صفحات الناس

عن الجنون العام وسياط الناس/ مصطفى علوش

 

 

مثل كل الخيبات والخسارات الكبيرة، مثل كلّ المطر المهدور في سواقي البلاد، مثل العشق المقتول، ضاعت من البلاد طاقات بشرية هائلة، كان يمكن أن تكون جزءًا من البناء العام. لكن المستبد وأدواته وعقلية المجتمع المتخلف جعلت من هؤلاء مرضى نفسيين بدرجات متفاوتة. بعضهم انتحر بعد خروجه من المعتقل، وبعضهم انتحر وهو بين القضبان، ومن بقي حيّاً نحره المجتمع.

لا منظمات دولية تعرف أعدادهم، ولا أحد يهتم لأمرهم سوى أسرهم الصغيرة إن بقي في حياتهم أسر، آباء أو أمهات، زوجات أو أبناء.

وحدهم الأطباء النفسيون يعرفون معاناتهم، ويدركون مدى استفحال المرض في حياتهم، حيث وصلت حالات كثيرة إلى درجة الخطورة. يقولون لك: إن لم يتناول الدواء فقد يؤذي المريض نفسه. ينتحر مثلاً.

أما المستبد، القابع على قلب البشر، من باع الجولان ومن يدمّر البشر والحجر الآن، الشارب دم الناس وأحلامهم، القاتل طموحاتهم، فيعرف أسماء ضحاياه واحداً واحداً، ويعرف أسماء من قتلهم، ومن أوصلهم إلى حافة الجنون.

يجتمع الاستبداد مع تخلف مريع ينادي للمريض بالمجنون. إن نجا المعتقل من السجن، قضى عليه تخلف العقول والضمائر. وكلما حاول السجين النهوض والتخلص من المرض، جاءته رصاصة الأحكام النهائية، “إنه مجنون”، لتجعله يقع من جديد بين جدران المرض والخذلان.

خلال سنوات مضت، تعرفتُ إلى حالات عدة. أحد هؤلاء كان شاباً وسيماً يحمل في قلبه طاقة قصوى من الفرح، تطوع في الثمانينات في الأكاديمية العسكرية، وذهب إلى موسكو لإتمام دراسته كضابط مهندس.

في إحدى الإجازات إلى دمشق حيث منزل الأسرة، اعتقل من المطار، وبعد التحقيق والتعذيب، زجّ به في سجن تدمر الرهيب مع المئات من رفاقه الذين ينتمون إلى حزب سياسي.

بعد أشهر من اعتقاله، لم يتحمل ما تعرّض له من فنون التعذيب، فدخل في المرض.

أمضى تسع سنوات في تدمر، مسجوناً في مرضه ومسجوناً في سجنه. وحين أطلق سراحه، كان المرض قد تحكم به تماماً.

شاب آخر، متفوق في دراسته، كان يدرس الطب البشري، اعتقل في الثمانينات، وأمضى في السجن ثماني سنوات، ثمّ خرج غارقاً في أوهام المرض ولا يزال.

ضحايا التعذيب في أجهزة الموت المخابراتية هؤلاء، وضحايا عقول لم تقدّر ما حدث معهم. حتى اللحظة بين أبناء المجتمع، هناك من يحاسب هؤلاء على مرضهم.

ترى، ونحن الذين نعتقد أننا نقع في حدود الصحة العقلية والنفسية، من قال إننا أسوياء؟ من حدّد لنا أن نكون قضاة لنحكم على تلك الشريحة ونتهمها بالمرض؟ هل الصحة العقلية هي التناسل والطعام والكلام الفارغ عن الطقس؟ هل الصحة هي الطاعة العمياء والخنوع والاتكال على الغيب والظروف والقدر؟

هم في جنونهم، ألم يكونوا شجعاناً إلى الحدّ الذي جعلهم يحطمون كل ما توقعنا أنه عادي ومألوف؟

في لحظة، نحتاج للعبور من جنون المرض نحو جنون التغيير ومجانينه.

نعم. فلكي تغيّر وتتغير، لا بدّ من جنون خاص يجعلك تحطم تلك البنى السائدة المتعفنة، التي جعلتنا نردد منذ ألف عام أن “الجدران لها آذان”، وأن الملك هو الإله، وأن الرشاوى حق للشرطي والقاضي والموظف.

تلك البنى والمنظومات المتكلسة من الرعب والفساد، التي أنتجت مشافي ملوثة وشوارع مفصّلة هندسياً وفق رغبات كبار المسؤولين وتموضع عقاراتهم، ومدارس تخلط بين فيثاغور والخرافة، هذه البنى الهائلة المنسية من عهود طويلة، ألا تحتاج إلى مجانين يعرّون زيفها وكذبها وبناءها الهشّ، ويجعلون حجارتها تتساقط وجدرانها تتهدم؟

أهم إنجازات تلك البنى السلطوية هي السجون التي ملأتها بالكفاءات والعقول، لمجرد الخلاف في الرأي؛ والجهل الممنهج والتعتيم الإعلامي على كل الحقائق الجارحة وعلى كل الزوايا المعبأة بالمعلومات.

خلال سنوات وسنوات تعايش الناس وتآلفوا مع الفساد والفاسدين ومع الخوف ومع رئيس يورث عرشه لولده، وتعايشوا مع الظلم والاستعباد، وتحولت طاقاتهم إلى أدوات لخدمة بقاء السلطان المستبد. وبدل أن يكون العلم الذي يدرس في المدارس منارة للعقول والنفوس، تحول بحكم الخوف والذعر العام إلى اقتناعات تلفيقية تمجد الأوضاع الراهنة.

مجانين التغيير حاجة تاريخية لمجتمعات تكلست في الراهن المعتاد، وتعودت العيش في وحل الهزائم والكذب.

المستبد وبطانته الناهبون ثروات البلاد، الذين استوطنوا في كراسي السلطة وأبّدوا فكرة البقاء الأبدي في الحكم، الذين طفّشوا أفضل العقول للخارج، وحولوا حياة الناس اليومية إلى جحيم، ألا يحتاجون إلى تسونامي تغيير يقوده خيرة من مجانين التغيير، يكسرون صورة الطاغية وخوفه القابع في النفوس.

بكلام آخر، حتى لا نصبح مجانين في سجون الاستبداد، لا بد من جنون آخر يحمينا ويغيّر كل شيء في هذه البلاد الآيلة إلى الانقراض.

علينا إذاً، أن نختار بين جنون الضحايا وجنون الثوار. علينا كنس مقابر الأفكار القديمة، واستبدالها بنوافذ مفتوحة على الحياة والابتكار والخلق.

من رضي النوم في عسل الخنوع الأبدي والكسل التام، واقتنع بدور كومبارس المسرح، عليه الاختيار بين متابعة دور المتفرج أو أخذ دور الفاعل، القادر على فعل شيء ما في الزمن.

في كل اللحظات ثمة غبار كثيف يعشش في العقول والضمائر؛ غبار بحجم بلاد نائمة، يزوّر كل الألوان ويصير هو اللون الوحيد، ورديف الملل والضجر. كم من البحار والأنهر نحتاج لنغسل هذا الغبار عن نوافذ بيوتنا وعقولنا وجدراننا؟

غبار التبعية، غبار النرجسية، عبادة الفرد، الأيديولوجيا، غياب النقد، التعالي عن حياة الناس اليومية، غبار، غبار.

الجنون الأول وأصحابه ورقة صفراء في بلاد مظلومة، جريحة، والجنون الثاني شجرة أمل وحلم عريض. الأول ذل والثاني نهوض. الأول لوحة من الهزيمة أمام أدوات السفاح، والثاني كسر المعتاد والمألوف وتغيير قواعد الحياة.

إلى أن نصل إلى لحظة عامة تنتج قانوناً يحمي الناس من الحكام والشرطة والمخبرين، وتنتج وطناً للجميع، لا مقبرة جماعية، وطناً من فرح وقصائد ورايات عشاق مرفوعة في الهواء…، علينا قبل كل شيء ترك كل هذا الاستعلاء على الناس والدخول إلى كل همّ فردي وجماعي لنتعرف إلى كل خبايانا وصناديقنا السوداء.

خلف باب التعب، بذرة المستقبل.

■ كاتب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى