عن التسويات السياسية المنتظرة في سورية –مقالات مختارة-
سباق أميركي ـ روسي على شروط الحل السوري بعد «داعش»/ إبراهيم حميدي
تيلرسون يجدد طرح مصير الأسد… ودي ميستورا يحدد نهاية نوفمبر موعداً لمفاوضات جنيف
مع تقهقر «داعش» شرق سوريا، عاد الحديث عن التسوية السياسية ومعاييرها. الجديد، دخول واشنطن على خط الاتصالات بعد غياب لفترة طويلة عبر دعم مرجعية مفاوضات جنيف و تقديم «نصيحة» للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بعدم الرهان على «الحل الروسي» ومؤتمر حميميم، في وقت تدفع موسكو لإنجاز تسوية وفق معاييرها وسقفها الذي لا يتطابع مع دمشق وطهران وغير مقبول إلى الآن من واشنطن. واشنطن تسلحت بأوراق تفاوضية بينها سيطرة حلفائها في «قوات سوريا الديمقراطية» على مناطق شرق نهر الفرات وخصوصاً مصادر النفط والغاز والمياه والزراعة في «سوريا المفيدة اقتصاديا»، فيما قبضت موسكو على ورقة تقدم قوات النظام غرب نهر الفرات وإبرام اتفاقات «خفض التصعيد» مع تركيا وإيران ودول إقليمية عربية، إضافة إلى «مصالحات» في «سوريا المفيدة عسكريا».
ماذا تطرح روسيا؟
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس إن قوات النظام وحلفاءها «حررت 90 في المائة من الأرض من الإرهابيين في سوريا» بفضل دعم القوات الروسية، لافتا إلى أن اتفاقات «خفض التصعيد» في جنوب غربي البلاد وغوطة دمشق وريف حمص وإدلب تساهم في إعداد الأرضية لتسوية سياسية.
وبحسب المعلومات، فإن الخطة الروسية هي البناء على اجتماعات آستانة في 30 و31 الشهر الجاري لاستكمال تنفيذ اتفاقات «خفض التصعيد» خصوصاً في إدلب ونشر الجيش التركي مع إعطاء أولوية لملف المعتقلين وتفكيك الألغام تمهيداً لعقد مؤتمر موسع للمعارضة في القاعدة الروسية في حميميم، حيث ستتم دعوة ما بين 700 ممثل من مؤسسات النظام في الجيش والأمن والسياسة والبرلمان، و700 من ممثلي «المصالحات» التي أقرت مع القاعدة الروسية والمجالس المحلية المنبثقة من اتفاقات «خفض التصعيد» وممثلي الإدارات الذاتية الكردية، إضافة إلى شخصيات سياسية معارضة في الخارج مقربة من التفكير الروسي ولعبت دوراً في إبرام اتفاقات «خفض التصعيد».
كان مقرراً عقد المؤتمر في نهاية الشهر، لكن لأسباب لوجيستية وموعد اجتماعات آستانة، تقرر تأجيله إلى ما بين 7 و10 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وبحسب مسؤول كردي تسلم رسالة الدعوة، فإن المؤتمر يرمي إلى بحث خمس نقاط، هي: «الوضع السوري العام، خفض التوتر بين الأطراف السورية، نقاش حول الدستور السوري، تشكيل لجان تفاوضية لمشاريع المستقبل، التمهيد لمؤتمر شامل».
وتطلبت الرغبة الروسية في عقد «مؤتمر حميميم» واستعجال البحث عن تسوية بناء على أجندة بوتين الذي يخوض انتخابات في مارس (آذار) المقبل، محادثات بين دمشق وطهران. إذ زار نائب وزير الخارجية فيصل المقداد طهران والتقى علي أكبر ولايتي مسؤول العلاقات الدولية في مكتب «مرشد الثورة» علي خامنئي، وسط «انزعاج» من مباركة روسيا وإيران الوجود العسكري التركي في إدلب وشمال سوريا بعيداً عن رغبة دمشق وقرارها. وكان لافتاً، «لقاء العمل» الذي جمع الرئيس بشار الأسد والكسندر لافرنييف مبعوث الرئيس الروسي في دمشق أمس. الاجتماع عقد على مائدة عمل مستطيلة بحضور مسؤولين عسكريين وأمنيين من الجانبين بينهم رئيس مجلس الأمن الوطني اللواء علي مملوك. وبحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، فإن الأسد قال: «ما يحقّقه الجيش وحلفاؤه (…) يهيّئ الأرضية شيئا فشيئاً للمزيد من العمل السياسي، خاصة أن الحكومة السورية كانت وما زالت تتعامل بإيجابية تجاه أي مبادرة سياسية من شأنها حقن الدماء السورية واستعادة الأمن والأمان بما يضمن وحدة وسيادة سوريا». وزاد: «مصممون على الاستمرار بالحرب على الإرهاب من جهة، ودعم المسار السياسي من جهة أخرى عبر رفع وتيرة المصالحات الوطنية والحوار بين الجميع عبر مؤتمر حوار وطني في سوريا، وصولاً إلى تعديل الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية». ولوحظ عدم التطرق إلى الانتخابات الرئاسية التي يتضمنها برنامج القرار 2254.
ماذا تريد واشنطن؟
اللافت في الأيام الأخيرة، عودة كبار المسؤولين الأميركيين للحديث عن مصير الأسد والحل السوري بعد غياب من الإدارة الأميركية لفترة طويلة. وبحسب معلومات، فإن مراجعة للموقف من الأزمة السورية جرت في الإدارة الأميركية. وقال مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال إتش آر ماكماستر في مقابلة بثتها قناة «الحرة» إلى «الشرق الأوسط» إنه «عندما تنظر إلى ما هو ضروري لجمع المجتمعات المحلية سوية وإنهاء دورة العنف، من الصعب جدا تصور كيف يمكن للأسد أن يكون جزءا من هذا، خاصة أن يديه ملطختان بالدماء، وكان له دور في تدمير بلاده والتسبب في المعاناة الإنسانية. واستخدم بعض أشنع الأسلحة على وجه الأرض لارتكاب عمليات قتل جماعية ضد شعبه. من الضروري وجود قيادة مناسبة دوليا، وفي سوريا، يمكن لهم تحقيق التوافق والمصالحة الضرورية».
وقال مسؤول غربي إن الإدارة الأميركية طلبت لقاء مع دي ميستورا في إشارة إلى اهتمامها بالحل السياسي. وأعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بعد لقائه دي ميستورا في جنيف أمس: «تريد الولايات المتحدة سوريا كاملة وموحدة لا دور لبشار الأسد في حكمها». وأضاف: «عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته. القضية الوحيدة هي كيفية تحقيق ذلك». وأضاف تيلرسون أن السبب الوحيد في نجاح قوات الأسد في تحويل دفة الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات هو «الدعم الجوي الذي تلقته من روسيا».
وأشار المسؤول الغربي إلى مشاورات في واشنطن ومع حلفائها إزاء كيفية تحويل المواقف السياسية إلى استراتيجية، وأنه كان بين الأمور هو اعتبار «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر على مساحة واسعة من سوريا غنية بالنفط والغاز والمياه وحررت الرقة من «داعش» ورقة تفاوضية أساسية، إضافة إلى اعتبار المساهمة في إعادة إعمار سوريا ورقة تفاوضية أخرى. وقال مسؤول أميركي: «كلفة إعادة الإعمار تبلغ نحو 200 مليار دولار أميركي، ولن ندفع نحن أو حلفاؤنا دولارا واحدا ما لم تكن هناك تسوية سياسية ذات صدقية». وطرح أيضاً خيار إعمار المناطق التي تحررها «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم من التحالف لتكون بديلاً من إعمار مناطق النظام إذا لم تحصل تسوية سورية شاملة.
ماذا يريد دي ميستورا؟
يبحر المبعوث الدولي بين موقفي موسكو وواشنطن والسباق بين حلفائهما على تسوية ما بعد هزيمة «داعش». ويأمل في ألا تكون خطوات روسيا لعقد «مؤتمر حميميم» واجتماعات آستانة بديلاً من مفاوضات جنيف وتنفيذ القرار 2254. وهناك رهان على نجاح مؤتمر المعارضة الموسع في الرياض الذي حدد 10 الشهر المقبل موعداً مبدئياً له لولادة شريك يفاوض الوفد الحكومي. وعقد في واشنطن في اليومين الماضيين مؤتمر للسوريين في أميركا لبحث آلية تنظيمهم والإفادة منهم سياسيا في الضغط على الموقف الأميركي.
وسعى دي ميستورا أمس إلى الحصول على دعم مجلس الأمن الدولي لمسيرته السياسية في الأسابيع المقبلة. ووضع 28 الشهر المقبل موعداً لاستئناف مفاوضات السلام بين وفدي الحكومة السورية والمعارضة، أي بعد مؤتمر «الرياض-2» واجتماعات آستانة و«مؤتمر حميميم». وقال مصدر: «هناك مساع لدى روسيا من أنه كي تحصل على دعم الأمم المتحدة لا بد من توفير شروط نجاح مؤتمر المعارضة وألا يكون مثل اجتماعات العصف الفكري في موسكو-1 وموسكو-2» بداية العام 2015.
وقال المبعوث الدولي أمس: «يجب أن يدخل الأطراف في مفاوضات فعلية» عبر التركيز على خطوات في اتجاه صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات في سوريا تحت إشراف المنظمة الدولية، في وقت أشار مسؤول غربي إلى أن دمشق «فقدت ذريعة أساسية، وهي محاربة الإرهاب» لأن «داعش» يتلاشى وهناك تفاهم روسي – تركي على التعامل مع «جبهة النصرة» شمال سوريا. وأضاف: «أيضاً، رهان دمشق على انتخابات محلية وبرلمانية ليس كافياً، إذ أن القرار 2254 يتضمن أيضاً انتخابات رئاسية» بموجب بنود القرار والجدول الذي وضعه دي ميستورا في الجولات التفاوضية الأخرى لبحث «السلال الأربع»: الحكم، الدستور، الانتخابات، محاربة الإرهاب.
الشرق الأوسط
مصير سورية في أيدي أبنائها/ برهان غليون
يذكّر الوضع الذي تعيشه سورية الخارجة من الحروب الاستعمارية الجديدة اليوم، في الكثير من أوجهه، بوضعها عشية خروجها من الحرب العالمية الأولى، بعد انهيار السلطنة العثمانية وخيانة الدول الغربية وعودها التي اعطتها للشريف حسين، وللعرب أيضا. وكما تحطم في ذلك المنعطف التاريخي الحلم العربي بتشكيل مملكة عربية واحدة، تضم سورية والمناطق الناطقة بالعربية في المشرق الآسيوي، وتحفظ وحدتها وسيادتها، تحطم اليوم حلم السوريين الذين رموا بأنفسهم، كما لم يفعل أي شعب من قبل في أتون الثورة ومحرقتها، لنيل حريتهم واستقلالهم عن سلطة الاحتلال الداخلي. وكما قسمت سورية الطبيعية ما بعد العثمانية، بعد فصلها عن الجزيرة والعراق، إلى مجموعة من الدول، فلسطين التي لم تحسم حربها بعد والأردن ولبنان، وجزئت سورية “الفرنسية” هي نفسها إلى خمس دول: في الساحل والجزيرة السورية ودمشق وحلب وجبل الدروز، لا يكف الروس، ومن ورائهم بقية الدول الغربية، عن المطالبة بتحويل سورية إلى فدرالية، لإرضاء تطلعات رجالات الأقاليم أو الجماعات الاتنية والقومية المختلفة. فلا تعني الفدرالية هنا توحيد دول قائمة، كما هو معنى الفدرالية الأصلي، لتوسيع موارد الدولة وتعظيم وظائفها، ولكن إعطاء غطاء شرعي لتقسيم الدولة الواحدة وكسر نواتها المركزية، كما حصل من قبل في العراق الذي لم يخرج من محنة هذا الكسر بعد.
وكما فرض الفرنسيون انتدابهم بالقوة العسكرية، بعد هزيمة قوات وزير دفاع المملكة السورية الفيصلية، يوسف العظمة، في ميسلون 20 يوليو/ تموز 1920، نجح الروس اليوم في فرض الانتداب بالتفاهم مع الدول المتنازعة على سورية الأسدية، بعد كسرهم ذراع الثورة السورية المسلح وإخضاع فصائلها المقاتلة باستخدام عصا الهجمات الجوية، وجزرة المصالحات واتفاقات خفض التصعيد. ودخلت سورية اليوم، كما حصل لها منذ قرن ونيف، في دائرة الخراب والدمار والفوضى، فقدت فيها كل مقوماتها كدولة، وانهارت جميع مؤسساتها وأطرها الدستورية، وأضاعت سيادتها وفقد فيها الشعب وحدته، وتم تمزيقه إلى طوائف وأقليات
“يحلم الروس، بعد مئة عام، على تقسيم الشرق الأدنى بتعويض ما حرموا منه في “سايكس بيكو”، من خلال بسط سلطتهم ونفوذهم في سورية. ويحلم الإيرانيون بمنفذ على البحر المتوسط منذ أكثر من ألفي عام” واتنيات، وأفرغ من محتوى هويته الوطنية، وحرم من حقه في تقرير مصيره، فيما تتنامى في شمالها حركة الانفصال التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي بدعم الأميركي، لكن بغطاء الشرعية التي تحظى بها القضية القومية الكردية المستعصية على الحل منذ قرن.
(1)
ليس المقصود من هذا التذكير المماثلة بين الوضعين، أو القول إن التاريخ يعيد نفسه، فروسيا اليوم غير فرنسا الإمبرطورية القديمة والولايات المتحدة الأميركية ليست بريطانيا العظمى التي كانت تتصدّى لقيادة النظام الاستعماري المشرف على الانحلال. كما أن الشرق الأوسط الراهن قد تغير كثيرا عما كان عليه منذ قرن. فإلى جانب القوى الدولية التي تزجّ قواتها ونفسها في الصراع على سورية، هناك اليوم قوى إقليمية كبيرة صاعدة تزاحم الدولتين الكبيرتين على التوسع وتقاسم مناطق النفوذ، ويعتقد قادتها أن لديهم حقا أقوى في السيطرة على إرث سورية الأسد المنحلة من الدول الكبرى الخارجية. وهي لم تعد دولا مكتفية بذاتها، ولكن أصبح لها حسابات جيوستراتيجية، لم يكن لها ما يماثلها في عشرينيات القرن الماضي. وجه الشبه الرئيسي ين الوضعين، الماضي والحاضر، هو أن سورية الدولة انحلت لصالح قوى أجنبية، وأن شعبها تمزق أشلاء، ولم يعد يعرف في أي اتجاه يمكن له أن يتوجه إلى إنقاذ وجوده، والهرب بنفسه. وبينما أجبر إرهاب الدولة نصفه إلى الهرب بنفسه خارج البلاد، تحول نصفه الآخر إلى لاجئ على أرضه، وفقد السيطرة على جميع موارده، ولم يعد يملك أي قدرةٍ أو وسيلة لتأكيد حقه في تقرير مصيره بنفسه، أو قول كلمته. وبعبارة أخرى، لم يكن هناك وضع أسوأ مما يشهده الشعب السوري اليوم، بعد فشل ثورته المسلحة سوى ما شهده بعد انهيار “الثورة العربية الكبرى” عام 1916، وتغول الدول الأجنبية، وتنازعها على تمزيقه وتحطيم هويته وإخراجه من المواجهة وفرض الأمر الواقع عليه.
ومع ذلك، صمدت سورية الوليدة والخارجة من العدم في بدايات القرن العشرين أمام نوائب التاريخ، واستعادت بسرعة وحدتها، قبل أن ينجح شعبها في توحيد نفسه من وراء جيل جديد من النخب الوطنية التي قادت السوريين نحو الاستقلال، ونجحت في إرساء أسس دولة جمهورية حديثة ديمقراطية، بعد أن كانت مفتقرةً لأي موطئ قدم، سياسيا كان أو عسكريا أو اجتماعيا، لممارسة أدنى قسط من حق تقرير مصيره.
ما من شك في أن الوضع السوري الراهن أكثر تعقيدا. لكنه ليس مغلقا ولا يائسا، بالعكس. فلدى سورية والسوريين اليوم موارد بشرية وفكرية واجتماعية، ورصيد من العلاقات الدولية أفضل بكثير مما كانت تملكه عندما خرجت كسيرةً وكسيحةً من خراب الحرب العالمية الأولى. وأصبح وراء السوريين، منذ ذلك الوقت، قرن كامل من خبرة الدولة والصراع الدولي والسياسي والقتالي أيضا. وقد أظهر السوريون، خلال ثورة 2011، من الشجاعة أضعاف ما أظهروه خلال ثورة 1925، وهم يثبتون في منافيهم وشروط معيشتهم الجائرة كل يوم، بعد ترحيلهم القسري، من الشهامة والمجالدة والصبر، ويبرزون من المرونة والذكاء والمهارة ما أثار إعجاب مضيفهم في جميع البلاد التي لجأوا مضطرين إليها. ولن يطول الوقت، بعد وقف إطلاق النار، قبل أن تتفجر طاقات ملايين السوريين الذين كانت الديكتاتورية الدموية قد شلت قواهم، وعطلت مواهبهم، وتبرز قدراتهم ودينامية شبابهم التي لا تضاهى، في سبيل استعادة المبادرة، في جميع الميادين، العلمية والسياسية والاقتصادية، وإعادة توحيد صفوفهم في وجه الانتداب الجديد الذي أكرهوا على القبول به أمرا واقعا، واحتلال بالقوة، كما أكره جيل آبائهم من قبل على قبول الانتداب الفرنسي، أي ليس لشرعنته، ولكن لمحاربته والتخلص منه.
يساعدهم في ذلك أمران: إرادة التحرّر العميقة التي ألهبت مشاعرهم منذ سنوات، والتي ستبقى أعظم تجربة عاشتها أجيالهم الجديدة، وأغناها بالمعاني والعبر والتطلعات والأحلام أيضا، وبسبب الطريق المسدود الذي وصلت إليه جميع القوى التي وقفت في وجه إرادتهم، وحاولت أن تحرمهم من حقهم في الحرية والسيادة والاستقلال والحياة. لم يربح السوريون رهانهم في إرساء نظام الحرية الذي تطلعوا إليه، وضحوا من أجله بكل ما يملكون، لكنهم حطموا نظام الطغيان، وأجبروا، بمقاومتهم وصمودهم الطويل، وتضحياتهم التي لا مثيل لها، كل فرصة على خصومهم، لتحقيق رهاناتهم. وجميع هؤلاء يقفون اليوم عارين أمام جريمتهم وتعاونهم على اغتيال حلم شعب كامل بالتحرر والانعتاق.
(2)
لم يحقق النظام رهانه في تركيع الشعب السوري، وإرغامه على الخضوع والاستسلام، ولكنه (النظام) أضاع البلد الذي توج ملكا عليه، ودمر أسس بقائه واستقراره، وضحّى من دون نتيجة تذكر، سوى التمديد لنفسه بعض السنوات في حكم بلدٍ مدمر، بالشباب السوري الذي زجّه في معاركه الظالمة واللاأخلاقية، وخسر سيادة قراره وأصبح حلقةً في نظام الهيمنة والانتداب الروسي. وبدل أن يخلد سلطته التي كانت شاملة ومطلقة، كما كان يأمل من خلال تدمير إرادة الشعب وسحق ثورته، أصبحت مشاركته في الحكم في المرحلة الانتقالية إحدى مسائل الخلاف وتعطيل الحل والتسوية السياسية. وحتى لو تمكن من البقاء في الحكم بعض الوقت، بضغط من الانتداب الروسي، فلن يبقى رئيسا للسوريين، ولكن أداة من أدوات السيطرة الروسية. وبالمثل، لن يكون نظامه الذي يريد الروس إنقاذه نظاما سورية، وإنما منصة روسية لتوزيع الحصص والمكاسب والمغانم على الدول المتنازعة على حساب السوريين وضدهم. ولن تستطيع
“بدأت الآن مشكلات النظام الحقيقية، وليس في أثناء الحرب التي خاضها في النهاية بأرواح الجنود الأبرياء والمرتزقة والمتطوعين الأجانب” مؤسسات النظام القديم التي أخفقت في معالجة المشكلات التي أنتجتها إدارته وخياراته الفاسدة عندما كانت سورية في كامل صحتها وكامل مواردها وأمنها، أن تحل المشكلات المضاعفة التي ستخلفها الحرب، مهما سعت إيران وروسيا للتغطية عليها. ولن يمكن لأي نظام أن ينجح في حلها، من دون تعاون جميع أبناء الشعب السوري، وتفاهمهم ومشاركتهم في حكم يمثلهم، ويعبر عن اختيارهم ويجسد استقلال إرادتهم ومصالح وطنهم.
لذلك، بعكس ما يعتقد بعض السوريين من المعارضة والموالاة، بدأت الآن مشكلات النظام الحقيقية، وليس في أثناء الحرب التي خاضها في النهاية بأرواح الجنود الأبرياء والمرتزقة والمتطوعين الأجانب، ولم يخسر فيها، هو وحاشيته المقرّبة، شيئا. بل كانت مصدر إثراء إضافي له ولأنصاره. وسوف يجد نفسه، هو وحلفاؤه، أمام أنواع من التحديات التي ليس لديه أي إمكانية لمواجهتها، ولا يملك هو أصلا الأطر الفكرية والبشرية التي تمكّنه من استيعابها والتعامل معها، بعد أن جرد نفسه من أي خياراتٍ سياسية سوى القتل والتهجير والتجويع، وطرد غالبية أطر البلاد وخبرائها وتقنييها. وسوف يجد قادته أنفسهم أمام شعبٍ متطلبٍ ومتحفزٍ ومتحرّر من القهر الذي سقطت مقوماته، ونظام متقزم يقوده منطق التشبيح والتعفيش والنهب والسلب والابتزاز والاغتصاب. استمرار الحرب كان الخيار الوحيد الذي يقيه من المواجهة الحتمية العنيفة القادمة مع الشعب بكل فئاته، تلك التي كانت مواليةً للثورة، وأحبطت تطلعاتها من دون حق، وتلك التي وقفت مع النظام، ودفعت الثمن الغالي لإنقاذه، وتنتظر المكافأة من نظام أصبح مورده الرئيسي النهب والسلب.
وعلى الرغم من توسعهم خارج حدودهم، وسيطرتهم على مواقع أساسية في سورية، لم يحقق الإيرانيون رهانهم من الحرب، ولكنهم خسروا. وبدل أن يعزّزوا تماسك هلالهم الأخضر، أو الشيعي كما يسمونه، وتكبيد الشعب السوري هزيمةً تخرجه من معادلة القوة والسياسة، ليحلوا بأزلامهم وحشودهم محله، عمقوا قطيعتهم ونزاعاتهم مع العرب. وأثاروا فزع العالم، وسوف يواجهون رد فعل إقليمي ودولي قويا، يهدف إلى تحجيمهم، وتقييد حركتهم ومحاصرة الحرس الثوري ومليشياته التي تشكل سلاح توسعهم ونفوذهم في المنطقة والعالم. لقد أحرق الإيرانيون أصابعهم لالتقاط حبة الكستناء السورية من النار، ليجدوا أنفسهم مجبرين على تقديمها ناضحةً للدولة الروسية. فباؤوا بالخسارة والخيبة، وسوف يدفعون ثمن تهورهم وشرههم للتوسع والنفوذ في إيران التي تنتظر ثورتها الشعبية ضد السلطة الكهنوتية الفاسدة والفاشلة معا.
وبالمثل، يحلم الروس بأن ربحهم المعركة العسكرية في سورية ضد فصائل المقاومة الشعبية، الضعيفة وغير المنظمة، سوف يفتح لهم باب الدخول بقوة في نظام القطبية المتعدّدة، ويفرضون أنفسهم أخيرا، والغرب خصوصا، شريكا رئيسا في تحديد أجندة السياسة الدولية، وطرف لا يمكن تجاهله في تقرير الشؤون العالمية. ومنذ الآن، وقعوا مع الأسد اتفاقاتٍ تضمن لهم الاحتفاظ في سورية بقواعد عسكرية بشروط سيادية لنصف قرن، تسمح لهم بالتوطّن نهائيا في الشرق الأوسط، وربما حلم بعضهم بطرد الغربيين منه، والتعويض عن إخراجهم صفر اليدين في اتفاقات سايكس بيكو التي تقاسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا، قبل قرن، إرث الإمبرطورية العثمانية. مشكلتهم الوحيدة، لكن العويصة، أنهم يأتون متأخرين بقرن عن شركائهم القدامى، وفي عصرٍ لم يعد فيه من الممكن إخضاع أي شعب بالقوة، وليس أمام أي مشروع للسيطرة بالقوة والإكراه، حتى على جماعات أقلية صغيرة، سوى بتبني خيار الحرب العدمية ومشاريع الإبادة الجماعية. وهذا ما دشّنه تحت رعاية الروس، وبإشرافهم، نظام الأسد، وعبر عنه استخدامه السلاح الكيميائي وأسلحة الدمار الشامل والعشوائي الأخرى، من دون محاسبة ولا عقاب حتى الآن.
(3)
ليس لدى الروس مشروع واضح لسورية سوى تقسيمها مناطق نفوذ، وتوزيع الحصص والمواقع على من يدّعي حقوقا له فيها، من الدول الأجنبية والوجاهات، أو النخب المحلية المتعاملة مع موسكو، والمستعدة للعمل معها، وذلك كله من أجل ضمان سيطرة موسكو على سورية، وتعزيز نفوذها وتوسيع دائرة القبول الدولي بها. كان الوطنيون السوريون يفاوضون السلطات الفرنسية حول إلغاء الانتداب انطلاقا من مرجعية قيم الجمهورية والاستقلال والحريات الديمقراطية والتعدّدية، وحق تقرير المصير للشعوب والحكومة التمثيلية. وتظهر تجربة السنوات القليلة الماضية صعوبة تحديد المرجعية التي يمكن التفاوض على أساسها مع الروس لإلغاء الانتداب الروسي، بينما يصرّون اليوم على تأكيد شرعية نظام دموي وراثي، ويرفضون جميع القيم والمبادئ التحرّرية الحديثة، ويمارسون سياسة فرض الأمر الواقع والحكم بالإكراه وتبرير الاستخدام المفرط للعنف وإسكات الأصوات المغايرة والنقدية، وربما اغتيالها، واحتقار مفهوم المعارضة ووجودها. وهم يراهنون في فرض عقيدتهم هذه على عصا الأجهزة الأمنية الغليظة وسياسة الترغيب والترهيب والسجن والملاحقة، وإخفاء الحقائق والدعاية الكاذبة واختلاق الإشاعات والأخبار الكاذبة.
في ظل هذه العقيدة، ومع افتقار الانتداب الروسي في سورية لشرعنة دولية، بعكس ما كان عليه الحال بالنسبة للانتداب الفرنسي في القرن الماضي، هناك خطر كبير في أن تتصرّف روسيا في سورية كما فعلت في أفغانستان، وتبرّر سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها هناك، ومن قبلها في شيشان روسيا نفسها. وهذا ما تؤكده بسلوكها عندما تصرّ على فرض إرادتها وتصوراتها على شعبٍ ضحّى بمليون شهيد من أجل التحرر من العبودية، والانعتاق من نيرها، وتراهن على إعادة تأهيل نظام كان ولا يزال المسؤول الأول عن تدمير سورية، وتشريد شعبها، وقتل مئات الآلاف من أبنائها للاحتفاظ بسلطة جائرة ولا مشروعة. ولن يتأخر الوقت قبل أن تدفع مثل هذه السياسة الشعب السوري إلى الثورة على الاحتلال الجديد، وأعوانه المحليين، بكل طوائفه وطبقاته ونخبه، لانتزاع حريته واستقلال بلاده.
يحلم الروس، بعد مئة عام، على تقسيم الشرق الأدنى بتعويض ما حرموا منه في “سايكس بيكو”، من خلال بسط سلطتهم ونفوذهم في سورية. ويحلم الإيرانيون بمنفذ على البحر المتوسط منذ أكثر من ألفي عام، وسيفعلون المستحيل من أجل تحقيقه، ويحلم النظام بأن تزداد حاجة الروس له واجهة للاحتلال، مع تنامي الاعتراض السوري عليه، أما الولايات المتحدة فهي تخطط لتوسيع قواعد سيطرتها العسكرية، في انتظار أن تستنزف قوى خصومها في المنطقة. ما يعني أن الصراع لايزال مفتوحا على تقرير مصير سورية. وبعكس ما تقوله
“لن يمكن لأحد أن يحتل سورية إذا أراد شعبها تحريرها، ولن يتمكن من تقسيمها إذا أراد السوريون وحدتها” المظاهر اليوم، لن يمكن لأي طرفٍ أن يحسم الصراع، ويخرج البلاد من الأزمة الراهنة سوى الشعب السوري نفسه، فهو الأصل وهو القضية وصاحب المصلحة في إعادة بناء سورية، وإرساء قواعد أمنها وسلامها وازدهارها. لكن حتى ينجح في لعب دوره الحاسم المنتظر، ينبغي على السوريين:
أولا ألا يشكّوا لحظة في أن ثورتهم كانت على حق، وأنهم قاتلوا دفاعا عن حياتهم وحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم، وهم الذين تم الاعتداء عليهم، ولم يعتدوا على أحد.
وثانيا ألا يسلموا بحكم القوة والاحتلال، ولن يسلموا، لأن ذلك يعني نهايتهم شعبا، ونهاية سورية بلدا، ونهاية أي أمل حتى في إصلاح الأحوال وتحويل سورية إلى وطن وملجأ آمن لأهلها. ليس أمامهم إلا أن يتمسكوا بحقوقهم، ويستمروا في المقاومة بكل الوسائل، بأفعالهم وأقوالهم وجوارحهم وأنفسهم، أينما كانوا، لأن هذه المقاومة هي التي تعطي لحياتهم السياسية معنى، وتجعل منهم رجالا أحرارا، وتحفظ لهم ما انتزعوه من شروط الحرية بأغلى الأثمان، كما تحفظ كرامة شهدائهم، وقيمة تضحياتهم الأسطورية.
ثالثا أن يراجعوا أخطاءهم، وينبذوا كل أشكال الطائفية والعنصرية القومية والتمييز الاجتماعي والطبقي، ويعترفوا لكل فرد منهم بهويته وأصالته واستقلاله وكرامته وحرية ضميره كإنسان، بصرف النظر عن أصله وفصله ودينه ووضعه الاجتماعي، وأن يتضامنوا أو يتعاضدوا على الدفاع عن حقوقهم المتساوية التي يشكل احترامها لكل فرد شرطا لحرية الأمة، واستقلالها ووحدتها وتمدّنها.
لن يمكن لأحد أن يحتل سورية إذا أراد شعبها تحريرها، ولن يتمكن من تقسيمها إذا أراد السوريون وحدتها. ولا يمكن توحيدها من دون الاعتراف المتبادل فيها من كل طرف بحقوق الأطراف الأخرى، وكل فرد بحقوق الفرد الآخر. ولن يكون في سورية حرية ولا كرامة لأحد ما لم تعم الحرية والكرامة الجميع. ولن يتمتع فيها أحد بالسلام، ما لم يتحقق الأمن والسلام لكل السوريين. ومن أحل ذلك، ينبغي تشجيع الحوارات الوطنية، وتوسيع دائرتها في كل الميادين والمناسبات. وعلى المثقفين والقادة السياسيين الانخراط بقوة وعمق في هذا الحوار، لمساعدة عموم السوريين على فهم الرهانات المطروحة، والمسائل الخلافية، والشروط الضرورية لبناء صرح الهوية الوطنية من جديد، بعد أن هدمتها الحرب الوحشية ضد السوريين، ومن أجل تقسيمهم وبث الفرقة بينهم، وإخضاعهم لإرادة القوى الأجنبية الطامحة إلى التوسع والسيطرة.
في هذه المسيرة التحرّرية المستمرة والمعقدة، أكثر ما يحتاجه السوريون هو العودة إلى روح ثورة آذار المغدورة، السلمية والمدنية، وإعادة تنظيم صفوفهم، في ما وراء الموالاة والمعارضة، وتوحيد كلمتهم حول انتقال سياسي، وعهد وطني يحفظ للجميع حقوقهم ومصالحهم، وينهي عهد الانقسام والفرقة التي اشتغل عليها النظام، وراهن عليها ونجح، إلى حد كبير، بفضل تقويضه المسبق، وخلال عقود، ثقافة السوريين الوطنية، وقيمهم المدنية، وروح التضامن والتكافل التي لا يقوم من دونها أي بناء وطني أو نسيج اجتماعي.
وتبقى ثورة العشرين من القرن الماضي، بمقاوماتها وكتلتها الوطنية، وتفاهم نخبها الاجتماعية، وخطها الديمقراطي التعددي، نموذجا ملهما لانبعاث سورية من موتها، وتعلم الأجيال السورية الجديدة أبجدية الحرية والاستقلال الوطنيين.
العربي الجديد
روسيا والوجه الآخر لأستانة/ حسين عبد العزيز
بدا واضحا منذ أشهر قليلة، أن روسيا تستعد لما بعد مسار أستانة بشأن سورية، والذي أنجز مهمته الاستراتيجية، وما بعد أستانة يعني اجتراح مسار سياسي يكمل المسار العسكري، بحيث يكونان وجها لعملة واحدة، عنوانها روسيا. ويبدو من المعطيات المتوفرة أن المسار السياسي للحل المقترح روسياً سيعتمد الطريقة نفسها التي استخدمت في المسار العسكري عبر بوابة أستانة، أي الانطلاق من الأسفل إلى الأعلى، وهي الصيغة التي اقترحتها موسكو قبل أكثر من عام، بشكل مضمر، وتلقفها آنذاك المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، عندما تحدث عن حل سياسي يبدأ من الأسفل وينتهي إلى الأعلى.
وإذا كانت الاتفاقات العسكرية في أستانة قد أطلقت يد النظام، وكبلت فصائل المعارضة من خلال حصارها في غيتوات جغرافية منعزلة، فإن المسار السياسي الروسي قيد الإنجاز سينتهي إلى محاصرة “الهيئة العليا للمفاوضات”، ومن ورائها الائتلاف الوطني لصالح قوى سياسية محلية قائمة على الأرض.
هذا ما تعمل عليه موسكو بهدوء وروية، وقد دعت إلى مؤتمر للقوى السورية المتنوعة، يعقد في قاعدة حميميم، تمهيدا لعقد مؤتمر شامل في دمشق، ومن ثم فإن ما سمي مؤتمر “شعوب سورية” هو تتويج لهذا المسار. وتشمل هذه القوى ممثلين عن المدن التي دخلت في مصالحات مع النظام، والمجالس المحلية للمدن والبلدات التي قبلت باتفاق خفض التصعيد، فضلا عن الإدارة الذاتية الكردية، وفعاليات المجتمع المدني، وبعض المكونات الطائفية، مثل المسيحيين، إضافة إلى شخصيات سياسية معارضة في الخارج ممن يقفون على أرضية سياسية متباعدة عن الائتلاف الوطني و”الهيئة العليا للمفاوضات”. وبطبيعة الحال، سيؤدي تغيير القوى المفاوضة إلى تغيير في المرجعية السياسية، فتكون دمشق بديلا عن جنيف، وتكون الحلول المقترحة بديلا عن قرارات مجلس الأمن، وخصوصا القرار 2254 الذي أصبح غير صالح للحل في سورية، بعدما تجاوزته الأحداث العسكرية والسياسية.
كشفت مفاوضات جنيف أمرين في غاية الأهمية، أن الولايات المتحدة غير مهتمة بالعملية السياسية، بقدر اهتمامها بمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية”، الأمر الذي يمنح الروس مساحة واسعة من التحرك. وأن المعارضة والنظام غير مستعدين لتقديم تنازلات سياسية، وإبقاء حالة الستاتيكو السياسي ستضر بالسياسة الروسية في مجمل الملف السوري. وعليه، سيثمر المسار التصاعدي من الأسفل إلى الأعلى نتائج سياسية، كما أثمر عن نتائج عسكرية. ومن هنا اهتمام الروس بفكرة المجالس المحلية، لأنها تحدث وقائع على الأرض، يصعب تجاهلها، وهي موجهة إلى النظام أكثر مما هي موجهة إلى المعارضة، فمن جهةٍ سيؤدي تعزيز عمل المجالس المحلية إلى تخفيف القبضة الحديدية للنظام، وإن كانت هذه المجالس ستعمل مستقبلا تحت شرعة النظام. ومن جهة أخرى، سيسهل على الروس، وإلى حد ما الأتراك والإيرانيين، التحكم بها، لأن المجالس المحلية تتطلب قيام وحدات جغرافية لا مركزية، مرتبطة بالخارج، بسبب افتقار هذه الوحدات مقومات إنفاذ سياساتها وحدها.
ويجد الروس في تجربة “الإدارة الذاتية” للأكراد ضالتهم على الأرض السورية، فهي ستكون المقدمة لتعميم هذه التجربة في عموم البلاد، والتغير الحاصل في موقف النظام حيال المشروع الكردي من التشدّد إلى التراخي، جاء بفعل الضغوط الروسية، وهذا التراخي تكتيك، ففكرة اللامركزية ما تزال خارج المُفكر فيه لدى النظام الذي ما زال سلوكه مبنيا على فكرة الهيمنة المطلقة.
تقوم المقاربة الروسية على مبدأ أن استمرار الواقع العسكري الحالي، أي مناطق خفض التوتر الأربع، قد تؤدي إلى تقسيم البلاد، ما لم تستتبع بخطوات سياسية على الأرض، وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين قال إن “هناك مخاطر من أن تؤدي مناطق خفض التصعيد إلى تقسيم البلاد”. لكن مشكلة الطرح الروسي أنه لا يقارب الأزمة السورية في بنيتها وجوهرها، القائمة على أساس فكرة إنهاء الاستبداد، وإنما على مقاربة الأزمة من زاوية خلافاتٍ بين المكونات السورية ليس إلا. ومن هنا يمكن فهم فكرة مؤتمر “شعوب سورية”، حيث تعتبر موسكو أن ثمّة شعوبا في سورية، وليس شعبا واحدا، وهو ما يفسر أسباب عقد مؤتمر حميميم الذي سيضم ممثلي الطوائف والأقليات العرقية والأكثرية السنية بتنوعاتها المناطقية والعشائرية.
وبناء على هذا الفهم، قد يقوم الروس بخطوة إلى الأمام، لترتيب المشهد السياسي الداخلي، بعيدا عن المسارات الأممية، عبر إجراء انتخابات محلية، ومن ثم تشريعية تنتهي بتشكيل حكومة وحدة وطنية، كما جاء في مقرّرات اجتماع فيينا الأول في 30 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2015.
العربي الجديد
سورية بين حلول التقسيم و «الفدرلة» الروسية/ سميرة المسالمة
تتطور لغة الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا من جلسة إلى أخرى في مجلس الأمن، خلال تقديم إحاطته حول العملية التفاوضية بين الأطراف السورية، فقد انتقلت من الآمال العائمة بداية، إلى وضع السيناريوات لاحقاً، ومن ثم بعد تسليم واشنطن الملف السوري إلى موسكو أصبحت لغة تقرير واقع واستحقاقات مستقبلية، قد تتأخر أحياناً في الظهور إلى حيز التنفيذ، لكنها في وقت لاحق تصبح أهم البنود التي على الطرفين السوريين مناقشتها، وإيجاد الآلية لتنفيذها. مثال ذلك ما طرحه دي ميستورا بداية توليه الملف السوري (2014) عن تقسيم العمل إلى ورشات، ثم أصبحت سلالاً، انشغلت جولات جنيف التفاوضية بها، وهي تعالج قضايا الحكم غير الطائفي والإرهاب والدستور والانتخابات، بعد الاستفادة من هدنات محلية اقترحها ولم يوفق في الحصول على الموافقة عليها، إلا أن النظام استفاد من اقتراح الوسيط الدولي، وعمل مع إيران على عقد تلك الهدنات التي أنتجت توسعاً للنظام في أكثر من مكان، منها منطقة الريف القريبة من دمشق وحمص.
وفي خطوات لاحقة، وبعد إعلان «الهيئة العليا للمفاوضات» من لندن، رؤيتها للحل في سورية، سارع دي ميستورا إلى طرح اقتراح جديد، مرة عبر المفوضية الأوروبية، ومرة من خلال لقاءاته المباشرة مع قيادات المعارضة، وهو ينقلب على رؤية لندن من حيث شكل الحكم من رئاسي إلى برلماني، ومن لا مركزي إلى حكم المجالس المحلية (فيديرالية مخففة). واليوم بعد تحرير الرقة من «داعش» على يد «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة أميركياً، وذات الصلات الوثيقة بروسيا، يعود الحديث عن المجالس المحلية لحكم المناطق، عبر تصريحات من أعلى المسؤولين الدوليين، مثل الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وعلى رغم أن مقدمات دي ميستورا للمعارضة كانت واضحة بضرورة إعادة النظر في ما قدمه رياض حجاب المنسق العام لهيئة التفاوض في لندن، (وتم الاعتراض عليه رسمياً من المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف وفي الهيئة العليا للتفاوض التي صاغت الرؤية)، فإن المعارضة مضت في تقديم نفسها من خلال مشروعها الذي يتناقض مع مبدأ تغيير النظام، لتكون شريك النظام في الاستراتيجية الحاكمة ذاتها، من حيث تدري أو لا تدري.
وتشير اليوم نتائج الاتفاقيات التي عقدتها روسيا من خلال مفاوضات آستانة، أو عبر اتفاقيات منفصلة للغوطة، تحت مسمى «المناطق المنخفضة التصعيد»، وكذلك المعارك التي أدارتها الولايات المتحدة في الشمال ضد تنظيم «داعش»، من خلال كرد سورية، إلى أن مرحلة العمل بدستور النظام 2012، أو وفقاً لرؤية المعارضة (أيلول- سبتمبر 2016)، قد انتهت حيث لا يمكن العمل بنظام المركزية المتشدد للنظام، ولا بإقصاء مكون الكرد من معادلة سورية الجديدة للمعارضة. ولعل هذا يستدعي إيجاد رؤية سياسية جديدة، متوافق عليها بين كل الخصوم، ومتحللة في الوقت ذاته من مركزية العاصمة لمصلحة مناطق حكم ذاتية، تحت مسميات لا يزال كل من النظام والمعارضة يستصعب الاعتراف بها، وهي في شكل أو آخر تندرج في مستويات وأشكال متعددة من النظم الفيديرالية المعمول فيها في دول عدة.
لا شك في أن ما قامت عليه اتفاقيات آستانة من حلول جزئية، وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ دولية (روسيا- إيران- تركيا- الولايات المتحدة الأميركية) لم يكن بعيداً من رؤية متكاملة للحل في سورية، كانت وضعته الديبلوماسية الروسية، وحاولت فرضه مراراً، قبل آستانة من خلال دخولها في الصراع المسلح رسمياً في سورية (في أيلول 2015)، أو من خلال جملة لقاءاتها مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، وصاغته عبر دستور أعدت نسخته في موسكو، وتم الترويج لرفضه من فصائل المعارضة في آستانة، علماً أن مضامين الاتفاقات الحاصلة تؤسس قاعدة لقبول سورية فيديرالية غير مركزية، وأن الآليات التي تعتمدها الفصائل العسكرية المعارضة في سيطرتها في مناطق نفوذها («المناطق المحررة») تتوافق مع ذلك.
هكذا فإن خشية روسيا من تقسيم سورية، التي عبر عنها بوتين، هي مقدمة للعمل على الحل الذي يتوافق مع إرادة ترامب في دعم مناطق الحكم المحلية، والتي تتساوى في الفهم مع المطلب الأوروبي في «فدرلة سورية»، أو «حكم المجالس المحلية»، وهو ما يعبر عنه بوضوح مصطلح «سورية المفيدة» للنظام، وما تنفذه فعلياً الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق متفرقة من سورية، حيث تتخذ قراراتها كسلطة مفوضة غير مرتبطة ببقية المناطق المحررة، بينما تصرخ في بياناتها رافضة الفيديرالية، تحت ذريعة أنها مطلب أكراد سورية، وأن هدفها انفصالي، في الوقت الذي ترفض هي العودة إلى مرجعيتها السياسية في الهيئة العليا للتفاوض، والتي أصبح عملها لاحقاً لعمل الفصائل وليس متكاملاً معها.
وأمام استحقاقات مفاوضات آستانة، أي المسار الموازي الذي ابتدعته موسكو منذ مطلع هذا العام، ومفاوضات جنيف، التي مهد لها الوسيط الدولي بخريطة طريق وفق المفهوم الروسي- الأميركي للحل السوري، يبقى استحقاق المؤتمر الوطني للمعارضة السورية، الذي ترحب به موسكو، وتتجاهله واشنطن حالياً، وتحتفظ به كخط رجعة لها إلى الملف السوري عبر مفاوضات جنيف. يبقى هو خط النهاية الذي يجب أن تقف المعارضة عنده، لتحدد هويتها ومطالبها وخريطة الطريق إليها بعيداً من الدعاية الإعلامية التي عودتنا عليها.
وبينما تقدم روسيا من خلال جولة آستانة المقبلة بادرة حسن النية، بفتح ملف المعتقلين ولو نظرياً، للتلويح بقدرتها على فرضه على النظام السوري، تبدو مناطق خفض التصعيد في أسوأ حالاتها، حيث الاختراقات من جهة والجوع يحاصرها من جهات عدة، والغوطة مثال، وتقدم روسيا للتداول مساراً آخر تستثمر فيه جهودها في العامين الماضيين في إنشاء «الهيئات المحلية»، التي قامت عبر قاعدة الهدنات التي عقدتها في بعض مناطق المعارضة، وتضعه كفزاعة أمام المعارضة الحالية تحت مسمى «مؤتمر الشعوب السورية».
مع الانتباه إلى توقيت إطلاق هذا التصريح وفي خضم كل التعقيدات، لا بد من الاعتراف أولاً أنه بات من الصعب تجاوز واقع تقاسم مناطق النفوذ في سورية. ثانياً، أن المعارضة السياسية والعسكرية هي الطرف الأضعف في هذه المعادلة، وأن عليها أن تدرك ذلك وتواجه واقعها الذي تتحمل مسؤوليته. وثالثاً، وهو الأهم أن الولايات المتحدة لم تقل كلمتها بعد، لذا فلا شيء محسوماً، لكن أيضاً لا شيء حتى الآن يخالف إرادتها. رابعاً، لم يعد ترقيع النظام مجدياً، بعد فقدانه سيادته وتآكل قدرته على السيطرة واستنزاف موارده، لذا لا بد من تغيير سياسي في سورية حتى ولو كان بهذا القدر أو ذاك، لاستعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي واستعادة السوريين بلدهم، ومن ثمّ استعادة مقاصد ثورتهم والعمل عليها في مساحة من الأمان والاستقرار.
* كاتبة سورية
الحياة
سلام دولي أم حل روسي؟/ ميشيل كيلو
حسب ما يخبرنا به مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نحن نقترب من نهاية الأعمال العسكرية في سورية، وننتقل إلى مرحلة جديدة، ستبدأ معها الحقبة السياسية حقبة الحل الدولي والسلام، فهل صحيح أننا ذاهبون، أخيراً، إلى سلام، وهل سنذهب إلى سلام جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، أم إلى قراءتهما الروسية، كما صاغتها موسكو في قرار دولي يحمل الرقم 2254، لم تعد منصتها تقبل غيره، لاعتقادها أنه ألغى القرارات الدولية الأخرى جميعها، خصوصاً منها جنيف والقرار 2118.
ثمّة سلامان ينتظراننا في الحقبة المقبلة، إن صدق القائلون بنهاية رحلة العمليات العسكرية طوراً قائماً بذاته.
هناك سلام وثيقة جنيف والقرار 2118 الذي يقول: يبدأ الحل السياسي بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية، لها صلاحيات تنفيذية كاملة (صلاحيات بشار الأسد الذي لا يكون لهذا السبب مرجعية لها)، على أن تقوم بتراضي الطرفين المتصارعين، ويكون مهمتها نقل سورية إلى النظام الديمقراطي. في هذا التصور الدولي للسلام، هناك تحديد اسمي وصريح للأداة (الهيئة الحاكمة) وللوسيلة (التراضي) وللمسار وهدفه (الانتقال من الأسدية إلى الديمقراطية)، وضمانات دولية مشتركة لهذه السيرورة التي يخدم كل بند فيها الثورة ومطالب شعب سورية.
وهناك السلام الروسي الذي يحذف الهيئة الحاكمة الانتقالية لصالح “حكومة وحدة وطنية”، تنجز انتقالاً داخل النظام، وليس إلى نظام بديل، لذلك يكون بشار الأسد مرجعيته، وليس وثيقة جنيف.
هذا “السلام” هو ما سيعرض علينا في جنيف، وما يرجح أن يقر في حال اجتمعت المعارضة السورية في الرياض، وتبناه وفدها الموحد، في حال تم تشكيله بمساعٍ روسية/ أميركية/ إقليمية/ عربية. إنه سلام مخالف لصيغة السلام الدولي الذي أقرّه الخمسة الكبار، ووضعوه في وثيقة جنيف1 والقرار 2118 بآلياته التنفيذية التي يجعل نصها الحرفي الصريح الحل يبدأ بتشكيل “هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، تنقل سورية إلى النظام الديمقراطي”، فهل حذف هذا النص الواضح واستبداله بنص حول تشكيل “جسم حكم انتقالي” يعرف باعتباره حكومة وحدة وطنية، يمكن أن يأخذنا إلى السلام المنشود، أم أنه يلغيه لصالح رؤية تنقذ الأسد ونظامه، أعد الروس كل ما يلزم لفرضها أمراً واقعاً، لا مهرب منها إن رفضتها بعض الهيئة العليا الموسعة قبلها بعضها الآخر، خصوصاً المرتبطين بموسكو ارتباط تابع بسيد، ويرون سورية بأعين موسكو، ويعتبر سلامها واقعياً والسلام الدولي وهمياً، وغير قابل للتحقيق.
هل سيقبل السوريون استبدال سلام دولي، يخدمهم بحلٍّ يلتف على قرارات دولية، وافقت موسكو عليها، وعلى إرادة الشعب السوري، هدفه الوحيد تقويض السلام وإبطاله، وحق السوريين في تقرير مصيرهم، عبر إبقاء الأسد واحتواء التمرد الوطني المجتمعي الهائل عليه داخل نظامه.
هل سيأتي الحل الروسي بالسلام، ويضع حداً لنظام قتل أكثر من مليون سوري، إن كان سيعيد السوريين إلى بيت طاعته، بتهمة قيامهم بثورة إرهابية لا بد أن يعاقبوا عليها، بتمكين الأسد من استعادة سيطرته عليهم، وجعل إبادتهم مسألة سيادية، التدخل فيها عدوان على الشرعية الوطنية والقانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، ستتولى قوات الاحتلال الروسي ردعه، إنقاذاً لحاكمها “الشرعي” من شعبه غير الشرعي، بل الإرهابي الذي استحق ما أنزل به من عقابٍ، أوصله إلى أعمق نقطة في هاوية الفناء.
هل سيقبل السوريون حلاً يعيدهم إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي ثاروا عليه، يبقي على سلطة بلادهم الهمجية، والقاتل الذي لو كان في أي بلد آخر من عالمنا لوصل، منذ أعوام، موجوداً إلى محكمة مجرمي الحرب التي حاكمت، عامي 1945 و1946، النازيين على جرائم ليست أشد فداحة مما ارتكبه ضد آمني سورية وعزلها: شيباً وشباناً؟ وهل سيقبل السوريون بقاء الغزاة الإيرانيين والروس في وطنهم، بموافقة نظام ضمن استمراره عبر بيعهم وطناً ليس له، ولا يمت إليه بصلة.
لسنا ذاهبين إلى السلام. نحن ذاهبون إلى فترة صراع يعتقد الروس أنهم سيجنون من خلاله العائد السياسي لخيانةٍ أسدية سلمتهم سورية على طبقٍ من ذهب، بعد أن أضعفوها إلى حد يجعل استسلامها حتمياً لهم، باسم سلامٍ ألغوا قراراته الدولية التي كانوا قد وافقوا عليها، ويستبدلونها الآن بحلٍّ يعيد السوريين إلى نظامٍ لطالما قال إنهم لا يستحقون الحياة، وحكمهم كما يحكم أسرى ينتظرون موتهم في معسكر إبادة.
العربي الجديد
سورية.. تسويات منتظرة/ فاطمة ياسين
تأخذ الحرب السورية مظهراً مختلفاً مع دخول قوات سورية الديمقراطية إلى كل أرجاء الرقة، وإعلان المدينة خالية من تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي يعني أن الحكم المحلي في “روج آفا” (منطقة الإدارة الذاتية التي شكلها الكرد في شمال سورية) قد توسّع بصورة درامية، ليشمل مناطق واسعة من الشرق السوري، ولو أنه ما زال يحترم الفاصل الطبيعي الذي تشكله مياه الفرات.
تَرَافَقَ الإعلان مع نشاطاتٍ قوميةٍ، لا تعكس الاسم الرسمي لقوات سورية الديمقراطية، فهي تجتاح المناطق، ولا ترفع رايةً ترمز بوضوح إلى سورية متصلة كما تركها الفرنسيون عام 1945، ويبدو وجود العنصر العربي ضمن هذه القوات خجولاً، وكأنه ضيف شرف غير قادر على الإفصاح عن وجوده براية، أو حتى بأغنية قصيرة. أتم هذا الفصيل عمليات إخراج تنظيم الدولة الإسلامية من الرقة بنجاح، وأذاع على الإعلام صور جنوده تجوس بفرح بين خرائبها دلالةً على النصر. لم تُخْف هذه القوات مرجعيتها الإثنية، وإن تحدثت بالعربية أحياناً في مؤتمراتها الصحفية، ومن غير الواضح ما هي خططها لحكم الأراضي التي في يدها، لكن المؤكّد أنها تسيطر على معظم الشرق السوري، وفي حوزتها مفتاح أساسي من مفاتيح الحل.
المشهد المتغير الآخر من الحرب غير بعيد عن الرقة، وهو دخول قوات النظام إلى الميادين، آخر المعاقل الكبيرة لتنظيم الدولة الإسلامية، وتواتر تقدّم هذه القوات السريع وحرصها على التمدّد في أوسع مساحة ممكنة، وهدفها المقروء هو الوصول إلى الحدود العراقية وملاقاة الحشد الشعبي، الذي يتقدم، هو الآخر، بسرعته القصوى.
الحملة على الرقة التي قادتها قوات سورية الديمقراطية بدعم كبير من الولايات المتحدة والتحالف الدولي، والحملة على دير الزور التي قامت بها قوات النظام ومليشيات متحالفة معه، بدأتا منفصلتين، وتحركتا على محاور متباعدة، قارب بينهما الانهيار السريع لتنظيم الدولة الإسلامية، فأصبحتا الآن على مشارف الالتقاء، وقد حصلت بوادر من هذا الالتقاء في دير الزور، عندما عبرت قوات النظام إلى الضفة الشرقية على هيئة تحدٍ واضح، لم يتم الرد عليه، في ظل تحفظ قوات سورية الديمقراطية التي تتحرّك نحو مواقع اقتصادية، كحقول البترول والغاز القريبة ومراكز التحكّم بها.
يتصدّر المشهد في شرق سورية وجزيرتها العليا عناوين التحرير، وتبدو صور المدن المدمرة خلفيةً حزينة لهذه الانتصارات، فالإحصائيات تتحدث عن نسب مهولة تفوق 70% لدمار مدينة الرقة، ولا تتوفر إحصائياتٌ عن دمار دير الزور والميادين، ولكن سمعة جيش النظام وشراسة تنظيم الدولة الإسلامية تجعلنا قادرين على تقدير النسبة المشابهة تقريباً للنسب المعلنة في الرقة.
يمكن أن يحترم الطرفان اللذان يتسيدان مشهد سورية الشرقية الآن خطوط تماسهما، في انتظار الدعوات إلى مؤتمر حميميم الذي يكثر الحديث عنه، حتى يكاد يصبح واقعاً مقبولاً، في ظل التقارب السعودي الروسي، لكن الدعم الأميركي للكرد لن يكون بلا حدود، فهو محكومٌ بالحرب على الإرهاب ووجود “داعش”، وبالعلاقة المتأزمة مع تركيا التي يحاول الجانب الأميركي إيجاد مخرج لها. ويبدو للطموح الكردي محدّدات أميركية، فقد شاهدنا كيف وقفت البعثات العسكرية الأميركية تتفرج على اجتياح الجيش العراقي لكركوك، مع المطالبات فقط بضبط النفس. هذا لم يمنع الرئيس دونالد ترامب من الإشادة بالانتصارات في الرقة عبر بيان للبيت الأبيض، ولكنه، في الوقت نفسه، أعلن عن مرحلة جديدة في سورية، أكد فيها على دور الشركاء والحلفاء، من دون أن يسمي أحداً منهم.
على هذه الخلفيات التي أريد فيها لبعض الأطراف أن تظهر منتصرة، وإنْ على جثث المدن المدمرة، تدق طبول التسويات، وفي أذهان الجميع رواسب إعلامية وسياسية عن سورية المفيدة وسورية الأكثر إفادة وسورية الفدراليات والحكومات المحلية، بعد أن تبعثرت سورية “سايكس بيكو” بالفعل إلى نثار طائفي وقومي وتقاطعات مصالح، تشكل تعقيداً سيكون حاضراً في أي حوار، عقد في أستانة أو جنيف أو حتى في حميميم.
العربي الجديد
السوريون في خيارات ما بعد التسويات/ سميرة المسالمة
يترك المجتمع الدولي السوريين بلا خيارات حقيقية، عندما يعلق مصير سورية بمفاوضات ما بعد التسويات التحاصصية، الدولية منها (روسيا -إيران- تركيا- والولايات المتحدة الأميركية)، والمحلية (النظام والمليشيات التي تقاتل معه من جهة، والفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق المعارضة من جهة أخرى)، متجاهلاً -هذا المجتمع- أن الثورة السورية لم تقم بغرض السيطرة العسكرية على مناطق هنا وهناك، وأن هذه الفصائل المسلحة كانت نتيجة مباشرة لفتح النظام البلاد على مصراعيها أمام كل القوى، سواء المساندة له أو المواجهة لقواته، بهدف تحويل الصراع في سورية من صراع سياسي، هدفه إقامة نظام ديمقراطي يحفظ حقوق المواطنين السوريين في حياة حرة كريمة، إلى صراع على السلطة تحت مظلة العسكر والمسلحين، لينتهي الأمر بعقد تسوياتٍ بين قوى مسلحة، ليس ضمن أولوياتها أو أجنداتها تغيير نظام الحكم القائم، وإنما تقاسم السلطة والصلاحيات والنفوذ، وطبعاً التبعيات لما يُسمَّى الدول الضامنة.
وعلى ذلك، تقف المعارضة السياسية المشتتة، على أبواب الاستحقاقات المصيرية، منزوعة الأظافر، حيث اقتطع منها ما استندت عليه وهماً (الفصائل المسلحة) على أنها قوة بيد الهيئة العليا للتفاوض، صاحبة قرار الحرب والسلام، فيما أثبتت روسيا من خلال مسار أستانة حجم الوهم الذي عوّلت عليه الكيانات السياسية في شراكتها هذه الفصائل على طاولة مفاوضات جنيف، حيث لبت الفصائل نداء روسيا، في عقد اتفاقيات متعددة ومتنوعة تربط مصير السلاح المعارض بمسار واتجاه واحد، يخالف في مضمونه ما عوّلت عليه تصريحات المسؤولين عن التفاوض، فالسلاح الذي حرّر نحو نصف مساحة سورية هو الذي أرغم النظام عام 2014 على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، مقابلاً للمعارضة التي يعتبرها إرهابية، هو السلاح نفسه الذي غيّر المعادلة، ومنح النظام مساحة للتنفس، واستعادة السيطرة على ما كان خسره قبل عام 2014، حيث أسهمت اتفاقات التسويات والهدن المحلية بذلك، وتبعها اليوم ما سُميت اتفاقيات خفض التصعيد التي بقيت حتى اليوم من دون مساندة أو عداء واضح من الهيئة العليا للتفاوض.
ولعل هذه المقدمات هي ذاتها التي تربك اليوم الهيئة العليا للتفاوض في اتخاذ قرارها الواضح
“خيارات المعارضة بعد جملة التسويات التي أدارتها موسكو، شبه معدومة تقريباً” تجاه ما يعدّ لها دولياً، حيث يوضح بيان الاجتماع الختامي لها الذي عقد في الرياض الأسبوع الماضي حجم الإرباك والتخبط والخوف في آن معاً، من الرغبة الدولية في خلط أوراق المعارضات السياسية المشتتة والمتباينة في الرأي والرؤية، والمختلفة في قياس “مرونتها” التي يتم الحديث عنها في الأروقة الدولية والاجتماعات التي تخص سورية في غياب السوريين أنفسهم، نظاماً ومعارضة، فالبيان الذي هو ثمرة اجتماعات ونقاشات، وبتكلفة مالية تزيد من أعباء الاتكال على الآخرين، والارتباط بهم ممولين للمعارضة، اكتفى بعبارات عائمة وخيارات مفتوحة، إما توسعة الهيئة لإنتاج قيادة معارضاتية جديدة، أو إعادة تشكيل وفد التفاوض بما يلائم التوجه الدولي في تمثيل منصتي القاهرة وموسكو.
ربما يجدر القول إن الخيارين المقدّمين من خلال البيان ينطلقان من منطق المعارضة الذي استمر في ارتكاب أخطائه الواحد تلو الآخر، بحيث تبقى الشخوص في مكانها، مع استدارة صغيرة تحقق “شراكة من دون مشاركة”، وبالتالي نبقى ندور في دائرة التعطيل نفسها، وفي التبرير وثبات الأقدار للمعارضة، في ظل تغير الأحوال للمواطنين السوريين من سيئ إلى أسوأ، ومن هدنة إلى ما دون التسوية في مراحل لاحقة. فليس من شأن توسيع الهيئة بمبدأ اللصق والرقع أن يغير في واقع معارضةٍ نسجت تفاصيل خيباتها المتلاحقة خلال سنوات من الضياع حول الهدف مرة، وعن الطريق إليه مرات أخرى، ولا إعادة تشكيل وفد التفاوض يشكل حلاً في ظل تعدد الرؤى، واختلاف درجات “المرونة” بين المنصات مع بعضها بعضاً، وبين المتناصين في المنصة ذاتها، ما يقودنا إلى السؤال عن المرونة نفسها التي يتحدث عنها المجتمع الدولي وبعض المعارضين، من دون تحديد ما تعنيه هذه المرونة؟ هل هي امتلاك حق التنازل عن الحق، أم هي كسر لإرادة السوريين الذين قدموا التضحيات، من أجل بناء دولة تحفظ حقوقهم مواطنين وقوميات، أم هي النزول من على شجرة اللاءات على سلم المناصب الموعودة، أم أنها تعني الامتثال لواقع جديد، فرضته الدول الحليفة للمعارضة، قبل أن تفرضه الدول المناصرة للنظام، أم أنه لا هذا وذاك، بل يعني وضع تصور لسورية جديدة بدستور جديد، نستطيع من خلاله وقف المجازر وتجارة الحرب، ومحاكمة كل المجرمين على جانبي الضفتين، من نظام ومليشياته، أو ما سمي زوراً فصائل معارضة يحكم أجندتها مطامع الدول الراعية لها؟
خيارات المعارضة بعد جملة التسويات التي أدارتها موسكو، شبه معدومة تقريباً، ما يفرض عليها اليوم ضرورة الفهم العميق للمصطلحات التي تتداولها، وتداولتها على مر السنوات الماضية، ووقفة نقدية شجاعة تعترف فيها بخطأ خياراتها، بدءاً من الانجرار وراء أجندات
“تقف المعارضة السورية السياسية المشتتة، على أبواب الاستحقاقات المصيرية، منزوعة الأظافر” دولية وإقليمية، مروراً بتقييم العمل المسلح، من دون تجاوز حقائق من يتبع من، في عمل معارضاتي فيه السياسي والمسلح، وتمت فيه إزاحة العمل السياسي لمصلحة العمل المسلح، وتغييب الخطاب الإعلامي المتوازن لمصلحة خطاباتٍ طائفية ووظيفية، تخدم استمرار الصراع وتأجيجه، وصولاً إلى الانغلاق التام في شلل وكيانات تنطق بهوى من يمولها ويستضيفها، متنازلة عن حق السوريين في أن يكون لهم كيان سياسي يمثلهم، ولا يمثل عليهم.
ربما من شأن إدراك حجم المقدمات الخاطئة والمختطفة أن يجعل هذه المعارضات تقرّ بضرورة بناء نفسها من جديد، مرتكزة على رؤية وطنية تصنعها من خلال هدف الثورة الأساسي الذي انطلقت منه “الحرية” الذي يعني إنهاء الاستبداد، قبل أن تتطور هذه الثورة وتنزاح، وتعلن من خلال الاتفاقيات في أستانة، وما يسير في ركابها، هزيمة الكفاح السياسي أمام تفاهمات المسلحين من أجلهم وعلينا.
العربي الجديد
انتشار ‘شعوب سوريا’ بين أستانة وجنيف وحميميم في نوفمبر/ علي العائد
كنا نعتقد، نحن السوريين، أننا مجتمع خلال غفلتنا تحت حكم الأبدين الأسديين، فاكتشفنا أننا طوائف بعد أقل من سنتين من انطلاق الثورة السورية، لننسى شعار “الشعب السوري واحد” في السنوات التالية من الثورة اليتيمة أو المستحيلة أو النائمة.
الآن نحن أمام مسألة تقبع في أحد مندرجات الفلسفة المافيوية للقيادة الروسية، فالرئيس فلاديمير بوتين دعا إلى مؤتمر لـ”الشعوب السورية”، موعزا لدوائره الدبلوماسية للتحضير لهذا المؤتمر بخيارات متعددة أو متعاقبة، لجهة مكان عقد هذا المؤتمر.
والعبارة ليست زلة لسان من بوتين، مقارنة مع ما جرى في روسيا في نهاية حرب الشيشان ضد روسيا الاتحادية، حين عقدت موسكو مؤتمرا جمعت فيه “شعوب جمهوريات القوقاز″ التي تعيش في خاصرة الجغرافيا الروسية العملاقة، ويدين ما لا يقل عن نصف سكان تلك الجمهوريات بالإسلام، وكانت ولا تزال تتمتع بحكم ذاتي، لكنها محرومة من القرار السياسي والعسكري والاستقلال الوطني.
في بداية الألفية الحالية استطاع بوتين، كرئيس لروسيا ورئيس وزراء، بعد حرب طويلة مع بعض هذه الشعوب، وخاصة في الشيشان، إنهاء الحرب وإعادة ضم جمهوريات القوقاز المتمردة على سلطة روسيا الاتحادية إلى الفلك الروسي.
أما “شعوب سوريا” فمن الصعب التفريق بينها، بوجود أكثر من معيار. فإذا كان المعيار هو العرق سيكون الأكراد نقيضا للعرب، وسيكون التركمان نقيضا للاثنين، أما إذا كان المعيار الدين والمذهب فستكون معظم مكونات الأعراق الثلاثة متوحدة على المذهب السني. وإذا كان الفيصل هو الدين في عمومه، ففي سوريا معظم المذاهب والاعتقادات الموجودة في المشرق العربي، من المذاهب الإسلامية، إلى الطوائف المسيحية، إلى العلويين والدروز والإيزيديين واللادينيين… إلخ.
بالطبع، يتغاضى بوتين عن أن سبب الثورة السورية سياسي وحلها لن يكون إلا بالسياسة بما تعنيه الكلمة من المساواة بين جميع أطياف السوريين والتلاقي على المصالح في إطار قانوني، بما في ذلك الدستور المكنّى بـ”أبي القوانين”.
لكن بوتين باستخدامه هذا الاصطلاح لا يلمّح فقط إلى بداية السير في تكريس الفيدرالية في سوريا بل إلى تقسيم البلاد، أو التهديد بدعم تقسيمها، خاصة أن المصالح الأميركية، قبل مصالح الشعب السوري تفترض وتفضل بقاء سوريا بلدا موحدا.
الخلاف الروسي الأميركي يلعب لعبته هنا، فأميركا لم تصل إلى الآن إلى قناعة بحلول ساعة تدخلها السياسي الفاعل للاتفاق مع روسيا، أو للجم تحركاتها، حيث لا يزال الملف السوري في عهدة وزارة الدفاع الأميركية ولم ينتقل إلى وزارة الخارجية المعنية بالسياسة. والحجة المعلنة لتأخر استلام الخارجية الملف من الدفاع هو إنجاز وزارة الدفاع مهمتها في القضاء على داعش.
وفي ما يتعلق بروسيا بوتين، التي لا تزال مأخوذة بسياسة الانسحاب الأميركي من سوريا وغير مقدرة تماما لحضور واشنطن العسكري في شرق سوريا، تحاول موسكو الاستفادة من الوقت الممنوح لها من خلال خسارة واشنطن الدعم التركي وتركها لحليفتها الأطلسية لترتمي مرغمة في حضن موسكو، مفضلة الاستخدام المؤقت للورقة الكردية في حربها ضد داعش، على الرغم من إدراك موسكو وإدراك أميركا، أن وقت داعش قد نفد كقوة عسكرية، وكسبب أول لتعميق فوضى الحرب السورية.
هذا الإدراك المشترك يشير إلى أن كلاّ منهما مستعد للمواجهة التي ستقتصر على السياسة غالبا، دون صدام عسكري لا مصلحة للطرفين فيه. والمهم والمنطقي في هذه المواجهة المتوقعة هو قياس التقدم العسكري لكلا الطرفين، وما حققته آلتهما العسكرية، أو آلة حلفائهما، على الأقل منذ بداية خريف 2015، دون أن يعني ذلك أن روسيا قد حققت تقدما حاسما منذ إعادة تأهيل مطار حميميم ليكون قاعدتها العسكرية، وما ترتب على احتلال القاعدة من اتفاقات عسكرية واقتصادية وسياسية وقعتها موسكو مع النظام الأسدي.
وبين السياسة اللفظية الأميركية بالحفاظ على سوريا موحدة، وبين سياسة “الشعوب السورية” وفق منطوق بوتين، سيبدأ سباق ما بين ترامب وبوتين غالبا، في إشارة إلى قرب الحل، كما نتمنى كسوريين، لن يقتصر على الضغط على الأطراف السورية المتقاتلة لتقديم تنازلات تمهد للحل السياسي لينشأ بينهما صراع سياسي صريح إذا صدقنا جدية التصريحات الأميركية الخاصة بعدم وجود دور لبشار الأسد في مستقبل سوريا.
روسيا ستحاول التشكيك في جدية “الإصرار الأميركي” على رحيل النظام الأسدي إلا إذا أخذت ضمانات باحترام الاتفاقات الموقعة مع النظام على أنها اتفاقات دولية تُلزم أيّ حكومة سورية في المستقبل.
ومن هنا، قد لا نرى حلا سياسيا في عهد ترامب-بوتين، مع احتمال وارد نرى فيه دعما عسكريا أميركيا لفصائل المعارضة، في حال تشدد روسيا أمام “الإصرار الأميركي على إزاحة الأسد”، وما قد يعنيه ذلك من سحب الأميركان لدعمهم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والعودة إلى التحالف الأميركي التركي لإسقاط المشروع الروسي في سوريا.
في نوفمبر، سترفع روسيا مستوى العرض في بورصة السياسة السورية إلى ذروة فوق العادة من خلال عرض مفرط لأدوات السياسة تبدو أمامه أميركا مجرد متفرجة، خاصة في أستانة 7، وحميميم 1، وربما في مطار دمشق 1، لكنها قد تحضر اسميّا، أو لأخذ العلم، في جنيف 8، والرياض 2. هذا مع ملاحظة أن زيادة عرض المادة السياسية في السوق يعني رخص ثمنها، والاستعداد للتنازل في السعر كي لا يتضخم المخزون ويصبح مادة كاسدة يحتاج التخلص منه الإنفاق على إتلافه.
أين النظام الأسدي من هذا، حتى لو كانت حميميم أرضا روسية، بل أين إيران التي راهنت بكل شيء كي يستمر نظام دمشق جسرا لها في اتجاه المتوسط ولبنان .
بالنسبة إلى أميركا تؤدي إيران دورها الوظيفي على اعتبار أنها عدو صريح.
وعلى الرغم من جبروت التصريحات العلنية بين طهران وواشنطن فإنهما تستفيدان معا من اختلال توازن اللاعبين العرب في شرق المتوسط وما يليه من الخليج العربي والعراق. كان هذا قائما قبل قيام الثورة، وتعمّق أثره في خدمة عدوين صريحين لا يستعجلان المعركة بينهما حتى على خلفية الملف النووي الإيراني.
في مسألة حميميم 1، ستبرز مسألة عصية على الحل الروسي وهي معضلة حضور “معارضة الخارج” إلى القاعدة الروسية أو إلى دمشق من الائتلاف إلى هيئة التفاوض العليا إلى تيار الغد السوري، حيث رفضوا جميعا فكرة الذهاب إلى حميميم.
وقد يكون هذا التعقيد مقصودا من روسيا كجزء من معركة كسب الوقت، بل ومنح قوات الأسد مزيدا من الوقت لتمكين مواقعها في جوار مناطق النفوذ الأميركي في دير الزور، حيث تتقدم قوات سوريا الديمقراطية، وتتراجع فلول داعش، وحيث لا تبدي أميركا ممانعة لتحرك قوات النظام والميليشيات إلا إذا حدث صدام مع “قسد” في هذه المرحلة المبكرة من معركة ستتغير أطرافها في مرحلة ما بعد داعش.
كاتب سوري
العرب
«شعوب سورية» هل تشمل اللاجئين … اسألوا بوتين!/ عبدالوهاب بدرخان
لو كان مَن تحدّث عن «شعوب سورية» أحداً آخر غير فلاديمير بوتين لأمكن القول أن هذا تخريف خالص، أما وأن الرئيس الروسي هو القائل، بل يريد تنظيم مؤتمر للحوار بين هذه «الشعوب» في قاعدة حميميم العسكرية، فهذا ليس سوى محاولة روسية جديدة للتلاعب بعناصر الحلّ السياسي المتوافق عليه دولياً، وخطوة أخرى نحو تهميش المعارضة الأكثر تعبيراً عن طموحات الانتفاضة الشعبية السورية، وقبل كل شيء استعراض برسم الراغبين في إعادة الإعمار لإظهار أن الوضع يعود إلى طبيعته. فموسكو تشتغل على مَن وما تسيطر عليه، وتسعى إلى استقطاب ما ومَن لا تسيطر عليه، لكنها دائبة البحث عن «معارضة موالية» لا مشكلة لديها مع استمرار بشار الأسد ونظامه. هذا المعيار ينطبق على «معارضين مزيّفين» جُمعوا في منصّتَي موسكو وحميميم، وكذلك على أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي»، إذ إن هؤلاء لا يهمهم مَن يحكم في دمشق طالما أنه لا يعرقل إقليمهم «الفيديرالي».
إمّا أن «الشعوب» مصطلح اعتباطي ومتسرّع، أو أنه استُخدم خطأً فأوحى بغير ما قُصد به، أو أنه ببساطة لا معنى له. إذا كان بوتين يقصد بـ «شعوبـ»ـه السورية التنوع العرقي، فإنها موزّعة بين 92 في المئة من العرب و8 في المئة من الكرد والأرمن والسريان والشركس والتركمان والآشوريين. وإذا كان يشير إلى التعدّد الديني فهذه طوائف ومذاهب وليست «شعوباً». وحتى لو عنى القبائل والعشائر، أو تنوّع اللغات، أو التوزّع الجغرافي – الجهوي، أو أخيراً الانقسام السياسي… فإنه لن يتوصّل إلى جماعات بالمواصفات المتّبعة لتصنيف «الشعوب»، كما هي حال شعوب الاتحاد الروسي، لكن مصطلحه غير المدروس أثار ارتياباً مشروعاً في مفهومه بأن هناك شعوباً وليس شعباً سورياً، وكذلك في رؤيته إلى مجمل الأزمة السورية التي عُهدت إليه إدارتها ومواكبتها إلى حلول سلمية – سياسية. فكيف يمكن أن يصدّق العالم أن تقطيع الخريطة السورية إلى «مناطقَ خفضٍ للتصعيد» والحديث عن «شعوب سورية» ليسا مسودةً تمهيدية للتقسيم. الأرجح أن «مؤتمر الشعوب» يرمي خصوصاً إلى استيعاب الأكراد لئلا يبقوا في كنف الأميركيين الذين سلّحوهم وكلّفوهم مقاتلة تنظيم «داعش» لمصلحتهم.
لم يقل الرئيس الروسي أياً من هذه الشعوب يمثله نظام الأسد، أم إنه في نظره يمثّلها جميعاً، وأين مجتمع الأسد «الصحّي» و «الأكثر تجانساً» من هذا التصنيف، وفي أي شعب يمكن إدراج «المستوطنين» غير السوريين الذين استقدمتهم إيران وعملت على تجنيسهم؟ لكن هناك أيضاً أكثر من ثمانية ملايين لاجئ ونازح. والنازحون ماذا عنهم وعن نحو خمسة ملايين مهجّر في الداخل؟ الأسد والإيرانيون يعتبرون أن ثلث السكان الذي أصبح في الخارج أمكن التخلّص منه ولا يريدون البحث في عودته أو تمكينه من العودة، أما المهجّرون فالأفضل أن يبقوا حيث توطّنوا. ولا أحد يعرف ما الذي يفكّر فيه الروس بالنسبة إلى هذا الملف، فهم لا يختلفون كثيراً عن النظام والإيرانيين عندما يتعلّق الأمر بقضية إنسانية. لكنهم يواجهون جميعاً هذا الملف عندما يقاربون استحقاق إعادة الإعمار. كيف؟
تبدي موسكو ودمشق استعجالاً واضحاً لتحريك إعادة الإعمار، فيما تحاول طهران مقاربته على نحو التفافي. لكن هذا الثلاثي واقع تحت عقوبات دولية، فنظام الأسد مفلس وروسيا وإيران غير قادرتَين، ويعتقد كل طرف أن لديه فرصاً وحوافز يعرضها على الدول المموّلة أو المانحة. يريد النظام إعادة الإعمار مصيدة للأوروبيين ليقايض الصفقات والعقود بـ «التطبيع» معه لإحياء «شرعيته»، ويتخذ منها الروس وسيلةً لمساوماتٍ في كل الاتجاهات. وإذ يعتبرها الإيرانيون نقطة ضعفهم، فإنهم يحاولون التذاكي للإمساك ببعض أوراقها من خلال الإيحاء بل الإيهام بأنهم يتفهّمون الشروط الأوروبية ويريدون التعامل معها. هذه الشروط تُختصر بانتهاء الصراعات المسلّحة والاتفاق على عملية سياسية توضح معالم العودة إلى الاستقرار، إضافة إلى إيجاد خطة ذات صدقية لمشاريع إعادة الإعمار. وتعتمد طهران على علاقتها الوثيقة برأس النظام لتطرح عبر قنوات خاصة صيغاً سياسية ووعوداً بصفقات يمكن أن تكون مغرية للأوروبيين إذا أعادوا علاقاتهم رسمياً مع النظام، لكن حتى لو كان الأوروبيون مستعدّين للتنازل عن الجوانب السياسية، فإنهم لا يُلقون بأموالهم عشوائياً ولا يستطيعون التهاون في شروط الحوكمة والضمانات.
في أي حال، لم يعد أحد يجهل أن الكلمة الأولى والأخيرة في سورية باتت لروسيا، لا لإيران ولا للنظام. ومَن كان يعتقد غير ذلك، فقد شكّلت زيارة الوفد الذي ترأسه وزير خارجية النظام إلى سوتشي رسالة إلى الدول كافةً بأن ملف إعادة الإعمار في يد روسيا. كل ما استطاعه وليد المعلم هو أن يصرّح بشكوى النظام من استيلاء أكراد «قوات سورية الديموقراطية» على حقول النفط في دير الزور. وهي شكوى إيرانية أيضاً، ليس تضامناً مع الأسد وإنما احتجاجاً على تقاسم دير الزور في «التفاهمات» الروسية – الأميركية. غير أن الشكاوى الإيرانية من سلوكات روسيا تتزايد باستمرار، سواء مع تركيا في شأن إدلب أو خصوصاً مع إسرائيل ورسم الخطوط الحمر للوجود الإيراني في جنوب سورية. ومن الواضح أن بوتين لا يكترث للاحتجاجات، بل ينظر فقط إلى التقدّم الذي تحرزه الخطط الروسية، فبعد «مناطق خفض التصعيد» ستكون الخطوة التالية، وفق ما قال «مؤتمر شعوب سورية لمصالحة الحكومة والمعارضة». وبالتالي، فإنه يعمل حصرياً على اختتام مسار آستانة لينتقل إلى مسار حميميم، وكلاهما خارج إشراف الأمم المتحدة، وإذ تهيمن موسكو على مسار جنيف وتدير عقمه ومراوحته، فإنها تستخدمه للتمويه ولتسهيل مسارَيها الآخرَين.
هل من علاقة بين فكرة «مؤتمر الشعوب» وبين إعادة الإعمار؟ بطبيعة الحال، فكلّ الملفات مترابطة، بما في ذلك إنهاء الصراع المسلّح والقضاء على جيوب الإرهاب والعملية السياسية. وقد برهنت روسيا أنها قادرة على إحداث تغيير بالقوة العسكرية مستغلّة ركاكة موازين القوى على الأرض، أما قدرتها على التغيير الآخر المطلوب بالقوة السياسية فلا تزال موضع تساؤل واختبار، نظراً إلى ميلها إلى لَيّ الحقائق والتلاعب بها والتعامي عن الأسباب الواقعية للأزمة. وإذ توحي روسيا حالياً بأنها باشرت فعلاً تنشيط ملف الإعمار، فإن مقارباتها الأولية مع «رجال أعمال النظام» أظهرت لها أن هؤلاء لم يأتوا لعرض مساهماتهم المحتملة، وإنما لاستكشاف ما إذا كانت لديها تمويلات، ثم إنهم بحكم العادة يبحثون عن مكاسب سريعة وسهلة. وفيما تفتح روسيا تفاوضات مع حكومات أوروبية لرسم خرائط الصفقات، فإنها تريد فرض معاييرها على الإعمار الذي يفترض أن يكون جهداً دولياً، وتحاول تعويض عجزها عن الإعمار بقوّة احتكارها توزيعَ العروض، لكنها لم تبدِ مثلاً أي اهتمام بقضية اللاجئين التي تعرف أنها مثار قلق للدول المموّلة، ولم تقدّم أي تعهّد بأن تشمل نشاطات التنمية والإعمار جميع «الشعوب» السورية المنكوبة، خلافاً لرغبات نظام الأسد في توجيهها إلى «شعوبـ»ـه ومناطقه.
لكن المهمّ أن صيغة الحل السياسي الذي تعمل عليها روسيا تبقى أقرب إلى صيغة محورها الأسد ونظامه، أي أبعد ما تكون عن إقامة سلام داخلي يطمئن «الشعوب» إلى مستقبلها. وتبدو مقاربتها لاستحقاقات ما بعد الحرب مكشوفةً بتمحورها على مصالح «روسيا أولاً» وليس مصالح سورية والسوريين، والمؤكّد أن حساباتها السورية والأوكرانية والإقليمية ستتخذ منحًى ابتزازياً في إدارة ملف إعادة الإعمار. لذلك، استفزّها مثلاً أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية سترسل «مساعدات إنسانية» إلى الرقة، حتى إنها اعتبرتها محاولة لـ «إخفاء آثار القصف الوحشي» كأن القصف الروسي لحلب كان أقلّ وحشية. أما الأهمّ فهو أن موسكو أصبحت مدركة أن المجتمع الدولي قد يتقبّل «السلام الروسي» في سورية ولو بوجودٍ مشروط للأسد، لكنه لا يمكن أن يدعم «سلاماً» كهذا بوجود الأسد وإيران معاً. وطالما أن السلام بعيد، فإن «شعوب سورية» سئمت الجميع: النظام وإيران، وكذلك روسيا.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
روسيا تعرض مساراً ثالثاً لحل الصراع السوري/ ماجد كيالي
منذ بداية الصراع السوري، شكلّت روسيا نوعاً من شبكة متعددة الطبقات، سياسية وديبلوماسية وعسكرية، لحماية النظام، كما حاولت فرض رؤية خاصّة بها للصراع الجاري، لتبرير تدخّلها فيه، باعتبار الأمر يتعلق بالدفاع عن سيادة سورية إزاء التدخلات الخارجية، ومن أجل حماية الدولة، ومنع تقسيم البلد، وباعتبار أن ما يُجرى هو بمثابة حرب طائفية أو حرب ضد الجماعات الإرهابية، في إنكار من موسكو للطابع السياسي للصراع، وفي تنكّر منها لتوق السوريين للحرية والمواطنة والديموقراطية.
هكذا في البداية استخدمت روسيا مكانتها السياسية والديبلوماسية الدولية لتأكيد ذلك، عبر تكرار استخدام «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي، ومعارضة إنشاء مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي، وتشجّعت في كل ذلك من لامبالاة الإدارة الأميركية السابقة. في كل الأحوال فقد توّجت هذه الجهود الروسية، أولاً، في كبح أي عقوبات دولية ضد النظام بسبب استخدامه البراميل المتفجرة في بطشه بالسوريين وتدمير مدنهم، ولا سيما في الحؤول دون أي ضربة أميركية ضده بعد استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة (2013)، إثر التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن. وثانياً، في تمييع روسيا مضامين بيان جنيف -1 (2012)، لا سيما البند المتعلق بإنشاء «هيئة حكم انتقالي» ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، إذ إضافة إلى كل ذلك فقد دعمت روسيا وفد النظام، في كل جولات المفاوضات في مسألتين: أولاهما، التركيز قبل كل شيء على الحرب ضد الإرهاب، واتهام فصائل المعارضة كلها بـ «الإرهاب». وثانيتهما، في رفض التعامل مع وحدانية تمثيل وفد المعارضة باعتبار أن ثمة منصّات أخرى للمعارضة.
ويمكن التأريخ لمرحلة ثانية من التدخّل الروسي في الصراع السوري، بتحوّل روسيا نحو التورط مباشرة في هذا الصراع باستخدام قوتها العسكرية، ولا سيما سلاح الطيران، قبل عامين (في أيلول- سبتمبر/2015). وبالنتيجة، فإن هذا التدخّل غيّر كثيراً من موازين القوى ومن معادلات الصراع في هذا البلد، بل إنه غيّر حتى تموضعات اللاعبين الإقليميين الكبيرين فيه (إيران وتركيا)، إذ لم تعد إيران هي التي تتحكم وحدها بقرارات النظام، أو بمسارات الصراع في سورية، ولا حتى بمآلاته، بينما كيّفت تركيا سياساتها، أو تدخلاتها في الصراع السوري الدائر، بحيث تأتي متوافقة مع السياسة الروسية، ومع رؤيتها لأمنها القومي، باعتبار أن أولويتها منع نشوء كيان كردي مستقل في سورية، قد تمتد تداعياته إلى تركيا ذاتها، ناهيك بحسابات أخرى لها علاقة بتحجيم النفوذ الإيراني على حدودها الجنوبية، سواء في سورية أو في العراق.
وفي المحصلة، فإن فاعلية الطيران الروسي، وقوته التدميرية الهائلة التي شلّت قدرة فصائل المعارضة واستنزفتها بشرياً ومادياً، وكبحت أدوار الأطراف الإقليمية، أنقذتا النظام، الذي كان على حافة الانهيار، وعزّزتا موقفه على الأرض، وجعلتا روسيا بمثابة صاحبة القرار الأول في الشأن السوري أمام العالم، بحيث إنها استطاعت من خلال ذلك فرض ذاتها كلاعب رئيس في المنطقة وكندٍّ للولايات المتحدة، على الأقل وفقاً لما تعتقده.
من كل ما تقدم، يبدو واضحاً أن روسيا بوتين تخوض في سورية معركة على مكانتها في العالم، أو أن هذا هو منظورها الاستراتيجي للانخراط في الصراع السوري، إذ من غير المعقول أن تغامر إلى هذا الحد في بلد صغير بموارده وبحجمه، من أجل الأسد ونظامه أو بدعوى الدفاع عن سيادة البلد والحؤول دون تقسيمه.
على ذلك، فثمة ملفات أخرى تقاتل من أجلها روسيا في سورية، ربما أهمها:
أولاً، محاولتها استعادة مكانتها كدولة عظمى في العالم، أو كندّ للولايات المتحدة الأميركية، وهذا هو هاجس بوتين المهووس بداء العظمة وميله لاستعراض القوة. مثلاً، في خطابه أمام مجلس الدوما في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، رفع بوتين شعار: «بناء روسيا القومية»، وقال: «قوتنا في داخلنا، في شعبنا وتقاليدنا وثقافتنا واقتصادنا، وفي أراضينا الشاسعة وثروتنا الطبيعية وقدرتنا الدفاعية، والأهم في وحدة شعبنا».
ثانياً، عقد مساومة مع النظام الدولي، في مسألة النزاع على أوكرانيا بعد خروجها من النفوذ الروسي، إذ يرى بوتين أن ما حصل هو محاولة أميركية لتحجيم روسيا في فنائها الخلفي، وهو أمر يصعب على شخص مثله هضمه أو تمريره.
ثالثاً، التعبير عن الغضب من تراجع أسعار النفط، والذي حمّل مسؤوليته للولايات المتحدة والقوى الحليفة لها، واعتبر أن هدفها منه هو الضغط على روسيا وإضعافها.
رابعاً، إيجاد الأوراق التي تسمح لروسيا بفرض الضغوط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى التراجع عن العقوبات التي فرضتها على روسيا، بخصوص حظر الصادرات التكنولوجية إليها.
خامساً، اعتبار المعركة ضد جماعات الإرهاب أو ضد القوى الإسلامية المتطرفة في المنطقة جزءاً من الدفاع عن الأمن القومي الروسي، ونوعاً من حرب وقائية للحؤول دون تمدّد هذه الجماعات إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية.
سادساً، الردّ على سعي الولايات المتحدة الى نشر شبكة «الدرع الصاروخي» في دول الجوار الروسي، وبعضها كان ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، وهذا أمر يؤرق القيادة الروسية ويثير مخاوفها.
سابعاً، تحجيم نفوذ تركيا وإيران في سورية، باعتبارها منطقة نفوذ روسيا، ولمنع تمتّع الدولتين الجارتين لها بقوة مضافة في زيادة نفوذهما في الشرق الأوسط إزاءه، لكن ذلك لا يمنع أن يكون هذا النفوذ تحت المظلة الروسية، وهو ما تمت ترجمته في مسار آستانة والتوافق على تقاسم النفوذ في مناطق منخفضة التوتر.
ثامناً، ترويج السلاح، إذ تعدّ روسيا ثاني مصدّر للسلاح في العالم، بعد الولايات المتحدة، حتى أن بوتين ذاته روّج بصفاقة للسلاح الروسي، باعتبار أنه أثبت فاعليته في سورية بالتجربة، أي في ميدان الصراع.
على أية حال نحن اليوم إزاء مرحلة ثالثة من التدخل الروسي، مع تأكيدنا أن الحيثيات السياسية لهذا التدخل لم تتغير، وأن التغير الجاري هو في أدوات التدخل ومستوياته وتداعياته المحلية، وعلى الأطراف الإقليميين الفاعلين. وعلى العموم، فإن روسيا تحاول المزج بين التدخل العسكري والتدخل السياسي، أو بين العمل من الجو والعمل من الأرض، وذلك باستثمار ما نسجته من شبكة علاقات في البيئات الشعبية الموالية للثورة، في المناطق المحاصرة، بإقامة نوع من هيئات محلية، يمكن أن تشكل مع بعض أطراف المعارضة (الموالية)، أو المعارضة للثورة، نوعاً من مؤتمر سوري عام، وذلك لإضافة طابع شعبي على عملها السياسي، وسدّ النقص الذي تعاني منه إزاء الأطراف الآخرين (الولايات المتحدة وإيران وتركيا)، وأيضاً لتهديد أو إضعاف مركز المعارضة ووفدها إلى جنيف. وبديهي أن هذا الوضع يضعنا أمام مسار تفاوضي ثالث، مع مساري جنيف وآستانة، من دون أن ننسى تصريحات الرئيس بوتين بخصوص استمرار الأمر الواقع، بحيث تتحول مناطق خفض التصعيد إلى مناطق نفوذ للقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع السوري مباشرة (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، في حال استعصى على مختلف الأطراف التوافق على حل مرضٍ للجميع.
على ذلك، فإن ما يجرى يستهدف أولاً، تعويم النظام، بغضّ النظر عن بقاء عائلة الأسد من عدم ذلك في سدّة السلطة، أو كيفية ترحيلها. وثانياً، تكريس تعددية الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بتحديد مستقبل سورية. وثالثاً، تحجيم نفوذ وأدوار الطرفين الإقليميين أي إيران وتركيا في سورية. رابعاً، انتهاج طريق للتغيير السياسي تسمح بتلبية حاجات مختلف الأطراف السورية، الإثنية والطائفية والمناطقية والسياسية، على أساس من اللامركزية.
مع ذلك، يفترض لفت الانتباه هنا إلى أن هذا «النجاح» لروسيا، الذي جعلها «مقبولة»، حتى لدى المعارضة، على رغم دورها كشريك للنظام، لم يكن ليحصل لولا: أولاً، وجود نوع من التفاهم أو القبول ولو الضمني من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهذا ما بيّنه التوافق على منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري، وعلى تحجيم نفوذ إيران، وإنهاء «الكوريدور» الإيراني من طهران إلى لبنان. ثانياً، لروسيا مصلحة أكيدة في إيجاد حل سياسي، ناجم عن مخاوفها من التورط أكثر في الصراع السوري وهو ما لا تريده. ثالثاً، إدراكها عدم قدرتها على الإجابة عن السؤال المتعلق باليوم التالي، أي بعد إنهاء الصراع، إذ إنها تدرك حاجتها الى شراكة الدول الكبرى لأنها لا تملك الإمكانات الاقتصادية اللازمة لإعمار البلد، كما لا تملك القدرة على وضع حد للتصدعات الحاصلة في المجتمع السوري نتيجة للصراع المديد والكارثي.
* كاتب فلسطيني
الحياة
شعوب القوقاز و «شعوب» سورية/ رائد جبر
لا توحي التحضيرات الجارية لتنفيذ فكرة الرئيس فلاديمير بوتين بالدعوة إلى مؤتمر «شعوب سورية» بأن المبادرة الروسية تبلورت في شكلها النهائي. إذ لا أجندة واضحة للنقاش. وما زالت لوائح المدعوين تخضع لتعديلات تهدف الى إيجاد توازن بين الرغبة الروسية بحضور أوسع تمثيل ممكن للمكونات القومية والدينية والمناطقية من جهة، والسعي الى تجنّب «فيتو» متوقع من النظام وإيران على شخصيات وقوى من الجهة الأخرى. ولم يهدأ الجدل المحتدم حول الصياغة التي اختيرت لطرح الفكرة، وحول التوقيت والأهداف المرجوة.
عندما سئل ديبلوماسي روسي بارز عن جوهر المبادرة، ولماذا اختيرت عبارة «شعوب سورية» كعنوان للمؤتمر، قال إن ثمة خطأ في تأويل كلام الرئيس. لكن التجربة دلّت إلى أن «زلاّت لسان بوتين» غالباً ما كانت متعمّدة. وفي أكثر من منعطف أطلق عبارات كشفت لاحقاً تطورات محسوبة بدقة.
في هذه المرة، كما في مرات سابقة، استجاب بوتين «توصيات» فريق من الخبراء المقربين، يقع تحت إغراء مقارنة الوضع الحالي في سورية، بالمشهد السياسي والعسكري والمجتمعي في منطقة القوقاز مطلع الألفية الثالثة، عندما كانت الحرب الشيشانية الثانية تقترب من الحسم العسكري، لكن تعقيدات كثيرة تعترض تسوية سياسية وتثبيت سلم مجتمعي مستدام. قاد هذا في عام 2007 إلى إطلاق «مؤتمر شعوب القوقاز» الذي أنيطت به مهمة «تطبيع الوضع وتطوير الحوار بين القوميات والمكوّنات وتوحيد جهود المجتمع المدني والسلطة لإقامة توازن يسفر عن تسوية كل الصراعات عبر الحوار والمفاوضات السلمية». العبارات تكاد تنسحب حرفياً على سورية 2017.
والإشارة إلى «الشعوب السورية» تعكس اقتراب الكرملين من التبنّي النهائي لفكرة الفيديرالية في سورية، التي باتت أوساط الخبراء والديبلوماسيين ترددها كثيراً.
لمَ لا؟ التجربة «أثبتت نجاحاً في حفظ وحدة روسيا ونأت بها عن هاوية التفكّك».
لكن هذا السيناريو ينبغي أن يصدر عن مؤتمر جامع للسوريين، من دون تدخّل خارجي. وفي هذا السياق، تهدف التحذيرات المتكرّرة لبوتين من «خطر التقسيم» إلى توجيه رسائل واضحة، وترسيخ فكرة البديل الأكثر قدرة على تثبيت حل شامل ودائم.
ولكي تتضح قدرة روسيا على إطلاق المؤتمر وتحويله الى آلية ثابتة على رغم التعقيدات التي تعترضه، تسعى موسكو إلى تذليل عدد من العقبات. ووقع الاختيار على حميميم كمنصة للمؤتمر باعتبار القاعدة العسكرية «أراضي روسية» وفق تعبير مسؤول، مع ما يتبع ذلك من التزام موسكو توفير الحماية للحاضرين، وممارسة «ضغط» على الحكومة السورية لضمان قبولها نتائج الجلوس مع طيف واسع من ممثلي مكونات الشعب. وهذا ما لا توفّره الخيارات الأخرى التي كانت مطروحة، وبينها عقد المؤتمر في دمشق، أو في بيروت.
وتجاوز معضلة غياب المعارضة «الخارجية» مرهون بدعوة أوسع مروحة اجتماعية وقومية ودينية، لتكون البديل عن فقدان التمثيل الموحد للمنصات السياسية.
بهذا المعنى والشكل، المطلوب من مؤتمر «الشعوب السورية» تبنّي الخطوة الأولى لإعلان «انتهاء الحرب الأهلية». وبداية شاملة لحوار يقوم على المصالحات بين الطوائف والمكونات، ودرس ملفات الدستور والانتخابات وغيرها من المسائل المعلقة.
ولا يقلل من أهمية الجهد، التحفّظ الذي أبداه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي تردّد أنه رفض فكرة المشاركة في المؤتمر كي لا يمنحه رعاية دولية، يمكن أن تحوّله مساراً بديلاً عن مسار جنيف.
ويضع إعلان موعد الجولة الجديدة من مفاوضات جنيف، قبل «توحيد وفود المعارضة» وفق المطلب الروسي، مزيداً من التحدّيات أمام فكرة «مؤتمر الشعوب». تضاف إلى غياب التنسيق الروسي مع واشنطن التي اختارت هذا التوقيت لتعلن مجدداً أن بشار الأسد وأسرته ليس لهما مكان في مستقبل سورية.
الحياة
‘مؤتمر شعوب سوريا’ لتأمين مصالح روسيا/ سلام السعدي
تعمل روسيا على تنظيم ما تسميه بـ“مؤتمر شعوب سوريا” في الفترة القادمة، والذي سيجري بحضور 1500 شخصية تتوزع على “كل مكوّنات الشعب السوري” كما تقول. لقد فتح ارتباط المؤتمر بمسار أستانة واتفاقيات خفض التصعيد، فضلا عن رغبة موسكو مشاركة بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة رغم رفض الأخيرة الحضور، الباب لتحليلات متفائلة بالدور الروسي في الحل السياسي الجاري للصراع السوري انطلاقاً من ملاحظة تفارق روسي مع كل من النظام السوري وإيران المتمسكين بالحسم العسكري.
يعتقد المتفائلون بأن الدور الروسي سوف ينهي الحرب السورية وسيقود إلى تغيير سياسي ذي معنى قد لا يجعل البلاد واحة ديمقراطية ولكنه يوسع من المشاركة السياسية ويقلص من احتكار السلطة من قبل عائلة الأسد. هنالك من يذهب به التفاؤل إلى حد الاعتقاد بأن روسيا عازمة على الإطاحة بعائلة الأسد خلال الفترة القادمة لأجل عيون الحل السياسي.
لقد ساهم الدور الذي لعبته موسكو بعد معركة حلب بتفشي شيء من التفاؤل بين صفوف المعارضة، وخصوصا عندما تحوّلت للمفاوضات السياسية وللحديث عن “خفض التصعيد” في لحظة بدا أن التصعيد في ظل انهيار المعارضة هو ما يصبّ في مصلحتها، أو تحديدا في مصلحة النظام السوري. فُهم ذلك بأنه عدم رغبة روسية بتحطيم المعارضة المسلحة وإهداء نصر مؤزر للنظام السوري وإيران، وهو ما يعني أن وزنها وأهميتها الاستراتيجية، النابعة في الوقت الحالي من الأزمة الوجودية التي تتهدد النظام السوري، سوف تنحدر إلى مستويات لا تعود فيه قادرة على ضمان مصالحها في المنطقة.
وفي حين يحمل هذا التحليل جانبا من الصحة، ولكن مسار أستانة لم يكن، كما تثبت الوقائع، نابعا من “حرص” موسكو على المعارضة المسلّحة لتشكيل وزن مضاد للنظام وإيران يتيح لها أن تلعب دور ضابط الإيقاعات، بقدر ما كان مدفوعا بالتخلص من مسار جنيف الدولي من جهة، وبفهمها لدورها في سوريا المرتبط بتعزيز موقعها في المنطقة والعالم ولكن دون دفع تكاليف باهظة ودون التورط لسنوات في حرب مفتوحة من جهة أخرى.
يعتبر كثيرون أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو الأقل تكلفة في العالم، إذ تتخبط المقاومة الفلسطينية بصورة مزرية جنّبت إسرائيل دفع تكاليف الاحتلال. يمكن أن نقول نفس الشيء عن التواجد الروسي في سوريا، وهو بصورة ما احتلال كونه يأتي بالضد من إرادة غالبية السوريين، بل يأتي تحديدا لتحطيم تلك الإرادة.
في أكثر من مناسبة أكدت وزارة الدفاع الروسية أن النفقات المادية لعملياتها العسكرية في سوريا لا تتعدى النفقات المخصصة لتدريب قواتها، في حين بلغت تكلفة الجندي الأميركي الواحد في أفغانستان بعد إسقاط طالبان مليون دولار سنويا، هذا فضلا عن التكاليف الأخرى الهائلة.
كما لا تتكبد روسيا خسائر كبيرة على مستوى قواتها بسبب تجنّب المهمات القتالية والاعتماد على الجيش السوري وإيران والميليشيات الشيعية. يريد فلاديمير بوتين إبقاء معادلة ترفع من وزن روسيا عالميا وإقليميا، وتبقي تكاليف ذلك منخفضة للغاية، وخصوصا في ظل أزمة الاقتصاد الروسي والعقوبات الأوروبية- الأميركية.
تستطيع روسيا إذن خوض حرب مفتوحة مع ما تبقّى من فصائل المعارضة السورية، وهو الطريق الأنجع في حال قدّر له النجاح لكسب الحرب وضمان مصالحها بصورة كاملة في المنطقة. ولكنها لا تريد التورط في حرب طويلة ومكلفة وغير مضمونة النتائج. ولموسكو في تجربة واشنطن في أفغانستان خير مثال إذ تتخبط أميركا منذ قرن ونصف ولا تستطيع سحب قواتها خشية انهيار الحكومة المحلية.
تشن حركة طالبان التي أقصيت عن السلطة بسهولة نسبيا عدة هجمات شهريا ضد قوات الحكومة الأفغانية وتوقع عشرات القتلى والجرحى ولا يبدو استئصالها ممكنا على الإطلاق. لقد ثبت تماما أن اختصار المشهد بالإرهاب والحرب عليه هي سياسة حمقاء لا تقود إلا إلى تورط عسكري واقتصادي لعقود قادمة.
إن الصراع هناك هو أيضاً تمرد داخلي يستند إلى قاعدة شعبية تستمد بدورها قوتها من دولة أفغانية فاسدة لا تحظى بأي شرعية ولا تقدم أي نوع من الخدمات للسكان بل لا تستطيع أن تموّل الدفاع عن نفسها حيث أن ميزانية الجيش وقوات الأمن الأفغانية هي أكثر بمرتين من عائدات الحكومة الأفغانية. إن جزءا كبيرا من أسباب استمرار حركة طالبان في أفغانستان متوفرة في سوريا وقد تحوّلها إلى فخ لروسيا.
هذا ما دفع موسكو لفتح مسار أستانة سابقا و“مؤتمر شعوب سوريا” حاليا، إذ تحاول تخفيف حدة العمليات العسكرية والتكاليف الاقتصادية والسياسية المرتبطة بها، ولكن من دون أن يعني ذلك أنها تحمل رؤية سياسية تنهي الصراع وتقوم بإصلاح النظام السوري ناهيك عن تغييره.
إلى حين أن تسمح ظروف أفضل باستئناف العمليات العسكرية للقضاء على كل فصيل معارض يقف في وجه تحقق المشروع الروسي في المنطقة والعالم، سوف تحاول موسكو تقليص حدة الاستنزاف والتكاليف المترتبة على نشاطها في سوريا. إن انتصار نظام الأسد وإيران بصورة كاملة لا يهدد مصالح موسكو، التي لا تتعلق بسيطرة تامة وغير خاضعة للمساءلة على سوريا، بقدر ما ترتبط بصراعها على نفوذ عالمي وبضمان مصالحها الجيوسياسية في البلاد ويشمل ذلك القواعد العسكرية على البحر المتوسط.
هكذا، لا يجب التفاؤل بالدور الروسي في سوريا أكثر مما ينبغي. لو كان ممكنا، تفضّل روسيا انتصار النظام السوري وهزيمة المعارضة على بروز نظام جديد يحمل فيروس المشاركة السياسية الديمقراطية، ما يجعله هشاً وعرضة للقلاقل الشعبية التي عرفتها جيدا في كل من أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزيا من قبل.
كاتب فلسطيني سوري
العرب
أي ضمانة لبقاء سورية موحدة؟/ ماجد الشيخ
تختلف طبيعة التسوية التي تريدها، وتعمل من أجلها موسكو، بالتنسيق مع النظام في سورية ومع طهران ومليشياتها الطائفية، عن التي تعمل من أجلها واشنطن مع حلفائها من المعارضة السياسية والأكراد وقوى في الإقليم تنسق معها، من بينها إسرائيل، فقبل أيام، حملت وزارة الدفاع الروسية بقوة على الولايات المتحدة، واتهمتها بـ “عرقلة التسوية السياسية في سورية”، وقالت إنها “تمتلك معلومات عن مساعدات أميركية للإرهابيين”. في حين شدّد وزير الخارجية، سيرغي لافروف، على “الحاجة لإطلاق عملية سياسية في أقرب وقت”، وتعهد منع “تسييس ملف الكيميائي السوري”، بالتزامن مع تحذير نظيره السوري، وليد المعلم، الأكراد من أن “المساعدات الأميركية لن تستمر طويلاً”. واتهم بيان أصدرته الوزارة واشنطن بأنها باتت تعرقل وقوع تقدّم في عملية التسوية السياسية في سورية، من خلال الدعم الذي تمنحه للإرهابيين، ومحاولات عرقلة عمل القوات الحكومية السورية والقوات الروسية ضد معاقلهم.
وقد أضفى الاستفتاء الكردي العراقي بنتائجه، وتاليا بما قد يقود إليه من تداعياتٍ، إلى مزيد من التعقيدات التي تكتنف المشهد الإقليمي برمته، بدءا من العراق وصولا إلى سورية، حتى ليمكن القول إنه لا أحد من القوى المتصارعة اليوم في سورية، بدءا من النظام وحماته وداعميه الروس والإيرانيين ومليشياتهم المذهبية، ولا حتى التحالف الدولي الأميركي – الأوروبي، ولا العديد من قوى المعارضة على اختلافها، في وسعه الادّعاء أو الزعم أنه قادر على الدفع بالتسوية والسلم الأهلي، وإعادة بناء ما هدمته جولات الحروب الأهلية التي خيضت هناك، طوال السنوات السبع المدمرة، فالسبع العجاف المقبلة لن يكون في مستطاعها، أيضا، إنقاذ سورية من نفسها، ومن مطامع بعضهم بها، ومن مطامح أخرى لقوى كانت تتمنى أن تكون شريكة السلطة في التسلط الاستبدادي، وفي التموقع استراتيجيا على الصعيد الأمني أولا،
“لا يبدو الوضع السوري أقرب إلى التسوية الناجزة بعد، في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي” لضمان حماية الأمن الإسرائيلي، وهو ما تقوم به روسيا في مواجهة إيران وتحالفها المليشياوي المذهبي، فيما يقوم هؤلاء الأخيرون، وعبر تموقعهم الاستراتيجي الهادف لحماية النظام أولا، ولخدمة مشروع الولاية الإمبراطورية التي يُراد لها التواصل بين طهران وبيروت مرورا ببغداد ودمشق، ولإقامة نفوذ إقليمي لها، تصلب من واقع نظامها في الداخل الإيراني، وتشكل له مظلة من الحماية والردع في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي، في منطقة الثروات النفطية واحتياطات الغاز وأسواق التجارة في مواد الاستهلاك، وأخيرا في سوق إعادة الإعمار، بعد أن تتوقف الحرب.
هناك من يتوقع أن الأزمة السورية تشهد فصولها الأخيرة، مع عدم القدرة على الحسم الكامل، في ظل مساع دولية متعدّدة لإبقاء النظام على حاله، أو لتغييرات طفيفة في بنيته السلطوية، نظرا إلى دوره الأمني الاستراتيجي، في منطقة يتمتع الوجود الوظيفي الإسرائيلي فيها بحماية ودعم من يريدون للنظام السوري الاستمرار بالمهام الوظيفية نفسها التي تتمتع بها عادة الأنظمة التابعة.
وفي مرحلة تقاسم المغانم التي باتت سمة الوضع الراهن، وفي ظل فشل قوى المعارضة على اختلافها، وخسارة التنظيمات الإرهابية معظم “حيازاتها” السابقة من الأراضي، لا يتوقع استمرار التلويح بتسويةٍ هنا أو هنالك، لا سيما وأن التسليم ببقاء الأسد في السلطة بات شبه محسوم لدى كل أطراف الأزمة، حتى أن التسوية الممكنة سوف تمضي على قاعدة بقائه حاكما لسورية/ الجزر الديموغرافية التي غيرت وجهها لمصلحة المشروع المذهبي الإيراني من جهة، ولمصلحة النفوذ الروسي الدولي الذي نجح، من خلال الأزمة السورية، في استعادة بعض هيبة الاتحاد السوفييتي السابق.
على الرغم من ذلك، لا يتوقع أن تستقر أوضاع سورية بعودتها إلى نصف أو ربع ما كانته قبل بداية الأزمة، فالصراع الأهلي والإقليمي والدولي على مغانم حرب متقلبة ومتغيرة، لن يقدر لها أن تتوقف مرة واحدة ونهائيا، قبل أن تحقق الأطراف الإقليمية والدولية ما تعتقد أنه “حقها” المكتسب، وفق أدوارها ومصالحها الزبائنية، مستحقات لها بعد القيام بأدوارها المعروفة، والمشهود لها في الإبقاء على نظامٍ لا يساهم في ضمان استمرار مصالحها في سورية فقط، بل وفي المنطقة ككل أيضا، سواء تعلق الأمر بالنظام الإيراني أو بروسيا أو بالتحالف الدولي، أو حتى بإسرائيل.
وإذا كانت أهداف موسكو، بعد عامين من تدخلها في سورية، قد تحققت في معظمها، إلا أن جهودها لتتويج ذلك كله بتسوية ناجحة ودائمة، ما قد يقدم لها الحصة الأكبر من مغنم إعادة الإعمار الذي قد يتجاوز مائتي مليار دولار على أقل تقدير؛ يبقى ذلك الهدف الأثمن لموسكو، إلى جانب نجاحها الجزئي في الحد من نفوذ الغرب الأميركي والأوروبي في المنطقة، بل هي تسعى إلى إعادة الاستقرار، ليس هنا فقط، بل وفي دول الجوار حول روسيا في البلطيق وجورجيا وأوكرانيا، وقطع دابر العناصر الإرهابية والمتطرّفة في كلتا المنطقتين، قبل أن يعود بعضهم ليتسرّب، مرة أخرى، إلى مناطق يمكنه منها شن هجمات إرهابية ضد أهدافٍ في الداخل الروسي، حيث كانت مصادر صحفية قد أشارت إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف إرهابي روسي يقاتلون مع “داعش” في سورية، ومن المفيد لموسكو التخلص منهم حيث هم.
في كل الأحوال، لا يبدو الوضع السوري أقرب إلى التسوية الناجزة بعد، في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي بعد الاستفتاء الكردي، وما قد يجرّه من تداعيات استمرار الصراع وتداخلاته في كل من سورية والعراق، واتجاه الفاعلين الإقليميين والدوليين للانخراط في أشكال
“هل من ضمان وضامنين لبقاء سورية موحدة، وبالتالي ديمقراطية وتعدّدية، أم أن “الكأس العراقية” باتت أقرب إلى تجرّع ما فيها في سورية أيضا؟” عديدة لتلك التداعيات، وما قد تجرّه من تعقيدات إضافية ضافية، في منطقةٍ لا يتوقع لها أن تستريح حتى وقت سيطول، على الرغم من الجهود الروسية الكبرى لوقف انفلات الوضع الإقليمي من السيطرة، وما قد يجرّه ذلك من تأثيراتٍ لا حدود لها على الوضع الدولي، وبضمنه العلاقات المتوترة، ولكن شبه المستقرة والمستمرة بين أكبر أطرافها: موسكو وواشنطن كفاعلين رئيسيين يهمهما استمرار إمساكهما بقواعد اللعبة المعقدة، بأكثر مما كانه الوضع الدولي أيام الحرب الباردة؛ وإلا فإن انفلات الوضع الدولي سوف يقود إلى كوارث، من الصعب إعادة التحكم به، وفق معايير عالم اليوم وعلاقات القوة وموازين القوى فيه.
هل من ضمان وضامنين لبقاء سورية موحدة، وبالتالي ديمقراطية وتعدّدية، أم أن “الكأس العراقية” باتت أقرب إلى تجرّع ما فيها في سورية أيضا؟ على الرغم مما يقال إنه من الممكن أن تصبح سورية دولة فيدرالية، “إذا كان هذا النموذج سيخدم الحفاظ على وحدة البلاد”، وفق ما كان أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف. ولكن هناك فرق جوهري بين أن تستمر سورية “أسدية”، كما كانت طوال عهود الاستبداد، أو أن تتحول مع الفيدرالية إلى دولة اتحادية ديمقراطية، تصون حقوق مواطنيها كافة باعتبارها دولة لكل مواطنيها، بدون تمييز أو تفرقة بين كل مكونات الوطن والدولة السورية، وهذا يفترض التوصل إلى تسوية عادلة، تنفي فرضيات استمرار الاستبداد وتقاسم المصالح وتوزيع المغانم حصصا وإقطاعيات ومقاطعات ديموغرافية، تعمل السكاكين والسواطير في الجسد السوري، تحت مرأى النظام وبمساعدته، مقابل إبقائه حاكما ومتحكما وسيدا سلطويا يفرّق ولا يجمع، كما تفعل التنظيمات الإرهابية في استيلادها وتفريخها أحاديات ومجاميع ذئبية، تنظمها عقود ومبايعات إجرام “فقه التوحش” وانعدام الأنسنة في مسلكياتها العدمية.
العربي الجديد