلى الإعلام، إلا أن التدبير الروسي، في توقيته وحجمه يظل مفاجئاً، خصوصاً أنهم كانوا قد نقلوا قبل ثلاثة أيام من الإعلان عن سحب جزء من قواتهم، سرباً من 10 طوافات مقاتلة، فيما تحتشد أعداد كبيرة منها في مطار الـ «تي فور» شرق حمص، لرفع وتيرة العملية ضد تنظيم «داعش» في تدمر، وطرده من المدينة.
ويبدو القرار متناقضاً تماماً مع إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن «امتلاك موسكو دلائل عن وجود عسكري تركي داخل الأراضي السورية»، أو تقرير وزارة الدفاع الروسية الذي تحدث عن عشرات قوافل الأسلحة والذخائر التي تتدفق إلى الشمال السوري، من تركيا، بعد أن أعلنت الوزارة أنها قامت بتدمير مستودعات أسلحة وذخائر أمضت المجموعات المسلحة خمسة أعوام في تخزينها، وهي عناصر كلها تحمل على الاستنتاج أن القرار الإنسحابي وليد الساعات الأخيرة وتطوراتها، مؤكداً وصول التباين بين موسكو ودمشق مرحلة متقدمة، خصوصاً أن التواجد في سوريا لا سقف زمنياً له، كما كشف عن ذلك الاتفاق الموقع مع دمشق في 26 آب الماضي، ما يزيد من حدة التساؤلات.
والأرجح أن التعايش الروسي – السوري حول أهداف هذه العملية وأثمانها السياسية قد وصل مرحلة حرجة، خصوصاً أن القرار جاء أحادياً، وصدر من موسكو، وليس بشكل متزامن أو متفق عليه بين دمشق وموسكو.
ويقول مصدر روسي إن السوريين لم يُظهروا مرونة كافية في الأسابيع الماضية في مقاربة المطالب الروسية بالانخراط في العملية السياسية. إذ يربط الروس، كما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، مطلع آذار الحالي، بين إجراء الانتخابات التشريعية في 13 نيسان المقبل وبين إشراك المعارضة فيها، برغم أن الكرملين عاد في ما بعد ليرى ، ورداً على مواقف أميركية وسعودية، أن إجراء انتخابات تشريعية سورية، في قلب مفاوضات جنيف، لن يعرقل هذه المفاوضات.
ويقول مصدر روسي إن بوتين اعتبر الإعلان عن إجراء تلك الانتخابات، في يوم الإعلان عن الهدنة في 28 شباط الماضي، تجاهلاً لخريطة الطريق التي تبنتها موسكو وواشنطن في فيينا. وكان جلياً أن توقيت الهدنة، في ذروة تقدم الجيش السوري في ريف اللاذقية، وشمال وشرق حلب، وبدء إحكام الطوق على المدينة، وإغلاق الحدود والمعابر مع تركيا، كان تنازلاً غير مفهوم من السوريين، فضلاً عن أنهم كانوا يرفضون الهدنة بأكملها.
والجيش السوري، الذي كان يعيش قبل «عاصفة السوخوي» مرحلة تراجع نحو حصونه التقليدية، كان سيجد الهدنة خطأ استراتيجياً، وكبحاً لديناميكية بدأت تحقق إنجازات كبيرة، وتحوّل مناطق المجموعات المسلحة إلى مجرد جيوب معزولة يمكن إسقاطها، واستراحة للمقاتلين الذين بدأوا يعيدون تنظيم صفوفهم، وبناء قوتهم العسكرية. وجاء كلام فيتالي تشوركين في الأمم المتحدة، على مداخلة الرئيس السوري بشار الأسد أمام نقابة المحامين وإشارته إلى أنه لم يلتزم بالسياق الروسي، نقداً علنياً للخيارات الروسية، بعدم التوقف في منتصف الطريق، في حين تلوح بشائر النصر.
وإذا كان الموقف الروسي يعبّر عن حاجتهم إلى أفق سياسي لعمليتهم ويبدون أكثر استعجالاً من السوريين، للانخراط في العملية السياسية، وقد لا يتمسكون بالخطوط الحمراء التي تحدث عنها الوزير وليد المعلم، فإن موقف الأسد في التمسك بالانتخابات التشريعية، وبرؤية متوازنة إلى الحل السياسي لا تخضع لجنيف واحد وتسليم الموقع السوري لتركيا والسعودية وقطر ومجموعاتهم، ويحمل الموقف في طياته، حتى إزاء الحليف الروسي، إرادة الاحتفاظ بالقرار السوري المستقل برغم أن البدائل عن الروس صعبة وغير متوفرة. ويتقاطع الإعلان الروسي مع وصول نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى طهران برفقة وفد عسكري رفيع غير معتاد.
كما أن القرار يتجاوز بكثير ما قيل في حاشيته، سواء البوتينية عن «تنفيذها غالبية مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة» أو في ديباجة وزارة الدفاع من أن القوات الروسية في سوريا قتلت ألفي إرهابي روسي. وهي ديباجة توجه رسالة مزدوجة إلى الداخل الروسي، الذي تعصره العقوبات الاقتصادية تدريجياً، وتهديدات الإرهاب، معيداً الحرب على الإرهاب إلى مقاييس لا تسمو إلى ما كان الروس يتحدثون عنه في بداية «عاصفة السوخوي» عن حرب على كل الفصائل التي ترفع السلاح في وجه الجيش السوري. كما أن في طيات القرار طمأنة للخائفين من انزلاق روسي في الحرب السورية.
وتقول مصادر سورية إن الروس لم يباشروا حتى الأمس بسحب أي من طوافاتهم وقاذفاتهم الـ120 في قاعدة حميميم الجوية، فيما تقول واشنطن إنها لم تلحظ أي تغيير في قاعدة حميميم حتى الأمس. وكان لافتاً أن الهدنة انعقدت بعد عشرة أيام من لقاء سعودي – فنزويلي – روسي – قطري لتثبيت كميات الإنتاج النفطي، ومحاولة رفع أسعار النفط، التي قفزت من 28 دولاراً للبرميل الواحد، فور دخول الهدنة حيز التنفيذ في 28 شباط، الى 41 دولاراً أمس، وهو مؤشر على ارتباط الاتفاق الرباعي، لا سيما الروسي السعودي بمسار الهدنة، التي أوقفت انهيار المجموعات المسلحة في سوريا.
ولكن إخلاء الجزء الأكبر من القوة الرئيسة يعني بشكل خاص، الاستغناء عن عدد غير محدد حتى الآن من القاذفات من بين 12 «سوخوي 23»، وعدد مماثل من الـ «سوخوي 24» و6 قاذفات «سوخوي 30»، التي تتمركز 30 منها في حميميم، بالإضافة إلى الطوافات المقاتلة التي تشكل الأسراب الأساسية في توفير الإسناد الجوي لعمليات الجيش السوري، والتي أسهمت من 10 تشرين الأول، تاريخ إطلاق الحملة الجوية الروسية، وحتى هدنة 28 شباط في تغيير مسار الحرب في سوريا لمصلحة الجيش السوري.
ولا يشكل بقاء سربين من الـ «سوخوي 30 و35»، إضافة إستراتيجية لعمليات الجيش السوري، وهي الأسراب التي قال الروس إنها كُلفت بالبقاء في سوريا، لأن مهامها تقتصر على اعتراض أو تدمير أي هدف «تركي»، وتأمين حماية قاعدة حميميم، مع صواريخ الـ «اس 400» وقاعدة طرطوس البحرية، وهي أهداف روسية، لن تؤمن إذا ما تم الانسحاب أي ميزة إستراتيجية تقارَن بعمل القاذفات، ولأنها تنقل العملية الروسية من حالة الهجوم الإيجابي إلى حالة الدفاع.
كما أن الانسحاب الروسي، إذا نُفذ على نطاق واسع، يتحول إلى عنصر ضاغط لإجبار دمشق على تقديم تنازلات سياسية، للاستجابة للصفقة التي يبدو واضحاً أن التفاهم الروسي – الأميركي يقوم عليها، والتي ترفد حتى الآن قاعدة متينة لوقف إطلاق النار. ويجابه الجيش السوري مخاطر أكبر أمام انسحاب القاذفات الروسية الذي لا يزال حتى اللحظة غير مؤكد، إذ إن عشرات الآلاف من الجنود السوريين تدفقوا على عشرات الجبهات للقتال، وخرجوا من حصون المناطق التي خبروا الدفاع عنها خلف بيئة حاضنة، وانتشروا في أرياف حلب وحمص وحماه واللاذقية، وجزئياً في الجنوب، بفضل الإسناد الجوي الروسي.
ولكن السوريين يؤكدون أنهم لا يخشون الانسحاب الروسي، ويقللون من حجمه وأهميته، إذ تقول مصادر سورية رفيعة إن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، تحدث قبل الإعلان عن القرار مع المسؤولين العسكريين، وطمأنهم إلى أن تقليص الوجود الجوي الروسي لن يكون كبيراً، وأن العمليات الجارية، لا سيما في تدمر، لن تتأثر بالإجراءات التي ستكون محدودة جداً. وقال لمسؤولين في دمشق إن «الإعلان كان ضرورياً إعلامياً، لتبرير عودة بعض القطع الجوية والبحرية»، فيما قال مصدر سوري إن اكثر من 70 في المئة من القوة الروسية الجوية ستبقى في حميميم لمواصلة مهامها.
وكان لافتاً الربط بين إعلان الانسحاب وبين جواب الأسد لبوتين «عن استعداد دمشق لبدء العملية السياسية في البلاد بأسرع ما يمكن، معرباً عن أمله أن تثمر المفاوضات التي بدأت في جنيف بين الحكومة السورية وممثلي المعارضة نتائج ملموسة». إذ لا تزال المفاوضات السورية في مرحلة الاختبار الأولي، من دون أن تتغير المواقف، أو تتبدل المقاربات والمطالب التي أدت إلى إسقاط الجولات الماضية.
ويتكتم الوفد الرسمي السوري على ورقة عمل، عنونها رئيس الوفد الحكومي السوري بشار الجعفري، «بعناصر أساسية لحل سياسي» في سوريا، وقُدمت إلى الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، في أول لقاء للجولة الحالية للمفاوضات.
وبدأ يتبلور للمرة الأولى تقارب روسي ـ أميركي – أممي وسوري حكومي، حول خريطة فيينا المثلثة: حكومة موسعة، تعديلات دستورية، وانتخابات تشريعية ورئاسية، واعتبارها صالحة للبحث والتسوية، مع ضرورة البحث في آلياتها ورزنامتها. وكان وفد الرياض قد عقد خلوة مطولة في فندقه للتوصل إلى ورقة مضادة، لكنه لم يخرج، بحسب مصادر «ائتلافية»، سوى بعناوين معروفة تتمسك ببيان جنيف واحد، وضرورة البحث في حكومة انتقالية، ترفعه إلى السلطة في دمشق، من دون الانخراط في العملية السياسية، التي يكاد يتفق عليها الروس والأميركيون، وتتعاطى معها الحكومة السورية بإيجابية.
وللمرة الأولى أيضاً، أوضح دي ميستورا، أمام الوفد الحكومي السوري، أن المعارضة السورية لن تكون ممثلة بوفد الرياض، ولكن بوفدين، يضم الآخر منهما وفد «الديموقراطيين العلمانيين»، فيما بات مؤكداً أن الجولات الحالية لن تشهد أي حضور كردي.
السفير
« لماذا سحب «بوتين» قواته من سوريا؟
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
هزت موسكو سوريا مرة أخرى ولكن هذه المرة من خلال تركها. يتباهى الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» بأن جيشه قد وفي مهمته في محاربة الإرهاب الدولي، وأمر وزير دفاعه ببدء انسحاب القوات الجوية الروسية من البلاد التي مزقتها الحرب، بداية من اليوم الموافق 15 مارس/أذار 2016 ولكن مثل هذه الخطوة غير المتوقعة من المرجح أن تثير العديد من الأسئلة حول الاستراتيجية الروسية.
وتدخلت روسيا في سوريا لعدة أسباب. وكان الهدف المعلن هو محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيرها من الجماعات المتشددة التي انضم إليها الكثير من المواطنين الروس إضافة إلى مواطني دول الاتحاد السوفييتي الأسبق. على الرغم من أن روسيا أن ركزت جل اهتمامها على المعارضة التي تقاتل ضد النظام السوري وليس على مقاتلي «الدولة الإسلامية»، فليس هناك من ينكر أن روسيا ساهمت بالفعل في إلحاق أضرار جسيمة بالجماعات المتشددة خلال الأشهر الماضية.
وبسبب هواجسها حول تدخلاتها الفاشلة سابقا، فقد أرادت روسيا أن تثبت للعالم لاسيما إلى الولايات المتحدة أن بإمكانها تثبيت أقدامها سياسيا وعسكريا خارج حدودها. كان الكريملين يريد أن يسمع صوته. خلال الأسابيع الأولى التي تلت بداية التدخل الروسي في سوريا، قلل الرئيس الأمريكي من تحركات الروس وأكد أن روسيا تتصرف من موقف ضعف وأن تحركاتها لا تنم عن قوة. خلال الأشهر التالية، قامت روسيا جنبا إلى جنب مع إيران بتعزيز استقرار النظام السوري والقوات الموالية له. بالإضافة إلى ذلك، فإن مشاركتها في سوريا ورغم محدوديتها قد أعطتها الفرصة لإعادة تقديم جيشها المطور بعد إصلاحه لتبرهن على تعافيه من حالة الاضمحلال التي أصابته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
رغم إعلانها الانسحاب، فإن روسيا لن تترك سوريا بشكل كامل. على الرغم من أن موسكو قد أشارت إلى أنه سوف يتم سحب التجمع الجوي الرئيسي لها، ونظرا لأنه لا يوجد تاريخ انتهاء للانسحاب، فقد جعلت من الواضع أنها سوف تبقي القاعدة الجوية باسل الأسد قرب اللاذقية والقاعدة البحرية في ميناء طرطوس قيد العمل. قد تكون روسيا تعاني اقتصاديا ولكن كلفة العمليات في سوريا، التي تبلغ بضعة ملايين من الدولارات يوميا، من إجمالي ميزانية دفاع تقدر بـ50 مليار دولار، هي أمر مقبول جدا بالنسبة إلى واحد من أكبر المنفقين على صناعة الدفاع في العالم. في الواقع فإن مشاركة روسيا في الصراع قد حفزت صناعاتها الدفاعية من خلال إبرام عدد من العقود مع المشترين الأجانب الذين أعجبوا بالأسلحة الروسية الجديدة. ومع ذلك، فإنه من الجدير بالذكر أن هناك البعض في روسيا ممن يضعون في اعتبارهم حجم تكلفة الالتزام المفتوح تجاه النظام السوري، وربما يكون هؤلاء قد مارسوا ضغوطا على الحكومة من أجل تقليص عملياتها. الشعب الروسي يؤيد بحماس عمليات بلاده في سوريا طالما أنها لا تقتل الكثير من الروس. إنهم ببساطة لا يريدون أفغانستان أخرى.
وربما يكون «بوتين» قد قدم هذا الإعلان في إطار رغبته في تغيير النظرة إلى سلوك روسيا في سوريا. ولكن إلى أي حد؟ هل ترتب موسكو لصفقة أكبر ليس فقط في سوريا وإنما مع القوى الغربية في أماكن أخرى؟
وبالنظر إلى توقيت الانسحاب، فإن «بوتين» على ما يبدو يسعى إلى إعادة تشكيل أحدث جولة من مفاوضات السلام التي بدأت يوم 14 مارس/أذار فى جنيف. في ما يسمى جهد الفرصة الأخيرة للتوصل إلى اتفاق سلام، فإن وفودا من النظام السوري والمعارضة يجتمعون مع مبعوثين للأمم المتحدة هذا الأسبوع. قدم النظام السوري عرضا سياسيا للأمم المتحدة يوم الاثنين في الوقت الذي دعت فيه المعارضة روسيا إلى استخدام نفوذها على النظام خلال المفاوضات. مع تقليص عملياتها الميدانية فإن روسيا ربما تضع نفسها في موضع الحكم أو أنها بالفعل قد توصل إلى صفقة مع النظام سرعان ما سيتم الكشف عنها. وفي كلتا الحالتين، فإن الكرملين يسعى لربط مستقبل الصراع السوري مع رغبته في كسب النفوذ في أماكن أخرى.
يمكن أن تكون موسكو أيضا تعيد تشكيل دورها في الصراع من أجل تحويل الأنظار إلى ما بعد سوريا. أحد الأسباب التي ربما تكون قد دفعت روسيا إلى التدخل في المنطقة من الأساس هو تحقيق مكاسب مع الغرب بشأن قضية أكثر حتمية لموسكو: وهي أوكرانيا والعقوبات الغربية ذات الصلة. فشلت موسكو في استخدام نفوذها في سوريا لأجل زحزحة دعم الولايات المتحدة لكييف أو لرفع العقوبات المفروضة عليها بسبب أنشطتها في القرم وشرق أوكرانيا. يعرف الكرملين أيضا أن كلا الجانبين قد توقفا عن إحراز أي تقدم في مفاوضات «مينسك» المتعلقة بالوضع هناك. ومع ذلك، فإن النفوذ الروسي، على الأقل في أوروبا، قد نما خلال الأشهر الأخيرة في الوقت الذي استمر فيه اللاجئون السوريون في التدفق إلى القارة العجوز. إذا غيرت روسيا عملياتها في سوريا، فإن ذلك يمكن أن يبطئ رحلة المهاجرين. يمكن لروسيا أن تأمل ليس فقط في تشكيل مساهمات إيجابية في المفاوضات السورية فحسب، ولكن أيضا في حل أزمة المهاجرين في الاتحاد الأوروبي.
في الأشهر المقبلة، يمكن لروسيا محاولة تبديد المناخ السلبي الذي يحيط بها، استباقا للتصويت الحاسم في يوليو/تموز من قبل الاتحاد الأوروبي بشأن تجديد العقوبات. وعقب الاجتماع الرسمي الأول بين وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بخصوص السياسة الروسية منذ أكثر من عام، فقد قالت إيطاليا والمجر (كلا البلدين تتعرضان لضغوط روسية مكثفة) في 14 مارس/أذار، أن تجديد العقوبات على روسيا لن يكون أمرا تلقائيا. وحيث يتطلب التصويت على تمديد العقوبات إجماعا داخل الاتحاد الأوروبي، فإن روسيا تحتاج إلى مخالف واحد يرفض العقوبات وهو الأمر الذي فشلت في تأمينه سابقا.
تقوم روسيا بالمزج ما بين استراتيجيات متنوعة ذات مخرجات متعددة دون أي نتائج مضمونة. الشيء الوحيد المؤكد هو أن موسكو ستواصل المناورة في هذه المنطقة المتغيرة للعالم.
المصدر | ستراتفور
نهاية المهمة: لماذا تقوم روسيا بسحب قواتها من سوريا؟
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
في 14 مارس/أذار الجاري أعلن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» أنه سيسحب الجزء الرئيسي من القوات العسكرية الروسية التي قام بنشرها في سوريا قبل 6 أشهر. وسوف تحافظ روسيا على قدرتها على العمل من خلال قاعدة حميميم الجوية في سوريا جنوب شرق اللاذقية ومن القاعدة البحرية العريقة في طرطوس، وكلاهما تعهد «بوتين» بحمايتها من البر والبحر والجو. وبالتالي، فإن الوقت لا يزال مبكرا جدا لإدراك أثر الانسحاب الروسي من سوريا، وبالتأكيد فإنها سوف تحتف بقدرتها على إعادة الانتشار في حال أرادت ذلك.
الآن، ومع ذلك، فإن الأهداف التي تم تحديدها من قبل وزارة الدفاع للعملية العسكرية قد تم إنجازها، وأن الأوان قد آن من أجل أن تعمل الدبلوماسية. فكيف يفكر «بوتين» إذا؟
لا يمكن أن يكون هذا القرار هو مجرد خطوة تهدف إلى توفير المال، على الأقل في المدى القصير. لم تكن تكلفة العمليات في سوريا باهظة على النحو المتخيل وهي في كل الأحوال تتراوح ما بين مليار إلى ملياري دولار سنويا. كان بإمكان «بوتين» أن يستمر في حملته الجوية لعدة أشهر أخرى دون أن يواجه صعوبات تذكر، رغم أن كل مبلغ متوفر يبقى مهما نظرا للحالة المتردية للاقتصاد الروسي. انخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 3.7% خلال عام 2015، كما فقد الروبل نصف قيمته في مقابل الدولار خلال عام 2014، وهناك دلائل على فترات متقطعة من السخط في شكل إضرابات واحتجاجات.
وكجزء من خطة شد الأحزمة الحكومية، كان «بوتين» قد أعلن بالفعل عن تخفيضات في ميزانية الدفاع، والذي قال عنه «سيرغي شيميزوف» رئيس تكتل الأسلحة الروسية روستك، والمقرب من «بوتين»، أن نسبته قد تصل إل 10% خلال العام المقبل. وسوف تكون الحرب المفتوحة في سوريا مكلفة. ونظرا للصعوبات الخطيرة التي تواجه الاقتصاد الروسي، بفعل انخفاض أسعار النفط ثم بفعل العقوبات الغربية، فإن «بوتين» لديه جميع الأسباب التي تدفعه من أجل تجنب عبء حرب طويلة الأمد.
الأهم من ذلك هو أن «بوتين» بإمكانه أن يعلن انتصاره من دون التعرض لخطر التورط في مستنقع الشرق الأوسط. حققت الحملة الجوية الروسية الكثير من الأهداف بما في ذلك منع انهيار حكومة الرئيس السوري «بشار الأسد»، وتمكينه من استعادة قدر جيد من الأراضي التي فقدتها قواته لصالح جيش الفتح وبخاصة في محافظات إدلب وحلب. وقد كان لروسيا حصة استراتيجية في سوريا يعود تاريخها إلى منتصف الخمسينيات، وقد ضمن «بوتين» حماية هذا النفوذ من خلال تدخله العسكري.
كما أجبرت تحركات «بوتين» المعارضة السورية على قبول وقف إطلاق النار الذي دخل إلى حيز التنفيذ في 27 فبراير/شباط واكتسب مكانا على طاولة المفاوضات في روسيا، وفرض على الولايات المتحدة عدم تجاهل مصالح بلاده. وقد أجبر الولايات المتحدة أيضا على التخلي عن موقفها الأصلي بعدم إجراء أي محادثات سلام في وجود «الأسد». الاحترام والمكانة، وخاصة في نظر الولايات المتحدة، هو أكثر ما ترغب فيه روسيا.
وبدلا من أن ننظر إلى الانسحاب الروسي على أنه نصر لـ«بوتين»، ربما يكون من الأفضل أن يتم النظر إليه كحالة فوز متبادل خصوصا إذا استمر وقف إطلاق النار وتم النجاح في التوصل إلى إرساء لأسس تسوية سياسية. توقف الضربات الجوية الروسية هي أيضا أنباء جيدة للشعب السوري الذي عانى بشكل مفزع من القصف الروسي الذي بلغ حد استهداف المستشفيات في المناطق التي يسيطر عليها المعارضة.
ويمكن للانسحاب الروسي أيضا أن يعزز من فرص صمود وقف إطلاق النار. من ناحية، فإنه سوف يقلل طموح «الأسد» في جني المزيد من المكاسب العسكرية مع افتقاره للدعم الجوي الروسي. ومن ناحية أخرى، فإن قرار «بوتين»، حال التمسك به، فإنه سوف يمنع فرص حدوث اشتباك عسكري جديد بين روسيا وتركيا وهو السيناريو الذي يمكن أن يتصاعد بسرعة.
من الناحية السياسية، يخبرنا قرار «بوتين» أنه على الرغم من الحديث المتزايد حول وجود حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة، فإن البلدين قد تعاونا بشكل وثيق من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في سوريا. كان «بوتين» دوما يرغب في أن يتم التعامل مع روسيا كقوة عظمى وخصوصا من جانب الولايات المتحدة. وقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى وصول العلاقات الروسية الأمريكية إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة. ولكن في سوريا، فإن وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» ونظيره الروسي «سيرغي لافروف» قد عملا معا جنبا إلى جنب حتى الآن بشكل جيد.
وعلاوة على ذلك، فإنه يدل على أن العلاقات هي أمر مهم. ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك باجتماعات «كيري» و«لافروف» و«الحميمية» التي تظهرها صورهما معا والتي تأتي متناقضة بشكل صارخ مع اللقاءات الفاترة بين «بوتين» و«أوباما». في النظام الروسي، حيث تعتمد السياسة على شبكات غير رسمية بين الحلفاء المقربين من «بوتين» أكثر مما تعتمد على أنشطة المؤسسات كما في الولايات المتحدة، فإن تحقيق نتائج سياسية إيجابية يتوقف على الكيمياء الشخصية بشكل كبير. ما ننتظر أن نراه هو كيف ستكون هذه المخرجات قادرة على الصمود.
وأخيرا، فإن هناك بعض الجمهوريين في الولايات المتحدة يروجون أن «بوتين» قد فاز من جديد ونجح في تحقيق أهدافه في سوريا ونجح في محاصرة الولايات المتحدة. وهم يلقون اللوم في ذلك كالمعتاد على ضعف سياسة «أوباما» الخارجية. ولكن قرار «بوتين» في سوريا قد تكون محصلته النهائية في صالح «أوباما» بأكثر مما قد تكون ضده. ما يهم «أوباما» الآن هو إذا ما كان الانسحاب الروسي سوف يساهم في التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم في سوريا والذي يمكن أن يمهد الطريق في النهاية لإنهاء الحرب التي أودت بحياة أكثر من 300 ألف شخص وشردت 5 ملايين إلى لاجئين بخلاف المشردين في الداخل. في ضوء هذه الحقائق الرهيبة، فإنه إذا كان للدبلوماسية أن تعمل في نهاية المطاف في سوريا فإن ذلك سوف يكون مكسبا للجميع.
المصدر | فورين أفيرز
« ما الذي ربحه «بوتين» من تدخله العسكري في سوريا؟
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
عندما بدأت حملة القصف الروسية في سوريا الخريف الماضي، كان يمكن للمرء أن يصدق أن أعمال موسكو سوف تبدأ أخيرا في كشف المزيد عن السياسة الخارجية للبلاد. والآن أثبت هذا الافتراض صحته في أعقاب إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انسحاب القوات الروسية الرئيسية. تصرفات موسكو خلال الأشهر الستة الماضية في سوريا قد ساهمت في توضيح مبادئ السياسة الخارجية الروسية وكيف تتعامل مع المشاكل شديدة التعقيد في الشرق الأوسط.
أولا، لماذا بدأت العملية الروسية في سوريا؟ هناك أجوبة كثيرة لهذا السؤال ولكن في النهاية هناك جواب رئيسي واحد بدأت روسيا عمليتها في سوريا استجابة لطلب رسمي سوري. مرة أخرى، يمكن للمرء أن يجادل كثيرا حول أسباب التصرف الروسي ولكن روسيا كانت حريصة على اتباع إجراءات القانون الدولي والمحلي. وكان من المنطقي إذن أن إعلان الانسحاب سوف تعقبه أخبار الشكر والثناء من «الأسد» لروسيا على دعمها. لقد تم كتابة الكثير حول كيف أن مبادئ نظام ويستفاليا قد فقدت أهميها بصورة كبيرة وكيف فقدت الدول، كجهات فاعلة، الكثير من أهميتها في العلاقات الدولية. ولكن، في الصراع السوري، كما في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن الدول تظل مهيمنة. وقد أظهرت تصرفات روسيا فاعليتها في التعامل مع الدول وفقا للقانون الدولي وليس وفق ما تقتضيه الشعارات.
ثانيا: أثبتت موسكو أن قدراتها العسكرية أكثر تطورا مما كان متوقعا. أنصار القوة الناعمة والدبلوماسية العامة يمكنهم أن يجادلوا كيفا شاؤوا ولكن القوة العسكري هي أمر لا غنى عنه لمن يريد أن يمتلك كلمة مسموعة في عالم السياسة. وقد سبق أن قال الرئيس «أوباما» مقولته التي أثارت جدلا واسعا بأن روسيا هي مجرد قوة إقليمية دون أن يسمي المنطقة أو الإقليم الذي تعمل فيه. ويبدو واضحا أننا نحتاج إلى قدر كبير من الخيال من أجل اعتبار روسيا قوة إقليمية شرق أوسطية في الوقت الذي لا يزال فيه الكريملين قادرا على استعراض قوته العسكرية هناك. يمكن للمرء أن يشكك في أن روسيا قد حققت كل أهدافها ولكن من الصعب أن يجادل بأن العملية الروسية هي التي فرضت شروط وقف إطلاق النار الحالي.
ثالثا: توفر تصرفات روسيا أدلة عديدة على أهمية المصالح الوطنية وأن البلاد لا تتصرف وفق أحلام متفائلة حول عالم أفضل خال من الصراعات ولكنها تفعل ما هو ضروري لحماية مصالحها في ظل صراع دولي مكثف. مرة أخرى، يمكن للمرء أن يجادل بأن روسيا قد أخطأت ولكن الخبراء والدبلوماسيين في روسيا بإمكانهم أن يقدموا قائمة من الحالات التي أظهر خلالها الحلفاء الغربيون، كما يحب «بوتين» أن يطلق عليهم، اختلافا في المصالح بينهم وبين روسيا. بين المواقف السياسية والأيديولوجية والمصالح الوطنية، فقد اختار روسيا الأخيرة. قام الكريملين بمساندة حليفه «الأسد» عندما رأى ذلك ضروريا وقد قررت موسكو إيقاف عملياتها حين رأت أنا قدمت ما يكفي من الدعم. و قد تغير الوضع وتغيرت المصالح وفقا لذلك.
هذه المرتكزات الثلاثة (نظرة القانون الدولي والمحلي لإدارة العلاقات الدولية – القدرة على إبراز القوة العسكرية – النظر في المصلحة الوطنية) هي أمور ضرورية لاستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط. ما هي إذا ملامح هذه الاستراتيجية وما هي استراتيجيات الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى؟
ليس من قبيل الصدفة أن اتفاق وقف الأعمال العدائية قد تقرر بمشاركة كل من روسيا والولايات المتحدة وأن السيد «بوتين» قام بالاتصال بالرئيس «أوباما» لإبلاغه بانسحاب القوات الروسية من سوريا. لفترة طويلة ظلت الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، ولكن ما هي استراتيجية واشنطن؟ لا نزال ننتظر الإجابة على هذا السؤال. ورغم أن انتقادات الجمهوريين لإدارة «أوباما» تبدو غير محتملة ولكن إجراءات الولايات المتحدة في سوريا كفيلة بتحيير أكثر وسائل الإعلام الأمريكي ليبرالية وحتى بعض حلفائها الأوربيين. منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، أبدت اللهجة الأمريكية تعاطفا مع القوى المناهضة للأسد، ولكن لماذا تقم الولايات المتحدة بدعم هذه القوى قبل التدخل الروسي؟
يمكن للمرء أن يفترض أن هناك تأثيرا لأمثلة من العراق وليبيا، حيث تسببت إطاحة واشنطن بالديكتاتوريات العلمانية في خلق مشاكل أمنية أكثر خطورة. ومع ذلك، فإنه ليس من الواضح ما هي حقيقة الموقف الأمريكي في سوريا. وقد لعبت كل من واشنطن وموسكو دورا حيويا في مفاوضات وقف إطلاق النار في سوريا رغم أن كان من الواضح أن روسيا تقف إلى جانب حليفها «الأسد» عسكريا ودبلوماسيا. ولكن من هم حلفاء الولايات المتحدة في سوريا؟ وماذا حدث للموقف الأمريكي السابق المتمسك برحيل «الأسد»؟ اعترافات الولايات المتحدة بأن المحادثات حول سوريا لن تنجح سوى بجلب كل من روسيا وإيران على الطاولة قد تكون مفيدة في تحقيق الاستقرار الفوري في الشرق الأوسط، ولكن ما هي خطة أمريكا في اللعبة طويلة الأمد؟
دون الإجابة على هذه الأسئلة سيكون من الصعب على الولايات المتحدة أن تطور سياساتها في الشرق الأوسط. يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى أن تستكشف بوضوح التحركات الروسية بغض النظر عن حقيقة رضاها عن هذه التحركات. في كثير من الحالات، فإن استراتجيات هذه القوى الإقليمية أيضا ليست عصية على الفهم وخاصة بالنظر إلى حقيقة أن هذه القوى مهتمة بزيادة نفوذها في المقام الأول وتحصين مواقعها الاستراتيجية في مواجهة المعارضين والحد من التهديدات الأمنية. في ضوء هذه الخلفية، فإن عدم وضوح في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ليس مفيدا لا للمكانة الدولية للولايات المتحدة ولا على صعيد العلاقات الدولية بشكل عام.
وفي الوقت نفسه، فإن وضوح تحركات موسكو بغض النظر عن حجم الاتفاق معها قد تسبب في تسارع التفاعلات الروسية مع دول الشرق الأوسط. الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية تدرك بشكل واضح دوافع روسيا ومصالحها وأهدافها التي تعمل وفقها.
كما أن التقارب الروسي الإيراني في سوريا وغيرها من الملفات معروف بوضوح أيضا. ومع ذلك، على سبيل المثال، فقد حسنت موسكو من علاقاتها مع الأكراد بعد بدء حملتها رغم علمها بأنهم الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». يفهم كلا الطرفين دوافع الطرف الآخر، وهما على استعداد للمساومة وعقد الصفقات. على الرغم من دعم روسيا للأسد، تواصل موسكو الدفاع عن مشاركة الأكراد في محادثات جنيف.
ومن الممكن أن نشير إلى نتيجة أخرى لتصرفات روسيا في الشرق الأوسط، وهي المواقف الأميركية صارت مهددة بصورة أكثر وضوحا من ذي قبل: قد تثبت روسيا أنها شريك جيد لـ(إسرائيل) في تطوير حقول الطاقة الساحلية. وفقا لعدد من الخبراء والمراقبين، فإن الشراكة الروسية الإسرائيلية يمكن أن تزيد بشكل كبير من أمن مرافق إنتاج الغاز الطبيعي. إذا كان حزب الله وإيران يشكلان تهديدا أمنيا خطيرا إلى هذه البنية التحتية، فإن مشاركة روسيا قد تقطع شوطا طويلا في الحد من هذه المخاطر. بالنسبة إلى روسيا، فإن هذه الشراكة يمكن أن تحسن من موقفها الاستراتيجي في أسواق الغاز وخاصة على صعيد العلاقة مع تركيا والاتحاد الأوروبي.
يحافظ هذا النهج الواضح في إدارة العلاقات الدولية لروسيا على قنوات الاتصال مفتوحة. يمكن للمرء أن يفترض بصدق أن السعودية أبعد ما تكون عن دعم «الأسد» أو تأييد تحركات روسيا الداعمة له. ومع ذلك فإن الرئيس «فلاديمير بوتين» والملك «سلمان» يتبادلان النقاش حول الوضع في سوريا. ووفقا للكريملين، فإنه يمكن للبلدين وضع خلافاتهم جانبا، في حين أعرب الملك «سلمان» استعداده للعمل مع روسيا لتنفيذ خطة وقف إطلاق النار. بعد انسحاب قواتها، فإن روسيا لم تعد بعد شريكا في الحرب، وهو ما قد يساعدها على زيادة جهودها الدبلوماسية.
ليس هناك شك في أن منطقة الشرق الأوسط سوف تبقى مكانا مضطربا وخطيرا. ومن السابق لأوانه إعلان الفائزين والخاسرين من الحرب في سوريا. (ومن المحتمل بشكل مرجح أنه قد لا يكون هناك أي رابحين في نهاية المطاف). ولكن تصرفات روسيا خلال الأزمات في سوريا تظهر على حد سواء أن قوة وتوقيت هذه الإجراءات كانت شديدة الفاعلية ومتوافقة مع كلاسيكيات العمل الدبلوماسي في القرن الحادي والعشرين. عبر الإعلان عن انسحاب القوات الروسية، أظهر الرئيس بوتين، مرة أخرى، أنه لا يزال يطلق الرصاصات.
المصدر | ناشيونال إنترست
روسيا تنسحب من سوريا بعد تمكينها نظام دمشق على الأرض
تغادر الطائرات الحربية الروسية الأجواء السورية بعدما نجحت في تمكين قوات النظام على الأرض لكن تدور الشكوك حول ما إذا كأنت دمشق قادرة على الحفاظ على الوضع الميدأني لصالحها خصوصا في مواجهة الجهاديين.
يقول آرون لوند الباحث غير المقيم في مركز كارنيغي للأبحاث ورئيس تحرير مجلة “سوريا في أزمة” أن الرئيس السوري بشار الاسد “في موقف افضل بكثير فيما فقد اعداؤه توازنهم إلا أن ذلك لا يعني أن الحرب أنتهت”.
ويضيف “تمكنت روسيا خلال حوالى ستة اشهر من تغيير الموازين على الارض لصالح نظام الأسد”.
وكانت قوات النظام منيت بخسائر كبيرة قبل بدء التدخل الروسي في مواجهة فصائل المعارضة والتنظيمات الجهادية. ونفذت القاذفات والمقاتلات والمروحيات الروسية آلاف الغارات التي سمحت للجيش السوري بتحقيق تقدم ملحوظ في محافظات عدة.
ويؤكد الخبير في الشؤون السورية في جامعة ادنبرة توماس بييريه لفرأنس برس أن التدخل الروسي “أوقف تقدم الفصائل المقاتلة وسمح للنظام إلى جانب القوى التي وفرها مقاتلون شيعة باستعادة مناطق استراتيجية في حلب (شمال) واللاذقية (غرب) ودرعا (جنوب) ودمشق”.
وتخوض قوات النظام وفق لوند اليوم مرحلة “استعادة الأراضي. وفي المقابل تعرضت قوات المعارضة لضربة موجعة خصوصا بعد التقدم الذي احرزته قوات النظام في محافظة حلب في شباط/فبراير 2016”.
وفي بداية شباط/فبراير 2016 حقق الجيش السوري الاختراق الاكثر الاهمية في حلب منذ العام 2012. وتمكن بغطاء جوي روسي مكثف من تضييق الخناق على الفصائل المقاتلة في مدينة حلب وكسر الحصار الذي فرضه مقاتلو المعارضة على قريتين على مدى حوالى سنتين واستعاد مواقع عدة.
ويرى مصدر ميداني سوري أن “وتيرة الهجوم الكبير في الشمال السوري قد تخف” بعد الانسحاب الروسي “ولكن لن تعود الكفة لصالح المسلحين فهذا خط أحمر”.
ويقول الخبير في الجغرافيا السورية فابريس بالانش أن الانسحاب الروسي قد يترك “وقعا نفسيا بالدرجة الأولى” على قوات النظام السوري “وقد يراه البعض تخليا عن بشار الأسد”.
لكن عسكريا يشير الى أن الجيش السوري حصل على دبابات جديدة ومن المفترض أن يحصل على طائرات ومروحيات أيضا “ما يمكنه من الحفاظ على تفوقه الجوي”.
وبالنتيجة فإن مستقبل الوضع الميداني في سوريا يتعلق أساسا بمعرفة ما “تركه الروس في سوريا وكيف عززوا أو لا قدرات الجيش السوري خلال الأشهر الماضية”.
“امتحأن” الأنسحاب
وقد لا تشهد المناطق المشمولة بالهدنة السارية منذ 27 شباط/فبراير 2016 تغييرات حقيقية على الأرض خصوصا أن روسيا والولايات المتحدة تضغطان من أجل إجبار الأطراف المعنية على الالتزام بها ما يضمن اكثر حصول تقدم في العملية السياسية.
ويقول بييريه “ستضغط الدول الغربية على الفصائل المقاتلة التي تدعمها لعدم استغلال الوضع على الاقل طوال فترة المفاوضات” بين الحكومة والمعارضة التي بدأت في جنيف الاثنين 14 مارس 2016.
لكن الأسئلة تطرح بقوة اكبر في مناطق الجهاديين الذين لا تشملهم الهدنة.
ويقول بيرييه أن هؤلاء قد يسعون إلى “امتحان” الانسحاب الروسي بحسب تعبيره.
وأعلن مسؤول عسكري روسي الثلاثاء 15 مارس 2016 من قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية أن موسكو ستواصل ضرباتها ضد “الاهداف الإرهابية” في سوريا.
ويقول لوند “هناك العديد من المناطق التي يحتاج فيها الأسد الى القوة الجوية الروسية حاليا أن لم يكن في مواجهة الفصائل المقاتلة بسبب الهدنة ففي مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية” كما في تدمر مثلا في وسط البلاد.
وتخوض قوات النظام معارك عنيفة مع الجهاديين في محيط مدينة تدمر الأثرية في محافظة حمص.
ويرى بييريه بدوره أن “عملية تدمر ستكون صعبة على قوات النظام من دون الطيران الروسي” الذي كأن مهد الطريق أمام قوات النظام في المنطقة فاستعادت أراضي وباتت على بعد ستة كيلومترات فقط من المدينة الأثرية.
كما تدور شكوك حول ما ستؤول إليه الأمور في ريف اللاذقية الشمالي وما إذا كانت قوات النظام ستواصل تقدمها في المنطقة في مواجهة جبهة النصرة وفصائل مقاتلة وإسلامية أخرى.
وبالتزامن مع بدء الانسحاب الروسي قال قيادي في جبهة النصرة ذراع تنظيم القاعدة في سوريا لفرانس برس الثلاثاء 15 مارس 2016 أن الجبهة ستشن هجوما في البلاد خلال الساعات ال48 المقبلة بعد “الهزيمة الروسية”. وأضاف “من دون الطيران الروسي لكنا الآن في (مدينة) اللاذقية”.
4 فرضيات حول الانسحاب الروسي
إعلان بوتين المفاجئ سحب جزء من القوات الروسية العاملة في سوريا فاجأ متابعي الأوضاع السورية وترك الجميع في حالة حيرة حول الأسباب الحقيقية في وقت طبّع فيه الروس de facto وجودهم العسكري في سوريا وحقق دعمهم الجوي الكثيف توازناً جديداً في القوى بين نظام الأسد المترنّح ومجموع المجموعات المسلحة المعارضة. فلماذا تنسحب روسيا الآن؟
“لماذا؟”.. هو السؤال المباشر الذي طرحته مجلة Expert الروسية بعدما استطاعت موسكو “حماية الأسد” و”الحفاظ على سوريا موحدة بحدودها الحالية” وتمكنت من “تحرير 400 قرية و10 آلاف كم مربع من الأرض”. تتابع Expert “لماذا تمنح موسكو الدول العربية فرصة الشك في عزيمتها وتدخلها؟” و”لماذا توقف حربها الفعالة ضد الإرهاب والتي تعطي روسيا “صورة دولية جيدة وهي الطرف الوحيد الذي يخوض تلك الحرب بصدق؟”.
تقترح المجلة المقربّة من الكرملين أربع فرضيات ننقلها عن الترجمة الفرنسية التي قدمتها مجلة “كورييه أنترناسيونال”:
أولا، هناك “الإنذار التركي”. فبعد هجوم 14 آذار/مارس في أنقرة، يبدو أن أردوغان أبلغ بوتين قراره إرسال قوات إلى المناطق الكردية السورية مؤكداً أن تركيا سترد على أي اعتداء روسي. اختار بوتين، بحسب Expert، موقفاً “جباناً قليلاً” لكنه الأنسب بالنظر إلى العواقب المترتبة على التصعيد مع تركيا.
ثانياً، هو انسحاب مؤقت فقط. تعتقد القيادة العسكرية الروسية أن العمليات العسكرية ستصبح من الآن فصاعداً صعبة للغاية في سوريا لأسباب مناخية. الفترة المقبلة ستشهد ارتفاعاً في الحرارة وعواصف رملية تعقد الحسابات العسكرية. يبدو أن بوتين قرر إعادة المعدات غير الضرورية حالياً ويرسل من خلال ذلك إشارة إيجابية إلى مؤتمر جنيف. في الوقت نفسه يقول الروس “إذا لم يتحقق تقدم في جنيف، ستعود الطائرات الروسية إلى سوريا”.
ثالثاً، هو قرار تم بالاتفاق مع واشنطن. اعتبرت Expert أن القرار يمكن أن يكون جزءاً من “صفقة كبرى حول الأزمة الأوكرانية” تتضمن تنازلات متبادلة: الأمريكيون في أوكرانيا والروس في سوريا. إن صحت هذه الفرضية فسيعقب البادرة الروسية في سوريا تقدم ما في الملف الأوكراني.
رابعاً، موسكو ترغب في تلقين درس لحلفائها. ستقول روسيا وفق هذه الفرضية أنها هي التي تولت مهمة القيام “بالأعمال القذرة” في سوريا وبذلك فهي “تتوقع جهوداً مضاعفة من قبل طهران” حول انخراطها العسكري والمالي في النزاع السوري. رغم أن إيران هي الطرف الذي لديه مصالح كبرى في المنطقة فإن روسيا هي من تتحمل أعباء نزاع مكلف وطويل الأمد. “لماذا تخاطر روسيا في الغرق في أفغانستان أخرى مع كل ما سيترتب عن ذلك من أعباء على الميزانية والدولة الروسية؟”. فهل تدفع روسيا إيران لتحمل مسؤولياتها في المنطقة وتعطي الانطباع للدول العربية أنها لم تختر “المعسكر الشيعي” على حساب السنة العرب؟.
الثوابت الاستراتيجية وراء قرار الانسحاب الروسي/ راغدة درغام
الثوابت الاستراتيجية في أعقاب إعادة التموضع العسكري الروسي في سورية تشمل التالي: أولاً، استمرار الشراكة الأميركية – الروسية في الرقعة السورية وتوسيع بيكارها في اليمن والعراق مع توظيف ما تبقى من ولاية باراك أوباما لتوطيد الإنجازات في العلاقة الثنائية. ثانياً، ترسيخ النظام الحاكم في سورية عبر مؤسسات الدولة، بالذات الجيش، وليس عبر التمسك بالأفراد في المناصب، مع فسح المجال لتغييرات جذرية في معادلة الحكم على نسق إيلاء قيادة الجيش، مثلاً، إلى أحد أركان الطائفة العلوية بدلاً من أن تكون للعلويين الرئاسة. ثالثاً، الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى مع إيران إنما مع توسيع آفاق التقارب مع الدول الخليجية إلى جانب مصر والجزائر وذلك بهدف إقامة توازن في العلاقات الروسية مع السُنَّة العرب كي لا تبدو موسكو حليفة الشيعة في إيران فقط. رابعاً، فسح المجال لقوات سنّية لتدخل ميدانياً الحرب على «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية لتكون بمثابة «الأقدام على الأرض» في استراتيجية التحالف الدولي لسحق «داعش» التي قد تتطوّر لتكون ذات قيادة أميركية – روسية مشتركة في المنطقة بما فيها سورية. خامساً، تحصين الداخل الروسي والجيرة الروسية من عمليات انتقامية ستترتب على استمرار نصب روسيا نفسها في واجهة الحرب على التطرّف السنّي بالشراكة مع ميليشيات شيعية تابعة لطهران. لذلك أتى القرار بتدارك التورط في مستنقع كهذا في سورية. سادساً، تمتين مكانة روسيا في المشهد العالمي كقوة أساسية في صنع القرار، وتمتين حس الكرامة والعنفوان بتداخل مبرمج مع إنماء حس القومية الروسية. سابعاً، استدراك التداعيات الاقتصادية على روسيا لو استمرت في التدخل العسكري الكامل في سورية من دون استراتيجية خروج علماً أن قيمة الروبل الروسي كانت في انخفاض مؤذٍ للاقتصاد وأن أسعار النفط والغاز في تراجع. ثامناً، الحرص على توظيف الفرص المتاحة عبر المصالحات والتسويات من أجل الدفع نحو الاستثمارات وفتح الأسواق وبيع الأسلحة للدول الخليجية. وتاسعاً، تمترس روسيا في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية ومقابل أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
قرار الرئيس فلاديمير بوتين أعاد التموضع في سورية عبر انسحاب جزئي تدريجي لقواته أتى في خضم أجواء تفاوضية وتصعيدية وكلام عن الفيديرالية في سورية. أتى في حين كان وزير الخارجية سيرغي لافروف يعلن «امتلاك موسكو دلائل على وجود عسكري تركي داخل الأراضي السورية»، وفيما كانت موسكو تتوعد أنقرة إذا استمرت في نقل السلاح إلى سورية. وجاء القرار في أعقاب زيارة رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو إلى طهران واجتماعه بالرئيس حسن روحاني وسط كلام عن وساطة إيرانية بين روسيا وتركيا مقابل وساطة تركية لتحسين العلاقات السعودية – الإيرانية.
تزامن إعلان بوتين عن استراتيجيته الشرق أوسطية مع ازدياد التنسيق الأميركي – الروسي في الشأن اليمني بمؤشرات على توافقهما على أولوية الأمن السعودي على الحدود السعودية – اليمنية بضمانات مشتركة تشمل تأثيرهما على طهران كي لا تبعث مستشاريها العسكريين وميليشياتها إلى اليمن كما أوفدتهم إلى سورية.
الديبلوماسية الروسية تريد إنجاح الزيارة المرتقبة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو والتي تشكل مفتاحاً رئيسياً لعلاقات متطورة مع الرياض والعواصم الأخرى لدول مجلس التعاون الخليجي. تريد البناء على ما تم إنجازه أثناء زيارة أمير قطر الأخيرة إلى روسيا والتي تنحصر أهميتها في مستقبل الغاز الذي تعتبر الدولتان وإيران أكبر المصدرين له. فلقد شملت التطرق إلى توافق أنقرة والدوحة على دعم جماعة «الإخوان المسلمين» ومعارضة موسكو القاطعة لصعود هذه الجماعة إلى السلطة في أية بقعة عربية وإسلامية، وأولها سورية. ولقد أوضحت الديبلوماسية الروسية للديبلوماسية الخليجية أنها جاهزة لقلب صفحة العداء لسياساتها الماضية في سورية مقابل تعاونها الفاعل والملموس في سحق التنظيمات الإرهابية وفي قطع الطريق على صعود الجماعات الأصولية المتطرفة إلى السلطة. وما تصريح الديبلوماسي المخضرم سيرغي لافروف الذي أشاد فيه بجهود السعودية معبراً عن امتنانه لنجاحها في تسهيل تشكيل مجموعة معارضة سورية جدية سوى مثال على ما طرأ على السياسة الروسية في الآونة الأخيرة.
إشادة لافروف بالجهود السعودية أتت بعدما وصل وفد المعارضة إلى جنيف لإجراء المفاوضات التي يديرها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا وسط تصريحات لوزير الخارجية السوري وليد المعلم أنه ممنوع التحدث عن مستقبل بشار الأسد فهو «خط أحمر» ووسط إعلان رئيس الوفد الحكومي للمفاوضات بشار الجعفري رفض دمشق بحث أية «مرحلة انتقالية».
هذه التصريحات هي بمثابة ورقة نعوة لـ «عملية فيينا» التي تُعتَبَر طفل الديبلوماسية الروسية. وسبقت ذلك مواقف لدمشق اعتبرت موسكو أنها تطال من صدقية سياستها، تمثلت بعجزها عن إيقاف تدفق البراميل المتفجرة وبتلقيها أنباء أن دمشق تنوي إجراء انتخابات برلمانية تتعارض مع البرنامج الزمني لـ «عملية فيينا» التي يُفتَرض أن تنتهي بانتخابات بعد 18 شهراً بعد صياغة دستور ومفاوضات على عملية سياسية انتقالية في سورية.
كل تلك التعجيزات الآتية من دمشق كانت لها نكهة الرغبة في إطالة التدخل العسكري الروسي إلى حين تنفيذ أجندة في ذهن بشار الأسد. وهذا ما لم يرغب فلاديمير بوتين بتلبيته. فالرئيس الروسي أنقذ حقاً بشار الأسد بتدخله العسكري في سورية. لكنه تدخل عسكرياً متأبطاً استراتيجية خروج وليس استراتيجية الانزلاق إلى مستنقع سوري، ربما يتمناه له الغرب، بحسب تصوره. هذا أولاً. ثانياً، إن الركيزة الأساسية للتدخل العسكري الروسي في سورية هي المصالح الاستراتيجية المتمثلة بالقواعد العسكرية وبمؤسسات النظام، لا سيما الجيش، وليس بإبقاء رجل في السلطة.
هذا لا يعني أبداً أن بوتين جاهز الآن للتخلي عن الأسد. فهو يبقى مهماً في حسابات بوتين. الواقعية تفيد أن براغماتية بوتين الأميركية الطبع تجعله جاهزاً للاستغناء عن الأسد في استراتيجية المصالح البعيدة المدى، إذا برزت الحاجة. صحيح أن بوتين حريص على سمعة الولاء للحليف المضادة لسمعة الخيانة التي تميّز السياسة الأميركية، إلا أن الرجل يفهم تماماً لغة المصالح وحياكة التفاهمات.
ولأن تركة فلاديمير بوتين في الدول التي تدخّل فيها عسكرياً، هي تركة التقسيم، يخشى البعض أن هذه ستكون تركته في سورية. لكن الواقع الجغرافي – السياسي قد يمنع التقسيم بمعناه الكامل في سورية ليتم الاكتفاء بنموذج الفيديرالية الذي هو ما تتبناه أميركا وروسيا وسويسرا، باختلاف التطبيق.
ما يهم فلاديمير بوتين هو ماذا ستكون السياسة الأميركية نحوه بعد رحيل باراك أوباما عن البيت الأبيض؟ وكيف سيصيغ علاقاته مع أوروبا في ضوء العقوبات المفروضة على روسيا بسبب تجاوزاتها في أوكرانيا؟ وماذا سيتطلب إنقاذ الاقتصاد الروسي الذي دفع غالياً ثمن سياسة المغامرة السياسية والعسكرية التي اعتمدها بوتين؟ وكيف يمكن المضي بتحقيق التعهد بسحق التنظيمات الإرهابية الإسلامية؟
بغض النظر عن تاريخ العلاقة الأميركية – الروسية عند بدء عهد باراك أوباما، فما وصلت إليه العلاقة الثنائية لدرجة الشراكة في سورية ونحو إيران ليس هامشياً. إنه تغيير جذري في علاقة البلدين وهو أيضاً نقلة نوعية في علاقة كل منهما باللاعبين في منطقة الشرق الأوسط.
أوباما قدّم الولايات المتحدة أمام فلاديمير بوتين على أنها «العجوز» غير القادرة وغير الراغبة في لعب دور القيادة العالمية وأوحى له أن ساحة العجز جاهزة أمامه لملئها. قفز بوتين إلى الفرصة ووجد فيها ما يناسبه فاستفاد. إنما الآن حان وقت التوقف عن الاندفاع لأن في طيّات الدعوة الأميركية مشروع توريط في مستنقع يسلب روسيا ما حصدته في عهد أوباما. ولذلك أتى الاستدراك.
هذا الاستدراك مفيد أن تأخذ به الأطراف الأخرى المشاركة في حرب سورية، وبالذات «حزب الله». إيران واعية لمعاني القرارات الروسية وهي تنخرط في أجزاء مهمة منها تحيك بدورها استراتيجيات الخروج والبقاء. اللاعب الخارج عن هذه الحسابات هو «حزب الله» الذي لا يعي بعد تداعيات توريط نفسه في سورية واليمن حينما الآخرون يستدركون. وربما أفضل ما يفعله من أجل نفسه ومن أجل لبنان هو أن يبادر بدوره إلى صياغة استراتيجية خروج من سورية.
الحياة
موسكو ترسم مستقبل المنطقة/ رندة حيدر
الى أن تنتخب الولايات المتحدة رئيساَ جديداً لها ويبدأ عمله في البيت الأبيض، ستكون روسيا هي الدولة العظمى الوحيدة المؤثرة في ما يجري في دول المنطقة. وأكبر دليل على ذلك ان انسحابها العسكري من سوريا أحدث ضجة وتأثيراً كبيرين، وأعاد خلط الأوراق السياسية من جديد.
قد تكون التوجهات الإسرائيلية الأخيرة إزاء روسيا من المؤشرات الدالة على التأثير المتعاظم لروسيا على مستقبل دول المنطقة. وتدخل في هذا الاطار الزيارة التي قام بها رئيس الدولة الإسرائيلية رئوفين ريفلين لموسكو واجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من ساعتين. ومثلما سارع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل خمسة أشهر الى لقاء بوتين غداة التدخل العسكري الروسي في سوريا للتنسيق معه، ها هو رئيس الدولة يقصد بدوره موسكو ويجتمع مع بوتين للتفاهم معه على مرحلة ما بعد الانسحاب الروسي من سوريا. وهكذا يبدو لوهلة أن الولايات المتحدة لم تعد الحليفة التاريخية لإسرائيل بل روسيا، ووقت تهرب نتنياهو من لقاء مع أوباما الشهر الماضي، يجري الحديث اليوم عن لقاء قريب له مع بوتين.
كعادته يحاول بوتين أن يضطلع بدور الزعيم المطلق، فأكد أمام ريفلين تمسك روسيا بالدفاع عن أمن إسرائيل، وذكّر بالروابط الخاصة التي تربط بلاده بإسرائيل وخصوصاً مع وجود ملايين المهاجرين اليهود الروس هناك. لكن ريفلين لم يأت لمجاملة بوتين بل حمل لائحة واضحة بالمطالب الإسرائيلية أو ما تصح تسميته بالخطوط الحمر التي وضعتها إسرائيل لمرحلة ما بعد الانسحاب.
لقد طرح ريفلين عدداً من المسائل في طليعتها مساعدة روسيا في منع إيران و”حزب الله” من الاقتراب من الحدود السورية – الإسرائيلية وبناء بنية تحتية عسكرية لهما لشن عمليات ضد إسرائيل. اذ تتخوف إسرائيل من ان يستغل الحزب الانجازات العسكرية التي تحققت لتعزيز وجوده العسكري بالقرب من الحدود.
لكن ريفلين لم يكتف بذلك بل سعى الى التدخل من خلال التفاهم مع روسيا في رسم المستقبل السياسي لسوريا، ومطالبة بوتين بالاعتراف بشرعية وجود إسرائيل في هضبة الجولان لدى البحث في الموضوع. وبذلك تسعى إسرائيل الى استغلال الكلام الروسي على الفديريالية كي ترسخ احتلالها للجولان وتعطيه صفة شرعية.
هذا التحول في السياسة الخارجية الإسرائيلية نحو روسيا يعكس الاقتناع المستجد بأن من يضمن مصالح إسرائيل وأمنها في هذه المرحلة هو التفاهم مع الروس، وأن مَن يرسم مستقبل المنطقة هي موسكو وليست واشنطن.
النهار
هل الانسحاب الروسي إعادة تنظيم؟/ إبراهيم غرايبة
كما كان التدخل الروسي في سورية مفاجئاً، جاء الانسحاب مفاجئاً أيضاً، وقد يبدو الأمر، وإنْ كان صعباً تصديقه، التزاماً بالوعد الروسي بإنهاء الأزمة، مع نهاية عام 2015، فالتصريح الروسي الرسمي هو أن مهمة القوات الروسية في سورية حققت أهدافها وانتهت. ولكن، لا يبدو ذلك تحقّق بالمعايير التي وضعتها روسيا لأهدافها من التدخل، لم يحدث سوى رفع قدرة النظام السياسي في سورية على الصمود والتوازن مع المعارضة. ربما يمهد الانسحاب لمفاوضاتٍ جديةٍ وجوهريةٍ، تتفق فيها أطراف الصراع على تسويةٍ مقبولة، فالانسحاب الروسي سيجعل النظام السياسي السوري أكثر واقعيةً وتقبلاً للتسوية، .. ولكن، هل ستتمكّن الأطراف المتصارعة من نسيان الدماء الغزيرة التي سالت؟ هل ستكون قادرةً على التعايش والعمل المشترك؟ يبدو الأمر صعباً، لكنه أقل صعوبةً من انتصار أحد انتصاراً حاسماً.
وبالنسبة لروسيا، التفسير البديهي هو عجزها عن مواصلة تمويل تدخلها العسكري، في ظل انخفاض أسعار النفط والأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلها الثقيل على روسيا، وفقدان العمليات العسكرية التأييد الشعبي، .. كما أن التدخل يتناقض، ابتداءً، مع الاتجاهات الجيوسياسية الروسية الجديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتحدّيات الجديدة الناشئة بجوار روسيا، مثل أوكرانيا والقرم، والجمهوريات المجاورة المتململة من روسيا وهيمنتها!
تشجع البداهة الجيوسياسية على القول إن روسيا تفضل دوراً أوروبياً في حوض المتوسط مستقلاً عن الولايات المتحدة، وقد تكون مستعدةً لشراكةٍ مع أوروبا في هذا الاتجاه، لكن أوروبا لم تعد قادرةً على ذلك، كما أن التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان جعلت التدخل المباشر في المنطقة عملياتٍ مكلفةً بلا جدوى، وربما تكون الفكرة الأخرى البديهية أن تدعم روسيا دوراً إيرانياً، باعتبارها (إيران) الحليف الاستراتيجي لروسيا، لكن إيران تبدو متجهةً إلى الابتعاد عن روسيا، والاقتراب من الولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس، ربما كان التدخل الروسي معاقبةً لإيران، ولأجل إبعادها من سورية.
والحال أن المشهد العالمي ما زال، منذ نهاية الثمانينيات، عصياً على الفهم، فهو أقرب إلى
“المشهد العالمي ما زال، منذ نهاية الثمانينيات، عصياً على الفهم” الفوضى في تشكله وسلوكه، أو هو، كما وصفه ألكسندر دوغين في كتابه “أسس الجيوبولوتيكا، مستقبل روسيا الجيوبولوتيكي”، يشبه الطوفان الذي غمر الأرض، مشهد كما يقول يذكّر بالقصة التي وردت في الكتب المقدسة، عندما غمرت المياه اليابسة كلها، ولم ينج من الغرق سوى سفينة، أقلت فئة من المؤمنين، والكائنات الحية! فالانتصار الغربي، بما هو القوة البحرية على الخصم الشيوعي السوفيتي، بما هو القوة البرية، كان انتصار البحر على اليابسة، .. لقد غمر البحر (الولايات المتحدة) العالم، وأغرق الكرة الأرضية، ولم يعد ثمة مجال سوى إنقاذ الأرض، أو الانتظار.
وربما يكون ثمة تفسير يمكن تطبيقه من كتاب ليليا شيفتسوفا “روسيا بوتين”، وهو أن روسيا تشهد انتقالاً وارتباكاً بين الديمقراطية والدكتاتورية والاشتراكية والليبرالية والانزواء والعالمية، .. ولكن يبدو أنه انتقال صار مريحا للنخبة الجديدة المكونة من بوتين والقيادات السياسية والعسكرية المحيطة به، فقد شهدت روسيا تحولاتٍ اجتماعيةً مفاجئة، إذ يتحمس الشيوعيون للديمقراطية، ويدافع الليبراليون عن الدكتاتورية، لكن المفاجأة الأكثر تحدياً للقيادة الروسية هي أن الشعب الروسي أكثر اندماجاً في التحديث من النخب السياسية، بمعنى أنه لم يعد متحمساً للسياسات القيصرية الجديدة لبوتين، كما يرفض السياسات الشيوعية السابقة، وبدأ الروس يلاحظون أن مشروعات الإصلاح السياسي والاقتصادي لم تكن سوى وهم، كما أن انتصاراتٍ قوميةً وامبراطوريةً لم تعد ترضي أحداً في روسيا، الروس يشغلهم الفساد، والمزج بين السلطة والأعمال، وجدوى الخصخصة وآلامها والعنف، أكثر مما تشغلهم هزيمة الولايات المتحدة.
كان بوتين أقرب إلى أن يكون زعيماً شيوعياً من أن يكون زعيماً لفترة ما بعد الشيوعية، وكان سلوكه قاسياً مع منتقديه، وخصوصاً الإعلاميين، وأسكت “الدوما”، وأضعف كل المؤسسات السياسية الأخرى، وأرهب الصحافة، وصار القوة الوحيدة على المسرح السياسي، .. وفي الانسحاب، فإنه مشغول بتعزيز دوره، والانسجام مع حلفائه وأعوانه، وخصوصاً قادة الجيش والأمن الداخلي أكثر مما هو مشغول بدعم النظام السوري، أو إيران، أو مواجهة الولايات المتحدة.
وفي التناقض القائم اليوم في روسيا بين الطبقة السياسية المحافظة والمجتمع الأكثر ديناميكية، بين المنهج المؤيد للغرب والنزعة المركزية، بين الاقتصاد الليبرالي والطبقة البيروقراطية المركزية، بين التطلع للحرية ومحاولة كبتها، بين الاستقرار والحاجة للتغيير، صار لزاماً على روسيا أن تواجه الحقائق، ولم يعد ممكناً الهروب منها بدعاوى مكافحة الإرهاب والدور العالمي، فقد تكرّست في روسيا أجيال نشأت في مرحلةٍ من العولمة، ولا تعرف الخوف والاستبداد، ولا علاقة لها بالعهد الشيوعي، .. لقد هربت روسيا من نفسها إلى نفسها.
ربما كان بوتين يظن أن الأزمة السورية يمكن توظيفها، كما أمكن توظيف قضية الشيشان في تعزيز الجنرالات، وتكريس الثقة بسبب الخوف، وبحثاً عن الأمن، لكن روسيا ليست الشيشان، والاقتصاد الذي يتعرّض لضغوطٍ هائلة لا يحتمل المغامرات، والمعرفة المنتشرة والمنشئة لعلاقاتٍ جديدةٍ بين المجتمعات والسلطة تغير السياسة… يفترض أن بوتين أدرك معنى أن الناس يعرفون، إلا إذا كان لا يعرف عما حصل في الربيع العربي.
العربي الجديد
الانسحاب الروسي لخفض النفقات والضغط على المفاوضين/ خليل فليحان
توافرت معلومات مفادها أن ما يجري في جنيف من تفاوض جدّي، والعين الساهرة الاميركية والروسية لا تفارق أي تحرك يقوم به المبعوث الأممي الخاص الى سوريا ستافان دو ميستورا. ولفت أكثر من سفير غربي في بيروت الى أن هناك عقبات كثيرة ظهرت من وفدي النظام والمعارضة. واعتبر أحد السفراء ذلك أمرا طبيعيا، مستندا الى الأجواء في جنيف، علما أن المهمّ هو صمود وقف الأعمال العدائية وتحويله من هشّ الى دائم.
وأدرج أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمغادرة نصف عدد مقاتلات سلاح الجوّ الروسي التي كانت تتولى قصف مواقع “داعش” و”النصرة” في سوريا، في إطار المشجّع على دفع المفاوضات على طريق الحل، ودعمها، وإفهام النظام أن عليه أن يساعد على إنجاحها وليس عرقلتها بوضع شروط تعطّلها. ولاحظ أن تصريحات رئيس الوفد المفاوض السفير بشار الجعفري كانت أكثر ليونة، ولا تحاكي بشيء الموقف الذي سبق أن أعلنه وزير الخارجية وليد المعلم، وفُسّر بأنه تصعيد لا يخدم انطلاقة المفاوضات. وعوّل على الموقف المرحّب لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير بالانسحاب الجزئي لسلاح الجو الروسي من سوريا، واصفا إياه بأنه “خطوة إيجابية نأمل أن تجبر الرئيس بشار الأسد على تقديم تنازلات”.
وأعرب عن أمله في أن “يسرّع الروسي وتيرة الانتقال السياسي في سوريا”، كما أن دو ميستورا عدّل موقفه الذي كان يتحاشى التعليق على الانسحاب الى مؤيد له، لأنه يؤشر لإيجابيات قد تحصل بعدما تلقى معلومات من روسيا في هذا الصدد.
وتوقف سفير دولة كبرى معتمد لدى لبنان عند حرص وزارة الدفاع الروسية على الإعلان عن مغادرة المقاتلات الروسية قاعدة حميميم السورية مع صور متلفزة لمواعيد إقلاعها، ثم الإعلان عن هبوطها في قاعدة عسكرية جوية جنوب روسيا ساعة وصولها، خلافا لقواعد السرية المتبعة في تنقل السلاح الروسي. واستنتج أن موسكو أرادت أن تكون شفافة في ما تقوم به وتعلنه، من دون أي مواربة أو تخفّ بذريعة السرية، مع حرصها على التأكيد أنها خفضت عدد المقاتلات لتوفير النفقات لا للانسحاب، لأنها تعلم كل العلم أن المعركة ضد الإرهاب لا تزال طويلة وان ما ساعد عليه سلاح الجو الروسي أفسح في المجال أمام الجيش السوري لطرد “الدواعش” من مساحات وقرى كانوا يسيطرون عليها، وانه جرى تثبيت النظام الذي كان مهتزا قبل 30 أيلول الماضي.
وتقاطعت معلومات ديبلوماسية وردت الى بيروت من واشنطن وموسكو عن أن الخط المفتوح بين وزيري الخارجية الاميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف كفيل بأن يعالج ما يطرأ من خلافات بين الوفدين السوريين المتفاوضين، ويؤمل أن يثمر استقبال بوتين لكيري الاسبوع المقبل خطوة إيجابية في مسار المفاوضات. ولم يعد مهمًا معرفة الدافع الحقيقي لانسحاب نصف الأسطول الجوي الذي أتى الى سوريا منذ خمس سنوات ونصف سنة، لأن ذلك لا يعني الدور العسكري الروسي الجوي في سوريا، بل على العكس، إنه مستمر، والمقاتلات في مطار حميميم والوارج في قاعدة طرطوس البحرية مع نظام صاروخي متطور.
النهار
بوتين يقرر… والأسد يمتثل/ حسان حيدر
إعجاب فلاديمير بوتين بالعروض المسرحية وحرصه على إذهال «المشاهدين» لا يحولان دون واقعيته عندما يتعلق الأمر بمصالح «الروسيا» العليا. فالدخول الاستعراضي الى الحرب السورية والخروج المماثل منها، وإحاطة القرارين بالكثير من التشويق والغموض، لم تخف جميعها أن الغرض منهما كان روسياً، وروسياً فقط، وأن بشار الأسد كان مضطراً، لضعفه، ان ينصاع مرتين: عندما جاء الجيش الروسي ليوقفه على رجليه، ثم عندما تركه لا يستطيع السير من دون عكازين صنعهما له.
جاء قرار موسكو بالتدخل ليحقق مجموعة أهداف بينها استعادة دور ما على الساحة الدولية بعد عزلة تسبب بها التدخل في أوكرانيا وجورجيا واقتطاع جزء من دولتين أوروبيتين، ولو من «الدرجة الثانية». وجاء ايضاً بعدما تأكدت موسكو من أن الجيش النظامي السوري الذي دربته وسلحته ويواليها كبار ضباطه بات على وشك الانهيار او تغيير الخيارات، ما يهدد نفوذها في سورية. وكذلك لأنها اعتبرت أن الفرصة سانحة لإجراء مقايضة في الملفات مع الأوروبيين المرتبكين والأميركيين المنسحبين من المنطقة.
وكان الإخراج في المرتين مسيئاً جداً الى هيبة الأسد، إذ استدعي وحده الى موسكو ليلاً وأبلغ بقرار التدخل الذي اتخذ ولم يعد أمامه سوى الانصياع. وبدا من نشر الكرملين نص الاتفاق من جانب واحد، أن موسكو تتقصد إظهار تحكمها بالتفاصيل كأنها تقول إن من يريد التفاوض حول سورية فليأتِ إليّ. ولم يستطع ادعاء الأسد انه هو من طلب التدخل الروسي تغيير هذا الانطباع.
ثم جاء إعلان بوتين قراره سحب الجزء الأكبر من قواته الجوية بعدما استنتج أن العملية في سورية «حققت أهدافها»، وقول الكرملين إن الأسد أُبلغ بالقرار ليوضح أن موسكو اتخذته وحدها. ومرة ثانية لم ينجح ادعاء دمشق أنها طلبت من الروس «تقليل نشاطهم الجوي» في تأكيد أي مشاركة لها في صنعه. فالروس يحاورون الأميركيين والأوروبيين، ويحمون مصالحهم معهم، وليس على الأسد سوى تقبل النتائج طالما أن وضعه على الأرض لا يسمح له بأكثر من ذلك.
لكن لماذا الانسحاب وما المصلحة الروسية التي أملته؟ من الواضح أن بوتين رأى أن من الأفضل سحب قواته وهو في قمة الاستفادة من تدخلها قبل أن يبدأ الثمن الذي يدفعه في الارتفاع، بعدما تبين أن ورقتي الضغط اللتين أتاحهما وجوده المباشر في سورية استنفدتا غرضيهما: الأولى كانت ورقة المهاجرين ضد اوروبا والثانية ورقة الأكراد ضد تركيا.
فبعد الاتفاق بين أوروبا وتركيا على تولي أنقرة «حراسة» حدود الاتحاد في مقابل بدل مالي، لم تعد بروكسيل في حاجة الى تخفيف عقوبات فرضتها على موسكو بعد أزمة أوكرانيا كي توقف ضرباتها الجوية في سورية، والتي تسببت في دفق جديد للاجئين هدد الوحدة الأوروبية. ولم تلمس موسكو أي مؤشرات الى إمكان تغيّر وشيك في الموقف الأوروبي.
أما الضغط على تركيا والمعارضة السورية عبر محاولة وصل الجيبين الكرديين في شمال سورية لإقامة «منطقة عازلة» بين حدود الدولتين تضعف المعارضة وتقطع طرق إمدادها، فلم تفلح بسبب التهديد السعودي والتركي، ولتفضيل الأكراد العلاقة المستجدة مع الأميركيين الذين نصحوهم بانتظار انتهاء الحرب على «داعش» قبل نيل أي «مكافأة» فعلية. ويعرف أكراد سورية أن الأميركيين وحدهم يستطيعون مساعدتهم في تثبيت وتوسيع الحكم الذاتي الذي اقاموه بعدما دعموا بنجاح قبلهم أكراد العراق.
حاول نظام الأسد خلال الفترة الفاصلة بين التدخل والانسحاب الروسيين أن يدعي لنفسه القدرة على فرض شروطه، فتحدث عن «تحرير» كل سورية وعن رفض أي تفاوض حول انتخابات رئاسية او حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة، لكن قرار بوتين جاء ليؤكد أنه ليس على استعداد لمواصلة دفع كلفة حرب غير مضمونة النتائج، وأن اتفاقه مع واشنطن على إيجاد تسوية قد تقود الى الفيديرالية أهم بالنسبة اليه من رغبات الأسد الذي عليه الامتثال. أما مصلحة سورية فليست عند أي منهما.
الحياة
هذا الانسحاب الذي يشبه الهجوم/ جهاد الزين
قراءة في موقع القرار الروسي على خارطة “الجريمة المنظمة” أو الإسم الجديد للشرق الأوسط الذي أطلقه الرئيس باراك أوباما:
تدخل الحرب السورية مع القرار الروسي بسحب “الجزء الأكبر” من التواجد العسكري في سوريا مرحلة جديدة في مسار طويل جدا لا زلنا في بدايته وربما استغرق عقدا، من محاولة إيجاد حل سياسي. هذه هي “البيئة السلمية للحرب” بعدما كانت قبل الاتفاق الأميركي الإيراني ومنذ العام 2011 بيئةً حربية للحرب. لكن في الحالتين الحرب مستمرة.
استحصل قرار الرئيس بوتين هذا على إعجاب شامل في العالم المعني بالحرب السورية. حركة شطرنجية من الانسحاب الذي هو أقرب إلى الهجوم:
– كسر نظرية التورّط الروسي والتشبيه بالتجربة السوفياتية في أفغانستان. هذه الثرثرة لن تكون متيسرة بسهولة بعد الآن. كذلك يلغي القرار أي تشبيه مع تجربة بوتين في تشيشنيا التي دخلها الجيش الروسي ولم يخرج حتى قضى نهائيا على الانفصاليين بكلفة عالية جدا.
– تعويم البعد السياسي على العسكري مع استمرار جهود جنيف.
– إضعاف بل إقفال أي مجال للضغط الداخلي الروسي الشعبي يعتبر سياسة بوتين تبديدا للثروات الروسية في مغامرات عسكرية في وقت تظهر فيه مؤشرات الاقتصاد الروسي غي مطمئنة.
– إعطاء الفرصة للرئيس رجب أردوغان بتغيير سياساته المتطرفة دون إهانته. بل اعتبار القرار الروسي إنجازا له يسمح بتغطية تراجعه عبر الانضمام إلى جهود التهدئة السياسية.
ولذلك علينا أن ننتظر ماذا ستكون الخطوة التركية الكبيرة المقبلة إذا كان هذا القرار البوتيني، عكس الرائج، جزءاً من اتفاق ما كبير غير معلن، لا سيما مع واشنطن، يتضمن عددا من “التراجعات” للدول الأساسية في الصراع. إذ يجب أن لا ننسى أن “عسكرة” الثورة السورية أواخر عام 2011، القرار الذي جعلها حربا لا ثورة، هي بكل بساطةٍ وتبسيطٍ فتحُ الحدود عسكريا مع سوريا بقرار غربي إقليمي. كما يجب أن لاننسى أن الدخول العسكري القتالي الجوي الروسي إلى سوريا قبل أشهر لا زال يحمل شبهة التفاهم مع واشنطن في أجواء ما بعد الاتفاق النووي السداسي.
قوة هذا القرار البوتيني الشطرنجية أنه يربح الكثير ولا يخسر شيئا.
لم يترك الرئيس فلاديمير بوتين سوريا. القرار يعني في الميدان ترك منطقة إدلب لتركيا ومعظم الحدود التركية السورية للأكراد عدا بعض المناطق الضيقة لتركيا أقصى شمال حلب وتوسيع رقعة نفوذ النظام في جنوب دمشق مع ترك مناطق معينة لإسرائيل والأردن وعبره السعودية. هذا اعتراف روسي بمناطق نفوذ وإن كان لا يكفي حتى اليوم لاعتماده أساسا واقعيا للفدرالية الآتية لا محالة إلى سوريا الجديدة والتي ثبت عبر التجربة العراقية أنها “ناجحة” في قيام تقسيم أمر واقع داخل دولة واحدة. وقد تكرّست منطقة الساحل السوري وجبالها بكاملها مع امتداداتها إلى دمشق منطقة تحت الحماية الروسية. فالرئيس الروسي يسحب “الجزءالأكبر” وهو يعرف والجميع يعرف أن بقاء طائرة روسية واحدة شمال اللاذقية جاثمة على أرض القاعدة العسكرية الروسية هناك يكفي لتأمين الحماية السياسية لتلك المنطقة حتى دمشق وجعل وجودها رادعا.
المحللون الغربيون عموما أكثر تحفظا منا نحن العرب في الاسترسال بتوقعات جازمة. لكن ما يلفت النظر هواتفاق كارهي النظام السوري ومحبِّيه على القول أن هدف إعلان انسحاب “الجزء الأكبر” من القوات الروسية هو عملية ضغط على هذا النظام وسحب الذرائع من أمام معارضيه الداخليين والخارجيين في آنٍ معاً. يعني الضغط على كل الأطراف.
أظن هذه عملية ترويج إيجابية وإن تكن مبالغا بها من جهة تأويلها على العلاقة الروسية مع الرئيس بشار الأسد. فمثلما قيل مراراً ولأسباب تعبوية أن الروس سيفاوضون على أوراق أخرى وعندما يحصلون عليها سيتخلّون عن سوريا، وظهر خلال هذه السنوات أن سوريا موقع ثابت وهام في الاستراتيجية الروسية لا تراجع عنه، الآن ستصم آذانَنا وعيونَنا موجةُ تحليلات وتوقعات عن تخلّي بوتين عن الأسد والسعي للمساومة على رأسه. هذا لا يعني أن أي حل نهائي بعد سنوات لن يلحظ بالنتيجة إنهاء دور الأسد أو تخلِّيه طوعاً عن دوره ضمن سلة تحفظ موقع الطائفة العلوية وتحالفاتها في الصيغة الداخلية السورية. لكن لا زلنا بعيدين جدا عن تسوية من هذا النوع حتى لو انطلق الآن طبخ بيئة التسوية بين دول لا ننسى أنها هي التي اتخذت قرار العسكرة.
ولنراقب: هل يعيد هذا القرارُ- الجِسرُ الروسي الممدودُ الوجهَ البراغماتي لرجب طيِّب أردوغان ، الوجه الذي فقده في السنوات الأخيرة وآخر مظاهره المتطرفة وصفه لكل صحافي وأكاديمي وسياسي تركي بأنه إرهابي إذا دعا إلى موقف مختلف حيال المسألة الكردية.
على أي حال وبسرعة سيظهر البعد التوافقي لا الصدامي في هذا القرار الروسي عند معظم اللاعبين. القرار – الجسر مع أن السنوات الآتية من الحرب- الهدنة- المطبخ السوري سيمد ويفجِّر الجسور نفسها وغيرها ويعيد وصلها. الرواية طويلة في هذه “الجريمة المنظمة” الاسم الجديد للشرق الأوسط حسب وصفٍ “خلاق” للرئيس باراك أوباما في مقالة جيفري غولدبرغ معه وعنه في “ذي أتلانتك”!
عبر قراره الأخير، لا “يتفادى” الرئيس الروسي “الشرق الأوسط” كما دعا إلى ذلك الرئيس أوباما في المقالة المشار إليها، أي إلى تفادي منطقتنا. بالعكس لأن روسيا على حدود هذه المنطقة وجزءٌ من تفاعلاتها الدينية والجيوسياسية. فلاديمير بوتين ينظّم حضوره فيها.
والحرب – الهدنة- الحرب السورية طويلة.
النهار
حسابات بوتين في التدخّل والإنسحاب/ راجح الخوري
دخل في الوقت المناسب وخرج في الوقت المناسب، وليس مغالاة القول إن سوريا هي حلبة الكاراتيه العسكري والسياسي التي تتوج فلاديمير بوتين فائزاً وحيداً حين يبدو باراك أوباما متوارياً وراءه. صحيح ان الحل السياسي الذي زادت فرصه واحتمالاته في جنيف قد يبدو ثمرة اتفاق بين واشنطن وموسكو، لكن بوتين هو بطل هذا الحل.
في نهاية ايلول كان طموح بشار الأسد الاحتفاظ بما سمّاه “سوريا المفيدة” أي المناطق العلوية التي كانت في شبه حصار من قوات المعارضة وفي غياب مطلق للأميركيين عن الساحة قرر بوتين الدخول عسكرياً إستجابة لطلب النظام وحلفائه الإيرانيين، كانت حساباته واضحة: نستغل سياسة التردد والإنكفاء الأميركية في الشرق الأوسط، نعيد فرض الدور الروسي كلاعب محوري دولي، نوجد على خط أساسي هو محاربة الإرهاب إنطلاقاً من الساحة السورية، نمنع سقوط الأسد، نحتفظ بمواقعنا وقواعدنا على الساحل السوري، نوجد عناصر ضاغطة تساعد لاحقاً في تجاوز عقد المشكلة الأوكرانية وما نجم عنها من عقوبات غربية.
بوتين حدد أربعة اشهر لتحقيق المهمة، وبعد انقضاء هذه المدة تبيّن ان المضي في الحل العسكري من الجو لم يحقق الكثير، وإن كان أقام نوعاً من التوازن بين النظام والمعارضة، خصوصاً ان عمليات القصف الروسي التي واكبها تقدم النظام وحلفائه الإيرانيين ومنظماتهم ساعدت فقط على لملمة حدود “سوريا المفيدة” لا أكثر ولا أقل.
بعدما بات أوباما يعمل وفق روزنامة بوتين، وبعدما تبيّن ان المضي في العمل العسكري سيكون مكلفاً وعويصاً، تبدلت الحسابات الروسية وفق الآتي:
أقمنا توازناً يساعد على الحل السياسي فلماذا لا نكون أبطال هذا الحل عبر ترتيب عملية انتقالية وخريطة طريق وانتخابات تجرى خلال فترة نتفق عليها مع الأميركيين، هذا سيوقف النزف في الاقتصاد الروسي، وخصوصاً مع تراجع أسعار النفط، وسيظهر روسيا عامل سلام وتسويات للمشاكل المعقدة، وسيساعد لاحقاً في تجاوز التداعيات السياسية والعقوبات الغربية الناجمة عن الأزمة الأوكرانية!
وهكذا لم يكن من عبث ان توجّه موسكو ما يشبه التوبيخ الى النظام السوري عندما دعته الى العمل وفق نصيحتها ليخرج بكرامته، ولم يكن من عبث ان تَرد عليه بغضب بعدما تحدث عن انتخابات من طرف واحد الشهر المقبل، والأكثر اثارة على ما يبدو ان الإيرانيين استوعبوا التحولات الجديدة فلم يتردد أمير عبد اللهيان في التسليم بالقول إن جيش الاسد منهك وإن الاجتماعات في جنيف ستحدد اسماء أعضاء الهيئة الإنتقالية. لكن النظام حاول التملص مرة جديدة، فكانت تصريحات وليد المعلم عن ان الأسد خط أحمر وان لا وجود للإنتقال السياسي، ولهذا جاء الانسحاب صفعة قوية ليصدق الأسد ان عليه فعلاً ان يبدأ حزم حقائب الرحيل!
النهار
بشار والانسحاب الروسي/ علي حماده
لم تتضح بعد جميع جوانب صورة الانسحاب الروسي المعلن من سوريا. كما لم تتضح آفاقه وحجمه الفعلي والنهائي. وإذا كان القرار الروسي الذي جرى إعلام الأميركيين به مسبقا قد فاجأ جميع الأطراف الأخرى، وفي مقدمهم بشار الأسد والإيرانيون، واستتباعاً “حزب الله”، فإنه يعكس رغبة روسية أكيدة في تجنب الانزلاق الى حرب طويلة ومكلفة في سوريا. كما أنه يعكس رغبة روسية في “تثمير” التدخل العسكري ديبلوماسيا الى أقصى الحدود الممكنة، في ظل استمرار الانكفاء الأميركي الاختياري، وذلك انسجاما مع قرار إدارة الرئيس باراك اوباما إدارة الظهر للازمة السورية، وترك روسيا تتقدم المشهد. من هنا ترى موسكو أن أهدافها الفعلية من التدخل قد تحققت. فقد جرى إنقاذ النظام من السقوط المحتوم، إنما من دون منحه انتصارا حاسما في الميدان، على أساس أن الحل النهائي يمكن أن يشهد إخراج بشار وبطانته المباشرة من الصورة، لمصلحة تركيبة سورية مختلطة (ضمن نظام فيديرالي) تشرف عليها روسيا نيابة عن المجتمع الدولي.
طبعا من الصعب الحكم على مدى الانسحاب الروسي، وما إذا كان سيشمل خفضا حقيقيا للأعمال العسكرية ضد المعارضة السورية بفصائلها كافة. كما أنه من الصعب الحكم على قدرة روسيا في الضغط على بشار الاسد على طاولة المفاوضات، فيما تميل إيران الى التمسك بخيار مواصلة الحرب بأفق محاولة الحسم في الميدان!
وعليه، لا بد من مراقبة أداء وفد بشار المفاوض في جنيف، وما إذا كان سيعمل على نسف المفاوضات، مستندا الى تقاطع في المصالح بينه وبين الإيرانيين الذين يرفضون رحيل بشار في أي مرحلة، في ظل اعتقادهم أنهم قادرون على مواصلة المعركة بالرغم من كلفتها الباهظة عليهم وعلى أدواتهم، وفي مقدمها “حزب الله” الذي خسر حتى الآن مئات القتلى (أكثر من ألف وخمسمئة قتيل وثلاثة آلاف جريح).
أيا يكن من أمر الانسحاب الروسي، فإن ترجمته السياسية تحتاج الى مراقبة دقيقة الى طاولة المفاوضات من جهة، وفي “نبض” بشار وبطانته. ولا شك في أن النظام ومعه الإيرانيون وميليشياتهم يدركون أن إنقاذ النظام من السقوط لا يعني بالضرورة إهداءهم انتصارا حاسما، وخصوصا أن بدء انسحاب روسيا يعيد ضخ منسوب لا بأس به من القلق في “شرايين” التحالف! في الخلاصة، من المبكر الحكم على القرار الروسي، في الوقت الذي تبدو فيه جميع الأطراف وقد سيطرت عليها البلبلة.
في الذكرى السنوية الخامسة لاشتعال الثورة السورية، يمكن القول بكل ثقة إن نظام بشار الذي أنقذه التدخل الروسي من شبح السقوط الذي يخيم عليه، لا يزال عاجزا عن تقديم نفسه جزءا من حل يمكن ان يؤمن عودة السلام والاستقرار الى سوريا. والحق أن النظام المتورط في قتل ما يزيد على ربع مليون سوري سيبقى جزءا من الماضي الدموي لا من المستقبل المشرق!
النهار
الشقاء السوري والتريث الروسي/ منير الخطيب
لم يستيقظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة ويقرر أن الوقت حان لاستبدال الصاروخ بالحوار، وتقليص عديد قواته في سوريا. وهو بالتأكيد لم يتخذ قراره بعدما شاهد لقطات مصورة للملك السعودي سلمان يحيطه عدد من الرؤساء والمشايخ والامراء، فارتعدت فرائصه لرؤيتهم يتابعون مناورات «رعد الشمال» في صحراء حفر الباطن. المناورات ربما أخافته، لكن ليس الى حد الاذعان فوراً الى المطلب السعودي بوقف التدخل الروسي في سوريا. ولا يبدو أن القيصر قد نال تنازلاً أميركياً أوروبياً ما في أوكرانيا، ليسدد ثمنه من حسابه الجاري في حميميم واللاذقية.
كل انسحاب لقوة أجنبية من أرض عربية مرحب به. السيادة لا تتجزأ ولو كانت العلاقات بين الدولتين ممتازة، والمصالح واحدة، والعدو مشترك. يكفي ألا تكون العلاقة متكافئة حتى تكثر الظنون، ولكن الضرورات تبيح المحظورات. ومع ذلك يبقى السؤال عن القرار الروسي بالانسحاب بمثابة سؤال استنكاري. في طبيعة السياسة الدولية لا تحدث الامور هكذا. عندما ترسل دولة كبرى صفوة عسكرييها، وأحدث ترساناتها الى ساحة معركة، لا تسحبها إلا لأمرين: النصر أو الهزيمة!
في المسألة الروسية – السورية القصة مختلفة. هذا هو الانسحاب العسكري الاول من نوعه الذي يرحب به الجميع من المعارضة المسلحة الى المعارضة المدنية الى النظام. أمر يدعو للريبة اكثر مما يوحي بالاطمئنان الى المسار السلمي للازمة السورية. فمسار محادثات جنيف لم يكتسب بعد صفة البشير بنهاية سعيدة. كان في أفضل التوقعات بداية عملية تفاوضية تستغرق وقتاً. الخرق السلمي جاء من الميدان لا من قاعة المحادثات السويسرية. المعارك والديبلوماسية وجهان لعملة واحدة، لا حرب من دون سفراء ومبعوثين ووزراء خارجية. والحرب اكثر جدية من أن تترك للجنرالات وحدهم بحسب ما كان يردد رئيس وزراء فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية جورج كليمنصو. وأحيانا تنتصر السياسة من دون إطلاق رصاصة واحدة. بطبيعة الحال لا تتحقق الاهداف العسكرية في الميدان من دون سياسات واضحة: «الديبلوماسية هي مواصلة الحرب.. ولكن بوسائل مختلفة».
عندما دخلت الطائرات الروسية الحرب فبل خمسة أشهر كانت دمشق شبه محاصرة وسوريا مقطعة. حينها حددت موسكو أهداف تدخلها بحماية النظام، وجعله في موقع يمكنه التفاوض منه. والاهم الحفاظ على سوريا ومؤسساتها واحدة موحدة ذات طابع علماني تعددي.
من الصعب القول إن القوات الروسية حققت أهدافها كاملة، ولو حققت انجازاً غير متوقع، تمثل بجلب الولايات المتحدة كشريك لا لبس فيه في الحرب ضد الارهاب. هنا التنسيق الأميركي – الروسي لا يحتاج لكثرة وصف.
اللاحسم العسكري، واستمرار الفلتان الحدودي حول سوريا، لا ينبئان إلا بإطالة عمر الازمة والشقاء السوريين. ويبدو أن موسكو وتحسباً لتراجع هيبتها العسكرية التي أعادتها بقوة الى المسرح الدولي الواسع من البوابة السورية، لا تستطيع الاستمرار في التعبئة داخل الميدان لفترة طويلة من دون حسم عسكري بائن. لذا من الافضل الانسحاب «الإعلامي» المحدود، مع الحفاظ على الوجود الاستراتيجي، بانتظار بلورة شكل الادارة الاميركية الجديدة التي قد تنقلب على الانتصارات الروسية، وربما تتنصل من تفاهمات الاشهر الاخيرة في عهد باراك اوباما. إلى ذلك الحين روسيا مرتاحة لعظمتها.
السفير
بوتين “الرابح”/ إيلي القصيفي
بعد قرار الكرملين بسحب جزء من القوات الروسية في سوريا يمكن لفلاديمير بوتين القول إنّه لم يخسر من جرّاء تدخلّه في هذا البلد الخطر، كما كان يتوقّع أو يرغب باراك أوباما، الذي لمّح هو وإدارته بخبث بيّن مرّات عدة إلى أنّ سوريا ستكون أفغانستان ثانية بالنسبة لروسيا. لكن في الوقت نفسه يتعذر على بوتين القول إنّه انتصر في سوريا وهو لم يقل ذلك مرة، ولا جاء أصلاً إلى هناك ليحرز انتصاراً بل مكاسب، وبين الأمرين فرق شاسع.
نجح “القيصر” في انقاذ نظام بشار الأسد بعد فشل ايران وحلفائها في ذلك. وإنقاذ النظام لم يكن في النهاية لتحقيق أهدافه بسحق معارضيه، بل لأنه لم يكن في إمكان روسيا تحقيق مصالحها الدولية في سوريا لو سقط نظام الحكم فيها. هذا ربما ما لم يدركه بشار الأسد، إذ بيّنت مواقفه في الآونة الأخيرة، سواء لجهة رغبته في استعادة كامل المساحة السورية أو في تحديده موعداً للانتخابات بمعزل عن مواقيت اتفاق فيينا، أنّه يتصّرف وكأن الطائرات الروسية هدفها النهائي تخليصه من ورطته لا تحقيق مصالح روسيا في سوريا، التي تتمثل في تثبيت وجودها العسكري والسياسي على البحر المتوسط وبالتالي في منطقة الشرق الأدنى، وحجز مقعد متقدم لها في المفاوضات الدولية بشأن سوريا، ما يعيدها لاعباً أساسياً على الخريطة الدولية، مستفيدة من “عقيدة أوباما” الإنسحابية من بؤر التوتر.
وإذا كان من المبكر توقّع نتائج القرار الروسي المفاجئ على مسار مفاوضات جنيف أو في الميدان السوري، إلّا أنّه يمكن الجزم بأنّ القرار الروسي محطة مفصلية في مسار الأزمة السورية لا يقلّ شأناً عن قرار روسيا بالتدخل عسكرياً في سوريا، لا بل قد يفوقه أهمية. اليوم يستطيع بوتين القول للعالم بأسره أنني بذلت ما في وسعي لإنجاح مفاوضات الحل السياسي بتوجيهي رسالة قاسية إلى النظام لن يستطيع بعدها البقاء على تعنّته، لا بل سيضطر مكرهاً إلى تقديم تنازلات في جنيف. وهذا ما يمكن الاستدلال إليه من تصريحات بشار الجعفري ووفد النظام إلى المفاوضات، إذ لم نسمع منهم في جنيف أنّ “الأسد خط أحمر” كما قال وليد المعلم في دمشق أخيراً. وإذا كان رفض الجعفري، الأربعاء، الانتقال إلى “المفاوضات المباشرة”، ومطالبته بـ”ضرورة الإعداد الجيد للمفاوضات لناحية الشكل”، يمكن أن يفسّرا على أنّهما محاولة لعرقلة المباحثات، إلا أنّهما يعكسان، وهذا المهّم، إرباكاً لدى وفد النظام لجهة عدم قدرته على تأكيد مواقفه السابقة في ما يخص “أولوية مكافحة الإرهاب” و”الحكومة الجامعة”. لكن يبقى الأهم من كل ذلك للدلالة على الموقف الروسي ما أعلنه دي مستورا عن أنّ “الانتقال السياسي” هو أساس مباحثات جنيف الحالية. والأكيد أن المبعوث الدولي يستند في ذلك إلى اتفاق الكرملين والبيت الأبيض على “الانتقال السياسي”، كما شكلّ اتفاقهما على الهدنة ضماناً لاستمرارها.
هل ستنجح مفاوضات جنيف هذه المرة؟ الأكيد أنّ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى وقت إضافي. لكن حتّى لو فشلت هذه المفاوضات فإنّ بوتين يستطيع القول إنه لا يتحملّ مسؤولية ذلك، إذ إنه وقّت قرار بدء انسحاب قواته من سوريا مع بدء مفاوضات جنيف لإجبار الأسد على التنازل، حتى لو كان موقفه النهائي من هذه المفاوضات غير واضح بعد. وكان لافتاً في السياق تصريح بثينة شعبان التي دعت حلفاء المعارضة للضغط عليها، كأني بها تقول: “الروس ضغطوا علينا فتفضلوا أنتم واضغطوا على حلفائكم”! وما يدعو إلى التفاؤل، ولو بحذر، بنجاح مسار جنيف هذه المرة أنّ جميع أطراف الحرب السورية تعبوا، بمن فيهم روسيا، التي لا تستطيع تحمّل التكلفة الإقتصادية والسياسية ولاحقاً العسكرية لتدخلها في سوريا إلى ما لا نهاية. وكذلك ايران التي ستكون مجبرة بعد القرار الروسي على “إعادة التموضع” ميدانياً وسياسياً، لن تستمر وحيدة في دعم الأسد إذا تخلى عنه بوتين. كما أنه ليس سهلاً على دول الخليج وتركيا مواجهة روسيا وايران في سوريا في حرب استنزافية طويلة ستنهك الجميع قبل انتهائها. وإذا فكرنا في المكاسب التي حققتها الأطراف المقاتلة في سوريا حتى الآن نجد أنّ روسيا هي الرابح الأكبر حتى اللحظة، في وقت يصعب تحديد مكاسب أو خسائر الأطراف الأخرى. فموسكو استطاعت أن تعود لاعباً مهماً على الساحة الدولية وأن ترسّخ نفوذها في المنطقة ما قد يدفع الغرب إلى تخفيف الضغط عليها في أوروبا. وهذا ليس قليلاً بالنسبة لبوتين الذي لم يأت إلى سوريا ليجبر شعبها على الكتابة من جديد على الجدران “أمة عربة واحدة ذات رسالة خالدة”!
المدن
الانسحاب الروسي من سوريا.. مكسب لـ”داعش”/ نوح فيلدمان
لحظة الإعلان عن «إنجاز المهمة» تأتت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الاثنين، حيث أعلن عن اعتزام روسيا سحب الجزء الأكبر من قواتها من سوريا بعد أن نجحت في قلب مجرى الحرب بين الأسد والثوار السوريين. الإعلان يفسر جزئياً لماذا دعم بوتين وقفاً لإطلاق النار وهدنة خلال الشهر الماضي: ذلك أن هدفه كان تعزيز المكاسب التي حققها مع الأسد. ومن منظور المصالح والحسابات الذاتية، يمكن القول إن العملية شكّلت نجاحاً كبيراً بالنسبة لبوتين: تكثيف القصف من أجل خلق أزمة إنسانية، بينما تحقق قواتك تقدماً على الميدان، ثم التفاوض حول سلام حتى تظهر بمظهر الرجل المحب للسلام، مع ضمان عدم قدرة الطرف الآخر على القتال والرد من دون خرق الهدنة. هذا علماً بأنك ستحقق كل ذلك بموازاة مع تعزيز وضعك التفاوضي مع الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن الإعلان يشير أيضاً إلى أن بوتين لا مصلحة لديه في منح الأسد الدعم الذي يحتاجه لمحاربة قوات «داعش». ومن خلال إعلانه النصر قبل أن يواجه الأسد التنظيمَ المتطرف، فإن لسان حال بوتين يقول إن روسيا لا ترى مشكلة في بقاء «داعش» إلى أجل غير مسمى. والحال أن فقدان بوتين الاهتمام أمر مؤسف، على اعتبار أن استمرار تنظيم «داعش» كـ«دويلة» قائمة مزعزع لاستقرار المنطقة، وسيء للعالم، وكارثي بالنسبة لضحايا قمعها ووحشيتها. لكن للإنصاف ينبغي القول إن لا أحد آخر في المنطقة يبدو مهتماً جداً بمحاربة «داعش». وعلى ما يبدو، فإن بوتين خلص بكل بساطة إلى أنه سيربح أقل إنْ هو حاول قتال التنظيم -مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمال الفشل- منه إذا أعلن النصر الآن وانسحب من الميدان.
لكن ينبغي ألا يتوهم أحد أن الأسد استشير بشأن قرار بوتين، الذي عكس مصالح روسيا، وليس مصالح نظامه. ولا شك أن الأسد سيفتقد الجنود الروس، وإنْ كان سيستمر ربما في تلقي بعض الدعم الجوي الروسي، لأن الروس أبقوا على قاعدتهم الجوية في حميميم بالقرب من اللاذقية. بيد أنه من غير المستبعد أن الأسد يتفق مع بوتين على أن محاربة «داعش» الآن تمثل خطوة غير واقعية وغير مضمونة النتائج. ذلك أنه سيكون من الخطير جداً أن تسعى سوريا لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم حتى مع دعم روسي، لأن الأسد يحتاج لكل القوات لديه من أجل الحفاظ على المكاسب التي حققها ضد الثوار السوريين، وخاصة بالقرب من حلب. كما أنه يحتاج لإقامة نوع من الحكومة الفعالة في الجزء الذي يسيطر عليه من سوريا.
وذلك معناه أن إعلان الحكومة الروسية يمثل مكسباً مهماً بالنسبة لـ«داعش»، لأن بوتين ضمن أنه لن يكون لدى الأسد خيار آخر غير السعي وراء سلام بارد مع التنظيم، فيحترم حدوده على أمل ألا يسعى لغزو الأراضي التي استعادها الأسد أو الزحف على دمشق.
ومن منظور «داعش»، فإن سلاماً بارداً ومؤقتاً مع الأسد يبدو أمراً مغرياً. ذلك أن التنظيم لا يستطيع حكم ملايين العلويين الموالين للأسد. ولأنه يعتبرهم كفاراً، فإنه سيحاول حملهم على تغيير مذهبهم أو طردهم أو قتلهم إن هو تمكن بطريقة ما من كسر النظام. وإلى ذلك، فإن «داعش» لا يستطيع القتال على جبهات متعددة في آن واحد، فهو يواجه قتالاً طويلاً مع الحكومة العراقية التي تحاول استعادة المناطق السنية في العراق. كما أنه من المحتمل أن يواجه نزاعاً طويل الأمد مع تركيا، والتي لا ترغب في «دولة» إرهابية بالقرب من حدودها، ومع الأكراد من كل الأطياف الذين سيقاتلون من أجل كل شبر من الأراضي.
وتحت هذه الظروف، فإن مصالحة قصيرة الأمد مع الأسد تبدو أمراً جيداً بالنسبة لـ«داعش». وفضلاً عن ذلك، يمكن القول إن بوتين والأسد أسديا خدمة كبيرة للتنظيم من خلال انتصاراتهما الميدانية الأخيرة على الثوار السوريين الآخرين. وقد لا يحدث ذلك فوراً، لكن «داعش» قد يتحول بسهولة إلى ما يشبه البديلَ السني الوحيد للأسد، وهو ما قد يعني انضمام المزيد من «المتطوعين» إلى صفوفه، بل ودعماً من السوريين السنة المحبَطين.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
الاتحاد
هل يفتح رحيل روسيا الباب أمام تدخل سعودي سني في سوريا؟
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
في مناورة تكتيكية أخرى، أعلن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في 14 مارس/آذار الجاري، أنه سوف يقوم بسحب الجزء الرئيسي من قواته في سوريا، في حين أنه قد يكون من السابق لأوانه تقييم كل من الدافع والمستوى النهائي للانسحاب، فإن هذا التحول قد يكون محورا أساسيا في التعامل مع تلك الأزمة التي تبدو بلا نهاية.
ربما تشعر موسكو الآن بثقة نسبية حول موقف رئيس النظام السوري «بشار الأسد» والاتجاه العام لمحادثات السلام كما تشعر ربما بقلق متزايد إزاء ارتفاع تكلفة العملية في وقت تضعف فيه العملة المحلية وتنهار أسعار النفط التي يعتمد الاقتصاد المحلي عليها بشكل كبير.
والسؤال المهم هو ما إذا كان هذا التراجع سوف يمهد الطريق أمام إدراج قوة عربية إلى داخل الصراع.. ربما من قبيل الصدفة البحتة، فإن قرار روسيا بسحب قواتها قد جاء تزامنا مع المناورة العسكرية الكبيرة التي قادتها المملكة العربية السعودية والتي اعتبرها البعض بروفة للتدخل في الصراع.
في الواقع، أنه الأسبوع الماضي، استقبلت صحراء المملكة العربية السعودية حوالي 350 ألف جندي إضافة إلى 20 ألف من الدبابات وعشرات السفن، وحوالي 2500 طائرة حربية تنتمي إلى أكثر من 20 دولة في أكبر مناورة عسكرية تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
ما الذي تهدف إليه مناورات رعد الشمال؟
سميت هذه المناورات باسم مناورات رعد الشمال. ولكن حتى لا نخطئ الأمر فمن المهم أن نؤكد أنها مناورات عسكرية وليست مجرد ألعاب، وهي جهود وصفتها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها بأنها محاولة لتشكيل قوة متماسكة لمكافحة المنظمات الإرهابية مثل «الدولة الإسلامية»، تنظيم القاعدة، حركة الشباب، وربما حتى بوكو حرام، كما أنها تهدف أيضا إلى إرسال رسالة قوية إلى طهران التي تواصل الانطلاق بطموحاتها التوسعية.
شملت المناورات تدريبات للقوات التقليدية على إجراء العمليات القتالية منخفضة الحدة ضد الجماعات المسلحة غير الحكومية، كما شملت أهدافها أيضا تحسين التنسيق العملياتي بين القوات المسلحة السعودية وحلفائها حتى يتمكنوا من تنسيق المناورات على الرغم من اختلاف اللغات والمعدات العسكرية، وأنظمة التشغيل
كما تضمنت التدريبات البحرية وتدريبات القصف التي تهدف إلى إظهار القوة العابرة للمسافات، وعلى الرغم من أن مناورات الأسابيع الثلاثة قد انتهت في 10 مارس/أذار الماضي، فإنه ينتظر أن يكون تأثيرها طويل الأمد.
السؤال الحقيقي، بطبيعة الحال، هو ما إذا كانت هذه العملية الضخمة مجرد استعراض للقوة أم أنها تبشر بالاتجاه إلى نشر فعلي للقوات القتالية في المناطق المضطربة في المنطقة.
تستمر رحى الحرب في اليمن دائرة بعد ما يقرب من عام من القتال متوسط المستوى، وقادت القوات السعودية الجهود ضد المتمردين الحوثيين الذين أطاحوا بالحكومة في البلاد وبالتأكيد فإن جزءا من مناورات رعد الشمال كان يهدف إلى تدريب القوات الخاصة والوحدات البرية والتي ستكون مهمة من أجل المضي قدما إذا لم يتسن حل النزاع من خلال المفاوضات، في حين أن هناك ومضات من الدبلوماسية حول إمكانية إجراء محادثات مباشرة بين المتمردين الحوثيين والسعوديين، فقد تم تصميم ممارسة شمال الرعد بشكل واضح للتدليل على قدرة المملكة أمام الإيرانيين الذين يدعمون الحوثيين.
المسرح الرئيسي للصراع في المنطقة هو، بطبيعة الحال، في سوريا.. تحدث السعوديون علنا حول استعدادهم لإرسال قوات على الأرض لدعم القوات السورية المعتدلة التي تحارب «الأسد»، ومن الممكن أن مناورات رعد الشمال كانت تهدف إلى تدريب وتحفيز بناء تحالف عربي سني للقيام بذلك.
إمكانية حدوث ذلك في أرض الواقع سوف يعتمد بشكل كبير على مآلات المفاوضات السورية التي ترعاها الولايات المتحدة وروسيا وخاصة لو تم الاتفاق على سيناريو التقسيم أو «الفدرلة»، حيث يمكن أن تكون قوة برية العربية هي الضامن الأهم للأمن في الجزء السني من سوريا.
البحث عن القيادة
عبر هذه التدريبات واسعة النطاق والمتطورة نسبيا، فإن المملكة العربية السعودية تسعى لإثبات كونها شريك أمني حيوي في منطقة الشرق الأوسط وقائد مسؤول في العالم الإسلامي
تعد هذه التمارين دليلا ملموسا ولكن يجب أن يرافقها عمليات الانتشار الفعلية للقوات القتالية من أجل تحقيق التأثير الذي ترغب فيه كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومحاربة النفوذ الإيراني والمساهمة في استقرار المنطقة.
ويبدو من غير المبشر عدم تواجد الولايات المتحدة أو أي من القوى الغربية في هذه الأحداث.. ينبغي على واضعي السياسات في الولايات المتحدة أن ينتبهوا إلى أهمية تعزيز الشراكة الأمنية ما بين واشنطن والرياض.
وبدفع من وزير الدفاع الجريء ونائب ولي العهد الأمير «محمد بن سلمان»، تصعد المملكة من جهودها لمواجهة التحديات وذلك عبر تعبئة الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وشمال أفريقيا ضمن منظومة دفاعية مشتركة.
وزير الدفاع، البالغ من العمر 30 عاما، يتبنى أيضا عددا من الإصلاحات الاقتصادية الهائلة التي يمكنها أن تعزز الدور الأمني للمملكة، وكحليف للولايات المتحدة لمدة سبعة عقود على الأقل، فقد كانت المملكة العربية السعودية دوما قائدة لدول مجلس التعاون الخليجي وقوة درع الجزيرة، إلى جانب الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين وسلطنة عمان.
الآن، تقوم المملكة العربية السعودية بتوسيع آفاقها الجيوستراتيجية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت المملكة عن تحالف جديد مكون من 34 دولة من الدول ذات الأغلبية المسلمة من أفريقيا والشرق الأوسط يهدف إلى مواجهة التطرف العنيف ليس فقط في ساحة المعركة وإنما في ميدان الأفكار.
جلبت هذه المناورات العسكرية الأخيرة وحدات عسكرية من مختلف دول هذا التحالف بما في ذلك ليس فقط في دول الخليج ولكن أيضا مصر والأردن وباكستان والسودان وماليزيا والمغرب وتونس. وكجزء من العلاقة الاستراتيجية مع أنقرة، فقد أرسلت المملكة العربية السعودية طائرات مقاتلة إلى قاعدة أنجرليك الجوية في جنوب تركيا لتوسيع دورها في الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
كما تؤكد هذه الإجراءات، يبدو أن المملكة العربية السعودية ترغب وحلفاءها في تولي مسؤولية أكبر عن الأمن الإقليمي والدولي، بالنظر إلى ما ينظر إليه الكثيرون على أنه فراغ في القيادة خلفته سياسة التقشف الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
تستجيب جميع هذه البلدان لتهديدات أمنية متعددة بداية من المتطرفين العنيفين الذين يحتلون مساحات واسعة من الأراضي في كل من سوريا، والعراق، وليبيا.. وفي الوقت نفسه، هناك إيران التي صارت أكثر ثراء وجرأة بعد توقيع الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والقوى الغربية، والتي تواصل تدخلاتها في لبنان، سوريا، اليمن، العراق، وحتى دول الخليج الأخرى
ونتيجة لذلك، فإن البلدان ذات الأغلبية السنية مثل المملكة العربية السعودية وحلفائها يخشون من ظهور إيران كقوة إقليمية مهيمنة، تدعي أحقيتها بالقيادة على الشيعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وتسعى إلى زعزعة استقرار المجتمعات ذات الأغلبية السنية.
هذه المواجهة الجيوسياسية بين طهران والرياض تأتي متواكبة مع الصراع الديني الكامن بين السنة والشيعة في المنطقة منذ عقود.
ويبدو واضحا تماما أن المملكة العربية السعودية وحلفاءها يرسلون إلى الولايات المتحدة رسالة مفادها: «نحن ما زلنا على استعداد لنثق بكم ونعمل معكم.. ولكن في الوقت نفسه، نحن مستعدون وراغبون وقادرون على الذهاب وحدها، إذا دعت الحاجة إلى ذلك».
يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن يسعوا إلى تعزيز وليس الحد من الشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية.. إذا تركت الرياض وحلفاؤها للعمل وحدهم، وسط تزايد حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن، فإن الشرق الأوسط سوف يصبح أكثر اضطرابا ويمكن لذلك أن يقوض جميع جهود الحرب على الإرهاب.
مع مرور الوقت، يجب أن تشجع الولايات المتحدة الاتصالات بين هذا التحالف الذي تقوده السعودية وبين (إسرائيل) التي تمثل الشريك الأقوى للولايات المتحدة في بلاد الشام، وكذا بين التحالف السعودي وبين حلف الناتو الذي أظهر استعداده للمشاركة في عمليات الدفاع عن المصالح الغربية في ليبيا والعراق وتركيا
يمكن لربط زعماء السنة مع (إسرائيل) ومنظمة حلف شمال الأطلسي أن تكون الخطوة القوية التالية بالنسبة للولايات المتحدة في المنطقة، وإن كانت تبدو خطوة صعبة.
وجود السعودية والقوات السنية الأخرى في سوريا هو نعمة ونقمة.. سوف يسهم هذا التواجد في تعزيز المقاومة السنية المعتدلة بشكل ملحوظ وإضعاف نظام «الأسد»، ويمكن أن يسهم في خلق منطقة آمنة كبيرة بالمشاركة مع القوة الجوية الأمريكية، ولكنه أيضا سوف يعزز من الصراع القائم في المنطقة ما بين إيران والمملكة العربية السعودية.
وبشكل عام، فإن الفوائد التي تعود على الشعب السوري ربما تفوق المخاطر الجيوسياسية ولكنه سيتطلب قدرا من الاهتمام الأمريكي من أجل السيطرة على جهود مناهضة «الأسد» ومكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية».
هناك مشكلة أكبر في العمل من حيث علاقة الولايات المتحدة مع المملكة..مع التأكيد على أهمية ومركزية العلاقات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وبين السعودية وحلفائها السنة سنكون قادرين على العمل معا لمكافحة المتطرفين الإسلاميين وكذا احتواء إيران وطمأنة (إسرائيل) والمساعدة في خلق شرق أوسط أكثر استقرارا.
مناورات رعد الشمال هي خبر سار بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن في نهاية الأمر هي مجرد مناورات لا بد أن يليها نشر قوات قتالية فعلية لتغيير الحقائق على أرض الواقع، ورحيل الروس قد يفتح نافذة لهذه الفرصة.. ينبغي لنا أن نفعل كل ما بوسعنا لتشجيع هذه الخطوة التالية، والتي هي الاختبار الحقيقي.
فورين بوليسي
كيف يمكن أن يؤثر الانسحاب الروسي على القوات الموالية للنظام السوري؟
لعبت روسيا دورا رئيسيا في استقرار الوضع العسكري في سوريا لصالح النظام في دمشق.. القوات الموالية، وبدعم أرضي متزايد أيضا من قبل إيران، تحولت من الدفاع إلى الهجوم منذ بداية عام 2016 وعلى الرغم من أن القوات الموالية لم تكن قادرة على هزيمة المتمردين أو استعادة قطاعات حاسمة من الأراضي منذ تدخل الروس، فإنه من الواضح أنها أصبحت تملك اليد العليا.
في أغسطس/آب من عام 2015، وقبل تدخل روسيا في الصراع، كانت أكبر الأخطار التي تهدد القوات الموالية للحكومة تأتي من جيش الفتح في شمال غرب سوريا و«الدولة الإسلامية» في وسط سوريا
وكان جيش الفتح قد نجح في هزيمة القوات الموالية في إدلب والسيطرة على معظم أراضي المحافظة، وفي الوقت نفسه، كان تنظيم «الدولة الإسلامية» قد استولى على مدينة تدمر الأثرية، واستولى على خط إمداد «إم 5 » الحيوي المؤدي إلى دمشق إلى بقية المناطق الخاضعة لسيطرة الموالين في سوريا.
ما الذي حققته القوات الحكومية؟
على مدى الأشهر الستة الماضية، تحسن موقف القوات الحكومية بشكل ملحوظ وبخاصة في مواجهة المعارضة.. بمشاركة كبيرة من الميليشيات العراقية والأفغانية والإيرانية وحزب الله، إضافة إلى الدعم الجوي الروسي، فإن قوات النظام قد نجحت في ربط مواقعها شمال مدينة حلب مع القرى الشيعية نبل والزهراء وقطع طريق المعارضة في شمال حلب.
وقد نجح النظام في إحراز تقدم بطيء ولكنه ثابت في المناطق الجبلية شمال شرق محافظة اللاذقية وصولا إلى حدود إدلب التي تسيطر عليها المعارضة.
أوقفت القوات الموالية أيضا تقدم المعارضة جنوبا إلى محافظة حماة.. وحتى في الجنوب، فقد كانت قادرة على الاستيلاء على بلدة الشيخ مسكين في درعا على الرغم من الخسائر الفادحة التي غالبا ما تتكبدها القوات الحكومية عند القتال في المناطق الحضرية.. وباستثناء بلدة مورك، فإن قوات النظام لم تخسر أي أراضي رئيسية لصالح المعارضة منذ بداية التدخل الروسي.
حقق النظام أيضا مكاسب ملحوظة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».. تقدمت القوات الحكومية بنجاح إلى الشمال الشرقي منطلقة من قواعدها في «السفيرة» جنوب حلب نحو القاعدة الجوية في كويريس التي ظلت تحت حصار «الدولة الإسلامية» لسنوات.. وصلت الحملة الأمنية التي تساندها روسيا وإيران إلى القاعدة الجوية ونجحت في إبعاد المسلحين عن المناطق المحيطة بها وهددت معقل «الدولة الإسلامية» في الباب.
تمت كذلك محاصرة التنظيم إلى الغرب باتجاه الطريق السريع ناحية تدمر وبدأت قوات الحكومة هجوما منسقا لاستعادة السيطرة على المدينة.. وأخيرا، وبمساعدة من القوة الجوية الروسية، نجحت كتائب اللواء 104 الجمهوري في الصمود في وجه الهجمات المتكررة لتنظيم «الدولة الإسلامية» ونجحت في الحفاظ على سيطرتها على أجزاء من مدينة دير الزور التي تمثل مفترق طرق.
بوضوح، ساعدت المشاركة الروسية في تغيير أوضاع القوات الحكومية إلى الأفضل.. حكومة «بشار الأسد» تقف الآن في وضع هجومي استراتيجي.. في جميع المعارك المذكورة، قدمت روسيا دعما جويا كبيرا لتقدم القوات الأرضية، كما قدمت مساعدات كبيرة ومعدات بما في ذلك الدبابات والمدفعية وأنظمة الرؤية الليلية وأجهزة الاتصالات.
وقد أشرف الخبراء الروس على عمليات تدريب القوات الحكومية بما في ذلك التدريب على الأسلحة التي تم تسلميها حديثا وحتى تدريب الميليشيات الحليفة.. وعلاوة على ذلك، فقد لاحظت الجماعات المعارضة مشاركة روسيا بمفردها في توجيه بعض الضربات، معربة مرارا عن إحباطها بسبب الغارات الجوية الروسية التي تفقدها القوة على تركيز قواتها.
ليست مجرد مساعدة
ومع ذلك، فمن المهم أن نتذكر أن مساهمة روسيا كانت مجرد جزء فقط من دعم أكبر حجما تلقته القوات الحكومية منذ سبتمبر/أيلول 2015، .. تظهر إيران بوصفها صاحبة المساعدات الأكثر بروزا وربما الأكثر حسما في هذا الدعم.. وقد نقل الإيرانيون العديد من أسلحتهم ومعداتهم إلى الحكومة السورية، كما لقي الكثير من المستشارين الإيرانيين حتفهم في الخطوط الأمامية للمعركة.
الأهم من ذلك، أن إيران قامت بضخ عشرات الآلاف من القوات شبه العسكرية والميليشيات من المقاتلين من العراق وأفغانستان وباكستان، وكذلك حزب الله، والتي زادت بشكل كبير من أعداد القوات الموالية على الخطوط القتالية.
سوف يؤثر الانسحاب الروسي بكل تأكيد على القدرات الشاملة للقوات الحكومية.. سوف تصبح الضربات المؤثرة وعالية الدقة أكثر صعوبة، كما سيتم تخفيض قدرات المراقبة والاستطلاع والقدرات الاستخباراتية، وسوف تستفيد المعارضة من هامش أكبر في حرية التنقل، وسوف تفقد القوات الحكومية الكثير من قدراتها على إخضاع العدو قبل شن الهجمات البرية.
سوف تسعى الفصائل المعارضة وبخاصة الفصائل الجهادية مثل جبهة النصرة وجند الأقصى إلى إظهار قوتهم، ويحتمل أن يضعف ذلك الجهود الرامية إلى التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.
ومع ذلك، جعل الروس من الواضح أنهم سوف يستمرون في دعم حكومة «الأسد» بالسلاح والتدريب، وكذلك ربما بعض الطلعات الجوية من قبل الطائرات المتبقية، وعلاوة على ذلك، لم تظهر أيا من إيران أو حزب الله ما يدل على أنهم سوف يقللون أيضا من قواتهم، وطالما أن الانسحاب الروسي هو الوحيد في الأفق، فمن المرجح أن تكون القوات الموالية السورية قادرة على الحفاظ على الميزة العسكرية الحالية.
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
ستراتفور
هل يمكن أن يربح «الأسد» أيضا من الانسحاب الروسي؟
نجح إعلان الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» عن إتمام مهمته في سوريا في جذب الانتباه الذي كان مخططا له أن يجذبه.
الإعلان الدراماتيكي، إلى جانب تحميل طائرات الشحن في سوريا أطلقت استجابة مشابهة لاستجابة «مترنيش» حينما بلغ نبأ وفاة «تاليران» في عام 1838 عندما قال: «أتساءل ما الذي يعنيه ذلك؟».
ليس الجواب عصيا على الفهم بالشكل الذي قد يبدو عليه لأول وهلة، كانت الأهداف الروسية محدودة منذ البداية وتمثلت في تحقيق الاستقرار في الوضع العسكري لنظام «بشار الأسد» وضمان تماسك النخبة داخل النظام من خلال تعزيز ثقتها بنفسها، وتوجيه ضربات قوية إلى الجماعات الجهادية المتمركزة قرب الأراضي التي يسيطر عليها النظام وإذا كان ذلك ممكنا، فتمكين النظام من توسيع محيطه الأمني.
كان النظام يحتاج إلى بعض العمق الاستراتيجي وقد منحته روسيا هذا العمق، وبالنسبة لروسيا، فقد مثل الأمر لها فرصة لإظهار أنها قوة لا يستهان بها، وقد نجحت في ذلك بكل تأكيد.
لم يذهب الروس إلى سوريا من أجل استعادة الماضي العدني، أو حتى التحكم في المستقبل، ولكنهم ذهبوا إلى هناك من أجل استعادة التوازن الميداني إلى جانب عدد من الأشياء الأخرى الجانبية.
لا يوجد أيا من هذه الأهداف، بالنظر إلى نقاط الضعف الكامنة للمعارضة المسلحة، كان يحتاج إلى عقود من أجل تحقيقه، كما أنه لم يكن يتطلب قوات كبيرة.
نشرت روسيا حوالي 4 آلاف فرد من أجل تسهيل عمل 35 قاذفة قنابل و32 مقاتلة قاذفة و8 مقاتلات و12 مروحية هجومية و4 طائرات هليوكوبتر.
في الخارج، حافظت روسيا على دورية مكونة من 7 سفن بما في ذلك غواصة وهي منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية، وطراد، واثنين من السفن الحربية الصغيرة.
على مدى الأشهر الستة الماضية، حلقت أطقم الطائرات الروسية في أكثر من 10 آلاف طلعة جوية بمتوسط بلغ ما بين 60 إلى 74 طلعة يوميا، وهي وتيرة تشغيل مرتفعة نسبيا.
وقد فعلت روسيا ذلك بتكلفة منخفضة نسبيا مقارنة بعمليات الولايات المتحدة ضمن إطار التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» حيث تحتاج الطائرات الهجومية إلى اجتياز مسافات طويلة نسبيا ما بين قواعدها إلى أهدافها، كانت تكلفة الطلعات الجوية الروسية منخفضة جدا، ووفقا لبعض التقديرات التكلفة اليومية المقدرة العمليات الروسية كان في حدود 4 ملايين دولار وهي تكلفة ضئيلة نسبيا مقارنة بموازنة الدفاع الضخمة للبلاد التي يبلغ 50 مليار دولار.
بعد أن قامت روسيا بنفض الغبار وتجديد منشآتها القديمة في طرطوس وتعزيز وحداتها هناك، فإن بإمكان روسيا أن تعيد انتشارها في سوريا خلال فترة زمنية قليلة.
والواقع أن الروس ربما يفعلون نفس ما فعلته الولايات المتحدة في دول الخليج حيث تخرج طائراتهم الدورية من القواعد العسكرية في كل من قطر والإمارات العربية المتحدة على نحو يرقى إلى وجود دائم، في حين أنه مؤقت من الناحية التقنية.
إعادة هذه الوحدات إلى القواعد الروسية لا يمثل تغيرا كبيرا بالنظر إلى سهولة إعادة نشرها في المستقبل، في الواقع فإن الأمر في حقيقته ربما لا يمثل أكثر من كونه توقفا تكتيكيا.
ومع ذلك فإن تخفيف الانتشار وسحب القوات يعني أكثر من مجرد توفير المال وإراحة الطواقم، في الواقع فإن الأمر يمكن أن ينظر إليه على أنه مناورة دبلوماسية بارعة، تظهر هذه المناورة مدى قدرة روسيا على ضبط نفسها وإبداء التعاون في مرحلة حاسمة من عملية التفاوض الجارية في جنيف، كما أنها تضع ضغطا مماثلا على المعارضة من أجل إبداء مواقف أكثر مرونة على طاولة التفاوض.
بالنسبة للذين لا يزالون يتساءلون حول حقيقة هدف «بوتين» من هذه الخطوة، فإن أحد الإجابات المحتملة أن بوتين ربما يكون قد ضاق ذرعا يتحدي الأسد علنا للرغبات الروسية والتصلب تجاه المفاوضات وبالنظر إلى تاريخ «بوتين» من التصرف أحيانا بدافع الغضب فإنه ربما أراد أن يلقن «الأسد» درسا من خلال هذا الانسحاب.
السيناريو الآخر، وربما الأكثر ترجيحا، هو أن «بوتين» لا يقصد الانسحاب بهدف الضغط على «الأسد» كما يتوقع البعض أو يتمنون، هدف روسيا الدبلوماسي هو الوصول إلى تسوية تفاوضية تحافظ على وجود «الأسد» في موقعه.
الانسحاب الروسي، الذي لا زلنا لا نعرف الكثير حول حقيقته أو طبيعته أو حجمه أو حتى إطاره الزمني، لن يلقي الرعب في قلب النظام الذي تتمتع قواته في الوقت الحالي بحالة جيدة في الوقت الذي يعاني فيه معارضيه من الضعف وانقطاع خطوط الإمداد الخاصة بهم، فبالنسبة لـ«الأسد» و«بوتين»، فإن الانسحاب الجزئي قد يكون تكتيكا مربحا لكلا الجانبين.
فورين أفيرز
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
انسحاب روسيا من سوريا.. مؤشر نجاح أم فشل؟/ افتكار مانع-موسكو
أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتعليق ما أسماه العمليات العسكرية الرئيسية في سوريا وسحب الجزء الأكبر من قواته الكثير من التساؤلات، لا سيما وأنه جاء دون مقدمات، وكان السؤال الأبرز: هل كان قرار الانسحاب منفردا أم أنه يأتي في إطار توافقات دولية لم يتم الكشف عن تفاصيلها حتى الآن؟
ومما زاد الغموض أن الانسحاب لم يكن نهائيا، إذ أن روسيا تركت المجال مفتوحا أمام استمرار غاراتها على مواقع من تصفهم بالإرهابيين
وقد بدأت موسكو حملتها العسكرية بسوريا في سبتمبر/أيلول الماضي بحجة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها سرعان ما واجهت انتقادات من مختلف دول العالم لأنها ركزت ضرباتها على المعارضة المسلحة التي توصف بالاعتدال، ما أعطى انطباعا بأن الحملة تهدف بالدرجة الأولى لدعم نظام بشار الأسد ومساعدته في استرداد المناطق الواقعة تحت سيطرة خصومه.
قرار مدروس
ويرى خبير معهد الاستشراق بوريس دولوغوف أن الانسحاب جاء بعد تقديرات القيادة الروسية بأن القوات المسلحة حققت الأهداف الأساسية التي أرسلت من أجلها، إذ أنها منعت المنظمات الجهادية من الإطاحة بالنظام وساعدت قوات النظام في استعادة قسم كبير من المناطق التي خرجت عن سيطرتها.
ويضيف: لكنها في المقابل فشلت في تحقيق أهدافها المتمثلة في القضاء على تنظيم الدولة والمنظمات الجهادية الأخرى كـ جيش الإسلام وحركة أحرار الشام وجبهة النصرة.
ويعتبر دولوغوف -في حديثه للجزيرة نت- أن القرار الروسي يهدف للدفع بعملية السلام وإطلاق المفاوضات بين الفرقاء السوريين، كما أنه يقدم إشارة إيجابية للولايات المتحدة والمملكة السعودية وتركيا مفادها أن روسيا لم تأت لسوريا للبقاء فيها، وإنما للحفاظ على كيان الدولة السورية ومنع إنهيارها ومواجهة الفوضى و”الإرهاب” في المنطقة.
وعن دوافع الانسحاب، يقول دولوغوف إن “القرار لم يكن مفاجئا وإنما هو قرار مدروس تم اتخاذه بناء على توصيات خبراء ومستشارين سياسيين وعسكريين واقتصاديين روس، ولا أعتقد أن روسيا نسقت الأمر مع الولايات المتحدة مسبقاً، لأن الرئيس بوتين أبلغ نظيره الأميركي بهذا القرار هاتفيا، وكذلك أبلغ الرئيس بشار الأسد لإعطاء السوريين الفرصة ليقرروا مصيرهم بأنفسهم”.
ولم ينكر مخاوف موسكو من استغلال قوى المعارضة الانسحاب الروسي لتعزيز مواقعها واستعادة سيطرتها على المناطق والمدن التي اضطرت للتخلي عنها، ما يعني عودة المواجهات والاقتتال مجددا.
انسحاب جزئي
من جانبه، يؤكد الخبير العسكري فكتور ليتوفكين أن القوات الروسية في سوريا نفذت مهماتها المتمثلة في “تطهير” القسم الغربي من البلاد من مقاتلي تنظيم الدولة.
وكانت حصيلة العملية التي استمرت قرابة نصف عام استعادة كامل السيطرة على اللاذقية وربطها بـ حلب، ومحاصرة تدمر. علما بأن المعارك ما زالت مستمرة لاستعادة السيطرة عليها، بالإضافة إلى استعادة النظام أجزاء كبيرة من محافظتي حمص وحماة، واستعادة السيطرة على قاعدة كويرس الجوية بعد ثلاث سنوات من استيلاء المسلحين عليها، واستعادة السيطرة على حقول النفط والغاز بالقرب من تدمر.
ويقول ليتوفكين -في حديثه إلى الجزيرة نت- إن “الانسحاب الجزئي للقوات الروسية لا يعني خروجها نهائيا، فهي قادرة على إعادتها إلى سوريا في أي وقت في حالة ظهور تهديد حقيقي قد يؤدي لتغيير جذري في موازين القوى على الأرض، ما يعني أنها باقية بمنطقة الشرق الأوسط”.
ويشدد على أن روسيا ما تزال تحافظ على قواعدها في طرطوس وحميميم، كما أنها ستبقي منظومة أس-400 لمراقبة الأجواء السورية وسريان الهدنة.
تخبط وفشل
في المقابل، يرى الصحفي المعارض إيجر يكفنكو أن روسيا فاجأت الجميع في السابق عندما قررت التدخل بسوريا، واليوم تفاجئ الجميع مجددا بقرارها الخروج، وهذا يدلل على مدى التخبط في اتخاذ القرار.
ويضيف للجزيرة نت أن روسيا منيت بالهزيمة في سوريا لأنها فشلت في تحقيق أهدافها ولم تتمكن من القضاء على تنظيم الدولة ولا المعارضة السورية المسلحة، وفشلت في تثبيت سلطة الأسد على الأراضي السورية، فالأسد لا يسيطر إلا على جزء يسير من الأراضي السورية وقواته منهكة ولا يمكنها الصمود دون مساعدة الإيرانيين والمليشيات العراقية الشيعية ومليشيا حزب الله.
ويعتقد يكفنكو أن سحب القوات الروسية سوف يؤدي إلى استعادة قوات المعارضة السورية المسلحة المبادرة، وإحداث تغيير على أرض الواقع.
ويشدد على أن روسيا أدركت أخيرا أنها تنزلق أكثر بالدوامة السورية وأن مهمتها قد تطول لأعوام دون تحقيق نتائجها، مع إمكانية تطور المواجهة لدخول لاعبين إقليميين لساحة المعركة مما يهدد باتساع نطاق الحرب، هذا بالإضافة للنزيف المالي والانعكاسات على الاقتصاد الروسي المنهك أصلا.
الجزيرة نت
هل انتهت الحرب الروسية «المقدسة»؟!/ سلمان الدوسري
ربما لا يوجد أكثر دقة عند تحليل القرارات السياسية من التفاعلات الاقتصادية؛ فما إن أعلنت موسكو عن عزمها الانسحاب من سوريا، حتى تهاوت الليرة السورية منخفضة 20 في المائة، وهو ما يفسر بشكل واضح أكثر المتضررين من القرار الروسي. لا يهم لماذا قررت موسكو ذلك فجأة، وهي التي وصفت تدخلها قبل أشهر بـ«الحرب المقدسة»، لا يهم إن كان انسحابًا حقيقيًا أم تكتيكيًا، المهم جدًا أن موسكو وجهت ضربة غير مسبوقة لنظام الأسد لم تفعل مثلها منذ قررت المغامرة والتحالف مع النظام ضد شعبه، أما فعالية هذه الضربة وتأثيرها وتبعاتها فستظهر جليًا عندما تدور رحى مفاوضات جنيف. صحيح أن الروس دعموا حليفهم الأسد كما لم يدعمه أحد، وصحيح أيضًا أنهم شركاء في كل ما اقترفه من جرائم، وصحيح أنهم زعموا محاربة الإرهاب لنفاجأ أن الهدف هو المعارضة المعتدلة بينما الإرهابيون الحقيقيون يسرحون ويمرحون، إلا أن موسكو لن تثقل كاهلها بتعقيدات أزمة مرت خمس سنوات عليها، ويمكن أن تستمر خمس سنوات أخرى، فالروس في نهاية الأمر يرغبون أن يكون هناك حل ينهي هذه القضية الشائكة، وحتى لو كانت رؤيتهم للحل تختلف عن رؤية المعارضة السورية، فإنها في نفس الوقت تختلف عن رؤية النظام، خاصة بعد أن نسي الأخير أنه لا يملك من قراره شيئًا، وتصرف كأنه دولة حقيقية وليست كرتونية لا تحكم في واقع الأمر إلا ربع الدولة السورية، وذلك في تصريحات وليد المعلم الأخيرة عن العملية السياسية، حيث صعق فيها صديقه الدب الروسي أكثر من خصومه.
الخبر الجيد هنا أن موسكو بدأت تصحيح خطأ كارثي ارتكبته قبل ستة أشهر بتدخلها غير المبرر في الأزمة السورية، فالوقائع على الأرض تقول إن التدخل الروسي لم يحقق أي نتائج حقيقية ملموسة، حتى يمكن القول إن الانسحاب تم بعد تحقيقها أو على الأقل جزء منها. وبحسب الأرقام، فإن موسكو قد تحتاج إلى 30 عامًا حتى تنجح في إبقاء نظام الأسد على قيد الحياة إذا استمرت العمليات بوتيرتها الحالية، فعندما تدخلت موسكو كانت تتوقع، وهي توجه ضرباتها إلى مقاتلي المعارضة المعتدلة لا الجماعات الإرهابية، أنها ستقلب الموازين على الأرض، غير أنها فشلت تمامًا في ذلك وخيب الميدان ظن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي كان قد صرح في وقت سابق بأن الهدف من التدخل هو هزيمة تنظيم داعش. غني عن القول إن هذا الهدف لم يتحقق ولا بنسبة واحد في المائة، في حين أن الأسد وزمرته قرأوا التدخل العسكري الروسي بشكل خاطئ كليًا، باعتباره مسلمًا به وسيستمر إلى ما لا نهاية وسيغير من قواعد اللعبة سريعًا ودون أن تكون له كلفة يجب أن يدفعها النظام، وغاب عنهم أن هناك اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية تمنع موسكو من القيام بالمهمة بدلاً من نظام بلغ منه الغرور عتيًا إلى حد إلغاء العملية السياسية برمتها وكأنه يتحكم بزمام الأمور، وهو ما لم تفكر حتى موسكو في القيام به.
الأكيد أن الأنظار ستكون موجهة لمفاوضات جنيف، طبعًا لن تكون باتجاه وفد المعارضة، الذي غالبًا ما كان يتصدر المشهد، فالحال انقلب جذريًا، وتمكنت المعارضة من ضبط إيقاع التفاوض لصالحها وإحراج النظام مرة تلو الأخرى. العالم سيراقب وفد النظام لمعرفة تفسيرات الخطوة الروسية المذهلة أخيرًا. القرار صدر في روسيا وتفسيراته بدقة ستترجم في جنيف. من يدري ربما يكون وزير الخارجية الأميركي جون كيري محقًا، أخيرًا، في وصف المرحلة الحالية بأنها أفضل فرصة منذ سنوات لتحقيق السلام في سوريا.
* نقلا عن “الشرق الاوسط”
روسيا: استقواء بنا للاستغناء عنّا!/ غازي العريضي
مجدداً أستغرب من استغراب كثيرين حتى الآن ورغم كل ما جرى من مواقف الرئيس الأميركي. أستغرب غربتهم عن الواقع، أو الاستمرار في الإنكار، فهو قبل وعند وبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران كان واضحاً ولا يزال.
«سنتفق مع طهران واتفقنا. وعدناها بعدم ضرب الأسد وفعلنا. وذاهبون إلى تنفيذ واستثمار الاتفاق معها. وإذا فكرتم يا عرب بامتلاك سلاح نووي أو سلاح المعرفة النووية، فسيكون لذلك انعكاسات سلبية لعلاقاتكم بنا. ونحن مستعدون لحمايتكم». ولم ينفك عن توجيه الاتهامات للأنظمة والقادة العرب، معتبراً أن الخطر عليهم هو في سخط الشعوب في الداخل. ومنذ أيام قال كلاماً للصحافي جيفري جولدبرج يؤكد فيه هذه النظريات مدافعاً عن إيران مهاجماً الرئيس التركي والواقع القائم قي دول الخليج، داعياً قادتها إلى التفاهم مع إيران، فهذا هو «المخرج الوحيد لعدم استمرار الحروب والفوضى»، مؤكداً أن «العدد الأكبر من مهاجمي 11 سبتمبر لم يكونوا إيرانيين»!
اتخذ مواقف متقدمة في هذا الاتجاه، ارتاح إليها الإيراني والسوري وحاولا البناء عليها في ظل تقدم قواتهما على الأرض في سوريا بفعل التدخل الروسي، لكنهما استمرا أيضاً في المكابرة والابتعاد عن الواقعية وحسابات لعبة الأمم عندما اعتبرا التدخل الروسي عملاً حاسماً في مسار الحرب السورية لمصلحتهما متجاوزين المصالح الروسية المباشرة، ثم عندما حاولا الانقلاب على الحسابات الروسية والالتزامات الروسية فأدارا ظهريهما لروسيا في كثير من المواقف والمحطات حتى اضطر السفير الروسي في الأمم المتحدة «فيتالي تشوركين» إلى نصح الأسد (بقبول النصائح الروسية كي يكون خروجه «بكرامة»، وإلا فليتحمل كل طرف المسؤولية). ودعا مسؤولون روس إلى الالتزام بقرارات فيينا وجنيف وميونيخ ومجلس الأمن وبالآليات المحددة. إيران وسوريا تذاكتا فاعتبرتا أن الدعوة إلى انتخابات غامضة هي انتخابات نيابية لا رئاسية تُجرى بعد تشكيل الحكومة، وذهب الأسد إلى الدعوة إلى انتخابات في 13 أبريل بما يناقض القرارات، ثم خرج وزير خارجيته وليد المعلم ليقول: «لا يمكن لدي ميستورا وغيره أن يحدّدوا جدول أعمال المفاوضات ويقرروا بشأن الرئاسة السورية، هذا خط أحمر». وقال مستشار المرشد في إيران علي أكبر ولايتي: «أمرنا خامنئي بالحفاظ على الأسد». وقال مساعد وزير الخارجية حسين آية عبد اللهيان: «بشار الأسد والنظام السوري يمثلان خطاً أحمر بالنسبة إلى المرشد الأعلى، وهو لا يقبل برحيله كما أبلغنا»! استاءت روسيا، أصدرت دعوات لحل فيدرالي، وظهر تباين، بل خلاف كبير في المواقف. قال الروس: «نحن نقرر مدى وحدة العملية العسكرية»، وأكدوا أنه لولا تدخلهم لسقط النظام، رفض الإيرانيون والسوريون هذه المواقف، كان لقاء تركي – إيراني سبب «المصيبة المشتركة» الأكراد وخطر إقامة إقليم كردي في سوريا ستكون له تداعيات على الواقعين الإيراني والتركي، لاحقاً أوقفت روسيا تسليم إيران صواريخ S -300 بعد أن كانت قد اندفعت في اتجاه صفقة جديدة لصواريخ أكثر تطوراً. السبب المعلن لوقف التسليم سخيف وغير مقنع، السبب الحقيقي سياسي في ظل الخلاف، عشية مؤتمر جنيف 3، كانت مواقف سورية مكابرة، تجاوزت حدود التنسيق الأميركي- الروسي، والتفويض الأميركي للروس بإدارة المفاوضات. قال الأميركيون كلاماً واضحاً للروس: «ذهبنا إلى أبعد الحدود في الضغط على من نمن عليهم. ماذا ستفعلون أنتم؟ هل تقبلون المواقف الإيرانية – الروسية التي قد تطيح بكل المفاوضات وتطيل أمد الحرب»؟ في هذا الوقت تمّ وقف العمليات العسكرية الكبرى. رسمت خطوطٌ حُمر على الأرض بعد تقدّم النظام بالدعم الروسي والحديث عن استمرار تقدمه. تمّ وقف هذه العملية. في انتظار المواقف السياسية. الروس ضغطوا لعقد جنيف، ومع بدء المفاوضات وأمام المواقف السورية المكابرة والمتعالية والمنسّقة مع إيران فاجأوا العالم بقرار الانسحاب كأنهم يقولون للسوريين والإيرانيين: «مارستم معنا لعبة الاستقواء بنا للاستغناء عنا؟ لا.. نحن جئنا من أجل مصالحنا لا من أجلكم»، وهذا يؤكد كل ما كنا نقوله. الروس استخدموا سوريا كملعب، صحيح ذهبوا بعيداً لكنهم مع الأميركيين لم يخرجوا عن المعادلة الذهبية: عندما نتفق يتغير كل شيء من الأسد إلى النظام، ولكن للوصول إلى اتفاق، فإن المسألة لا تعني سوريا فقط. ثمة قضايا أخرى في أوكرانيا وغيرها، وبالتالي استمرت روسيا حريصة على هذه العلاقة مع أميركا للوصول إلى اتفاق. وأميركا قالت بلسان أكثر من مسؤول: ما هو المطلوب منا أكثر من التأكيد على استمرار حرصنا على تنفيذ واستثمار الاتفاق مع إيران، والتعاون مع روسيا. لقد أصبحنا في خانة الاتهام من قبل حلفاء وأصدقاء في العالم العربي وأوروبا وفي كل مكان. فهل يعتقد الإيرانيون والروس أننا نفعل ذلك لأجلهم، أو أننا مكلفون بخدمة مصالحهم؟
أميركا ضغطت إلى أبعد الحدود على حلفائها وقتلت أبو عمر الشيشاني وزير حرب «داعش» في سوريا، وروسيا اتخذت مواقف متقدمة في وجه حلفائها بلغ حدود الانسحاب، وهما مصرّتان على الوصول إلى صيغة حل، دون ذلك مصاعب ومتاعب على الأرض، هكذا علمتنا الحروب.
منذ أسابيع كتبت في ظل واقع الخلافات: «هل توقف روسيا العمليات وهي جاءت من أجل مصالحها لا من أجل الأسد الذي خذلها»؟ وسألت: «من سيخرج بكرامة روسيا أم نظام سوريا؟ وقلت: إيران هي صاحبة الدور الأساسي إلى جانب الأسد. اليوم، قررت روسيا الانسحاب «بكرامة». الثمن الذي تريده في غير مكان مع أوروبا وأميركا. للأسف، هذا الأمر سيخدم إسرائيل التي ستستغل كل ما جرى لمصلحتها، وعينها مجدداً على لبنان.
الاتحاد
الانسحاب الروسي يعيد خلط الأوراق/ د. نقولا زيدان
بالأسلوب المباغت المفاجئ نفسه الذي اعتمده «بوتين» في أيلول (سبتمبر) الماضي يوم تدخّله العسكري في سوريا، كذلك جاء قراره بسحب غالبية قواته الجوية منها في غضون ساعات معدودات. فالعقل الاستخباراتي الذي يتحكم في سلوكه لا يحتمل التمهيد والتهيئة والتغطية الإعلامية الواسعة واستشارة الحلفاء وخلق المناخ الدولي المناسب لتنفيذ قراراته الحاسمة، ذلك أنه من الصعب جداً وبمكان على ضابط كبير بحجمه وموقعه داخل الـ»كا.جي.بي.« سابقاً أن ينسلخ كلياً ويقطع مع ماضيه العريق، حتى ولو أصبح رئيساً للاتحاد الروسي الآن. بل لنقل الآمر الفعلي الذي لا مردّ لمشيئته في إدارة أكبر دول العالم مساحة والقابض على زمام الأمور تارة كرئيس للوزراء وطوراً كرئيس للدولة هناك. تلك الدولة التي تملك ترسانة نووية مرعبة وأساطيل جوية وبحرية وجيشاً جراراً ابتداء من أوروبا وانتهاء بالباسيفيك.
لكن بين أيلول (سبتمبر) 2015 وآذار (مارس) 2016 جرت تطورات ميدانية مهمة كانت الساحة السورية مسرحاً لها. فحيث كان نظام الملالي الإيراني بحرسه الثوري الإسلامي والميليشيات التابعة له كان قد بدا عاجزاً عن تحقيقه سواء بسحق المعارضة السورية بل بالحؤول دون سقوط نظام بشار الأسد عندما بدأ يترنح، هبّ «بوتين» لإنقاذ هذا الأخير. فقد صبّت القاذفات الحربية من طيرانه المتطوّر حممها على المعارضة السورية ومناطقها المحررة ولتلحظ «داعش» من حين لآخر، بقصد تحسين مواقع النظام الأسدي. فجنيف3 لو انعقد جدياً قبل ذلك، بل قد انعقد وتعطّل، لما كانت نتائجه إلا ستكون وبالاً على نظام دمشق. فكان يجب إحداث تعديل مهم وملحوظ في ميزان القوى على الساحة السورية. فمن حلب إلى حمص بل إلى درعا ومروراً ببلدات ريف دمشق الثائرة على النظام، مارس الطيران الحربي الروسي سياسة الأرض المحروقة طريقاً سالكاً أمام قوات الأسد. فبعد أن كان رأس النظام في وضع ميداني مأزوم، إذا به يحاول إملاء شروطه في جنيف3 الآن. بل نجده يحاول التلاعب والتحريف كما هي عادته في كل المؤتمرات واللقاءات الدولية المتعلقة بالأزمة السورية بجميع البيانات الصادرة بهذا الشأن. فما كاد يقترب جنيف3 من استئناف أعماله حول الأزمة السورية حتى صرّح وزير خارجية الأسد وليد المعلم بأن المساس برأس النظام أي بشار الأسد هو خط أحمر، وتبعه في الحال مندوب سوريا في مجلس الأمن بشار الجعفري بالقول إن الحديث عن حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية غير وارد بتاتاً في جدول أعمال المؤتمر. ويحاول النظام تسويق أفكار جديدة تستهدف عملياً بيان جنيف1 (30/6/2013) من خلال الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية لضمان بقائه في السلطة. وحدة وطنية تجمع تحت سقف واحد المعارضة الثورية والمعارضة ذات الصناعة الأسدية والمعارضة المقترحة من موسكو، بالإضافة إلى وزراء الأسد أنفسهم، أي القضاء عملياً على مرجعية جنيف1 الداعية لقيام حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة.
تعتقد موسكو أنه بعد الدفع الذي قدّمته لنظام الأسد على أرض المعركة أن فرص نجاح جنيف3 أصبحت متاحة أكثر، خصوصاً بعد قيامها بسحب الجزء الأساسي من قواتها الجوية الضاربة. وتبدو واشنطن قريبة جداً من هذا التصوّر والاعتقاد نفسه. ويدعي الأميركيون أنهم فوجئوا بالقرار الروسي المباغت بالانسحاب، لكنهم في آن معاً لا يبدون أي تحفظ على احتفاظ الروس بقاعدة طرطوس البحرية ولا يبدون قلقاً ملحوظاً تلويح الروس بإمكانية التدخل الجوي العسكري مجدداً في حال دعت الحاجة لذلك، لا بل وصل الحد بواشنطن للتعويل على إمكانية انضمام الروس إلى التحالف الأممي الجوي في قتال داعش والإرهاب.
ما الأرباح التي حققتها موسكو من خلال تدخلها العسكري الجوي في سوريا؟ إن الواقع يدل على أنها استطاعت كسر العزلة الدولية وبالأخص الغربية منها بعد أزمة أوكرانيا وتداعياتها. فقد كرست نهائياً سيطرتها على شبه جزيرة القرم وموانئها. أضف إلى ذلك مضاعفة تأثيرها على أوكرانيا لتلبية مطالبها بإعطاء منطقة دانيتسك حكماً ذاتياً مقابل وضع حد لحركة الانفصال والتمرد التي تقف موسكو وراءها. والدليل على ذلك عودة العلاقات الطبيعية بينها وبين واشنطن والدعوة إلى تزخيم التنسيق بين العاصمتين، خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب. كما حققت روسيا مكاسب مهمة في تكريس نفوذها في سوريا فقد أصبحت لديها قواعد بحرية ومطارات على أرض سوريا الآن. وفي آن معاً جعلت من الساحة السورية حقل تجارب عملية لطائراتها الحربية المتطورة وصواريخها البعيدة المدى مما يعود بالنفع عليها كثاني بلد بائع للسلاح في العالم (بعد أميركا) مما يوفر لها كتلة نقدية كبيرة بالقطع النادر تجد روسيا نفسها بحاجة ماسة إليه. لقد جاءت روسيا إلى المنطقة لتقاسم أميركا نفوذها الاستراتيجي عندنا بل جاءت أيضاً لتشارك طهران في نفوذها في سوريا بعد أن كانت الأخيرة هي الحليف الوحيد المتبقي لنظام دمشق. وها هي موسكو تشكل راعياً أساسياً لأي تسوية سياسية للأزمة السورية. ولقد استغل «بوتين» إلى أقصى الحدود تخاذل سياسة «أوباما» أو ميوعة تلك المواقف حيال استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية (آب 2013) فالأسد يدين برأسه لموسكو من خلال اتفاق لافروف كيري آنذاك. لا بل استطاعت موسكو تطوير علاقتها بالدول العربية المتمثلة بمحور الرياض القاهرة. فالتخاذل الأميركي لم يقتصر على سوريا وبشار الأسد فحسب، بل ظهر بوضوح أيضاً في العراق ولبنان عندما تحوّلت الدولتان إلى محميتين إيرانيتين بعد انحسار النفوذ الأسدي لمصلحة المشاريع الإيرانية. ولولا تحمّل العاهل السعودي مسؤولياته كاملة لما كانت عاصفة الحزم ولتحوّل البحر الأحمر إلى مستنقع إيراني صرف.
تدور في اللحظة التاريخية الراهنة مفاوضات جنيف3 بين النظام الأسدي والمعارضة السورية بشكل منفصل حيث يحاول دي ميستورا لعب دور صلة الوصل (The Go Between). وثمة آمال معقودة على تحولها إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين، حيث تطفو مجدداً إلى السطح عقدة الأسد الراكب رأسه بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وتحت الضغوط الدولية يجري السماح بوصول المساعدات المادية للقرى والبلدات المحاصرة. وفي المقابل، يجري الحديث عن امتعاض روسي جدي حيال سلوك الأسد في محاولة رعناء من مندوبيه في إشاعة جو من التوتر البالغ في المؤتمر على خلفية استقوائه بالإنجازات الميدانية التي حققها التدخل العسكري الروسي الذي استنفذ غايته. إلا أن كل ذلك ليس بمقدوره قط تبديد مشاعر الإحباط والريبة والشكوك التي تلف الشارع العربي حيث تساور الرأي العام مخاوف كبيرة من أن ثمة سايكس بيكو جديدة أو يالطا أخرى قد أصبحت قيد التداول حيال المنطقة. إن وحدة سوريا ككيان تاريخي أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى ورحيل الأسد وطاقمه قد أصبح ضرورة قصوى الآن.
المستقبل
الإنسحاب الروسي من سوريا: فك ألغاز القيصر ونفاد صبر مع الوكيل في دمشق/ إبراهيم درويش
أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب الجزء الأكبر من قواته من سوريا اهتماما واسعا، فهو مفاجئ وجاء بعد أقل من ستة أشهر من قراره المفاجئ أيضا في نهاية إيلول/سبتمبر إرسال طائراته لمحاربة «الإرهابيين» في سوريا. وأخذ إعلان بوتين عن «نهاية المهمة» الإدارة الأمريكية لباراك أوباما على حين غرة ولم يعلم الرئيس الأمريكي بالقرار إلا بعد المكالمة الهاتفية بينه وبوتين. أما حلفاء بوتين في دمشق فيبدو أنهم فوجئوا وسارعوا لإصدار بيان قالوا فيه إنه تم تنسيق الخطة بين البلدين. المهم في كل العملية هي أن بوتين والكرملين معه أبدعوا في إخراج عملية الإنسحاب وحصلوا على ما يريدون من تغطية إعلامية في كل أنحاء العالم. وترك القرار الروسي العالم يتساءل عما حققته موسكو من تدخلها القصير في حرب أهلية معقدة دخلت عامها السادس قبل أيام. وأثار القرار تكهنات كثيرة حول الدوافع التي أدت بموسكو الخروج من سوريا، فيما تساءلت الإدارة الأمريكية عن ماهية القرار وقالت إنها لن تصدق حتى تحصل على أدلة تثبت أن روسيا فعلا سحبت قواتها وطائراتها العسكرية من سوريا. واعتبر آخرون الخطوة حيلة تشبه ما قام به بوتين في أوكرانيا حين أعلن عن سحب قواته وتبين فيما بعد أن ما قام به هو إعادة انتشار روتيني.
وساقت موسكو جملة من الأهداف التي تحققت من ناحية تقوية جيش بشار الأسد الذي استعاد 400 بلدة وقرية، وهزيمة المعارضة وقطع إمداداتها من تركيا وتعزيز قوة الردع للجيش السوري وحلفاءه. وبعيدا عن كل هذا فالحملة الروسية منذ البداية كانت «محدودة» من ناحية ما تريد تحقيقه والفترة الزمنية، فهي ليست حتى النهاية من أجل الأسد وكما أشارت مجلة «إيكونوميست» (19/3/2016) فالعملية ليست من أجل بناء الدولة السورية على طريقة الأمريكيين في العراق وسوريا. فالأهداف الروسية كما يقول ستيفن سيمون في «فورين أفيرز» (15/3/2016) كانت محدودة وذهب الروس إلى هناك من أجل تثبيت النظام والتأكد من بناء تماسك داخل النخبة الحاكمة في دمشق ومنحها الثقة بالنفس وضرب الجماعات الجهادية التي تعمل قريبا من المناطق التابعة للنظام ومساعدته على توسيع مجاله الأمني قدر الإمكان. وكما يقول سيمون، الأستاذ الزائر في كلية دارتموث والذي عمل في إدارة أوباما بين 2011- 2012 فقد كان النظام بحاجة إلى نوع من العمق الاستراتيجي وهو ما قدمه الروس له. فلم يذهب هؤلاء لاستعادة «أرض مقدسة» ولا حراسة المستقبل وإنما ذهبوا لتعديل ميزان الحرب. وأي من هذه الأهداف لم يكن بحاجة لشن حرب تحتاج لعقود هذا إذا أخذنا بعين الإعتبار الضعف الذي تعاني منه المعارضة. ولم تكن أيضا بحاجة لقوة كبيرة لتحقيقها ولهذا نشر الروس 4.000 جندي من أجل التحضير وتسهيل العمليات و25 قاذفة و 32 قاذفة ـ مقاتلة وثماني طائرات مقاتلة و 12 مروحية مقاتلة وأربع مروحيات للخدمات. ونشر الروس من البحر سبع سفن تشمل على غواصة، وسفن لجمع المعلومات الإستخباراتية وزوارق بحرية وعددا من السفن الحربية الصغيرة. وشن الطيارون الروس على مدار الأشهر الستة الماضية 10.000 غارة أي ما بين 60-70 غارة في اليوم. وحقق الروس عمليتهم بكلفة أقل من عملية الإرادة الصلبة، وهو اسم الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية حيث تقلع الطائرات لضرب أهدافها من أماكن بعيدة. ويرى سيمون أن إعادة المقاتلات الروسية لا يعتبر سحبا دائما للقوات بل توقفا تكتيكيا عن الهجمات. فإعادة نشر القوات يعطي المؤسسة العسكرية الفرصة لتوفير المال والراحة لطاقم المقاتلات.
نفاد صبر؟
كما أنه تحرك ذكي من الناحية الدبلوماسية. إذ أنه يقدم صورة عن ضبط موسكو نفسها واستعدادها للتعاون في العملية السياسية، أي محادثات جنيف. وبالنسبة للذين قالوا إن الخطوة تعبر عن نفاد صبر من الرئيس السوري فالإنسحاب حسب رؤية سيمون لا يهدف للضغط على الأسد بل هو جزء من استراتيجية الروس التي أكدت منذ البداية على الحل الدبلوماسي الذي يحافظ على نظام الأسد. فسحب مقاتلات ومعدات عسكرية لن يؤدي لإثارة الخوف في قلب نظام ضعيف ومذعن، فقوات الأسد في وضع جيد ويمكنها الدفاع عن مواقعها فيما تعاني خطوط الإمداد التابعة للمعارضة من الإنقطاع والتشوش. ولهذا يرى الكاتب أن ترتيبات الإنسحاب الجزئي هي بمثابة رابح ـ رابح لكل من الأسد وبوتين.
إلا أن هذا لا ينفي البحث عن قراءة أخرى للإنسحاب الروسي. فهو يحمل كما يرى نيكولاس غوديسوف بمجلة «ناشونال إنتريست» (16/3/2016) خمسة دروس أهمها وقف خيار تغيير النظام. فقبل عام كان الخبراء يتوقعون قرب انهيار نظام الأسد وأنه وصل نهاية الحبل وستصل المعارضة قريبا إلى دمشق. وبهذه المثابة كان الوجود العسكري الروسي في سوريا من أجل «مساعدة» نظام الأسد وهو ما تم فعله. والآن لم يعد أحد يتحدث عن نهاية الأسد. بل وأجبر المشاركون في العملية السياسية على القبول بواقع بقائه وإن لفترة أخرى. وبهذا أثبت بوتين أنه موال لأصدقائه في المنطقة على خلاف أمريكا التي تخلت عن حلفائها. واستطاع بوتين كذلك إستعراض منجزاته العسكرية وإثبات أن عملية تحديث المؤسسة العسكرية والإنفاق المالي عليها عبر السنوات الماضية أثمر بالتأكيد ثماره. فقد أظهر الجيش الروسي أنه قادر على شن هجوم عسكري متواصل خارج حدود الإتحاد السوفييتي السابق. ويمكن والحالة هذه لموسكو أن تغير الحقائق على الأرض عبر استخدام القوة.
المصيدة الأفغانية
وأهم ما في الحملة الروسية أنها تجنبت الوقوع في المصيدة الأفغانية التي ورطت الجيش السوفييتي السابق عقدا من الزمان. بل وكان أوباما ينتظر ولوغ بوتين في «المستنقع» السوري. وحاول أصدقاء المعارضة توريط روسيا في سوريا من خلال زيادة القدرات العسكرية للمقاتلين السوريين. ولم تنجح هذه الإستراتيجية نظرا للموقف البارد من أطراف بدأت تفكر بتداعيات الحرب بالوكالة- أي بين السعودية وروسيا. وكان إسقاط تركيا للطائرة الروسية تذكيرا بمخاطر الحرب ومنظور التصادم بين القوى العظمى في سوريا. وحتى عندما هددت تركيا الشهر الماضي بإرسال قوات إلى داخل سوريا من أجل بناء «مناطق آمنة» وقالت إنها سترحب بالمشاركة السعودية في عملية كهذه، لم تبد الرياض أو واشنطن إلا حماسا قليلا للعملية. كل هذا لا يعني عدم وعي بوتين بمخاطر حرب طويلة، فهو عارف بالدروس الأمريكية في أفغانستان والعراق وكيف تحولتا إلى حروب طويلة أثقلت كاهل الخزانة الأمريكية وسقط فيها آلاف الجنود. ومثلما فعل السوفييت مع محمد نجيب الله في أفغانستان الذي ظل محميا حتى توقف الحرب، فالنظام السوري يجد الحماية الروسية ولكنه محمي من الإيرانيين والميليشيات الشيعية العراقية وحزب الله.
فدرالية
المهم في الحالة السورية أن روسيا عززت مناطق النظام أو ما يشبه الدويلة العلوية التي سيجد الأسد فيها ملجأ حالة سقط نظامه في دمشق. ولا تمانع موسكو مبدئيا من شكل فدرالي للحكم/ لا مركزي يشمل على دولة للنظام ومنطقة حكم ذاتي ومنطقة للسنة. وهذا الموقف نابع من حقائق الأرض واستحالة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه. وبهذه النظرة لم يغير التدخل الروسي كثيرا على الأرض، بل جاء الإنسحاب حسب «فايننشال تايمز» (18/3/2016) كاعتراف بحدود ما يمكن أن تقدمه القوة الروسية. فالنظام رغم تقدمه لا يزال ضعيفا ولم يحقق ما كان يطمح إليه وهو الوصول إلى الحدود التركية. ونقلت عن يزيد صايغ الباحث البارز بمعهد كارنيغي- بيروت أن بوتين اكتشف «حدود النفوذ الروسي على نظام الأسد والذي يتحدث بشكل مفتوح عن السيادة والإستقلال منذ إعلان وقف العمليات القتالية» في شهر شباط/فبراير.
رسالة للسعودية
وهذا ينسجم مع فكرة روسيا عن التسوية السياسية في سوريا ولهذا السبب فبوتين كان راغبا بإرسال رسائل لكل اللاعبين في الأزمة السورية خاصة السعودية أنه جاهز للتحاور. ومنذ البداية لم تكن موسكو حسب غوديسوف ترغب بمواجهة مع الرياض في سوريا. فهي تريد التوصل مع الرياض إلى اتفاق حول أسعار النفط العالمي. والرسالة واضحة للسعودية: الروس جاهزون للتفاوض بعد تثبيت نظام الأسد والتباحث على تسوية تقوم على شكل لا مركزي وإنشاء حكومة وحدة وطنية لا انتقالية، تستجيب للمطالب السعودية وتحمي مصالحها. فمن خلال الإنسحاب بعد تأمين النظام وعدم القتال حتى آخر لحظة تخلق روسيا الظروف من أجل تسوية وتقديم تنازلات. خاصة أن جهود التسوية تلقى دعما من الطرف الأمريكي الذي استطاع بوتين إجباره للتباحث معه على قدم المساواة في المسألة السورية.
وحقق بوتين إنجازه في سوريا على حساب التردد الأمريكي وسياسات أوباما الخارجية. فقد ظل أوباما يذكر العالم أن تدخل روسيا في سوريا هو دليل ضعف. وهو ما تبنتته مجلة «إيكونوميست» في عددها الأخير إذ وصفت «نصر» بوتين بالفارغ والتلفزيوني. وقالت إن بوتين ضعيف أكثر مما يتظاهر، فاقتصاده ينهار وتراجعت مستويات المعيشة بسبب انهيار أسعار النفط ويفقد الشرعية نتيجة مغامراته في اوكرانيا والآن سوريا. وتعتقد المجلة أن نزعات بوتين العدوانية ستنتقل إلى مكان آخر. فهو يترك وراءه حروبا مجمدة دون حل ويبحث عن مغامرة أخرى. وفي سنته الأخيرة قد يجد أوباما نفسه أمام مواجهة جديدة مع بوتين. الرؤية من موسكو لإعلان الكرملين هي أن سوريا جزء محاولة إعادة قوة الردع الروسي التي تهاوت بعد انهيار الإتحاد السوفييتي. أما الرؤية من الخارج فلم يحقق بوتين ما أراد، بل فشل على صعيدين: مواجهة تنظيم الدولة وتغيير المعادلة الحربية في سوريا بشكل جذري. بل زادت الحرب معاناة السوريين وفاقمت أزمة الهجرة بحيث اتهم الإتحاد الأوروبي موسكو باستخدام اللاجئين كسلاح.
القدس العربي
التدخل العسكري الروسي أفاد الرياض والأزمة السورية رغم أضراره: هل تشهد سوريا انقلابا عسكريا يطيح بالأسد بعد إنسحاب موسكو؟/ سليمان نمر
قد يبدو غريبا للبعض ان الرياض مثلما هي مرتاحة لقرار موسكو بسحب قواتها وطائرتها العسكرية من سوريا الاسبوع الماضي فانها «مرتاحة» مما حققه التدخل العسكري في سوريا من نتائج سياسية!.
صحيح ان التدخل العسكري الروسي أوجد دورا رئيسيا لموسكو في سوريا وفي حل الأزمة السورية، وهذا أمر لم تتحفظ عليه أو تعارضه الرياض، ففي ظل ضعف الدور الأمريكي في الأزمة السورية، عسكريا وسياسيا «بسبب السياسة المترددة والمتقلبة لإدارة الرئيس باراك اوباما» على حد تعبير مسؤول سياسي سعودي، كانت الرياض تحث موسكو على التدخل في سوريا لإيجاد حل سياسي لحرب وأزمة طال أوانها، ورأينا الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي يذهب بتعليمات من والده الملك سلمان إلى موسكو في شهر حزيران/يونيو العام الماضي لحث الروس على التدخل في الأزمة السورية وتنشيط دورهم مع النظام السوري للتوصل إلى حل. صحيح كان هناك اختلاف حول موضوع «مصير الرئيس بشار الأسد» إلا انه كانت هناك تفاهمات بين الجانبين حول ضرورة الحرص على بقاء الدولة السورية بمؤسساتها، وعلى بقاء الجيش السوري موحدا كمؤسسة عسكرية للحفاظ على أمن سوريا حتى ولو تغير النظام.
ومن أجل ان يكون لروسيا دور تدخلت عسكريا في الأزمة السورية وفي الحرب الدائرة هناك وبالفعل أصبح موقفا «آمرا» على النظام في دمشق. أحد الأمثلة على ذلك، ارسال الرئيس بوتين طائرة عسكرية حملت الرئيس بشار الأسد – وحيدا – من دمشق إلى موسكو ليلتقي به هناك في شهر تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي.
ولاحظنا ان الرياض لم تبد أي معارضة للتدخل العسكري في سوريا، وإعلامها الرسمي لم يهاجم التدخل، وان كانت أخذت تبدي تحفظات»مكتومة» على سير المعارك العسكرية في سوريا بعد ان بدأت الغارات الجوية الروسية تؤثر على الأوضاع الميدانية لقوات المعارضة السورية. فعملت على اثرها السعودية على زيادة دعمها العسكري لقوات المعارضة السورية، واتفقت مع أنقرة على زيادة حجم التدخل العسكري التركي – غير المعلن – داخل الأراضي السورية.
ولكن الرياض بشكل عام كانت «مرتاحة» لدخول روسيا على خط الأزمة السورية كلاعب رئيسي، فهذا التدخل أثار حفيظة الإدارة الأمريكية «المترددة والمتقلبة» وجعلها تعود لتنشط في المنطقة.
وبالطبع فان واشنطن لا يمكن ان تقبل ان تنفرد موسكو بالوضع السوري وفي تقرير خطة طريق الحل في سوريا، ولا يمكن لواشنطن ان تقبل ان تبدو موسكو الأقوى والأنجح في ضرب تنظيمي «داعش» و»جبهة النصرة».
لذا رأينا واشنطن تعود – ومعها حلفاؤها الأوروبيون – لتنشط دورها في الأزمة السورية، ليس سياسيا فقط، بل أيضا عسكريا.
عسكريا تحركت واشنطن ونسقت مع حلفائها وتدخلت عسكريا وأرسلت قوات خاصة تحت ستار مستشارين عسكريين إلى شمال سوريا «لضرب داعش»، ووافقت على ان تقوم السعودية بتزويد قوات المعارضة السورية بأسلحة أكثر تطورا، مثل صواريخ «تاو» بل وتتحدث معلومات عن قرب حصول قوات المعارضة على صواريخ أرض- جو.
وعسكريا لوحظ التلويح السعودي بالتدخل البري في سوريا بعد إعلانها تشكيل ما سمي «قوات التحالف الإسلامي للحرب على الإرهاب».
سياسيا تحركت واشنطن وتفرغ وزير خارجيتها جون كيري لملف الأزمة السورية، وتعددت زياراته لموسكو للتنسيق معها ومع الأطراف المعنية الأخرى بالأزمة لاسيما السعودية، وهذا أدى إلى عقد مؤتمري «فيينا» ونيويورك حيث أسفرا عن الاتفاق على عقد مفاوضات جنيف بين المعارضة السورية (ممثلة بمعارضة مؤتمر الرياض) والنظام السوري.
صحيح انه حتى الآن لم تحقق مفاوضات جنيف بجولتيها الأولى والثانية – الجارية حاليا -أي نتائج سياسية تذكر، ولكن وقف إطلاق النار والذي سمي بوقف «الأعمال العدائية» يعتبر انجازا سياسيا تحقق بسبب التفاهم الدولي لاسيما الروسي والأمريكي على البدء بطريق الحل السياسي للأزمة السورية، حتى ولو ماطل نظام دمشق وعمل على افشال مفاوضات جنيف الذي يسعى نظام دمشق إلى إطالتها حتى تفشل، لانه لا يريد تقديم التنازلات المطلوبة منه روسيا ودوليا. وبمماطلته كان النظام السوري يستند إلى الدعم الروسي العسكري على الأرض والدعم السياسي في المفاوضات.
والآن سحبت روسيا قواتها وطائراتها من سوريا ولم تعد تشارك عمليا في المعارك ففقد النظام أحد أسس «غروره وغطرسته» الذي ظهر بعد هذا التدخل.
وهذا ما جعل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يرحب بقرار موسكو للإنسحاب العسكري من سوريا، ولكن الرياض لا تريد من موسكو الإنسحاب من دورها في الحل السياسي للأزمة السورية وان كانت، بالطبع، تأمل ان تخفف روسيا من تأييدها السياسي للنظام ومواقفه خلال مفاوضات جنيف.
ولا أحد يعرف ما إذا كانت الرياض قد علمت من قبل بقرار موسكو المفاجئ بالإنسحاب العسكري من سوريا، ولكن لاشك انها علمت بأسبابه خلال الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره السعودي عادل الجبير، ثاني يوم إعلان قرار الإنسحاب.
ولوحظ ان الوزير الجبير صرح عقب هذا الاتصال معتبرا الإنسحاب الجزئي للقوات الروسية من سوريا خطوة إيجابية للغاية، معرباً عن أمله أن يجبر هذا الرئيس السوري بشار الأسد على تقديم تنازلات. وقال إن «المملكة تأمل أن يسهم الإنسحاب الروسي في تسريع وتيرة العملية السياسية التي تستند إلى إعلان جنيف 1، وأن يجبر نظام الأسد على تقديم التنازلات اللازمة لتحقيق الانتقال السياسي».
مراقبون في الرياض رأوا ان الحل السياسي وفق مفاوضات جنيف سيطول وقد لا يؤدي إلى حل عملي ينهي الأزمة السورية، حتى ولو تحقق، ما تسعى إليه السعودية وقوى أخرى برحيل الرئيس الأسد. ويرى هؤلاء ان الحل الجذري للأزمة السورية هو انقلاب عسكري شامل يقوم به الجيش السوري يطيح بنظام الرئيس الأسد ورموزه، وإقامة نظام عسكري قوي بستطيع ان «يلم البلاد»، فلا يكون هناك مبرر لاستمرار الحروب التي تخوضها المعارضة، ويمحو النظام الجديد المآسي التي سببها النظام السابق. وهذا يحتاج إلى جيش سوري قوي ليس بسلاحه بل أيضا في معنوياته.
ويرى البعض ان روسيا قد تكون انسحبت لتمهد لمثل هذا الانقلاب العسكري، الذي نعتقد ان الرياض تتمناه ليكون هو الحل لحرب طال أمدها مثلما سيطول أمل مفاوضات جنيف ان استمرت.
لذا لن يكون غريبا ان نسمع قريبا أخبارا عن رحيل الرئيس الأسد قتلا أو بانقلاب قبل نهاية العام.
القدس العربي
التموضع» الروسي في سوريا: إلى إيران دُر!/ نجاح محمد علي
حتى قبل أن تكمل روسيا سحب «الجزء الرئيسي» من قواتها من سوريا، وصلت إلى دمشق طلائع من «القوات الخاصة» الإيرانية لتكون على أهبة الإستعداد لملء أي «فراغ عسكري» ربما يُخلفه قرار الرئيس الروسي فلادمير بوتين، الذي فاجأ الكثيرين، لكنه لم يفاجئ طهران التي علمت به وتناقشت حوله وتفاهمت بشأنه عن دورها فيه، مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي زار طهران، وعقد الاثنين 7 الجاري جولة مفاوضات مع نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان وباقي كبار المسؤولين، وصفت بالحاسمة. وكان لافتأ أن المشاورات الإيرانية الروسية شهدت « تبادلا صريحا للآراء حول حزمة من المسائل الملحة على جدول الأعمال الشرق أوسطية» كما ورد في النص الرسمي الروسي الذي أعادت نشره وزارة الخارجية الإيرانية على موقعها الرسمي، في إشارة إلى أن شيئا ما سيحدث في سوريا.
وعُلم من دهاليز وصالونات صنع القرار في إيران أن المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يرأسه ـ وفق الدستور- الرئيس حسن روحاني، أُحيط علما بالقرار الروسي، وأرسلت إيران على الفور دفعة من قواتها الخاصة، إلى سوريا، لتطمين الحليف المشترك الرئيس بشار الأسد، ان شيئا ما لن يتغير على الأرض، حيث تريد الأطراف الثلاثة سوريا وإيران وروسيا تسجيل المزيد من الانتصارات العسكرية، لاستثمارها في صنع عملية السلام المنشود عبر المحادثات في جنيف.
وقد استقبل الرئيس الإيراني روحاني زيارة بوغدانوف قبل وصوله، بتصريح لافت كان سبقه بتصريح مماثل، رئيس تشخيص مصلحة النظام أكبر هاشمي رفسنجاني، عندما قال روحاني الأحد 6 الجاري إن علاقة بلاده مع روسيا متميزة وتقوم على التناغم والتنسيق بين البلدين. لكنه شدد على أن ذلك لا يعني أن إيران توافق على أي خطوة تقوم بها روسيا في سوريا. وأكد روحاني، أن إيران مع وحدة الأراضي السورية، وسيادة الدولة على كامل أراضيها، مشددا على أن مستقبل سوريا يقرره شعب البلد، وهي إشارة قد تفسر أن اختلافات طهران وموسكو تتمحور حول رفض إيران الفيدرالية في سوريا بينما لا تعارضه روسيا، إضافة إلى آلية إجراء الانتخابات الرئاسية وموعدها بين 2017، و2020 نهاية ولاية بشار الحالية.
ونقلت الأوساط السورية والإيرانية على السواء أن الأسد رفض فكرة إجراء انتخابات رئاسية في العام 2017 باشراف الأمم المتحدة، وهو يصر(حتى الآن) على أن تجري الانتخابات في 2020 وتحت إشراف الحكومة السورية.
وليس خافياً على العارفين بتضاريس الرواق الإيراني المعقد، أن المجلس الأعلى الإيراني قد يشهد بعد عيد النوروز أو خلال أيامه الطويلة «خضة» لاعادة ترتيبه إلى جانب حكومة الرئيس روحاني وإيجاد تغييرات ربما تطال الأمين العام الحالي علي شمخاني لصالح نائب وزير الخارجية عباس عراقجي الذي كان كبير المفاوضين النوويين، وهو استحقاق انتخابي بعد حصول التيار المعتدل الذي يضم الإصلاحيين ومعتدلي الاصوليين المحافظين، لكن الملفت فيه هو ما نقلته أوساط عليمة، عن «نقل» نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والافريقية حسين أمير عبداللهيان، وفسح المجال أمام شخصية أخرى تنسجم أكثر مع طبيعة المرحلة التي تمر بها سوريا واليمن بشكل خاص نحو المزيد من «التفاهمات « في الملفين السوري واليمني ، مع جيران إيران خصوصا المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والإمارات.
طهران التي رحبت رسمياً بقرار بوتين، بحثت في المجلس الأعلى للأمن القومي الذي عقد أيضا جلسة يوم الأربعاء الماضي أي بعد يوم من بدء الانسحاب «الجزئي» التعاطي الإعلامي مع «القرار الروسي» رغم أنها كانت تعلم به من قبل، وقرر الأعضاء العسكريون في المجلس، أن يُصعد الحرس الثوري وعموم القيادة العسكرية من لهجة التصريحات إزاء سوريا، حيث أعلن نائب قائد القوات البرية اللواء علي آرستة يوم الأربعاء أيضا، أن إيران سترسل قوات خاصة وقناصين إلى سوريا والعراق، بصفة مستشارين، بينما كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري المسؤول عن الدعم العسكري الإيراني في سوريا، اللواء قاسم سليماني مشغولاً بالقاء خطب بدت «دينية» في مساجد مدينته كرمان، ركز فيها على دفع تهمة «الطائفية» ونشر «التشيّع «عن إيران، و»تعليم» خطباء المنبر الحسيني، كيف يكون أداؤهم في مناسبات تاسوعاء وعاشوراء والأربعين والأيام الفاطمية، لتعبئة الجماهير نحو الأهداف المنشودة، دون أن يتطرق حينها، إلى «الانسحاب» الروسي «الجزئي»من سوريا!.
وعموماً لابد من الإشارة إلى أن طهران تفهم أن حقيقة «التموضع» الروسي في سوريا، إنما هو «تخفيض» قوات لدفع عملية التسوية إلى أمام والسماح لإيران للعب دور أكبر على الأرض في إطار صراعات الإقليم بالوكالة مع السعودية، وأن القوات اﻟﺮﻭﺳﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ تعود إلى روسيا ﻣﻦ ﺳﻮريا، ستعود مرة أخرى في أي لحظة إذا استدعت الضرورة.
لكن المفيد بالنسبة لإيران هو أن ما قررت روســـيا إعادته يشمل فقط: ﻧﺼﻒ ﺍﻟﻠــﻮﺍﺀ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻗﻮﺍﺕ ﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟﻠﺠﻴﺶ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﺍﻟﺮﻭﺳﻲ، ﺍﻟﻐـــﻮﺍﺻﺔ ﺍﻟﻨﻮﻭﻳﺔ ﺗﻴﺮﺳﻜﻮﻑ، وﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﺍﻟﺮﻭﺳﻴﺔ ﺗﻮﻟﺪﺳﻮﻑ ﺍﻟﺤﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﺼﻮﺍﺭﻳﺦ، و20ﻃﺎﺋﺮﺓ ﺳﻮﺧﻮﻱ ﻣﻦ أﺻﻞ 100 ﻃﺎﺋﺮﺓ، و25ﻃﺎﺋﺮﺓ ﺣﻮﺍﻣﺔ ﺻﺎﺋﺪ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻣﻦ أﺻﻞ 125، وﺣﺎﻣﻠﺔ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺍﺕ ﺍﻟﺮﻭﺳﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﺼﻞ ﻟﺴﻮﺭﻳا ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺨﻤﻴﺲ الماضي، وﻃﺎﺋﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻟﻠﺮﺻﺪ ﻭﺍﻹﻧﺬﺍﺭ ﺍﻟﻤﺒﻜﺮ c155 ﻣﻦ ﺃﺻﻞ ﺛﻼﺙ ﻃﺎﺋﺮﺍﺕ، مع بقاء أنظمة الصواريخ اس 400، وبقاء قاعدتي طرطوس حميميم في الخدمة، إلى جانب تواصل شن غارات على جبهة النصرة وداعش، والمشاركة الفعالة في تحرير تدمر.
وعليه فان الثابت لدى الإيرانيين أن الرئيس بوتين، وهذا هو المهم بالنسبة لهم، لن يتخلى عن الأسد، ولا ينسحب من سوريا، وأن حكاية «الإنسحاب» سياسية وليست عسكرية.
بالنسبة لإيران وسوريا، فان مصلحتهما أن تتحرر روسيا من الكثير من القيود لتظل الداعم القوي خلف الكواليس في التفاهمات مع أمريكا، بعد أن أنهت المهمة وهي حفظ النظام ومؤسسات الدولة والرئيس بشار الأسد، والتصريح علناً ورسميا أن الحديث عن رحيله «مضحك» خصوصا وأن النظام بات يملك الآن كافة الأدوات من أجل مواصلة العمل على المسارين العسكري والسياسي، ويساهم في المصالحات التي تجري بعيدا عن الكاميرات، إضافة إلى دوره المباشر في التوصل لاتفاق الهدنة، مع استمرار عملياته العسكرية ضد النصرة وداعش، كما هو واضح في المعارك الأخيرة خصوصا بشأن تدمر.
وبدا واضحا أيضا أن القرار الروسي الذي جاء مع إعلان بدء العمليات العسكرية لضرب داعش في الرقة، يشير إلى أن العملية العسكرية كلها ستكون بإشراف وتنفيذ أمريكي، لمنح الرئيس أوباما «نصرا» يحلم به ضد داعش، يمهد له وفق إطار يحدده مجلس الأمن بموافقة روسيا، من التدخل «غير العشوائي» في لييبا، حسم موضوع الموصل في العراق، وكل ذلك يجري في إطار من تقاسم أدوار أمريكي روسي بعد نجاح «وقف العمليات العدائية» وإطلاق المسار الدبلوماسي والمفاوضات في جنيف التي بات النظام هو من يصرعلى تمثيل كل «أطياف»بين المعارضة، مصرا بشكل ملفت أيضا على رغبته في تطبيق بنود القرارات الأممية لضم كافة «أطياف المعارضة» إلى جنيف، مع استعداد للجلوس وجها لوجه مع ممثلي «المعارضات».
وقدم الوفد السوري إلى جنيف جملة من الأفكار والمقترحات في مقدمتها رفع الحصار والعقوبات على سوريا، وتثبيت أسس الحوار على قاعدة القرارات الدولية المتعلقة بتسوية الأزمة السورية، وهذا كله بعد قرار «الإنسحاب الروسي الجزئي» من سوريا الذي كان تمت مناقشته قبل حصوله مع دمشق، وتم الاتفاق أن يتزامن الإعلان عنه مع بدء إطلاق محادثات جنيف، بما يؤكد أن الأزمة تتجه نحو حل سياسي، تريده دمشق وطهران وموسكو، «شاملا» في سوريا، يقطع الطريق على دول الإقليم، ومنعها من عرقلة السلام والتدخل العسكري المباشر في سوريا خصوصا تركيا والسعودية، ويفتح صفحة جديدة في العلاقات بين روسيا وهذه الدول.
وبدا لافتأ أن قرار بوتين جاء بعد المقابلة المثيرة للرئيس الأمريكي باراك أوباما مع مجلة «ذي أتلانتيك» ودعوته الواضحة السعودية وإيران إلى التعايش وتقاسم النفوذ في المنطقة، وزيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الرياض، وإبلاغها بصوت عال بعد أن التقى الملك سلمان وولي ولي العهد ووزير الخارجية في قاعدة عسكرية بالسعودية «أن الوقت قد حان الآن لمواصلة المضي قدما لإنهاء الصراعات في سوريا واليمن» حيث يجري بالفعل وقف العمليات العسكرية الكبرى، بعد تفاهم «الحدود» بين السعودية والحوثيين.
كما جاء القرار بعد تفاهمات غير معلنة بين طهران وانقرة خلال زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد أوغلو إلى العاصمة الإيرانية مفادها أن تركيا وافقت على بقاء الرئيس الأسد، والعمل على قبول «التسوية السياسية بأدوات جديدة».
وحتى قبل الخطوة الروسية «المثيرة» فان كيري كان أبلغ إحدى لجان الكونغرس أواخر شباط/فبراير أن إيران سحبت «عددا ًمهما» من عناصر الحرس الثوري من ساحات المعارك في سوريا، وذلك قبل يومين من إعلان وقف إطلاق النار في سوريا، موضحا أن تدخل إيران المباشر يتراجع في سوريا، ومؤكداً أن الحرس الثوري سحب عناصره بالفعل من سوريا، قائلا: «لقد سحب آية الله خامنئي عددا مهما من الجنود هناك، تواجدهم يتراجع فعليا في سوريا».
وطبعا فإن إرسال إيران وحدة قوات خاصة جديدة إلى سوريا بعد تــصــريح كــيــري جاء بالتفاهم معها للحـــيـــلولة دون فرض عقوبات جديدة عليها بسبب تجارب صواريخها الباليستية، هو إجراء إحترازي من قبل الحرس الثوري الإيراني لضمان نجاح العملية السياسية، ما يؤكد أن الخطوة التالية، إذا تقدم المسار السياسي دون «منغصات» ستكون تخفيض وجود قوات حزب الله في سوريا خلال الفترة القريبة، أو ملأ كل «الفراغات» بقوات بديلة!.
القدس العربي
«المخفي» في إتصالات عمان ـ موسكو ـ واشنطن: الأردن بعد استظلال مؤقت وتكتيكي بعباءة بوتين يعود إلى غطاء واشنطن الدفاعي/ بسام البدارين
لا يبدو بلد كالأردن يجلس في عمق بؤرة التجاذب الإقليمي متفاجئا أو مندهشا من ظروف وملابسات وغموض وتداعيات الانسحاب العسكري الروسي من سوريا المجاورة ليس فقط لأن عمان لديها معلومات مسبقة أو لا تملك معلومات.
ولكن لأن أولويات اللهجة الأردنية تغيرت في الأسابيع الستة الماضية عندما يتعلق الأمر بالتقارب أكثر من عباءة الرئيس فلاديمير بوتين بالرغم من إيمان المملكة العلني أن الوجود الروسي يساهم في تفعيل الحل السياسي ويفيد في القضية المركزية وهي الصراع العربي الإسرائيلي وعملية السلام في الشرق الأوسط.
ويوافق محللون كثر في الجانب الأردني على ان الانسحاب العسكري الروسي ورقة ضغط تكتيكية تساند أولا الهدنة في الميدان، وثانيا مناخ التسوية الإجباري لجميع الأطراف.
لكن مثل هذا التحليل الحيادي لا يبدو هو الورقة المعتمدة داخل الغرف المغلقة للقرار الأردني، ليس فقط لأن أي حل للمشكلة السورية ينبغي ان يكون الأردن طرفا فيه كما يؤمن وزير الخارجية ناصر جودة، ولكن أيضا لأن تطورات مهمة حصلت في الأسابيع الأخيرة تصلح لاعتماد موقف الأردن التكتيكي كمؤشر على إنحيازات البوصلة.
هنا حصريا وتحديدا ثمة مواقف ومؤشرات لا يمكن إسقاطها من حسابات التحليل والمتابعة والتدقيق. فقبل أقل من شهر على الإنسحاب الروسي العسكري الجزئي، كانت مظاهر الإنزعاج الأردني من تساهل موسكو في تبني الهواجس والخبرة الأردنية تطفو على سطح التعليقات التي يتبادلها كبار المسؤولين في غرف القرار التشاورية المغلقة.
قبل أقل من شهر من الحدث نفسه كان التلويح واضحا ان الأردن مستعد لسلوك فردي في قواعد الاشتباك الجوي، تحديدا عندما يتعلق الأمر بالطيران، إذا لم يأخذ الروس بحسبانهم المخاوف الفنية والعسكرية الأردنية، لأن عمان طوال الوقت طلبت من موسكو طلبا محددا يتمثل في منع استخدام السلاح الثقيل من قبل الطائرات الروسية لمساندة عمليات عسكرية ضخمة جنوب سوريا.
الأردن هنا قالها للروس بوضوح حيث أن هناك 50 ألف مسلح بمحاذاة الحدود الأردنية مع سوريا ستنتج عنهم فوضى كبيرة إذا ما تم استهدافهم بطريقة الاستهداف نفسها التي حصلت في غرب سوريا وشمالها، حيث تقصف الطائرات الروسية بأسلوب الأرض المحروقة وتكمل مروحيات النظام السوري بتفجيرات عشوائية ثم يبدأ الجيش النظامي بمساعدة الحرس الثوري ومقاتلي حزب الله بتحرير المساحات المحروقة.
والأردن قالها بوضوح لا بل طلبها واعتبرها ثمنا للتقارب مع روسيا عندما تحفظ على عمليات قصف جوي عنيفة بالقرب من مدنه الشمالية، وعلى عمليات تحرير واسعة لمدن درعا يمكن ان تخلق فوضى أمنية أو ضغطا جديدا للنازحين واللاجئين أو حالة هلع وخوف لسكانه ومواطنيه واللاجئين شمالي البلاد.
بناء على هذا تعاون الأردن استخباريا مع الروس واستقبل بترتيب منهم رجل الأمن السوري القوي علي مملوك، وبدا منفتحا على احتمالات التعاون مع روسيا ودمشق بما يضمن مصالحه الأساسية والحدودية مجازفا حتى بإزعاج وإقلاق واشنطن.
ما حصل في قرية الشيخ مسكين تحديدا حيث عملية عسكرية ضخمة وقصف جوي عنيف شكل الإنذار الأول في حالة تصدع لتفاهمات ضمنية بين عمان وموسكو.
استندت عمان لتداعيات ما حصل في قرية الشيخ مسكين في تجديد حالة التفاوض مع الروس وإنعاش ذاكرتهم والسعي للحصول منهم على ضمانات أكبر في تجنب خيارات القصف العنيف والعمليات العسكرية الضخمة في الجنوب السوري.
وبدا واضحا للأردنيين ان موسكو تستمع ولا تعلق، وتعد ولا تلتزم. في وقت لاحق بدا أوضح لهم ان إيران مهتمة جدا بالسيطرة على الأيقاع العملياتي عبر الحرس الثوري في جنوب سوريا وبالقرب من حدودهم ولم يفعل الروس شيئا لتبديد المخاوف الأردنية رغم ان عمان وفي وثيقة تصنيف الإرهاب التي طلبتها موسكو منها اعتبرت مبكرا مقاتلي حزب الله اللبناني والحرس الثوري في سوريا من المجموعات الإرهابية.
في العمق بدا للأردنيين أن روسيا لا تريد أو لا تستطيع تفهم هواجسهم المتعلقة بكل صغيرة وكبيرة تحدث في جنوب سوريا التي يعتبر الأردن مخزن الخبرة الأساسي فيها بعد النظام السوري على المستوى الاجتماعي والأمني والعشائري والعسكري أيضا.
في الأثناء حصل تطور آخر، فقد بدا ان إدارة الرئيس باراك أوباما معنية على نحو أو آخر بوقف جنوح عمان نحو عباءة بوتين، وقد عبرت عن ذلك سفيرة واشنطن أليس ويلز عندما المحت في لقاء عام إلى ان التعاون بنيوي بين بلادها والمؤسسة الأردنية العسكرية والسياسية.
وفي الأثناء برزت رسائل الرئيس أوباما السلبية تجاه الأردن والتي قرئت محليا على أساس انها جملة معترضة على النمو المتزايد في التقارب مع روسيا وتحديدا في المجال المعلوماتي. حصل ذلك قبل استدارة أمريكية قوية وعنيفة لوقف الحوار الفرعي الذي أدارته عمان مع موسكو. فخلال اسبوعين فقط تم التوقيع على وثيقة الضمانة الدفاعية الأمريكية لأمن وحدود الأردن، والأهم ان الإدارة الأمريكية سارعت للتعبير عمليا وعلى الأرض عن منطوق ومضمون هذه الوثيقة للإستحكام في استعادة العلاقات المتميزة مع الأردن في المستوى الدفاعي حينما استخدم الجيش الأمريكي ولأول مرة راجمات صواريخ استراتيجية من الحدود الأردنية ضد تنظيم داعش في تدمر والسويداء.
بمعنى آخر التقط الأردن رسالة كان يخطط لها أصلا، تتمثل في إبلاغ الآخرين أن الولايات المتحدة معنية عسكريا وليس سياسيا فقط بأمن حدود المملكة الأردنية الهاشمية، وهو الأمر الذي أخفقت روسيا في تقديمه للأردنيين بعد نحو أربعة أشهر من التعاون الاستراتيجي والأمني معها ولو جزئيا.
من هنا يمكن القول في الخلاصة أن استمرار الحضور الروسي سياسيا وحتى عسكريا ما زال يشكل استراتيجية بالنسبة للأردن المؤمن بحل سياسي في سوريا وباستئناف عملية السلام في فلسطين، وأن عمان ومع التنفيذ الإجرائي السريع لمنطوق وثيقة الالتزام الأمريكي بحماية حدودها تكون قد جربت حظها مع موسكو التي خذلتها على نحو أو آخر لكنها تمكنت وعلى نحو أو آخر من استعادة ظل عباءة واشنطن في المجال الدفاعي والأمني تحديدا.
لذلك حصريا لا يمكن القول ان الأردن متفاجئ فعلا أو جديا بأن روسيا انسحبت أو تنسحب من سوريا عسكريا.
القدس العربي
روسيا تغادر سوريا ولكنها باقية/ فيكتوريا سيميوشينا
جاء قرار إنهاء العملية العسكرية الروسية في سوريا مفاجئا للجميع، ليصبح برهانا جديدا على أن الحرب السورية تعد بالنسبة لروسيا جزءاً من الحرب الجيوسياسية من أجل عالم متعدد الأقطاب. ورغم ذلك، لا نستطيع القول إنه تم إغلاق الجبهة السورية بالفعل، بل إنه فرصة لإعادة تشكيل الإنجازات العسكرية بوسائل سياسية.
منذ بداية العملية في سوريا، أكدت القيادة الروسية مرارا أنها لا تنوي البقاء في سوريا لوقت طويل. وكان الحديث يدور حول أربعة أو خمسة أشهر فقط، لكن الجميع لم يثقوا بذلك. وبعد خمسة أشهر ونصف، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن القوات الروسية الموجودة في سوريا حققت الجزء الأكبر من أهدافها، مشيرا إلى انها أوجدت ظروفا ملائمة للتمهيد لعملية السلام. وقد تم اختيار توقيت سحب الجزء الرئيسي من القوة العسكرية الروسية بشكل صحيح، بالتزامن مع التهدئة التي تم التوصل إليها بمساعدة الجهود الدبلوماسية الروسية. فالانسحاب في وقت التهدئة يعني أن تغادر فائزا، لكن الانسحاب في الحرب، يعني أنك خاسر. لذلك قامت روسيا بسحب قواتها خلال تهدئة هشة، ولكنها، في جميع الأحوال، تهدئة ساعدت في تحقيقها.
ويرى المستشرق الروسي والأستاذ في قسم العلوم السياسية في مدرسة الاقتصاد العليا أنه تم اختيار توقيت سحب القوات، ولو جزئيا، من سوريا بشكل جيد جدا ويضيف قائلا: «قد لا تسنح هذه الفرصة في المستقبل. وكان بوتين يقول منذ البداية إنه لن يتم تنفيذ عملية برية في سوريا وليست هناك نية للانهماك في هذه العملية. لذلك كان من الضروري مغادرة سوريا في اللحظة الصحيحة بعد تحقيق الأهداف المحددة. والآن حانت هذه اللحظة». ولا يجب أن ننسى ما قاله الرئيس بوتين ردا على سؤال أحد الصحافيين حول موعد سحب القوات الروسية من سوريا، حيث قال: «سنقوم بدعم الأسد جوا ليكون قادرا على التقدم والهجوم». ويؤكد الخبير أن القيادة الروسية كانت تدرك على الدوام خطر الغرق في هذا النزاع، كما لم ينس أحد في موسكو التجربة الروسية في أفغانستان. ولن تتكرر تجربة أفغانستان في سوريا. ووفق رأي إيسايف، فإن قرار التدخل في سوريا كان خاطئا، وقد تمكنت القيادة الروسية من تصحيح هذا الخطأ في اللحظة الصحيحة.
ولم يكذب الرئيس بوتين لما قال إن روسيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها في سوريا وحان وقت المغادرة. فالنتائج باتت واضحة في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والداخلية. ولما أوعز بوتين لوزير الدفاع سيرغي شويغو بسحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية، لم يقل شيئا حول تنظيم «الدولة الإسلامية». ليس لأنه تم القضاء على هذا التنظيم، بل لأن القضاء على «داعش» كان منذ البداية هدفا إعلاميا صعب التحقيق. اما الأهداف الحقيقية فكانت مختلفة تماما. ويرى غريغوري كوساتش، المستشرق الروسي والأستاذ في جامعة العلوم الإنسانية في موسكو، أن قرار القيادة الروسية وضَعَ النقاط على الحروف، وأظهر ان الهدف الرئيسي لروسيا في سوريا كان عدم السماح بسقوط نظام الأسد، وليس محاربة الإرهاب العالمي. ويضيف قائلا: «لا يكذب بوتين بشكل عام عندما يقول إنه تم تحقيق الجزء الأكبر من الأهداف الروسية في سوريا، حيث تم توسيع الأراضي التي يسيطر عليها جيش الأسد وأصبح الجيش السوري يمتلك المبادرة الحربية اللازمة. وكان ذلك الهدف الأهم الذي كان من الضروري تحقيقه. ولم تسمح روسيا بإسقاط نظام الأسد، لكنها مضطرة لسحب قواتها في ظروف الأزمة الاقتصادية المتصاعدة في روسيا». كما يعتبر المستشرق الروسي أن هذا القرار يتعلق برغبة روسيا في إيصال رسالة للأسد مفادها أن روسيا لا تعتزم استرجاع سوريا بأكملها من أجله بواسطة السلاح. وإن إقرار مصير سوريا في يد السوريين فقط.
ويرى فلاديمير أحمدوف، الباحث في شؤون العالم العربي في معهد الاستشراق الروسي في موسكو، أن من النتائج الرئيسية للحملة الروسية في سوريا هو تمكن القوات الروسية من تحقيق التوازن بين القوى السورية.
وقال: «تم إضعاف البنية التحتية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا من جهة، ومن جهة أخرى أنقذنا النظام السوري ودربنا العسكريين السوريين ودعمنا مواقعهم. نعم، لم نغير توازن القوى بصورة جذرية ولكننا ساعدنا في توازن القوى. من الناحية العسكرية، قمنا بتضييق مواقع المعارضة السورية المسلحة في جبهتي دمشق – حلب وفتحنا الطريق لتقدم القوات السورية المسلحة. وكل ذلك ساعد على ظهور إمكانية لإقامة الحوار بين الجانبين المتحاربين. بدأت المباحثات في جنيف. وإضافة إلى ذلك، قامت روسيا باستعراض قدراتها العسكرية في سوريا، وأظهرت للجميع أنه لا بد من أخذ مواقفها بعين الاعتبار. والآن نلعب مع الولايات المتحدة على قدم المساواة».
وكانت العزلة الدولية بدأت تُفرض على روسيا عام 2015 بعد انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا وبداية الحرب في دونباس وتحطم الطائرة الماليزية. لكن مع بدء العملية العسكرية في سوريا تغير الوضع. وعلى الرغم من الانتقادات والاتهامات بمساعدة الأسد، بدأ المجتمع الدولي يأخذ بعين الاعتبار الموقف الروسي. وعادت روسيا إلى مجلس المدراء العالمي وإلى طاولة المباحثات حيث يتم اتخاذ القرارات المتعلقة بالنزاعات الإقليمية. وبدأت المباحثات في جنيف من القرار الأمريكي الذي جاء به وزير الخارجية جون كيري شخصيا إلى موسكو في كانون الأول/دسيمبر الماضي. والتهدئة الجارية هي نتيجة القرار الآخر الذي تم اتخاذه بمساعدة روسيا أيضا.
وأبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس الروسي أن القوات السورية مدعومة بسلاح الجو تمكنت منذ بدء العملية الروسية في البلاد من تحرير 400 مدينة وقرية سورية، واستعادت السيطرة على أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع من أراضي البلاد.
وأضاف أن الطيران الحربي الروسي دمر في سوريا حوالي 209 منشأة متخصصة في إنتاج النفط، فضلا عن أكثر من 2000 شاحنة لنقل المنتجات النفطية، وقتل أكثر من 2000 مسلح، بمن فيهم 17 قائدا للمجموعات الإرهابية، كانوا قد تسللوا إلى البلاد. وقد نفذت قوات الطيران الروسية أكثر من 9 آلاف طلعة جوية منذ بداية العملية في 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
ولا تعود روسيا من سوريا فارغة اليدين، ولكن ثمن نتائجها غال جدا. ويرى ليونيد إيسايف، المستعرب الروسي، ان لحظة التدخل الروسي في سوريا عرّضت روسيا لمخاطر كثيرة، وقد أدركت القيادة ذلك، والأخطار الجديدة لن تكون مبررة. ويضيف قائلا: «عندما دخلت قواتنا إلى سوريا، جازفت بكل ما كانت تمتلكه، وكان هذا خطير جدا. في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي كان ذلك مبررا، ولكن الأخطار الجديدة لن تكون مبررة بالمستوى نفسه، لأن الوضع تغير وأنجزنا النتائج الملموسة. ومع ذلك دفعنا ثمنا باهظا أيضا، حيث أنفقنا أموالا ضخمة وخسرنا جنودا وتحطمت طائرة كان على متنها 224 مواطنا روسيا في سيناء بسبب عمل إرهابي نفذه مسلحو تنظيم «داعش» بعد بدء العملية الروسية في سوريا. ولا يجب أن ننسى أننا أنقذنا صديقنا الأسد ولكننا خسرنا صديقنا الآخر أردوغان، واليوم تشهد العلاقات الروسية التركية أزمة عميقة حيث أصبحت تركيا عدونا».
من جانب آخر، لم تسحب روسيا قواتها بشكل نهائي. وخلال اجتماعه بوزير الدفاع الروسي قال بوتين إن قوات البحرية والقاعدة الجوية الروسية في مدينة طرطوس ستعود للعمل كما كانت قبل التدخل العسكري الأخير. ويسود الاعتقاد ان الحديث يدور حول إعادة صياغة وجود روسيا في سوريا. ويرى فلاديمير أحمدوف أن سحب القوات يعد خطوة روسية تكتيكية وفي الحقيقة، لا تغادر روسيا سوريا والشرق الأوسط.
«من الممكن إلى حد ما تسمية الانسحاب بالخطوة التكتيكية. بالفعل، اختفت الحاجة للوجود الجوي العسكري الدائم في سوريا، ولكن تم الحفاظ على القاعدة الجوية في حميميم ومركز الإمداد المادي والتقني الروسي في طرطوس. كما بقي في سوريا عدد من العسكريين والجنود الروس. ويعني ذلك ان مصالحنا في سوريا ما زالت محمية. وفي حال ظهور أي تهديد لمصالحنا في سوريا أو جنودنا فسنجد دائما إمكانية لمواجهتها. كما لا تزال أنظمة «إس 400» في سوريا. إننا نقوم بسحب قواتنا من سوريا ولكننا نبقى فيها وفي الشرق الأوسط. ونريد دعم العملية السلمية التي تسمح للسوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم».
واحدة تلو الأخرى، تغادر الطائرات العسكرية الروسية الأراضي السورية وتغادر معها آمال النظام السوري بأن روسيا ستقوم بإرجاع سوريا له. ويؤكد الخبير الروسي فلاديمير أحمدوف أن بوتين أرسل بقراره إشارات لأطراف النزاع العديدة. «لقد أنقذنا هذا النظام من السقوط وأنشأنا الظروف الملائمة لتوازن القوى. ونقدم الآن للنظام حق الاختيار: مواصلة الحرب أو بدء المباحثات». ويضيف الخبير أن الكرة الآن في ملعب المباحثات في جنيف. ولا بد للأسد أن يكون مطاوعا ويجب على الجانبين الجلوس إلى طاولة المباحثات.
قيادات في المعارضة السورية لـ«القدس العربي»: الإنسحاب الروسي نتيجة لخلافات حقيقية مع نظام الأسد/ إسماعيل جمال
أجمع عدد من قيادات المعارضة السورية في تصريحات خاصة لـ«القدس العربي» على أن قرار سحب جزء هام من القوات الروسية من سوريا جاء نتيجة لخلافات حقيقية بين موسكو ونظام الأسد وفي إطار صراع النفوذ بين دمشق وطهران وموسكو، معتبرين أن روسيا ربما قررت التخلي عن الأسد مقابل الاستمرار في حماية مصالحها في سوريا في إطار الحل السياسي مع الولايات المتحدة.
سمير نشار عضو الائتلاف السوري المعارض ورئيس أمانة إعلان دمشق اعتبر أن القرار الروسي يكشف عن صراع حقيقي على النفوذ في سوريا بين إيران وروسيا.
وقال لـ«القدس العربي»: «روسيا تضع ثقلها مع الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاق لا يعرف مضمونه أي من القوى الدولية المهمة في المنطقة خاصة السعودية وتركيا، في المقابل تشعر إيران أن الدور الروسي في سوريا قلص نفوذها هناك وأن تواجد الجيش الروسي أكبر من النفوذ الإيراني».
وأضاف: «روسيا في مفاوضات الحل السياسي تفكر في نفوذها ومصالحها، لا في حماية مصالح إيران، كما أن موسكو تؤمن بمصالحها أكثر من إيمانها بضرورة الحفاظ على شخص الأسد بينما ترى إيران في الأسد الضامن الوحيد لمصالحها في سوريا».
ولفت إلى أن «جوهر المفاوضات في جنيف تدور حول مصير الأسد والمعارضة والدول الداعمة لا سيما المملكة العربية السعودية تقف موقفا حازما وترفض أي دور للأسد في المرحلة الانتقالية. وبدا التناقض والتباين واضحا بين نظام الأسد وروسيا من خلال مؤتمر وليد المعلم الذي قال فيه إن الأسد خط أحمر، وجاء الرد الروسي بالتأكيد على أن تدخلها هو الذي أنقذ الأسد» مؤكداً على أن القرار الروسي جاء بمثابة رسالة واضحة لإيران والأسد أن روسيا ستدعم الحل السياسي الذي يحفظ مصالحها في سوريا.
من جهته، اعتبر مصطفى أوزو النائب السابق لرئيس الائتلاف السوري أن القرار الروسي المفاجئ بالإنسحاب من سوريا «يندرج في خانة الخلافات مع نظام الأسد حول أسس الحل السياسي وآلياته، فقد ساهمت روسيا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، بالتوصل لاتفاقية الهدنة «وقف الأعمال العدائية» بين النظام السوري والمعارضة المسلحة السورية، وتحقيق بعض التقدم في مسألة إيصال المساعدات الإنسانية للمناطق التي يحاصرها النظام».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «بالتالي الاتفاق على موعد لبدء العملية التفاوضية في جنيف من أجل إيجاد حل سياسي للأزمة السورية المستفحلة منذ أكثر من خمس سنوات، خاصة وأن هذا القرار جاء متزامنا مع التصريحات التي أدلى بها وزير خارجية النظام وليد المعلم، حول الانتخابات الرئاسية في سوريا، ناقضت تماما قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254) الصادر بإجماع الأعضاء الخمسة الكبار في مجلس الأمن ومن بينهم روسيا الاتحادية، وكذلك هي تتناقض مع التفاهمات الروسية الأمريكية».
وحول تبعات القرار الروسي على مستقبل الحل السياسي في سوريا، قال أوزو: «باعتقادي أن هذا الانسحاب سيكون له تأثير كبير في التخفيف من غطرسة النظام وشعوره بالانتصار على إرادة الشعب السوري والقضاء على ثورته المباركة وسيظهره على حقيقته وضعفه التي كان عليه قبل التدخل الروسي، وبالتالي يجب أن يؤدي هذا الأمر إلى التقدم في عملية التسوية السياسية وتحقيق الانتقال السياسي في سوريا، ويجب أن يؤدي ذلك أيضا إلى تراجع النظام عن مواقفه المتعنتة المتعلقة بعملية الانتقال السياسي وتسليم السلطة للشعب السوري، رغم أن تجارب التاريخ تؤكد أن الأنظمة الديكتاتورية لا تفعل ذلك وتبقى تُمارس الإرهاب والقمع بحق شعوبها حتى تلقى مصيرها الأسود، كما حصل مع العديد من الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية في المنطقة والعالم».
في السياق ذاته، قال القيادي السوري المعارض أحمد رمضان إن روسيا فشلت في كسر إرادة الشعب السوري، متوقعاً حصول «تغيرات دراماتيكية» خلال الأيام المقبلة.
وقال رمضان رئيس مجموعة العمل الوطني من أجل سوريا وعضو الهيئة السياسية للائتلاف لـ«القدس العربي»: «القرار الروسي خطوة في الاتجاه الصحيح، فنحن سبق أن دعونا موسكو لتجنب التصرف كطرف محتل وأن لا تدخل بجانب النظام وتساهم بالحل السياسي ضمن المرجعيات الدولية لكنها وخلال 5 أشهر عملت على تدخل عسكري خارج المرجعيات الدولية».
وأضاف: «ارتكبت روسيا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحسب تصنيف الأمم المتحدة وقتلت آلاف المدنيين واستهدفت المدارس والأسواق والمستشفيات»، معتبراً أن «روسيا أدركت بعد كل ذلك أنها غير قادرة على تغيير المعادلة على الأرض أو مساعدة النظام في إعادة إحكام سيطرته على المناطق المحررة».
وشدد رمضان على أن القرار الروسي بالانسحاب دون التحقيق النتائج التي دخل سوريا من أجلها هو «فشل ذريع»، مضيفاً: «روسيا لم تستطيع كسر إرادة الشعب السوري ويمكن أن نشهد خطوات دراماتيكية خلال الأيام المقبلة على صعيد انسحاب باقي القوات الأجنبية، والفشل الروسي هو فشل لإيران وحزب الله أيضاً»، متوقعاً أن «القرار الروسي بأبعاده المعنوية سيؤثر سلباً على معنويات النظام والميليشيات المساندة له، وستدرك جميع هذه الأطراف أنها غير قادرة على الاستمرار في المواجهة».
المستشار القانوني للجيش السوري الحر أسامة أبو زيد رأى في تصريحات لـ«القدس العربي» أن: «الروس استطاعوا أن يفرضوا وجودهم في المنطقة وهذا النفوذ لم يعد مرتبطا بالأسد، فهم ثبتوا مكانتهم في المنطقة والكل يستطيع أن يلمس ذلك خاصة في سوريا وأثر ذلك على تركيا وباقي جيران سوريا».
وأضاف: «اعتقد أن الروس تدخلوا لفرض نفوذهم في المنطقة وفضلوا الانسحاب قبل الوقوع في الوحل السوري وعدم التمكن من الانسحاب لاحقاً»، معتبراً أن «اتفاق الهدنة ساعد الروس في اتخاذ هذا القرار كونه ثبت مناطق النفوذ للنظام والثوار ولا يمكن للأطراف محاولة كسب أراض جديدة بحكم الهدنة».
وأكد أنه «في كل الأحوال العدوان الروسي كان هدفه إبقاء الأسد على رأس السلطة وهذا الأمر لن يكون ممكناً في المفاوضات الجارية، وكان هدفه ميدانياً تغيير المعادلة على الأرض ولم يتمكن من ذلك أيضاً حيث لا يوجد أي تقدم استراتيجي للنظام، كل ذلك يعتبر فشلا على الرغم من نجاح روسيا في فرض نفوذها في المنطقة».
القدس العربي
شكوك أمريكية في الانسحاب الروسي من سوريا وتوقعات بحرص موسكو على عناصر أمن النظام وليس بقاء الأسد/ رائد صالحة
قالت وزارة الدفاع الأمريكية انها «ستنتظر وستراقب» مدى صدق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الإعلان عن انسحاب قواته من سوريا. إذ صرح المتحدث الرسمي باسم البنتاغون بيتر كوك ان المؤسسة العسكرية الأمريكية مثل أي طرف آخر ستنتظر وترى ما يفعله الروس، مشيرا إلى مواصلة موسكو شن بعض الغارات الجوية على بعض المناطق في البلاد. وقد صدم بوتين المجتمع الدولي يوم الاثنين الماضي بإعلانه انسحاب القوات الروسية من سوريا بعد أقل من ستة أشهر بعد اكتمال ووفاء الأهداف الروسية على حد تعبير بوتين. وكان الكرملين قال ان التدخل الروسي جاء بهدف استهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن واشنطن قالت ان معظم الضربات الجوية قد استهدفت قوات المعارضة السورية والمدنيين من أجل دعم الرئيس السوري بشار الأسد.
وثارت تساؤلات في واشنطن، على الفور، حول نوايا بوتين الذي لم يقدم جدولا زمنيا للانسحاب الكامل. وقال، أيضا، ان روسيا ستحتفظ بقاعدة جوية في محافظة اللاذقية وأخرى بحرية في ميناء طرطوس. كما تزامن الإعلان مع استئناف محادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة بين جماعات المعارضة السورية والنظام.
وشهدت وزارة الدفاع الأمريكية مغادرة 10 طائرات روسية فقط من سوريا، ولكن كوك أوضح ان واشنطن شاهدت في السابق مغادرة للطائرات الروسية ولكنها كانت تعود. وقال:»تقييم روسيا يعتمد على أفعالهم وليس أقوالهم كما هو الحال على مدى الأشهر الستة الماضية» مشيرا إلى ان الضربات الجوية الروسية منذ إعلان الانسحاب استهدفت مواقع تنظيم الدولة وهو أمر لا ينتهك وقف اطلاق النار المعمول به حاليا.
هذا الموقف المتشكك من المؤسسة العسكرية الأمريكية والذي يتفق تماما مع موقف المؤسسة السياسية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، لم يمنع كوك من القول ان واشنطن ترحب بهذه الخطوة إذا سحب بوتين بالفعل قواته للمساعدة في تعزيز وقف اطلاق النار، ثم عاد ليكرر تصريحاته السابقة بضرورة الحكم على روسيا من خلال أفعالها وليس أقوالها. في حين قال جون كيربي المتحدث باسم وزارة الخارجية ان من السابق لأوانه الاستنتاج ان روسيا تنسحب حقا من سوريا.
وقد تباينت ردود الفعل الأمريكية غير الرسمية للانسحاب الروسي من سوريا، حيث رأت صحيفة «يو اس اي توداي» ان الانسحاب سيزيد من الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد من أجل التوصل إلى تسوية سياسية لانهاء الحرب الأهلية في البلاد، كما يثير احتمالات التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا لتحقيق ذلك، حيث سيزور وزير الخارجية الأمريكي جون كيري موسكو في هذا السياق ليلتقي بوتين لبحث جهود السلام السورية، مع الإشارة هنا إلى ان الأسد قد أظهر القليل من الاهتمام في تقديم أي تنازلات لانهاء الحرب.
وقال خبراء أمريكيون ان الروس يعلمون جيدا ان الأسد لا يمكن ان يبقى إلى الأبد، وهم يحاولون الآن اجباره على تقديم تنازلات في المفاوضات، حيث تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها انتخابات حرة نزيهة لاختيار زعيم جديد. وعلى ما يبدو كما يضيف الخبراء، فان بوتين قرر عدم ترك جيشه في سوريا لتوجيه ضربة أخيرة للمعارضة، وهو أمر قد يستغرق وقتا طويلا وسيكلف كثيرا في الوقت الذي يعيش فيه الاقتصاد الروسي في حالة ركود بسبب انخفاض صادرات النفط الضخمة، وبدلا من ذلك فان هدفه الآن هو المحافظة على عناصر أمن نظام الأسد وليس الأسد نفسه.
وأوضح المحلل أندرو تايلر من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ان أهداف بوتين محدودة، وانه قرر الخروج من سوريا عندما حقق هذه الأهداف وهي دعم النظام للحصول على وضع جيد في التفاوض. وعلى حد تعبيره، فان التدخل العسكرى لا يؤدي بالضرورة إلى منحدر زلق، في حين قال عدد آخر من المحللين ان بوتين حقق نجاحا باهرا من المنظور السياسي المحلي قبل الانتخابات البرلمانية الوشيكة وانه صور روسيا كقوة عالمية وعسكرية عبر شن حملة دموية قصيرة ضد «الإرهاب» دون التورط في المستنقع.
وفي الواقع، هناك بعض المبررات في رؤية انتصار لبوتين في سوريا وفقا للخبراء، حيث عمل على استقرار نظام الأسد ودفع الولايات المتحدة إلى التراجع عن سياستها القديمة بعدم التفاوض مع دمشق، كما انها أجبرت واشنطن على التعامل مع موسكو كشريك على قدم المساواة في منطقة الشرق الأوسط، ومن المنظور العسكري، عززت موسكو منشأة طرطوس كقاعدة وأصبحت لديها قاعدة جوية في سوريا لايواء نظام الدفاع الجوي «اس 400» وزاد الوجود العسكري الدائم بفضل التدخل الأخير.
هنالك دلائل أمريكية على تغييرات روسية في الحملة الجوية حيث تم تخفيض عدد الغارات الجوية منذ وقف اطلاق النار الجزئي مع تركيز أكثر على ضرب مواقع تنظيم «الدولة الإسلامية» بدلا من استهداف جماعات المعارضة بشكل أساسي. ولكن في إتجاه آخر فان الحملة الروسية في سوريا تمثل سابقة خطيرة تعني امكانية استخدام موسكو لأسلوب التدخل العسكري الحاسم كتكتيك فعال وهذا بالطبع خبر سيئ للغاية لجيران روسيا في القارة الأوروبية، كما يعني أيضا، ان روسيا تنوي التركيز مرة أخرى على اوكرانيا التي تشهد حالة من الضعف في الوقت الراهن. فالحكومة في كييف تعيش في حالة اضطراب والمناوشات مستمرة على طول خط التماس خاصة في الأسابيع الأخيرة.
القدس العربي
موسكو: تعددت الاراء..والانسحاب واحد/ بسام مقداد
لم يقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال خطابه في حفل استقبال العسكريين الروس العائدين من سوريا، أي إجابة إضافية على التساؤلات المستمرة، حول قراره بالانسحاب الجزئي من سوريا. واكتفى بما ورد في بيان إعلان الإنسحاب يوم الإثنين الماضي، بأن الأهداف الرئيسية لعملية التدخل العسكري في سوريا تم تحقيقها، بصورة أساسية.
المعلقون السياسيون الروس الموالون للكرملين، اكتفوا بترداد ما جاء في بيان إعلان الإنسحاب. وقد اختار موقع “Grani.ru” المعارض أن يجمع أقوال المشاركين في برامج مختلفة على القنوات التلفزيونية التابعة للسلطة، وخصوصاً برنامج “توك شو” بعنوان “أمسية مع فلاديمير سالافيوف”، على القنال “روسيا – 1″، كي يستعرض مروحة الآراء المؤيدة للعلمية العسكرية الروسية في سوريا. يقول موقع “غراني” أن سالافيوف قطع سياق الموضوع، الذي كان يطرحه قبل موضوع سوريا، لينتقل فجأة إلى موضوع السلام في سوريا ويقول “لقد قصفنا وسوف نقصف، كما ذكر نائب وزير الدفاع. ومن يعتقد أن روسيا قد نسيت أو سامحت، فالأفضل ألا يأمل ذلك”.
وهنا نماذج من تلك الاراء التي جرى التعبير عنها:
النائب في الدوما ألكسندر رومانوفيتش قال “عمليتنا في سوريا كشفت على أن الدور التركي هو للبيع والشراء. وهذا إنجاز آخر”.
السناتور يفغيني بوشمين “لدينا الإمكانية على منحهم (السوريين) فرصة كتابة دستور لهم”.
المستشرق رسلان قربانوف “لقد نضبت لدى العالم الغربي موارده الخاصة للتطور. وبدأ في هذا الوقت ينهض العالم الإسلامي. ولذا قرر الأميركيون جعل الشيعة والسنة يشتبكون مع بعضهم. ونحن يجب أن نبقى على الحياد ً ونلعب دور الوسيط”.
النائب في الدوما ألكسندر رومانوفيتش “لو لم تكن العملية في سوريا، لما حدث اللقاء التاريخي بين البطريرك والبابا”.
سالافيوف (مقدم البرنامج) “على خلفية العملية العسكرية تحسنت فجأة علاقات روسيا مع جميع اللاعبين في المنطقة”.
الصحافي السوري عباس جمعة، وهو متحدث جيد باللغة الروسية “لن أتخلى عن نظريتي بأن الموقعة التوراتية بين الخير والشر لا بد واقعة. بوتين لم يغادر. بوتين فقط حاد جانباً، كي يرى كيف ستتطور الأحداث”.
المتخصص بالعلوم السياسية ديمتري سوسلوف “للمرة الأولى نحن نجبر الأميركيين على العمل وفق روزنامتنا. لقد وضعنا أسس عالم متعدد القطب. لقد وضعنا نهاية لسياسة الإطاحة بالأنظمة غير المناسبة”.
وكان سالافيوف قد افتتح البرنامج بالقول “كانت روسيا تدعو منذ البداية إلى الحل السلمي للأزمة السورية، لكن هذه الحقيقة يتجاهلها عشاق نظرية المؤامرة”.
تلك هي مروحة الآراء السائدة في المجتمع الروسي بكافة شرائحه، وهو المجتمع المؤيد بنسبة 70 في المئة للعملية العسكرية الروسية في سوريا، حسب استطلاع الرأي، الذي نشرته صحيفة “كومرسانت” في 16 الحالي، وقامت به مؤسسة استطلاع الرأي الروسية الرسمية. لكن 40 في المئة ممن أجابوا اعتبروا أن ليس للعملية مردود إيجابي على روسيا.
السبب الذي قدمه الإعلان الرسمي لإنسحاب الجزء الأساسي من القوة الجوية الفضائية الروسية من سوريا لا يبدو أنه قد أقنع أحداً، سوى المؤيدين للكرملين، وهم الغالبية الساحقة، مثل المحلل في صحيفة “كومرسانت” مكسيم يوسين، الذي يقول إن موسكو “توفرت لها الفرصة لتخرج من الحرب مرفوعة الرأس”. أما موقع “Charte 97” البيلاروسي، فنقل عن المحلل السياسي ايليا ميلشتاين تساؤلاته ما إذا كان الانسحاب المفاجيء للقوات الروسية من سوريا مناورة خادعة أو بداية انفراج؟ خاتمة باهرة للعملية أم هزيمة مخزية ونذير سقوط نظام بوتين؟ نتيجة صفقة مع الغرب أم سلوك غير متوقع من الأسد؟ خروج من العزلة أم موت سريري داخلي؟
المحلل السياسي في موقع “new times” الروسي، المعروف بمعارضته الشديدة لنظام بوتين يشير بالقول إن بوتين ينسحب من سوريا، تسهيلاً لعملية التفاوض بين السوريين، هو قول لا يستقيم، إذ إن بوتين هو الضمانة لامتثال النظام لمتطلبات الحوار في جنيف. كما أن انسحاب بوتين لن يساعد الأسد في الحصول على النتائج التي رسمها للانتخابات البرلمانية في 13 نيسان/أبريل المقبل، ويهدد بتفكك التحالف بزعامة حزب الأسد “البعث”.
وهذا الارتجال في سحب القوات، هو أشد وقعاً من “قصة دخولها”، الذي كان قد أصبح مفهوماً من قبل الكثيرين في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، حين طار بوتين إلى نيويورك ليخطب في الأمم المتحدة، كما زعم حينها، بينما في الحقيقة ليطلع باراك أوباما على الأمر.
لقد تلقى بوتين “الضربة الثانية” في الظهر من آيات الله الإيرانيين، بعد ضربة الرئيس التركي، والذين كان يعتبرهم أصدقاء. فقبل ساعات من إعلان قراره حول سوريا، عاد من طهران وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك بخفي حنين، كما يقال، فقد رفضت إيران الانضمام إلى الاتفاق، الذي تم التوصل إليه أواسط شباط/فبراير الماضي بين روسيا ودول أوبك الثلاث، السعودية وقطر وفنزويلا، حول تجميد استخراج النفط من أجل “استقرار السوق”. ومسألة أسعار النفط بالنسبة لبوتين هي مسألة السلطة. ولم تحسم إيران أمرها منذ أواسط شباط/فبراير، وبقيت تتأرجح بين”لا” و”نعم”، وطلب المزيد من الوقت.
إيران، التي تنوي رفع سقف صادراتها خلال ثلاثة أشهر، من 1,4 مليون برميل، إلى 2 مليون برميل في اليوم، تريد استعادة حصتها في السوق العالمية، ولذا رفضت تفهم وضع موسكو الصعب. لكن بوتين لم ينس أن الجنرال قاسم سليماني زار موسكو مرتين، الصيف الماضي، طلباً لمساعدة بوتين في سوريا، بعدما عجزت إيران، مع حزب الله وسواه من المتطوعين الشيعة، على وقف انهيار النظام السوري. واستجاب بوتين للطلب الإيراني في حينها، على أمل أن إيران، التي ستتحرر من العقوبات قريباً، وستعود إلى أسواق النفط العالمية، سوف يتمكن من التفاهم معها، كأصدقاء، حول السياسة النفطية.
لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر. والحساب الوحيد المفقود، الذي لا وجود له لدى الطرفين هو حساب الشعب السوري ومأساته مع كل حسابات المصالح الدولية الأخرى في سوريا.
المدن
الأسد يساوم روسيا بـ”حزب الله”!/ منير الربيع
على الرغم من ان “حزب الله” باق في سوريا بعد الإنسحاب الروسي، إلا أن ثمة ضغوطاً دولية تمارس عليه لسحب قواته، تسهيلاً امام الحلّ السياسي، خصوصاً أن إيران خفّضت عديد الحرس الثوري الإيراني منذ نحو شهر. وعلى الرغم من أن أكثر من مصدر مطلع يؤكد أن الثنائي الروسي – الأميركي، يسعى الى الضغط لتقليص الوجود الايراني والقوات المتحالفة مع طهران في سوريا، الا أن اللافت أن النظام السوري بشخص رئيسه بشار الأسد دخل أيضاً على خطّ هذه الاجواء والمشاورات، لا سيما انه يعتبر أن روسيا قد تفتح له الأبواب الدولية، وخصوصاً مع واشنطن، من أجل بقائه مستقبلاً، فيما إيران قد تشكّل عامل استفزاز لقوى قد تكون على علاقة جيدة بموسكو.
وتكشف مصادر “المدن” أن النظام السوري أوصل رسالة إلى بعض القيادات الأميركية عبر الروس، تشير إلى انه يفضل التدخل الروسي على التدخل الايراني لاسباب عديدة، أبرزها أن روسيا قوة عالمية وتدخل وفقا لحسابات دولية واسعة جداً، ولا يمكن إلا ان يكون تدخّلها مبنياً على إتصالات ومشاورات دولية، وبهذا يختلف التدخل الروسي عن الإيراني الذي قد يحسب تدخّله من منطلق طائفي او مذهبي، أو يعيد إلى الأذهان نظرية تشكّل الهلال الشيعي.
وتأتي هذه المشاورات، في ظل البحث عن مخارج للحلّ السياسي، تتعلّق بالمرحلة الإنتقالية، وشكلها، والحكومة التي ستتشكّل، والإنتخابات التي ستجري، وتكشف المصادر أن إيران تضع شروطاً للتخفيف من وجوده العسكري في سوريا، وكذلك “حزب الله”، وتتمثل بتقديم ضمانات روسية – اميركية تؤكد على بقاء النظام ممثلاً بشخص رئيسه، في المرحلة الإنتقالية، أما الضمانات العسكرية فتتمثل بضمان امن الحدود ووقف تدفق المقاتلين، كي يبقى النظام محافظاً على مناطق نفوذه والمكتسبات التي حققها بفعل التدخلين الإيراني والروسي، وتؤكد المصادر أن هذه الضمانات اصبحت موجودة. وتلفت المصادر إلى ان هناك اتفاقاً روسياً – اميركياً واضحاً حول مستقبل الوضع في سوريا، وكل طرف يحاول العمل مع حلفائه، لإقناعهم في السير بهذا الإتفاق، بمعنى ان الجانب الروسي يسعى إلى إقناع الجانب الإيراني بالحل السياسي وبضرورة تقديم تنازلات، بالإضافة إلى الإنسحاب، وكذلك بالنسبة إلى الاميركي الذي يسعى إلى ذلك مع حلفائه الخليجيين، على الرغم من أن إيران ما زالت تعتبر أن الحل في سوريا عسكري وليس سياسياً على عكس الموقف الروسي، الذي يصر على الحل السياسي.
ولا يمكن فصل إسرائيل عن كل ما يجري، وهذا بحسب ما تقول مصادر “المدن” سيكون محلّ تشاور بين المسؤولين الإسرائيليين والروس في موسكو في الايام المقبلة، وتحديداً مرحلة ما بعد الإنسحاب الروسي وتداعياته. وكذلك سيكون على جدول أعمال وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأسبوع المقبل حين يزور موسكو، خصوصاً أن اسرائيل تطالب روسيا بضرورة الانسحاب الايراني من سوريا.
هذه الاجواء توحي بتحيّن إسرائيل فرصة معينة، بغية توجيه ضربة عسكرية للحزب، في ظل إنشغاله في سوريا، وفي مرحلة ما قبل الإنسحاب، وتعتبر المصادر أن أي حرب إسرائيلية مقبلة واردة جداً، اذ انه بعد الاتفاق النووي كانت إسرائيل تنتظر تعويضاً اميركياً، لكن التطورات التي حصلت في المنطقة، دفعت الاميركيين الى حسابات اخرى مخالفة لرغبة اسرائيل، على الرغم من أن “الاحتمال وارد أكثر من اي وقت مضى”، على حد قول مسؤول في الحزب، بما أنه “لا يمكن التنبؤ بزمن ذلك، لكن الأشهر القليلة المقبلة قد تحمل اي جديد على هذا الصعيد، في ضوء تبلور وجهة الامور”.
المدن
ضربة المعلم الروسي والخطة البديلة للعرب/ حامد الكيلاني
مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في تحذيره بعدم وجود خطة بديلة للمباحثات أو المفاوضات بين وفد النظام الحاكم في سوريا ووفد المعارضة ومن يمثلها، أغلق الملف السوري في حالة فشل استثمار الإجماع الدولي على إنهاء الحرب بعد الوقف الجزئي لإطلاق النار.
خروقات واسعة حدثت، لكن في جميع الأحوال يمثل سريان الهدنة تدشينا لفرصة سلام ممكنة على الرغم من أن “فرس النظام” مشدودة إلى لجام إقليمي من صناعة المشروع الإيراني وحدّدوا لها رؤيتها وخط سيرها، أما على سرجها فيقف الجاكي الروسي وبيده مهماز يلسع مؤخرتها كلما تراخت أو تناوشتها المتاعب.
دي ميستورا هدد الأطراف بالخطة “ب” وتوعدهم بحرب طويلة الأمد وأسوأ بكثير من سنواتها الخمس الماضية.
روسيا بقيادة فلاديمير بوتين وطاولة صغيرة ضمت وزير الدفاع سيرجي شويغو ووزير الخارجية سيرجي لافروف، وفي خطوة تشبه مفاجأة التدخل العسكري الواسع إلى جانب النظام السوري، قررت سحب الجزء الأكبر من قواتها وبتوقيت زمني متسارع وفوري.
الأسباب على سطح التبريرات تؤكد أن الحملة العسكرية الروسية حققت أهدافها، والهدف الأهم هو القضاء على الإرهاب الذي يمثله داعش. إعلاميا، روسيا وإيران وسوريا، يمكن أن تتداول ذلك وهي مطمئنة لأن تنظيم داعش بخير ويؤرق المقاومة السورية ويكشف ظهرها، أما صدرها فقد تكفلت به روسيا وغاراتها الجوية المكثفة لتعيد للحاكم السوري وحاشيته الخروج من خلف مناضدهم وإخراج ألسنتهم الحادة كمنتصرين، لكن في نشوة طبائع الاستبداد المعروفة عنهم، عُميَت بصيرتهم إلى الحد الذي صرح فيه رئيس النظام السوري لصحيفة روسية بأنه يريد، أي الأسد، استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، بما قابله استشعار روسي بتمادي وفجاجة وقبح تصريحات الحاكم السوري حول متغيرات الواقع بعد التدخل الجوي الروسي وقلب المعادلات لصالح النظام عسكريا.
في 18 فبراير الماضي تفاجأ المهتمون بالمأساة السورية، ولأول مرة، برد روسي على لسان فيتالي تشوركين، سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، الذي قال “إن تصريحات الرئيس السوري لا تتسق مع الجهود التي تبذلها موسكو لإنهاء الصراع، ومع تأكيد تشوركين على أن رده شخصي ولا يحمل سمات التوجيهات الرسمية، لكن أي متتبع لواقع السياسة الروسية يدرك أن لا مكان للردود أو الآراء الخاصة مع وجود شخصية مثل بوتين في الكرملين”.
القرار الروسي المفاجئ بسحب القوات، كان دليلا واضحا على مدى اشمئزاز بوتين من الخطوط الحمراء التي تحدث عنها وليد المعلم وزير الخارجية السوري حول عملية الانتقال السياسي، وما يتبناه المجتمع الدولي والتفاهمات الأميركية الروسية ومخرجات مباحثات ميونيخ، واستخفافه مع رئيس وفد النظام لمباحثات جنيف بما يتعلق بمصير الأسد في مستقبل سوريا السياسي واعتبروا ذلك خطا أحمر لا يمكن تجاوزه. بل إن رئيس وفد النظام وصف رئيس وفد المعارضة بالإرهابي في بداية مشوار المحادثات غير المباشرة، أما رد المتحدث الرسمي عن هيئة التفاوض للمعارضة فكان “إن خطوطنا الحمراء هي دماء الشعب السوري”.
أياً كانت أسباب الانسحاب الروسي المفاجئ وردود الفعل السورية، لكن الحقائق لا يمكن تجاهلها، والقرار كان صدمة للنظام ولم يكن له علم مسبق به ودون استشارته، وهنا تكمن “ضربة المعلم الروسي” في إبقاء الإرادة الروسية متحكمة بمصير ومسارات الحل السوري الذي بينّ في بعض إشاراته أن بقاء الأسد يخضع لصفقات المصالح الروسية وأهدافها الخاصة ومرهونة بتوقيتات ومتغيرات السياسة تجاه الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا والعقوبات المفروضة عليها.
لا يمكن تجاهل الغضب الروسي من إصرار النظام السوري على تجاوز الحدود مع حليفه الدولي ومظلته الواقية ودرعه الذي ردّ عنه الانهيار، بما ألزمه إعادة ضبط الإيقاع على آلة البلاليكا الروسية، والإذعان لقبول جدول المباحثات لتوافقات جنيف 3.
ردود الفعل العربية المتمثلة بالتحالف العربي والإسلامي وبعد اكتمال مناورات رعد الشمال ومستوى حشدها العسكري وآلتها الحربية وصنوفها المشاركة وحفل ختامها، لم تكن مبتهجة أو متفاعلة كثيرا مع الانسحاب الروسي، على خطورة فحوى رسالتها، وأسباب الصمت ربما تكون هي الرسائل المقابلة المُطمْئِنة للتسويات المقبلة في المفاوضات، وما يمكن أن ينتج عنها خلال 18 شهرا من عمر المرحلة الانتقالية.
بوتين أيضا مثل أوباما ليس جمعية خيرية أو منظمة لإنقاذ حاكم مستبد من ثورة شعبه، إنما انتقل بقوته إلى خارج حدود روسيا مستعرضا إياها أمام العالم، وفي ذلك منافع لترويج دوره الدولي وأسلحته، محققا تقاربا غير مسبوق مع أميركا التي انسحبت من الشرق الأوسط تاركة لروسيا مسرح الأحداث المرتبكة ونزاعات نفوذ، مع الاحتفاظ بأمن إسرائيل كحدود مشتركة بين أميركا وروسيا وسط تناقضات الجهات المتصارعة في المنطقة.
كلفة الحرب في سوريا لا تسمح لروسيا بالاستمرار، وما قامت به من إبادة تجاه الشعب السوري سيكون ثمنه فادحا في المستقبل، لذلك كان التراجع الجزئي خطوة تبرر اندفاع موسكو إلى توفير أرضية مفاوضات يتوقف عليها إيجاد حل للمعضلة السورية، وكما يصرح تشوركين “حفظ كرامة النظام السوري وخروجه الآمن من الحكم، ولهذا ربما يكون القادم، على اختلاف وقائعه ليس مفاجئا في حرب تحكمها المصالح الاستراتيجية للدول وليست عواطف محبة لحاكم لا يعرف هو ومحيطيه إلا لغة الدم”.
دي ميستورا بعد رمزية حديثه عن الخطة “ب”، حيث لا بديل إلا الحرب والمزيد من دمار سوريا وشعبها، إنما يوجه طرفي المعادلة السورية إلى القبول بالخطوة “أ”، لكن كما أظن وهو ظنٌ ليس من بعض الإثم، إنما قراءة في خط أحمر لا يمكن للنظام الحاكم في سوريا تجاهله يتمثل في الإبقاء على الحاكم والمجازفة بكل شيء حتى أبسط أنواع الكرامة الشخصية للأفراد، لأن ذهابه سلميا أو بإرادة السلاح مصيبة عظيمة لمجموعة حاشية لا ترى في الحياة مصيرا لها إلا في سلطته المدعومة من إيران طبعا بكل منتجاتها وصادرات مشروعها الدموي المتراجع.
في حال فشل الخطة “أ” واللجوء إلى الخطة “ب” على العرب أن يلجأوا إلى الخطة “ج” لفرض إرادتهم وطرد الإرهاب الحقيقي من سوريا وأقصد داعش، وهل في ذلك من دواعي خوف للنظام السوري، أم أن للإرهاب شركات راعية كبرى في مضمار سباق “فرس النظام السوري”.
*نقلاً عن “العرب”