عن “التناقضات الداخلية” و “المؤامرات الخارجية” في المحنة السورية/ ثائر ديب
من بين الطرائق المتّبعة في فهم الحدث السوري الرهيب، ثمّة طريقتان شائعتان، يمكن أن ندعو أولاهما بالطريقة «الخارجية» وثانيتهما بالطريقة «الداخلية»: تهتمّ «الطريقة الخارجية» بصورة أساسية بالجغرافيا السياسية والاستراتيجيا: توضّع سوريا ضمن علاقات وصراعات القوة والمصالح الإقليمية والدولية، ذلك التوضّع النابع من موقعها الجغرافي والسياسي وثرواتها وتحالفاتها وما يمكن أن يلحق بكلّ قوة إقليمية ودولية في حال خسارتها… أمّا «الطريقة الداخلية»، فتهتمّ بصورة أساسية بالتناقضات السورية الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تاريخها وبنيتها وأشكال تفجّرها ومآلات هذا التفجّر.
قد تتآلف الطريقتان بدرجات مختلفة من التآلف على طول طيف، تقف الأولى نقيّةً في طرفه الأول، بينما تقف الثانية نقيّةً في طرفه الآخر، ليبقى المهمّ في مثل هذه الحالات تبيّن المقدار الذي تشكّل واحدتُهما الأساسَ الذي تقوم عليه الأخرى. وقد تتنافران على أنحاء تغيب فيها درجات ذلك الطيف، ويعمد فيها أصحاب الواحدة منهما إلى تخوين أصحاب الأخرى وتجريمهم. وكنّا قد شهدنا جميعاً في السنوات الأخيرة، على وسائل الإعلام اليومية خصوصاً، حالاتٍ وأمثلةً فاقعةً بلغ فيها هذا التنافر حدوداً كاريكاتورية ساذجة وغريبة وعمياء: من «أبواق» الأنظمة المضحكين وجمهورهم الشبيه بجمهور «البصّارات» و «قارئات الأبراج»، حيث الإمعان في «كشف» خطط التآمر الدولي والإقليمي على أنظمتهم الحبيبة «البريئة» برغم بعض «الأخطاء»، إلى «أبواق» الثورات التي لم تعد تجد خطيئة سوى عند الأنظمة وحلفائها، لا إسرائيل ولا بقية القوى الكبرى، ولم يعد لديها مشكلة مع القوى المناهضة للنظام، أكانت «القاعدة» أم إسرائيل، ولا مع الوجهة التي يسير صوبها ذلك كلّه، أكانت الخراب العميم أم أنهاراً من الدم. وفي الحالتين، بتنا أمام خبراء وكتبة لا يقدمون خبرةً ولا كتابة تحليلية بقدر ما يقدمون «تركيبات» جاهزة ترضي جمهوراً قطيعياً وساذجاً من حيث مداركه العقلية ومتطلباته الذهنية وتقييداته الأخلاقية.
غير أنّه وبرغم أهمية وضرورة ما لهاتين الطريقتين في الفهم عموماً، وفي فهم الحدث السوري على نحو خاصّ، فإنهما تبقيان من ضمن الطرائق القاصرة حتى في الأشكال التي تعمل على المجاورة والجمع بينهما. ومصدر هذا القصور هو تجاهل لا بنية العولمة الحالية فحسب، بل تاريخ تشكّل العالم الحديث وتطوره وصولاً إليها، بما يعنيه ذلك من تجاهلِ تصورٍ آخر للجغرافيا السياسية والتناقضات الداخلية أخذ يتطور نظرياً ويتكرّس مع نهوض أبناء ما دُعي بـ «العالم الثالث» أو «الجنوب» طلباً لاستقلال بلدانهم وتنميتها، تلك البلدان التي أحدث فيها الاستعمار تحوّلاً جوهرياً عميقاً، لم يَعُدْ يمكن فَهْم تاريخها الحديث من دون فهمه وفهم آثاره، بما في ذلك تاريخها بعد الاستقلال وتفاعلها كدول مستقلة مع بقية العالم.
في هذا التصور الأخير لعالمنا، لا يعود لـ «الداخل» و «الخارج» المعاني ذاتها التي كانت لهما من قبل في العوالم القديمة، أو التي لا تزال لهما عند التصورين اللذين سبق أن أشرنا إليهما. ذلك أنَّ «الخارج» بات جزءاً بنيوياً من «الداخل» على المستويات جميعاً منذ أن أعاد صوغ هذه البلدان وفقاً لمقتضياته. ويكفي لفهم ذلك أن نشير إلى مثالين؛ أولهما هو أنَّ البنية الاقتصادية لأيّ بلد عربي لا يمكن أن تُفهَم إذا أُخِذت معزولة عن قوى السوق الدولية، لا بمعنى الارتباط والاعتماد المتبادل، بل بمعنى التبعيّة البنيوية وإعادة الصَّوغ الجوهرية التي تشتدّ في عصر العولمة الحالية وتأخذ أشكالاً مرعبةً. وثانيهما، أنَّ مصالحات الأنظمة العربية مع إسرائيل لم تكن قرارات زعماء فردية بقدر ما كانت خيارات طبقات وفئات اجتماعية سائدة، لم يعد لها مصلحة في العداء لإسرائيل ومن يقفون وراءها، وباتت اليوم تجرّ خلفها قطاعات من الشعوب ذاتها بعد أن كفّرها بالوطن والوطنية تغوّل الأنظمة وقتلها.
بخلاف التصورات «الوطنجية» البائتة والفارغة التي تكتفي بهجاء «الغرب» ومؤامراته، يجد التصوّر الذي نحن بصدده موضعاً للاتّهام داخلياً، مكمنه الأول والأساس الأنظمة المحلية وسياساتها المستبدة والفاسدة. وبخلاف التصورات التي تمزج بين «الثورجية» و «التعولم الليبرالي الفارغ» وتكتفي بهجاء الأنظمة المحلية الأقلّ تبعيةً وتخلّفاً، أو التي توجد في ماضي بلدانها محاولات للتنمية المستقلة مهما يكن قصورها وفشلها (وهنا توجد اتجاهات جديدة نسبياً في الفكر والسياسة العربيين وتحتاج شيئاً من التتبّع والتمحيص)، فإنَّ تصورنا السابق يخشى بنيةً عالميةً جاهزةً لأن تصطاد في شبكتها الواسعة والقديرة كلّ محاولة للخروج الحقيقي عن منطقها، وتشكّل إطاراً لـ «ثورة مضادة» عالمية تحاول أن تأخذ كلّ محاولة للتغيير الحقّ في بلد من بلدان الجنوب باتجاهات مرعبة لا تورث سوى الندم والخذلان.
بهذا المعنى، مرّة أخرى، لم يعد من الممكن فهم بلد بمفرده خارج إطار دولي وإقليمي بات له تاريخه وبنيته التي يمتزج فيها الداخل والخارج، على نحوٍ يدفع مقاومة هذه البنية بالضرورة إلى أن تكون تلك المقاومة التي تأخذ في الحسبان كلاً من الداخل والخارج: تناهضُ الأنظمةَ من دون أن تقع في شِباك من لا يسمحون بتغيير هذه الأنظمة إلا بأسوأ منها. وبهذا المعنى يغدو التغيير الديموقراطي وجهاً آخر من أوجه المسألة الوطنية كما يغدو وجهاً آخر من أوجه مسألة العدل الاجتماعي، ويغدو كلّ فصل بين هذه الأوجه كاشفاً لمآل فاسد لا يلبث أن يتبدّى ويظهر.
لم تكتفِ هذه البنية الدولية – المحلية، على مستوى ثورات ما دُعيَ بـ «الربيع العربي»، بتشكيل إطار عام ممانع ومشوِّه فحسب، بل «تنادت» إلى العمل المباشر منذ ثورة ليبيا (تمويلاً وتسليحاً وتخطيطاً وسوى ذلك). ولعلّها كانت قد أُخِذت على حين غرّة نسبياً في كلٍّ من تونس ومصر، لكنها ما لبثت أن أمسكت بزمام المبادرة في كلّ مكان. وتمثّلت استراتيجيتها، سواء كانت واعية أم غير واعية، بتحويل الثورات من ثورات وطنية ديموقراطية، أبطالها الشعوب الحديثة والشباب العصريون الطامحون إلى مزيد من العدل والفرص والكرامة والتنمية، إلى «ثوراتِ» هوياتٍ دينية وطائفية وأقوامية وسواها، أبطالها التكفيريون ومن خلفهم وأمامهم وعلى أجنابهم ما يُدْعى بالإسلام «المعتدل»، بعدما أعادت صوغه عقودٌ من العيش الفاسد على أقوات البترودولار.
أمّا على المستوى السوري، فكان الجديد نسبياً ما يمكن أن ندعوه «يسار النصرة أو القاعدة»، وهم عبارة عن جوقة من «اليساريين» السابقين و «الليبراليين» المستجدين تنطحوا لركوب انتفاضة السوريين وحولّهم «أصدقاء الشعب السوري» بالتمويل وسواه إلى ما يشبه الخونة والعملاء، من دون أن يحققوا لهم شيئاً من مبتغياتهم يتجاوز ما هو شخصي، وراحوا الآن يهجون أميركا ويتغنون ببطولات «النصرة». وتعبّر كلمة «إتلاف» التي ندّت عن وزير الخارجية القطري السابق في تسميته «ائتلاف الثورة والمعارضة» الذي يزعم تمثيل الشعب السوري وثورته، تعبيراً مجازياً مناسباً تماماً عن استراتيجية البنية الدولية – المحلية الآنفة الذكر، التي تأخذ مجراها إلى التنفيذ بأيدي «داعش» و «النصرة» وأشباههما مع بضع إيقاعات باقية من «الإتلاف» وأشباهه. ولا يعني هذا أننا أمام مجرد مؤامرة وأدواتٍ طيّعة تستخدمها هذه البنية الدولية – المحليّة، بل يعني أن من غير الممكن فهم هذه الأخيرة إلا على أساس التداخل الجوهري الكامل بين عفن الاستبداد والفساد المحليين، سواء كان في السلطة أم في المعارضة، وقسوة الإطار البنيوي الطارد والخانق الذي تفرضه البنية الدولية التي يتسيّد فيها ضواري هذا العالم أشدّ التسيّد وتبلغ الضراوة فيها حدّ امتلاك بضع أشخاص ما تملكه قارّة بأكملها.
يعني «الإتلاف» في المعاجم العربية الإهلاك والإفساد والإعطاب والإفناء والتبديد من دون فائدة. وهذا ما وفّرَ لما دُعي بـ «ائتلاف قوى الثورة والمعارضة» وسلفه «المجلس الوطني» التمهيدَ الضروري له بإضفاء الطابع الليبي على الثورة السورية: طلب السلاح والتدخّل الخارجي وشقّ الجيش والعَلَم… ومع أوّل رصاصة مُخطَّط لها، ومع أوّل صرخة طائفية مدروسة كانت تلك البنية الدولية ـ المحلية قد بدأت عملها المباشر، محوّلةً بدايات ثورة سلميّة مؤمِّلة إلى ثورة مضادة لم تلبث أن أدخلت سوريا في مجاهل الخراب الدموي.
هكذا شكّل «الإتلاف»، بوصفه مجازاً كما بوصفه كياناً مادياً موجوداً على الأرض، صلة الوصل المعبّرة عن تلاحم «الداخل» و «الخارج» في دورة الخراب السورية المقيمة. وليس أدلّ على ذلك من الحضور اللافت فيه لمسؤولي النظام الذين انشقّوا عنه للتوّ. وبخلاف الرطانة «الوطنجية» (وليس الوطنية)، فإنّ الاستبداد والفساد هو في القلب من «داخل – خارج» الخراب هذا، وبخلاف الرطانة «الثورجية»، فإنَّ «الإتلاف» وجيوشه، شأنه شأن «داعش» و «النصرة» وأشباههما، هو في القلب من هذا «الداخل ـ الخارج» المخرِّب ذاته. ولم يَعُد أمر هؤلاء جميعاً مقتصراً على كونهم «ثورة مضادة»، ذلك أنَّ هذه الأخيرة يبقى فيها من رائحة الثورة شيء، بينما نحن إزاء خراب ودمار قد لا يبقيان على شيء. وإذا ما كانت هذه قوى الخراب، فإنّ من المنطقي والواجب أن نتبيّن قوى الثورة والتغيير التي لا بدّ أنها تحتاج تحديداً مختلفاً بناءً على التصور الجديد الآنف.
السفير