صفحات العالم

عن الثورة السورية وعن نقد نقدها


ماجد كيالي

لم تتعرّض أي من ثورات الربيع العربي إلى هذا الحجم، وهذه القسوة، من النقد الذي تعرّضت له الثورة السورية، منذ بدايتها، في مشروعيتها، وشعاراتها، وكياناتها، وعلاقاتها، وتحالفاتها الخارجية، وأشكال عملها.

بديهي أن الثورة هي حالة نقدية بحدّ ذاتها، إزاء الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحاول تغييره، أو إصلاحه. وبديهي أن الثورة، بوصفها كذلك، وبوصفها ظاهرة سياسية، من صنع البشر، تستدعي النقد وتتطلّبه، لترشيد أوضاعها وتصحيح مساراتها.

المشكلة أن النقد الموجّه إلى الثورة السورية لم يكن على هذا النحو دائماً، فمنذ البداية، أي منذ أيامها الأولى، ظهر نوع من النقد الذي ينزع عن هذه الثورة مشروعيتها، وضرورتها، ونبل مقاصدها. بل إن بعض هذا النقد ذهب بعيدا في أخذه على هذه الثورة قيامها ضد ما تعتبره نظام الممانعة والمقاومة، باعتبار قيامها نوعاً من مؤامرة خارجية، أو نوعاً من استجابة لمخططات صهيونية وإمبريالية، من دون السؤال عن معنى الممانعة والمقاومة في التمثلات العملية، وفي واقع يجري فيه تهميش المجتمع، وتصادر فيه حريات أفراده وتمتهن كراماتهم.

وفي الواقع فإن أصحاب وجهة النظر هذه يفصحون جهاراً عن اعتبارهم الثورة بمثابة مؤامرة خارجية، والشعب الذي يبذل كل هذه التضحيات مجرّد عصابات مارقة، مضللة أو مدفوعة من الخارج، لذا فهم لا يتهربون من إعلان تحالفهم مع النظام القائم.

هذا النوع من “النقد” لايهمنا وإنما يهمّنا النوع الأول، الذي يتلاعب على القضايا والأفكار، وينطلق من مقدمات صحيحة ليبني عليها استنتاجات خاطئة أو مضللة. ومثلا، فإن هؤلاء يعلنون رفضهم للنظام وتأييدهم للتغيير، لكنهم يضعون تحفظاتهم على الثورة، أو على بعض مساراتها وشعاراتها ومكوناتها، أو قد يأخذون عليها حتى عدم وضوحها إزاء المستقبل!

ولعل الشاعر أدونيس هو خير ممثّل لهذا النوع من النقد، فهو كما أفصح في عديد من كتاباته وتصريحاته (أخرها مقابلته على فضائية دبيّ مع زينة اليازجي)، عن معاداته للنظام السوري، وانتصاره لعملية التغيير، لكنه وضع تحفظات عديدة على هذه العملية.

طبعا ثمة شيء من الصحة في مايقوله أدونيس، وضمن ذلك اعتباره أن الغرض من الثورة ليس مجرّد إسقاط نظام، وإنما إحداث تغييرات في البنى الاجتماعية والمفاهيم الثقافية. ويأتي ضمن ذلك مشروعية سؤاله عن غياب المضمون العلماني للثورة، وتحول بعض فعالياتها إلى العسكرة، وغياب اليقين بشأن مستقبل الدولة السورية ما بعد الثورة.

للوهلة الأولى لاشكّ أن الثورة السورية تحتمل هذه الانتقادات، وأزيد منها أيضاً، لكن مشكلة أدونيس في انتقاداته، أنه يتجاهل حقيقة أساسية مفادها أن نظم الاستبداد هي المسؤولة تاريخياً عن الاستعصاء المزمن في التطور السياسي والاجتماعي والثقافي في بلدانها، وأن كسر هذا الاستعصاء هو شرط لازم لانفتاح هذا التطوّر. وفي هذا الإطار فإن المسؤولية عن ولوج طريق الثورة لكسر هذا الاستعصاء، بدلاً من ولوج طريق المطالبات الشعبية، والإصلاحات المتدرّجة، إنما هو النظام نفسه، الذي يهيمن على البلاد والعباد، والذي يحتكر المجال السياسي، ويغلق الخيارات الأخرى، ما يجعل التغيير بالثورة، طريقا إجبارياً.

أما بالنسبة إلى مضامين الثورة فإن النقد الأدونيسي يتجاهل بديهية بسيطة تفيد بأن الثورات تتشبّه بمجتمعاتها، وتأتي بحسب مستوى التطور السياسي والاجتماعي والثقافي لمكوناتها الاجتماعية، هذا أولاً. ثانياً، أن المسؤول عن تدنّي مستوى المفاهيم والخطابات السياسية، عند مجتمع معيّن، إنما هو النظام السياسي الذي يهيمن على العملية التعليمية من المدارس إلى الجامعات، ومن “الطلائع” و”الشبيبة” إلى “إتحادات الطلبة”، إلى جانب سيطرته على وسائل الإعلام ومراكز الثقافة. ثالثاً، إن الحديث يجري عن المجتمع السوري، الذي عانى الحرمان من السياسة ومن الحراكات السياسية، وليس عن الشعب السويسري أو السويدي. والمعنى من ذلك أن من يريد ثورة سويسرية أو سويدية في سورية فلن يجدها، ومن غير المعقول توقّع تغيير الشعب السوري، بمعايير سويسرية أو سويدية، حتى تصبح الثورة مقبولة ومشروعة في عرف أصحاب هذا النوع من النقد.

ثمة في هذا النقد الأدونيسي، عدا عن الذاتية، والتعسّف، نوع من نظرة استكبارية، أيضاً، فهو في الواقع يستكثر على الغلابى والأميّين والمظلومين والمحرومين الثورة على ظالميهم، بسبب عدم تفقّههم بمصطلحات العلمانية والليبرالية والحداثة، لكأن الطلب على الحرية والكرامة والعدالة حكر على طبقة معينة من الناس، دون غيرهم!

في غضون ذلك فإن النقد الأدونيسي، يأخذ على الثورة سلبياتها وانحرافاتها، أكثر مما يأخذ على النظام إمعانه في القتل والتدمير واستباحته البلاد والعباد، كما أنه يحاول الطعن في مشروعية الثورة، في ما يبدو بمثابة محاولة لترجيح شرعية السلطة، متناسياً كل شيء.

ولعله يمكن ملاحظة أن الثورة السورية المدهشة تعمل في ظروف جد صعبة ومعقّدة، وهي لاتكاد تجد ظهيراً، أو سنداً، حقيقياً لها، لا على الصعيد الإقليمي ولا على الصعيد الدولي، رغم كل الادعاءات والافتراءات المتعلقة بذلك. فوق ذلك فإن فاتورة هذه الثورة هي الأبهظ، بين الثورات العربية، في كل المجالات، في عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، والمفقودين، وفي عدد البيوت التي هدمت، والممتلكات التي خرّبت، وفي حجم التدهور الاقتصادي، وفي ما تكشفت عنه من مآسٍ اجتماعية.

وضمن مفارقات الموقف النقدي من الثورة السورية أن بعض المحسوبين على اليسار يريدونها يسارية خالصة من دون أن “ييسّروا” وضعها، وبعض العلمانيين يريدونها علمانية صرف من دون أن “يعلمنوها” أو يعملون فيها، وبعض الليبراليين يريدونها مطابقة لهم مع تنكّرهم لشرعية مطالبها بالحرية، وبعض القوميين يريدونها مشغولة بالقضايا القومية بينما يأخذون على أغلبية الناس محاولتهم كسر قيودهم، وبعض “الفلسطينيين” يريدونها فلسطينية في حين أنهم لايشتغلون هم من اجل فلسطين، وأن البعض في كثير من الأطياف والمكونات الأخرى يريدونها، على مثالهم، من دون أي مساهمة فيها!

لايعني ذلك أن الثورة السورية معصومة عن الخطأ، أو أنها مستثناة من النقد، بل على عكس ذلك، فثمة أخطاء جمة فيها، وهي بحاجة إلى المزيد والمزيد من النقد، لترشيدها وتصحيح أوضاعها، وللارتقاء بخطاباتها وعلاقاتها وأشكال عملها، لكن انطلاقاً من تأكيد مشروعيتها وانتصاراً لعدالة مقاصدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى