عن الثورة والصراعات الأخرى في سوريا: ماجد كيالي
ماجد كيالي
بعد مرور 27 شهراً على اندلاع الثورة السورية، لم تعد المعادلة الصراعية قائمة على شعب في مواجهة النظام، ومن معه، أو بين قوى شعبية تتوخّى الحرية والكرامة والديموقراطية، وبين نظام سياسي قائم على الاستبداد والإفساد، فثمة عوارض أخرى.
ولعل أهم ما ينبغي ملاحظته في ما يجري اليوم في سوريا، أن الصراع الدائر في هذا البلد بات ينطوي على أحداث ومداخلات وتعقيدات كثيرة، وخطيرة. فالثورة لم تعد هي ذاتها، في حين أن النظام مازال هو ذاته، رغم التآكل في بعض أطرافه. أما بالنسبة للقوى المعنيّة بالتغيير فتبدو حائرة في ما تفعله، وقد اختلطت عليها الأشياء. والأنكى أنها تبدو فاقدة للسيطرة. وفوق كل ذلك، فإن المجتمع السوري بات في معضلة كبيرة، وفي حالة من الإرهاق والاستنزاف، مع مئات ألوف الجرحى والمعتقلين والملاحقين، وملايين المشردين والنازحين واللاجئين، الذين فقدوا ممتلكاتهم وبيوتهم وأماكن عملهم.
هكذا تبدو الثورة السورية في غاية الصعوبة والتعقيد والخطورة، ومصدر ذلك كما لاحظنا، لا يتوقّف، فقط، على استشراس النظام في الدفاع عن سلطته، بالطائرات والدبابات والمدفعية، ولا في عدد الشهداء غير المسبوق، ولا في المدى الزمني الطويل. فعلى أهمية كل ذلك ثمة، أيضاً، واقع من وجود عدة “طبقات” من الصراعات، المتداخلة والمتشابكة، الأمر الذي يصعّب تعيين حدودها أو تمييزها.
مثلاً، فعدا عن طبقة الثورة، ثمة الجماعات المسلحة التي لا تتوخّى من إسقاط النظام الاستجابة لمطالب الشعب، المتعلقة بالحرية والمساواة والكرامة وإقامة الدولة الديموقراطية الدستورية، أو دولة المواطنين، فهذه الجهات، تصرّح بأنها تعمل من أجل مشروع آخر، يتجاوز سوريا، ويتأسّس على إقامة دولة الخلافة، أو الدولة الإسلامية، بغضّ النظر عن أية اعتبارات أخرى؛ وهؤلاء يرون في الديموقراطية، وغيرها، مجرّد هرطقة ينبغي صدّها أو التخلّص منها.
أيضاً، ثمة طبقة المنتفعين ومستثمري الفرص، والمقاولين، والخارجين على القانون، وهؤلاء يعملون، كل بطريقته، بقوة السلاح، لتعظيم مصالحهم، بالضدّ من المجتمع والمقاصد التي اندلعت من أجلها الثورة. ما يفسّر كثيراً من المواقف والمسلكيات والتحرّكات المريبة والمستهجنة، والتي تشوّه صورة الثورة، وتضع علامات الشك حول نبل أهدافها، وتزيد الفجوة بينها وبين مجتمعها. وأخيراً، ثمة تصارع الأجندات الخارجية، الدولية والإقليمية، على الأرض السورية، باعتبار أن العامل الخارجي هو بديهي، ولا ينبغي إغفاله أو إنكاره. فهذه سوريا، وهي بلد مفتاحي في العالم العربي وفي الشرق الأوسط، وثمة فوق ذلك الدعم اللامحدود الذي تلقاه من إيران، ومن معها، إضافة إلى روسيا. وإذا كان النظام لايبالي بجعل البلد مرتعاً لإيران وميلشياتها (اللبنانية والعراقية) فالمهم بالنسبة للثورة السورية، ومع حاجتها للدعم الخارجي، هو جذب التعاطف والدعم الإقليمي والدولي للثورة السورية، لا جعل هذه الثورة ورقة في يد هذا النظام أو ذاك.
على ذلك ثمة ضرورة للتمييز بين كل ما يجري، وعدم الخلط، بين هذه الطبقات من الصراعات، التي باتت على هامش الثورة السورية، والتي تحاول التسلّل الى متنها، لحرفها، والتأثير عليها. وعلى العموم، لا ينبغي لهكذا أمور أن تقلّل من مشروعية الثورة، ولا من سلامة مسارها، ولا من نبل مقاصدها، بقدر ما إن ذلك يتطلب تحصين هذه الثورة المجيدة، وتعزيز نقدها لذاتها، وتنظيمها لصفوفها، وتوضيح ذاتها.
الآن، وبالنسبة للصراع الجاري بين الثورة والنظام، ثمة مشكلة واضحة، وتعقيدات جمة، وانعدام يقين. وهذا نابع من حقيقة أن الثورة السورية تعمل في ظروف صعبة وبإمكانيات محدودة، وبدعم مقيّد ومشروط، وفي ظل موازين قوى عسكرية مختلّة لصالح النظام، وهي تبدي شجاعة منقطعة النظير، مع ذلك فإن الإدارة السياسية والعسكرية لهذه الثورة تبدو في غاية الضعف والتخبّط والتشتّت، في ظلّ الحساسيات الشخصية، والحسابات الحزبية الضيقة. وقد شهدنا ما صاحب اجتماع استانبول أخيراً، من تجاذبات مضرة وعبثية. بالمقابل، فإن النظام يحاول استعادة شرعيته ونفوذه، على الصعيدين الخارجي والداخلي، لاسيما أنه استطاع توجيه ضربة قوية للثورة السورية، بحرمانها من حواضنها الشعبية، مستغلا سيطرة “الجيش الحر” على بعض المناطق لإمعان البطش فيها وتشريد سكانها، وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم.
وفي كل ذلك فقد بات المجتمع السوري في واد وثورته في واد آخر، وبات ثمة كتلة من عدة ملايين من السوريين مشغولة بأمنها وتأمين لقمة عيشها، أكثر من انشغالها بمواجهة النظام، وهي مسألة تتحمّل مسؤوليتها الجماعات العسكرية للثورة، التي باتت تتحرّك من دون تبصّر، ومن دون خطة عسكرية واضحة، ومن دون مراعاة لإمكانياتها في مواجهة النظام، ولا لضرورة ربط أي خطوة عسكرية بتحقيق منجزات سياسية.
وكما قدمنا، فإن هذا الحديث يندرج في إطار نقد الثورة لذاتها، وهو لا يقلل من مشروعية الثورة او من نبل مقاصدها، لاسيما أن التاريخ لم يعرف ثورات خالصة أو كاملة أو نظيفة. فوق ذلك فالثورات تتمخّض أيضاً عن آلام ومآسي وكوارث، مع الأسف. وهذه تنجم عن تشبث القوى المستبدة بالسلطة، ودرجة العنف التي تستخدمها لوأد الثورة، التي بدورها تستدرج ردود فعل من الطراز ذاته، كما ينجم ذلك عن فقدان الأمن، وكلما كان الوقت اكثر كلما كان الثمن اكبر. وما ينبغي إدراكه هنا، أن الثورات هي بمثابة ممر إجباري للتغيير، حين يستعصي التغيير بالوسائل العادية والسلمية والتدرجية، أي أنها ليست خيارا بين خيارات، ولا هواية ولا نزوة.
ولعل هذا الوضع ينطبق تحديداً على الثورة السورية، لأنها منذ البداية كانت بمثابة ثورة شعبية وعفوية، أي أنها لم تكن مهندسة ولا مبرمجة، ولم تكن وليدة قرار من أحد ولا من حزب، لذا فهي لا تخضع لوصاية أحد، ولم تأتِ وفق مواصفات وتمنيات أحد، وهذا ما يفسر أنها تتضمن فوضى وانفلات وثغرات ونواقص.
وبديهي أن هذا الكلام لايعني تقديس العفوية، وإنما هو تحليل للواقع، فكلما كانت الكتل الأساسية في الثورات واعية لذاتها، ومنظمة لأوضاعها، وواضحة في مقاصدها، كلما كان ذلك أفضل. فما كان مقبولاً، أو مفهوماً، في بداية هذه الثورة، لم يعد مقبولاً، ولا مفهوماً، بعد مضي أكثر من عامين عليها.
وفي هذا التحديد لتعقيدات وتحديات وضع الثورة السورية، الأكثر شرعية، والأكثر استحالة وتعقيداً وصعوبة، بين ثورات الربيع العربي، بات مطلوباً وبإلحاح من قوى الثورة أن تحسم أمرها، وأن تنظم صفوفها. كما بات مطلوباً منها أن تميّز ذاتها عن مختلف المداخلات والصراعات الحاصلة في البلد، حفاظاً على سلامة مسارها.
الحياة