عن الحب والصداقة والزمن/ رشا عمران
يهجرنا حبيبٌ ما، ويتركنا ونحن في أمسّ حاجتنا إليه، فينتابنا الشعور التالي: كأنما خسفت الأرض بنا، وسقطنا في هوةٍ كبيرة، ولا أظافر لنا لنتشبث بحوافّ الهوة ونصعد، نصبح غير قادرين على مقاومة فكرة الاستسلام للسقوط والبقاء هناك، حيث أشد حالات الضعف والبؤس الروحي، ذلك البؤس الذي يجذب التعاطف من الآخرين، كما لو كان مغناطيساً، نفقد كل شيء في تلك اللحظة، بيد أن هذا الخسران الذي نراه كبيراً عندما يهجرنا حبيبٌ ما، علاجه هو الزمن والوقت، والتعرّف إلى حبيبٍ آخر، ولو على سبيل تسكين الألم، ثمّة علاقاتٌ عابرةٌ تظهر عادة بعد الهجران العاطفي، تعمل على تسكين ألم الروح، تركيبتها لا تنفع علاجاً دائماً، تنفع فقط مسكناً مؤقتاً. العلاج الدائم لحالات هجراننا موجودٌ في دواخلنا فقط، لا أحد يساعدنا غير أنفسنا على تجاوز مرارة الهجر، ولا شيء يمكننا الاستناد إليه سوى أنفسنا.
مررت، خلال حياتي، بتجارب ألم ممضّة نتيجة الهجران والفقد العاطفي، ومكابداتٍ كادت تودي بي، آخرها ساهم فعلا بالتلف الذي أصاب قلبي. ومع ذلك، لا يموت أحدٌ من الحب، أو من فقدان الحب، خسارات الحب على قدر ما هي مؤلمة في وقتها، على قدر ما تصبح مضحكةً حين نتذكّرها بعد مرور زمن عليها. والمضحك أكثر اكتشافنا تلك القدرة على التحوّل في حالة الحب إرضاءً للحبيب، نصبح كما يريدنا أن نكون، نصبح على غير ما نحن عليه، على غير حقيقتنا. ببساطةٍ، نحن نكذب على أنفسنا، وعلى الآخر في حالة الحب. ليس كذباً شريراً حتماً، لكنه في النهاية كذب. ربما هذا هو السبب الذي يحوّل الحب إلى حالة نكدٍ، حين تطول العلاقة، أو تتحول إلى حياة مشتركة.
نملّ من الكذب، فنستعيد حقيقتنا، فتظهر الاختلافات والخلافات حولها. وربما لهذا أيضاً نشعر أننا سقطنا في هوةٍ سحيقةٍ، حين يهجرنا الحبيب الذي فعلنا كل ما فعلناه لأجله، ومع ذلك رحل. أيضاً، لا يموت أحد من الحب، وسنسخر من ذلك كله بعد حين. لكن سيختلف الأمر كثيراً، لو أن من فعل بنا هذا صديقٌ لا حبيب. نحن نختار أصدقاءنا بعنايةٍ فائقة، نختارهم لأننا نحتاج لمن يمكننا الاستناد إليهم لحظات ضعفنا، كما يمكنهم هم فعل ذلك معنا. حينما صنف أرسطو أنواع الصداقة الثلاثة، المنفعة والمتعة والناس الطيبين، قال إن الصداقة المكتملة هي التي تجمع الأنواع الثلاثة.
من تجربتي في الصداقات، أستطيع القول إن الصداقة هي الشكل الأرقى للعلاقات الإنسانية. الصداقة المكتملة، حسب أرسطو، مع الصديق، أنت مكشوف بالكامل. لست مضطراً للكذب والتجمّل، أنت على حقيقتك، وأنتما تعيشان معا لحظات الفرح والحزن، وتكملان معا ما ينقص كلاً منكما في حياته. قد تغيب عن صديق سنوات، ومع ذلك لا تنساه، وإن رأيته بعد انقطاع، ستبدوان وكأنكما كنتما معا في الأمس. هذا لا يحدث مع الحبيب. سيجعلك غياب الحبيب عنك تنساه حتماً، مهما آلمك غيابه. لهذا، ربما تكون خيبتنا بالأصدقاء كبيرة. حين يهجرنا، أو يغدر بنا صديقٌ، لا نشعر بالألم نفسه الذي يخلفه هجران الحبيب. سنشعر ببعض المرارة. ولكن، بدون ألم، غير أن الزمن هنا لا يفعل فعلته نفسها في نسيان الغدر والهجران، على العكس تماماً. الزمن هنا يزيد في تكريس حالة الخيبة والمرارة من غدر الصديق، يُشعرك بالخذلان الدائم، فالأصدقاء الحقيقيون ليسوا ملقيين على قارعة الطريق، ولا تجدهم بسهولة. وحين تجد أحدهم تعطيه من نفسك وروحك ووقتك الكثير، من دون أي حساب. مع الصديق، تنسى حسابات الزمن، فالصديق هو الحسبة بذاته، غدره لك يظهر لك سوء تقديرك في اختياراتك. مع الحبيب، ثمّة كيمياء تحدث فجأة. مع الصديق، أنت تبحث عن الكيمياء، أو تصنعها، لتحظى بالصداقة المكتملة.
إن كان ثمة حظ في حياتي فهو في أصدقائي. قلت هذا مراراً، ومراراً أثبتت لي الحياة صدق ما أقول. ومع ذلك، ثمة خذلانات شعرت بها، ممن كنت أعتبرهم أصدقاء كاملين على قلتهم. صداقات هؤلاء موسمية أو سياحية “فالصداقة الحقيقية لا تتجمد في الشتاء”.
العربي الجديد