عن الجديد في المشهد السوري!
أكرم البنى
ثمة متغيرات تحصل في سوريا لا تخطئها عين متابع، وهناك علامات جديدة بدأت تلون المشهد لا يصح تصنيفها أو إخضاعها لمعايير الصورة الروتينية القديمة، بل يرجح لها أن تلعب، في حال ثبتت في الأرض ورسخت، دورا مهما في تعزيز الثورة الناهضة وتصويب مسارها.
العلامة الأولى هي الإضراب الشامل الذي شاركت فيه غالبية أسواق دمشق وحلب، ما يعني دخول القوة الاقتصادية التقليدية على الخط، بعد تأخر وتردد طال في إعلان اصطفافها وإشهار انحيازها السياسي للثورة، ولا يغير من هذه الحقيقة حالات الدعم المستتر والخفي من قبل بعض التجار والميسورين للحراك الشعبي، مثل تقديم مساعدات إنسانية للمهجرين ومساندة الاحتجاجات والمظاهرات.
أسباب كثيرة شجعت التجار على خوض هذا التحدي وهم الذين يقرشونها جيدا ولما تبرد بعد الشائعات الأمنية عن تهديدهم بإحراق أسواقهم إن أخلوا بالتزاماتهم في دعم السلطة، وطبعا حين تكون ذريعة الإضراب استنكار مجزرة الحولة وتداعياتها الأخلاقية التي لم يستطع أحد التهرب من إدانتها بما في ذلك النظام نفسه، فهي لا تحجب تصاعد استياء عموم شرائح المجتمع والتجار أنفسهم من هستيريا القمع السلطوي الذي لا يعرف رحمة، ووصل حدا يفقأ العين، ولا يقبله عقل أو ضمير، وأيضا تأثير طول أمد الصراع وعجز النظام عن الحسم في إشعار التجار بعجزه أيضا عن حماية مصالحهم، ما أدى إلى تراجع الخوف من صدورهم، خاصة أن غالبيتهم بقيت لفترة طويلة مشككة بالحراك الشعبي وبقدرته على الاستمرار في مواجهة نظام يملك قوة قمع هائلة، ولأنهم لم ينسوا مرارة ما تكبدوه سابقا حين غامروا في دعم تحركات شعبية نجح النظام في سحقها، وزاد في الطنبور نغم، حساسيتهم من الإساءات الطائفية المفتعلة في غير مكان، والقطيعة العربية مع النظام، والعقوبات الاقتصادية المتصاعدة، وتفاقم أزمة الأسواق مع تراجع القيمة الشرائية للناس، ولعل ما يرجح تكرار الإضراب ويعطي هذه النقلة استقرارا نسبيا هو عجز النظام عن إزالة الدوافع، ولنقل ضعف قدرته في ظل حالة الحصار المفروضة على استمالة أصحاب المصالح ورؤوس الأموال واسترضائهم ببعض المنافع تمهيدا لإعادتهم إلى بيت الطاعة.
أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبدا، هو حدث كبير أن تصل النخبة الاقتصادية إلى الثقة بالناس وبالتغيير وتضع ثقلها في الميزان، وتعلن إضرابا تتجاوز فيه ما يعتبر في عرفها وتقاليدها محظورا لم تمارسه منذ الاستقلال، ما يمنح الثورة، في ظل الظروف الحرجة التي تمر بها، أبعادا أكثر صحة وحيوية، خاصة لجهة نزع أحد العيوب التي أثيرت عنها بأنها ثورة أرياف ضد المدنية، جراء الطبيعة الريفية لأكثر ميادين الصراع حرارة وتأخر انخراط المدن الكبيرة، أو لجهة أهمية الإضراب الاقتصادي الشامل في تثقيل أشكال النضال السلمي والمدني، ووقاية المجتمع من مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية.
العلامة الثانية، تنامي إدراك الناس بأن زمن الصراع سيطول، وأن الاعتماد على الذات وعدم التخلي عن أسلوب الاحتجاجات السلمية هو الخيار الأجدى، وطبعا هو أمر له دلالة كبيرة على استمرار المظاهرات النهارية والليلية وأيام الجمع بعد مرور أكثر من خمسة عشر شهرا على الحراك الشعبي، وما تكبده من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وكأن ما يحصل لا يؤثر على معنويات الناس بل يزيدها إصرارا على عقد حلقات التظاهر والاحتجاج، وعلى المضي في تحمل القمع والاضطهاد والتنكيل كطريق مجرب لتفكيك النظام ودائرته الأمنية الضيقة، ويزيدها يقينا بأن الزمن بات يعمل لصالحها، وأن كل يوم يمر يعني تدهورا متسارعا لقدرة النظام على الحسم، وأن مختلف وسائل العنف لن تسعفه في محاصرة الثورة أو كسر شوكتها، خاصة أن الجديد اللافت هو امتداد الحراك الشعبي إلى مناطق وأحياء متنوعة طائفيا وإثنيا كانت حتى الأمس القريب هادئة وكأنها بعيدة عما يجري في البلاد.
صحيح أن آلة القمع لا يردعها رادع، وصحيح أن لا أمل يعقد على تعديل سلوك النظام وعلى دور عربي أو عالمي مقرر، وصحيح أن اللجوء إلى السلاح فرض وجود مساحات واسعة من المناطق خارج نطاق سيطرة السلطة، لكن الجديد والصحيح أيضا هو انحسار «فورة السلاح» وتراجع الثقة بجدواها كعامل حاسم، وكأن ثمة توافقا أوليا بدأ ينتشر في المجتمع على أهمية الجيش الحر والإيمان بدور السلاح، لكن لأسباب دفاعية ولرد الأذى والضرر عن الناس، وتوفير شروط آمنة لاستمرار احتجاجاتها، دون عمليات هجومية تضعف التعاطف السياسي والإنساني مع الثورة وترتد عليها بمزيد من العنف والقصف والتدمير.
العلامة الثالثة، تنامي حضور المجتمع المدني، بأشكال وصور متعددة، كلجان مناهضة الطائفية، أو مجموعات دعم السلم الأهلي، أو تلك التي تهتم بالإغاثة وتقديم المعونات للمهجرين والمنكوبين، ونضيف هنا تنامي دور المحامين في حلب ودمشق والسويداء وتكرار اعتصاماتهم من أجل إطلاق سراح المعتقلين، ثم حملة «أوقفوا القتل نريد بناء وطن لكل السوريين».
وبلا شك فإن هذه المجموعات واللجان التي اجترحت الفرص لممارسة دورها المدني والسلمي على الرغم مما تتعرض له من قمع واعتقال، ساهمت إلى جانب عشرات الناشطين السياسيين الميدانيين الذين أشيع عن عودتهم إلى البلاد، بما هو إدراك لجدوى وأهمية دورهم بين الصفوف لا في الخارج، في إفشال محاولات جر الشارع إلى ردود فعل متخلفة كان البعض يراهن عليها، خاصة بعد تكرار المجازر البشعة، لحرف الحراك الشعبي عن أهدافه الحقيقية، ونجحت في الحفاظ على الاتجاه العام للثورة، كثورة وطنية، عابرة للمذاهب والأديان والقوميات وتحمل مطالب مختلف فئات الشعب في الحرية والكرامة، وتاليا في تعزيز الشعارات التي تعلي قيم المواطنة وأسس العيش المشترك ومحاصرة الهتافات التي تستفز الغرائز وتدعو إلى التمييز والتعبئة على أسس متخلفة ودون المستوى السياسي، عشائرية كانت أم طائفية أم قومية!
الشرق الأوسط