صفحات العالم

عن الحراك الشعبي في لبنان –مقالات مختارة-

 

 

لبنان: مفارقات الحق والباطل/ صبحي حديدي

«حزب الله» هو محرّك الاستقطاب الذي لا يعطل سلسلة استحقاقات سياسية أساسية في لبنان، على رأسها تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية العتيدة، منذ 14 شهراً، فحسب؛ بل يهيمن الحزب، مثل سيف مسلط فائق السطوة، على كامل الحياة السياسية اللبنانية. ومع ذلك، فإنّ صور أمينه العام، حسن نصر الله، لم تتجاور مع صور الغالبية الساحقة من ساسة لبنان، على «جدار العار» الشهير الذي انتصب خلال الساعات الأولى من اعتصامات ساحة رياض الصلح، مثل معظم التظاهرات اللاحقة.

ثمة مَنْ اكتفى بتفسير أوّل، بسيط وصحيح في آن، يردّ غياب نصر الله إلى الذعر الجَمْعي من بطش السيف المسلط إياه؛ وثمة مَنْ شاء «تركيب» الواقعة، وتعقيدها بعض الشيء، فاعتبر أنّ شريحة واسعة من المعتصمين تثمّن فكرة «المقاومة»، الأمر الذي أعفى «سيد المقاومة» من ورطة التواجد مع «القرطة» الفاسدة ذاتها. وثمة، أخيراً وليس آخراً، مَن استهوته نظريات المؤامرة، ففسّر الحالة بالقول إن «حزب الله» لم يتأخر في ركوب الموجة، فصار أحد كبار مهندسيها، بدليل ارتفاع شعارات مذهبية صرفة، يطلقها شبّان تحمل أجسادهم وشوم المذهب.

هذه، في كلّ حال، مفارقة أولى اكتنفت حراكاً شعبياً بدأ أصلاً من مفارقة انتفاض الشارع إزاء تراكم النفايات؛ مقابل سكوت الشارع ذاته، طيلة سنة ونيف، عن 20 اجتماعاً عقيماً لمجلس وزراء تصريف الأعمال، لم يتمخض أي منها عن حلّ معضلة شغور المنصب الأوّل في الجمهورية؛ وسكوته عن حكاية «المراسيم غير التوافقية»، والتعيينات الأمنية، وتنصيب أصهار الجنرال ميشيل عون هنا وهناك في مواقع «الدولة»؛ وسكوته، بادئ ذي بدء كما في نهاية المطاف، عن قتال «حزب الله» إلى جانب النظام السوري، وزجّ لبنان في أتون أحلاف مذهبية/ عسكرية مدمرة، تتجاوز لبنان وسوريا، إلى العراق واليمن.

ولكي لا يبدو «حزب الله» وكأنه المسبّب الأوحد وراء جلّ مصائب لبنان المعاصر، فإنّ مفارقة الحراك الشعبي الراهن تخصّ الفريق المقابل، إذا جاز هذا التصنيف؛ أي قيادات السنّة، في الصفّ المعارض على نحو أدقّ، حيث تراث رفيق الحريري، أو «المستر لبنان» كما سُمّي ذات يوم؛ وليس في الصفّ السنّي الآخر، البيروقراطي التكنوقراطي شبه المحايد إزاء سيف «حزب الله» المسلط (كما في مثال تمام سلام، رئيس الوزراء الحالي). فإذا صحّ أنّ سعد الحريري، الوصيّ على الإرث السنّي الحريري، لم يتمتع يوماً بأيّ من صفات والده، سواء تلك التي تخصّ الشخصية القيادية، أو تلك التي تتصل بفنون المناورة والشطارة والتقلّب، مع النظام السوري خاصة؛ فإنّ من الصحيح، في المقابل، أنّ أشرف ريفي وزير العدل والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي، ونهاد المشنوق وزير الداخلية والصحافي السابق، لم يفلحا في تشكيل استقطاب سنّي فاعل وعابر للطوائف، في موازاة الاستقطاب الذي يقوده «حزب الله». على العكس، في الواقع، لأنّ المشنوق اليوم شخصية رجيمة، ليس في ملفّ النفايات والمطامر وحدها، بل بصدد خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع و»جدار العار»…

وتبقى مفارقة ثالثة، يصنعها متظاهر أوّل، جاء حاملاً طفله على كتفيه، ولعلّ والده أو جدّه سار على ميمنة منه أو ميسرة؛ ومتظاهر ثانٍ، جاء من كندا لقضاء إجازة في لبنانه الحبيب، الأخضر الحلو، فهالته أكوام القمامة، ونزل إلى الشارع، مصطحباً كلبه؛ ومتظاهر ثالث، لم ينخرط في الجموع إلا بعد أن عرّى النصف الأعلى من جسده، لكي يُشهر «سيف ذو الفقار»، حتى بوسيلة الوشم.

ليس دون أن تخيم على الجميع مفارقة كبرى مشتركة: أنّ الكثير من حقّ هذا الحراك الشعبي، لا يُراد به إلا الباطل!

القدس العربي

 

 

 

 

 

حازم صاغية حكام لبنان وشبّانه/

مهينٌ أن يُسمى المرء سياسياً في لبنان. فالسياسي، أكان في 14 آذار أو في 8، لا يترادف في أذهان اللبنانيين المحترمين غير المداحين وغير المستزلمين، إلا مع السفالة والنهب والجريمة. وإذا كان من أسوأ مواصفات الشعبوية هجاء السياسة وتعهيرها، فساسة لبنان هؤلاء إنما يقدمون للشعبويين ضالتهم التي تؤكد صدق اتهاماتهم.

فبخليطٍ من استخدام ذاكرات الحروب والحقد، واستنهاض العصبيات، وبالتوسع في عمل النيوليبرالية، حيث تطغى قيم السوق على اقتصاد السوق، وبقضايا يصفها أصحابها بالقداسة وهي لا تفعل غير تقديسهم هم، يعاد إنتاج هذه الفئة المتمكنة بالمال وبالمقاومة، وقبل كل شيء بلحمة الجماعة الطائفية.

وهي فئة أعيد بناؤها منذ التسعينات مافياوياً، فأهم ما يجمع الطائفة بالمافيا رابط الدم أو الدم الموسع. وفي انقسام كهذا بين «العائلات» التي يجمعها منطق الدم نفسه، نشأ الطاقم الحاكم على شكل جناحين، واحد تتلمذ على غازي كنعان وعبد الحليم خدام، وآخر على رستم غزالي.

وعند الفئة هذه بجناحيها، تزداد الحساسية نقصاناً حيال مواطنين يوالون الهبوط إلى خط الفقر أو ما دونه، إلا أنهم يُستدعون مرة أو مرتين سنوياً إلى بيروت كي يصفقوا لأمرائهم وهم يرفعون المفعول وينصبون الفاعل. أما القيم التي يشيعونها، فأكثر ما يستفحل منها توريث القطعان، بوصفه الممارسة السياسية الطبيعية. أليس هذا ما دلت عليه أخيراً تجربة أطنب جنرالها وأقاربه في وصف حداثتها؟

صحيحٌ أن الطاقم السياسي في لبنان لم يكن مرةً ناصعاً، لكنه لم يكن مرةً وسخاً إلى هذا الحد، فالبلد مزرعته حرفياً، بالمعنى الذي حمل الرومان القدامى على وصف الأبيض المتوسط بأنه «بحرنا» (مير نوستروم). وهم مثل الكالفينيين الطهرانيين ذوي الجبر الإلهي، يظنون أن الله اصطفاهم للجنة قبل أن يولدوا، لكنهم على عكس الكالفينيين، لا يعتنقون إلا التبطل والتبذير ديناً.

وقد لا تملك اللغة من تعابير الهجاء ما يستحقه هؤلاء السياسيون. إلا أن الغضب حيالهم أغنى من اللغة، خصوصاً عند فئة أخرى من اللبنانيين قد تكون النقيض التاريخي لهم.

ففي الخانة العمرية ما بين الثلاثين والأربعين، آلاف الشبان والشابات المؤهلين، ذوي الكفاءات المتقدمة والقيم العصرية، ممن حصلوا تعليمهم في مؤسسات حديثة أو في بلدان الغرب، فعرفوا أنهم أفراد ومواطنون محترمون، لا يحنون أعناقهم لسيد أو بيك أو شيخ أو جنرال. هؤلاء الذين كان ينبغي أن يكونوا صانعي القرار اليوم، ينتصب في وجوههم هذا الحاجز الصلب المدجج بالتفاهة والسطو والجريمة.

ولأن الشبان هؤلاء فتحوا أعينهم على دنياهم مع الانقسام الآذاري الكبير، فانخرطوا فيه وعولوا عليه، لم يطل بهم الأمر حتى داهمهم إحباط الآذارين: واحدهما وعدهم بجعلهم علفاً للمدافع، إن لم يكن في لبنان ففي سورية، والآخر وعدهم بجعلهم علفاً لإثراء السماسرة وأصحاب الصفقات.

وعند الشبان والشابات هؤلاء، كفت القضايا عن توفير الغطاء للسياسيين: فلا المقاومة تكفي لهضم المقاومين ولا اغتيال الحريري يكفي لهضم الحريريين. وفي هذه الغضون، كانت الثورة السورية تُظهر أن حافظ الأسد نفسه، وهو الطوطم الأكبر لجناحي فئتنا الحاكمة، ممكنٌ تمريغ صورته وتحطيم تماثيله. وهذا إلهام واستلهام.

… اليوم يغضب هؤلاء الشبان، ومن حقهم أن يغضبوا، بل من واجبهم. وهم يخطئون، ولا بد أن يخطئوا، بل من حقهم أن يخطئوا، ومن حق أي كان أن ينقد أخطاءهم، بل من واجبه. لكنْ ليس في هذه اللحظة بالذات: ففي مساء هذا اليوم ستجتمع في مواجهتهم قوى أكبر منهم وأصلب، هي قوى العهد القديم على اختلافها وتعددها. وهي، بالقمع أو بالكذب أو بالاثنين، ستحاول تبييض زعماء لبنانيين وقضاياهم مثلما تُبيَّض العملات المشبوهة، فتتلاعب بطبيعة المشكلة وتستبدلها بمشكلة زائفة هي إياها التي مضغناها سنوات طويلة ومضغتنا. ومرة أخرى قد يسقط حلم الحالمين، لكن القلب معهم ضد جوقة المحنطين الخبثاء.

معهم مهزومين ومنتصرين، مصيبين أومخطئين. أما البقية فلها كلام آخر.

الحياة

 

 

 

لأن بيروت ليست “سوليدير”…/ بيسان الشيخ

لم ير كثيرون من أهل بيروت «الأصليين» والمتشبهين بهم، في التظاهرات المطلبية الأخيرة والاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والمفسدين إلا فرصة سانحة لمن سمّوهم «رعاعاً» للانتقام من وسط المدينة النظيف والأنيق، وتدمير ما بناه «الرئيس الشهيد» (رفيق الحريري). وارتفعت نبرة تحمل الكثير من الفوقية والازدراء تجاه لبنانيين آخرين اتهموا بأن جل ما يفعلونه هو تكرار مشاهد الحرب الأهلية وتفريغ حقدهم وغلّهم عبر تشويه وجه المدينة المسالم والحضاري، علماً أن غالبية من نزلوا إلى الشوارع ويتحضرون للنزول اليوم (السبت)، سبق أن كانوا هم أنفسهم، مفخرة 14 آذار وتظاهرتها.

أما دليل «البيارتة» على «همجية» التحرك فانتماء جزء من المشاركين الى أحياء فقيرة، وتكسيرهم إشارات المرور، وواجهات بعض المحال التجارية وإقدامهم على أعمال تخريب وشغب واضحة وغير مشكوك فيها، لكنها تبقى ضمن ما تحمله التظاهرات من هوامش خطأ، لا سيما إن كانت شعبية عفوية يسهل اختراقها ولا يطبعها «الانضباط» الحزبي.

واللافت أن تلك الاتهامات ترافقت مع دعوات صريحة للقوى الأمنية لقمع المتظاهرين، وبررت استخدام القوة المفرطة ضدهم، وطالبت بحماية عناصر الأمن ممن وصفوا بـ «المخربين»، وذهب البعض الى إطلاق نداءات استغاثة على منصات التواصل الاجتماعي تدعو لنقل بيروت وأهلها الى مكان يليق بهم، عوضاً عن نقل نفاياتها… ولتبق القمامة لمن يستحق العيش وسطها!

وكشفت تلك المخاوف «البيروتية» العميقة، التي أيقظتها التظاهرات دفعة واحدة، عن حالة تماهٍ تام بين القاعدة المتضررة ورأس الهرم المتسبب بالضرر، حتى ليصبح الدفاع عن الأخير جزءاً من الدفاع عن الذات وإن كان الثمن مكابدة الأذى والتغاضي عنه. ذاك أن الاعتراف بالفشل والخيبة لا يصيب المسؤول وحده، بل يطال كل من ساهم في إيصال الأمور الى ما هي عليه.

هكذا يصعب على «البيارتة»، الإقرار بأن «البلد» أو «الأسواق» كما عرفوها، ليست إلا شركة تجارية اسمها «سوليدير» بنيت بتوافق الطبقة السياسية كاملة، ومن جيوب أصحاب الحق الأصليين وعلى حساب ممتلكاتهم التي تعود الى ما قبل الحرب، فباتوا فيها مجرد زائرين غرباء. ويصعب عليهم الاعتراف أيضاً أنهم، مع الوقت، ذابوا أشد الذوبان مع «سوليدير» ووجوهها وأصبحوا يناصرونها بصفتها إنجاز زعيمهم، واستطراداً رمز طائفتهم وأن كرامتها من كرامتهم. وفي مقابل شعار «بيروت ليست سوليدير» الذي أطلقه معارضون لسياسات الحريري الأب الاقتصادية والاجتماعية (وهو متفرع من شعار «بيروت ليست دبي») جاء من يعض على الجرح ويقول: «بلى، نحن أصحاب الحقوق وبيروت هي سوليدير».

ولا يخفى أن الجزيرة البراقة التي بنيت مكان الركام والدمار، واستقطبت رؤوس الأموال والاستثمارات، أنشئت لغير أبناء البلد الفعليين، لا سيما منهم أهل بيروت «الأصليين»، الممتعضين اليوم من الغضب المتراكم على المدينة. فهو تذكير مؤلم لهم بأن تلك الفخامة والرفاهية التي يجاورونها ويدفعون ثمنها ديناً عاماً وضرائب، لم تشمل أحياءهم ولا شوارعهم التي لا تبعد عنها إلا أمتاراً قليلة.

وإلى ذلك، يصعب على «البيارتة» اليوم، الاعتراف بفشل آخر، تراكم خلال السنوات العشر الماضية التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هو إخفاق زعمائهم في حمايتهم وحماية الطائفة، ومعها «سوليدير» التي أحبوها مرغمين. فجاء استيلاء مجلس النواب وشرطته على القسم الأكبر من المنطقة وأسواقها وشوارعها، وتحويله محمية أمنية، تذكيراً دائماً لهم بأن السلطة الفعلية على الأرض باتت هنا، وليس في السراي الحكومي.

والحال أن اليقظة البيروتية الأخيرة تحمل بعداً طائفياً، وآخر طبقياً. فبيروت «السنية» غاضبة أولاً من «رعاع» (كما وصفوا) جاؤوا من أحياء فقيرة محاذية للوسط التجاري، ينتمون الى الطائفة الشيعية. وهؤلاء لا بأس إن استخدمت القوة المفرطة ضدهم، لأنهم يمثلون طائفة سحبت البساط منهم، وأذلتهم وفرضت شروطها السياسية عليهم بقوة السلاح. فما الضير إذاً بالاستعانة بسلاح أجهزة الدولة لصدهم؟

أما البعد الآخر، الطبقي- المناطقي، فهو تجاه أبناء الأرياف من الطائفة نفسها. فاقتراح رمي نفايات العاصمة في منطقة محرومة مثل عكار، واعتبار ذلك أمراً بديهياً لكون الفقراء فيها لبوا نداء سعد الحريري بالتصويت للائحته «زي ما هيي»، ليس إلا إمعاناً في الإهانة والذل. فإذا كان لأهل الناعمة زعيم رفض الاستمرار بتحمل النفايات بعد 14 عاماً متواصلة مما تعانيه بيروت اليوم، فإن أهل عكار متروكون لأنفسهم ولزعامات لا يعنيها شأنهم.

واللافت أن كثيرين من المدافعين عن الاقتراح فوجئوا برفض أبناء المنطقة قرار القيادة، والتمرد عليه، ورد الشعار على من أطلقه بأن «خذوا زبالتكم زي ما هيي». لا بل راحوا يطالبونهم بالوفاء بواجباتهم تجاه العاصمة ورد الجميل لتيار سياسي لم يروا منه إلا استثماراً لأزماتهم في حل أزماته. فهم من يستعان بهم في التظاهرات والانتخابات وأي مناسبة تستدعي حشداً عددياً، لكنهم آخر من يطالهم الإنماء وتوزيع الثروات. وذلك تحديداً جوهر العلاقة بين سنة بيروت وسنة الأرياف.

ووسط ذلك التخبط كله، لم ينتبه «البيارتة» وغيرهم، إلى أن الشعار المرفوع ليس مجرد اعتراض على أزمة النفايات، بل فيه رفض واضح لذلك النهج السياسي المطبق منذ عشر سنوات، وازدراء صريح لنواب أوصلتهم صناديق «زي ما هيي».

يعيش أهل بيروت اليوم امتحاناً صعباً لم يستعدوا له. فبات عليهم أن يواجهوا حقيقة أنهم خسروا مدينتهم منذ زمن بعيد، وبتوافق بين زعماء الطوائف كلها وتواطؤ منهم، وليس على يد شبان مشاغبين أو غير مشاغبين نزلوا الى الشوارع يطالبون بتحسين ظروف حياتهم.

كم هو امتحان أصعب وأكثر نكئاً للجراح أن يستيقظ «البيارتة» فيجدوا أن بيروت ليست سوليدير… ولبنان ليس بيروت.

* كاتبة وصحافية لبنانية.

الحياة

 

 

النظام الطائفي أقوى منا!/ راجح الخوري

عندما يضطر وليد جنبلاط الى الاتصال بميشال عون لابلاغه أنه “يعوّل على حكمته في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان”، مشدداً على استمرار التواصل والتشاور بينهما، يجب السؤال: وعلى ماذا يعوّل “بعض” أهل المجتمع المدني في دعوتهم الى التظاهر اليوم السبت، اذا كانت المحدلة الحزبية تحركت لتجرف المشهد الاحتجاجي وتوظّف صرخة الناس في روزنامتها السياسية؟

لماذا “بعض” أهل المجتمع المدني؟

لسبب بسيط وواضح، هو ان الذين تداعوا الى التظاهر الجمعة الماضي كانوا من المجتمع المدني ومن المواطنين الغاضبين والمحقين في غضبهم، وقد تحركوا عفوياً ورفعوا شعارات كان لها صداها العميق والمخيف [نعم المخيف] ليس عند أهل الحكومة والبرلمان فحسب، بل عند كل الطبقة السياسية والحزبية من دون استثناء في السلطة وخارجها، ولهذا نزلت الأحزاب الأحد للسيطرة على المشهد والامساك بالدفة قبل ان تفلت الأمور منها.

وعندما يحرّك نبيه بري محركات مبادراته التوفيقية ومخارجه ويجري الاتصالات لتجاوز انفراط عقد الحكومة الفارطة أصلاً، يجب على أهل المجتمع المدني الذين نزلوا الى ساحة رياض الصلح مطالبين باسقاط الحكومة والنواب والنظام وحتى بمحاسبة كل الطبقة السياسية، ان يتواضعوا ويبقوا في منازلهم وفي مراراتهم والقهر وان يتذكروا القول “تعيش وتاكل غيرها”!

لماذا؟

لأن نزول الأحزاب اليوم سيجرفهم ويجرف كل ما رفعوه من شعارات عن فساد كل الطبقة السياسية وكل السياسيين وعن ضرورة محاسبتهم، بما يعني ان الحامولة السياسية والحزبية ستصادر التحرك من جماعة “طلعت ريحتكم” ومن جماعة “بدنا نحاسب”، لأن هناك في حلبة الصراع السياسي تراشقاً قديماً بالتهم عن الروائح الطالعة وتلويحاً بالمحاسبة وبالويل والثبور وعظائم الأمور!

تصريحات بعض “المسؤولين” في المجتمع المدني اللبناني الذي ستذريه رياح الطائفية والمذهبية والحسابات السياسية محلّية معطوفة على نيران الإقليم المتأججة، تبدو مفعمة بالرومانسية عندما يقولون للأحزاب مثلاً “اذا أردتم النزول معنا ممنوع عليكم رفع أي شعار سياسي أو حزبي ويجب ان تكونوا تحت سقف مطالبنا ومواقفنا المعلنة بأن جميع الموجودين في الحكومة فاسدون”!

هل من مكان لمثل هذا الكلام عند “حزب الله” و”العونيين” الذين يؤيدون التظاهرات، ولكن على خلفية ان الفساد كامن فقط عند خصومهم السياسيين في ١٤ آذار وان لا روائح الاّ عند هؤلاء وليس من يستحق المحاسبة غيرهم؟

٨ آذار تتهم ١٤ آذار بالانقلاب وتريد ان تنقلب على الانقلاب، واذا تيسّر الأمر في هذا التوجه يمكن أعادة ترتيب كوتا الحصص الطائفية التي حددها اتفاق الطائف، ولهذا لا أتردد لحظة في القول لأهل المجتمع المدني الذين أتعاطف معهم حتى الصميم: كلفتم خاطركم النظام أقوى لأنه يتمترس وراء الطوائف… مفهوم؟

النهار

 

 

 

 

 

لن نستسلم/ عقل العويط

ليس من دلالةٍ على الحال المزرية التي آل إليها الوضع في لبنان، أكثر من هاتين الدلاتين: مشهد المدنيين مساءي السبت والأحد الفائتَين بين براثن القوى السياسية والمخابراتية والأمنية، ولوحة اميل منعم الماثلة على هذه الصفحة.

أكتب هذا المقال، وأنا، بين حين وآخر، أضع رأسي بين يديَّ، متجنّباً البكاء على لبنان. لكن البكاء ليس عيباً، كما يحلو لبعض الذكوريين والبطريركيين والإرهابيين والإلغائيين ومُصادري إرادات الناس، وقاتلي الرأي العام، أن يتندر. كلّ مَن يتندّر، إنما يشارك بالفعل والقول والتفكير، في الجريمة النكراء التي تُرتكَب يومياً، منذ عقود، في حقّ لبنان، وحقّ أبنائه العزّل، وقد بلغت الآن ذروتها، وتكاد تحقق مبتغاها اللئيم.

أحياناً تصل النفوس إلى قعر الألم الذي ليس تحته من قعر، فتفقد القدرة على التحمّل، وعلى مواصلة إيهام الناس بالأمل. لا يجوز أن نوهم أحداً بشيء مستحيل، أو شبه مستحيل. لا يجوز أن نكذب، ولا أن نكابر، حيث تصبح المكابرة نوعاً من المؤامرة، ونوعاً من الاشتراك المعنوي في الجريمة.

أُنصِتُ، من حيث أنا، إلى الأمّ التي فقدت ابنها، وهي تدقّ بكلتا يديها على باب المقبرة، حيث ووري ابنها الشاب. حتى لأظنني، أنا نفسي، ذلك الابن المقيم داخل جدران القبر.

استيقظتُ مبكراً هذا الصباح، وقررتُ أن أنسى الليل الذي أمضيتُه مبحلق العينين. قلتُ لنفسي أقطف شجرات التين الأربع التي في البستان، لأخفّف عنها وجع الأمومة التي ييبس أطفالها على صدرها، وهي لا تستطيع أن تأتيهم بالحليب. لبنان يحترق، وأنا لا أستطيع أن أفعل له شيئاً. عجباً! كيف يمكنني أن أواصل العيش، كما لو أن شيئاً لم يكن؟!

أهرب إلى الكتب، لأجلس في رحابها. إلى درجة أن بيتي الذي يحوي ثلاث غرفٍ للنوم، قد اخترتُ لنومي فيه غرفة المكتبة، من أجل أن أحتمي بعطور الكتب، بغبار ليلها، وبهلوساتها وظنونها.

قرأتُ كتاباً صادراً للتوّ. لكن ماذا ينفع أن أقرأ هذا الكتاب، أو غيره؟ بل أيّ معنىً لي شخصياً، أنا الذي أمضيتُ فتوّتي الجامعية، وشبابي، وأهرقتُ الكثير من كتاباتي، في الكفاح من أجل مجتمع مدني علماني ديموقراطي، إذا كنتُ لا أستطيع أن أزرع وردةً وحيدة فوق هذا الركام الفجائعي؟!

ليست المرة الأولى أُعلن فيها مثل هذا الموقف “الواقعي”، “اليائس”، أو “الجبان”. أعترف أننا لن نستطيع في اللحظة الراهنة الانتصار على هؤلاء الشركاء في المقتلة الوطنية. إشهار مسألة “الدولة الفاشلة”، أو “الدولة المارقة”، والعمل على استصدار قرارٍ في شأنها من مجلس الأمن الدولي فوراً، والآن، هو “الحلّ” الأقلّ إضراراً بكينونة لبنان، وحياة الناس، ومصائرهم، وكراماتهم، وهو الأكثر ملامسةً للحقيقة، ولواقع الأمور.

المحرقة الجماعية أفضل من هذا العيش.

هؤلاء الشابات والشباب الذين يعشقون بلادهم، ويطالبون برفع الحجر المأتمي عن قلبها، كيف نتركهم ونترك بلادهم طعماً لكلاب الدهر؟!

كيف يحقّ لنا أن نسمح بعد الآن، لهذه الطبقة السياسية – الطائفية بأن تعيث فساداً، وتمعن نهشاً، وتتلذّذ برؤية لبنان القتيل في حشرجاته الأخيرة؟!

اسمحوا لي أيها القرّاء، بهذا القدر من الكتابة. ليس في متناولي أيّ حلّ. لا أريد أن أبكي. ولن أستسلم!

النهار

 

 

 

النفاياتُ تنظِّفُ اللغةَ السياسيةَ اللبنانية/ جهاد الزين

دعوني من البداية في هذه المقالة أذكِّر أنني غير مؤمن أن بإمكان حركات الاعتراض الشبابية أن تصل إلى أي نتيجة جوهرية في تغيير سلوكيات الطبقة الحاكمة للنظام الطائفي اللبناني القوي جدا والذي يدير دولة تافهة.

هؤلاء المعترضون الشباب الذين شكّلت فضيحة النفايات، بألاعيبها واستهدافاتها الاستثمارية وانتشارها الشارعي، مناسبة تفريغ غضب أقصى ما فيه إحراجه للتركيبة السياسية، هم، للتكرار، مجموعات قليلة أو نخبوية بمواصفات حداثية لا تقل عن كتل شباب الحركات الطليعية “وول سْتريت” و”ساحة تقسيم” و”ميدان التحرير” و”ساوباولو” و “سيول”.

لكن ومنذ الآن وكما حصل سابقا ومرارا، فإني أتوقع أنه خلال أقل من عام سيلتحق الكثير من هـؤلاء بمن سبقهم من عشرات آلاف الشباب للعمل في الخارج الأوروبي أو الأميركي أو في “الداخل” الخليجي الدبيّاني بصورة خاصة. وستتلقى الكفاءات الشبابية اللبنانية المشاركة في التحرّك  والمتعددة الطوائف التي ترصدها الجهات المانحة والشركات المهمة الغربية في بيروت عروضا للعمل أو أن طلباتها ستُقبل بمعظمها إلى الخارج. بينما ستبقى مجموعات العنف الشبابي الطائفي، التي ربيت في أحضان الميليشيات في خندق الغميق والطريق الجديدة والدورة وبحمدون وغيرها في بيروت والمناطق، موجودةً يستخدمها النظام الطائفي أحيانا بشكل فاشي وفعال، ستبقى هذه المجموعات بمعظمها إما من دون عمل أو في أعمال في أسفل السلم الاقتصادي جاهزة للقمع الشارعي “النووي”.

إذن أنا غير مؤمن بإمكانية التغيير في ظل “النظام القوي والدولة التافهة” وهو نظام شعبي جدا أي أنه يمثِّل أغلبية المجتمع ولا خيار عقلاني للشباب المتعلّم بشروط التعليم المعولم إلا أن يفعل ما يفعله دائما وبتشجيع من عائلاته وهو الخروج إلى الخارج.

لكنْ كل هذه الصورة الكئيبة لعدم إمكانية التغيير واليائسة تماماً، لن تمنعني من ملاحظة أن اعتراض المجموعات الشبابية على فضيحة النفايات، بما هي حركة احتجاج لا حركة تغيير، قد أدّى بشكلٍ ما ووسط الرائحة والمنظر المقيت ( والخطِر) أينما كان إلى أن تعيش اللغة الساسية اللبنانية إحدى أكثر مراحل نظافتها التعبيرية إنْ لم تكنْ الأنظف على الإطلاق.

أنظروا إلى الشعارات المرفوعة، الكاريكاتورات المرسومة، التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، الصحافة الإلكترونية، الصحافة الورقية… أحاديث الناس… كلها تستخدم كلمة “النفايات” أو “الزبالة” كأنها مستَحضَر جديد لتنظيف الكلام القديم لكنْ كما يمسح المرء بندقيته أو مسدسه المليء بالصدأ. دخلت علينا الزبالة، لغوياً، كمنقذ من رتابة الكلام المستهلك. و”أنتم” (من هم أنتم؟) تعرفون أنفسكم : تشتمون السياسيين فعلاً ولكنكم، أو أغلبكم الساحق، مُوالٍ لهم بل ومتعصّب طائفيا وراءهم. مع ذلك جاءكم المطهِّر الجديد، وهو حصيلة أبشع ما يخرج منا وعنا، كهبة مجانية ومفاجئة، لكي تحاولوا أو نحاول أن نرش عطراً نقديا على اللغة السياسية. لبنان  يشبه هذه الأيام الفيلم الأميركي “عطر” المبني على قصة للروائي  باتريك سوسكند وهي قصة عطّار فرنسي شهير في القرن الثامن عشر يصنع  عطرا رائعاً من أجساد نساء جميلات بعد قتلهن. فيجعل الرائحة مزهرة في أكثر الأمكنة والتربات قذارةً وقرفاً في العالم. إنها الرائحة القصوى جاذبيةً وجمالاً من الجسد الميت.

عطر أزمة النفايات فعّال جدا على اللغة السياسية وليس على الحياة السياسية. اللغة السياسية مسألة توصيف ونقد، الحياة السياسية مسألة فعالية وتغيير. الفعالية معدومة حتى جيل آخر ومحيط إقليمي آخر. اللغة ممكنة وهذا ما يفعله ” اللغويّون السياسيون” الحداثيون المعولمون الشباب في ساحة رياض الصلح. أما الحياة السياسية حيث يسيطر النظام القوي بتفككه وبتواطآت نخب واسعة ذات مصالح داخل الدولة المفلسة لكن غير المتوقفة عن الدفع… هذه الحياة السياسية التغيير الجاد فيها لا قوى بنيوية له حاليا.

مع ذلك منحنا ويمنحنا هؤلاء الشباب اليتامى سياسيا فرصة تنظيف قاسية للغة وأشخاص ومفاهيم. الزبالة الرائعة حين تكشف وسخ النظام لا الإداري فقط بل الطائفي أيضا والاقتصادي أساساً.

مرحبا بكل تجديد في اللغة السياسية.

 

 

 

 

 

هل ينجو ربيع لبنان المذبوح من مصيره المشؤوم؟/ سمير فرنجية

ثلاثة حوادث مهمة تشير إلى تغييرات في المنطقة ولبنان؛ أولها الاتفاق النووي مع إيران، ثانيها “الربيع” العراقي، وثالثها المفاوضات الجارية لتحديد مستقبل سوريا. فهل يستطيع لبنان أن يغتنم هذه الفرص الثلاث، ليحرّر ربيعه المذبوح من المصير المشؤوم؟

الحدث الأول يتعلق بالاتفاق حول النووي بين إيران والمجتمع الدولي، الذي ينهي حقبة تاريخية بدأت في العام 2003، تخللها تصعيد في أكثر من مكان؛ في لبنان مع حرب تموز (2006)، في غزة مع سيطرة “حماس” (2007)، في بيروت مع حوادث 7 أيار (2008)، وصولاً أخيراً الى اليمن.

شكّلت رسالة وزير خارجية إيران في جريدة “السفير” (3-8-2015) إشارة إلى رغبة في تغيير السلوك الإيراني تجاه العالم العربي، مع الحديث عن علاقات حسن الجوار واحترام سيادة الدول والدعوة للتشارك في معالجة أزمات المنطقة. لا يزال هذا التحول في بدايته وينبغي انتظار أفعال ملموسة للتأكد من الوجهة التي تسلكها إيران في المستقبل.

الحدث الثاني، هو هذا “الربيع” العراقي الذي لم يكن أحد يتوقع حدوثه، والذي تمثّل في تظاهرات شعبية تطالب بتحقيق إصلاح فعلي في إدارات الدولة، لإنهاء نظام المحاصصة.

الحدث الثالث يتمثل في المفاوضات الجارية على أكثر من صعيد وفي غير مكان لبتّ مستقبل النظام في سوريا وتحديد طبيعة المرحلة الانتقالية الواجب اعتمادها.

في لبنان، نشهد نهاية حقبة تاريخية طويلة بدأت في منتصف الستينات مع صعود الأحزاب والقوى الطائفية التي حلّت مكان التكتلات السياسية العابرة للطوائف والتي مارست عنفاً على مستويين: داخل كل طائفة لتعيين من يمثلها على صعيد الدولة، وما بين القوى الطائفية لتعيين حصة كل منها في الدولة.

أعاقت تلك الصراعات نموّ المجتمع، وأبقت البلد في حالة “حرب باردة”، كما أضعفت مناعة اللبنانيين حيال التطورات الجارية في المنطقة، فمهّدت، بذلك، الأرض اللبنانية لاستقبال الحرب “الساخنة” في العام 1975.

بدأ عصر “المقاومات”، من “المقاومة اللبنانية” إلى “المقاومة الوطنية” وصولاً إلى “المقاومة الاسلامية”، ودخلنا زمن “حروب الالغاء”، وآخرها تلك التي يخوضها “حزب الله” في سوريا.

الإشارة الأكثر تعبيراً عن نهاية هذا الزمن، أتت من التيار العوني الذي استخدم كل الشعارات الطائفية للإستنفار المسيحي، فجاء ببضعة مئات إلى ساحة كانت قبل سنوات قد جمعت مئات الألوف منهم، جنباً إلى جنب مع المسلمين.

نهاية هذه الحقبة التاريخية لا تعني نهاية الأزمة الوطنية. فلا يزال البعض أسير تصورات سياسية وإيديولوجية تزيّن له أنه يخوض معركة الحقّ الأخيرة ضدّ معسكر الباطل، ولن تنتهي هذه الحرب إلا بانتصاره الموعود. ولا يزال البعض الآخر مسكوناً بشهوة السلطة، في حين أن قوى أخرى لا تزال تنتظر ما قد يحصل في الخارج للتكيّف مع نتائجه، من دون المبادرة إلى مواجهة خطر انهيار الدولة ومؤسساتها. إن انهيار هذه الحقبة التاريخية لن يكون فعلياً الا إذا بدأ العمل على وضع الأسس لحقبة تاريخية جديدة.

تبدأ الخطوة الأساس في هذه المجال بإعادة الاعتبار الى التسوية التاريخية التي رسمها اتفاق الطائف والتي تتسع للجميع بعيداً من منطق الغالب والمغلوب، الذي استهوى، على مراحل، كل من استخدم العنف وسيلةً لتحقيق غايات سياسية.

هذه التسوية تحتاج الى عملية إعادة اعتبار، بعد التشويه الذي طالها، نتيجة تولي سلطة الوصاية السورية عملية وضع الاتفاق موضع التطبيق، ونتيجة اختزال الاتفاق بمنطق المحاصصة من قبل القوى الطائفية التي عملت على تعطيله بحجة أن التوافق يعطي الأقلية السياسية حقّ تعطيل خيارات الأكثرية.

اتفاق الطائف هو تسوية تاريخية لأنه يُجري مصالحة في داخل كل واحد منا بين انتماءاته المتعددة، فيُقرّ في آن واحد بحقّنا في التنوع وبحقّنا في المواطنة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.

هذه التسوية التاريخية هي حاجة لطيّ صفحة الماضي ومعالجة ما تسببت به تعبئة النفوس من فتن وصراعات طائفية ومذهبية في لبنان والعالم العربي الذي يشهد حرباً دينية تشبه إلى حدّ بعيد “حرب الثلاثين سنة” التي دمّرت المجتمعات الأوروبية من البلطيق إلى المتوسط، في مواجهات دامية ما بين الكاثوليك والبروتستانت.

هذه التسوية هي المدخل لإعادة الاعتبار إلى نموذج العيش اللبناني المشترك، الذي يكتسب اليوم أهمية مضاعفة في إزاء موجة العنف الطائفي التي تجتاح منطقتنا، والآخذة في الامتداد إلى أوروبا وأفريقيا. وذلك بتظهير فرادة التجربة اللبنانية في العالم أجمع، من حيث شراكة المسلمين والمسيحيين – بصفتيهم هاتين – في إدارة الدولة، وفرادة هذه التجربة في العالم الإسلامي بخاصة، من حيث شراكة السنَّة والشيعة – بصفتيهم هاتين – في إدارة الدولة.

هذه التسوية هي الشرط لإعادة بناء عيشنا المشترك بشروط الدولة، والكفّ عن اعتبار هذه الدولة حقلاً للصراع والتقاسم بين أحزاب طائفية. إن الدولة القائمة على هذه التسوية ينبغي أن تكون في الضرورة دولةً مدنية، حيث القانون – بوصفه تعبيراً عن إرادة عامة – يسري على الجميع دونما تمييز، وحيث العدالة مستقلةٌ تماماً عن السلطة التنفيذية، وحيث في إمكان المواطن الفرد أن يختار قانوناً مدنياً لأحواله الشخصية، وحيث لا تقع المرأة ضحية معايير تمييزية، وحيث لا تكون الإدارة العامة حقلاً للزبائنية على اختلاف أنواعها، وحيث مشاركة المواطن في الحياة العامة مكفولةٌ بقانون انتخابات حديث…

أخيراً، تفسح هذه التسوية في المجال أمام انهاء الانقسام العمودي القائم منذ سنوات واستبداله بفرز من طبيعة مختلفة. فرزٌ بين:

الذين استخلصوا دروس الحرب، أو الحروب، من مختلف الطوائف، وأدركوا أهمية الوصل والشراكة مع الآخر المختلف الذي – على اختلافه – يكوّننا مثلما نكوّنه، وهو شرطُ وجودنا كما نحن شرطُ وجوده في مشروع العيش معاً.

والذين، من مختلف الطوائف أيضاً، لم يغادروا كهوف عصبياتهم الطائفية والمذهبية، ولا يزالون يعتبرون الآخر المختلف مصدر تهديد لوجودهم.

على قاعدة هذا الفرز الجديد، ينبغي نسج علاقات شركة وتضامن عابرة للطوائف والمناطق، في ما بين الذين يرفضون العنف ويبدون استعداداً للنضال معاً ضد كل أنواع التطرّف.

* * *

لكي ينجو ربيع لبنان المذبوح من مصيره المشؤوم، ينبغي طي صفحة الماضي، اليوم قبل الغد، والعمل على بناء دولة تتسع للجميع وتقدر على حماية الجميع.

النهار

 

 

 

 

استقلال لبنان في حقائقه التاريخية وميثاقه الوطني وصيغته الطائفية/ مسعود ضاهر

في العام 1977 أصدر المؤرخ والباحث الأكاديمي الدكتور مسعود ضاهر كتابه المرجعي، “لبنان: الإستقلال، الصيغة والميثاق”، في مجال ترسيخ منهجية التاريخ الإجتماعي بهدف تجاوز المرويات الطائفية التي كانت المصدر الأهم في كتابة تاريخ لبنان. اليوم، بعد ثمانية وثلاثين عاماً على نشر الطبعة الأولى منه، وإعادة إصدار الكتاب في طبعة ثانية، تبرز الحاجة إليه، في ضوء الأخطار الكيانية والوجودية التي تحدق بالاستقلال اللبناني، بل بوجود لبنان. ننشر، في ما يأتي، مقدمة الطبعة الثالثة الجديدة، التي تصدر قريباً لدى “دار الفارابي”، تنبيهاً إلى هذه الأخطار، ودرءاً لما يمكن أن تنطوي عليه التحللات الداخلية وما تنذر به الفجائع الإقليمية من مترتبات ونتائج على الكيان اللبناني.

في الأول من أيلول 1920 أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير في حدودها الحالية، وفي رعاية فرنسية في ظل نظام الانتداب الذي أقرّته عصبة الأمم. وفي 8 تشرين الثاني 1943 حررت الحكومة اللبنانية دستور 1926 من النصوص التي تعطي صلاحيات مطلقة للمفوض السامي، فردّت المفوضية العليا الفرنسية باعتقال القيادات السياسية العليا في لبنان في 11 منه وسجنتهم في قلعة راشيا التاريخية، وامتلأت ساحات لبنان بتظاهرات صاخبة في مختلف المناطق، ومن جميع الطوائف، ومورست ضغوط كبيرة من جانب دول عربية وعالمية كبيرة، مما اضطر الفرنسيين إلى اطلاق المعتقلين في 22 تشرين الثاني 1943 الذي اعتُبر عيداً رسمياً لاستقلال لبنان الوطني. فما هي أبرز حقائق تلك المرحلة من تاريخ لبنان المعاصر، بأبعادها الداخلية والإقليمية والدولية؟

استقلال لبنان في إطاره التاريخي

أعلن الفرنسيون دولة لبنان الكبير تحت شعار تدريب اللبنانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم من دون وصاية خارجية، كما ورد في صك الإنتداب. لكن إدارة الإنتداب مارست وصاية حقيقية على السوريين واللبنانيين معاً، وعيّنت حاكماً فرنسيا على دولة لبنان الكبير. حفظ دستور العام 1926 للمفوض السامي الفرنسي صلاحيات مطلقة مكّنته من تعديل الدستور أو تعطيله ساعة يشاء. وتولت إدارة الإنتداب شؤون الجمارك، وأطلقت شركة الريجي التي تحكمت بمزارعي التبغ. فكان على اللبنانيين والسوريين العمل معاً لنيل الاستقلال التام من دون وصاية أو حماية. وفي العام 1932 شجعت بريطانيا العراق على دخول عصبة الأمم، مما دفع اللبنانيين والسوريين إلى المطالبة بإبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدة صداقة وتعاون في ظل حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا التي شجعت هذا التوجه إلى أن تخلت عنه بعد سقوط حكم الجبهة، فقرر اللبنانيون والسوريون خوض معركة الاستقلال التام لإخراج القوات الفرنسية من أراضيهما.

كانت غالبية القوى اللبنانية في بداية عهد الانتداب منقسمة بين كتلة توالي الفرنسيين وأخرى تعارضهم. وبعدما خبر الجميع حكم الوصاية الفرنسية، توزعت القوى السياسية الرئيسية في لبنان بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية، وكلتاهما ترفع شعار إستقلال لبنان. وبعد سلسلة مؤتمرات الساحل الإسلامية المنادية بالوحدة مع سوريا، تراجعت حماسة الوحدويين اللبنانيين بعد مؤتمر 1936. ودعت الكتلة الوطنية في سوريا اللبنانيين إلى النضال من أجل إستقلال وطنهم أولا. وتعزز الشعور الوطني بالاستقلال عند فئات واسعة من اللبنانيين على قاعدة التخلي عن الحماية الفرنسية مقابل التخلي عن شعار الوحدة الإندماجية مع سوريا.

وبعدما سقطت فرنسا في الحرب العالمية الثانية تحت الإحتلال الألماني، تشكلت فيها حكومة فيشي الموالية للألمان، وحكومة فرنسا الحرة الموالية لدول المحور. وتصارع الفرنسيون الأحرار والفيشيون في مناطق إنتدابهم. وأعلن الجنرال كاترو استقلال لبنان في 8 كانون الأول 1941 باسم الجنرال ديغول، فانتهز اللبنانيون الفرصة للمطالبة باستقلال كامل وغير مشروط ببقاء موقع متميز لفرنسا. بدورها، شجعت بريطانيا اللبنانيين على طلب الاستقلال التام، ورفضت إبقاء موقع متميز لفرنسا، وعملت على الحلول مكانها في سوريا ولبنان. لكن الحرب العالمية الثانية أفرزت قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية أبرزها الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي. فتعاونت الدولتان في مجلس الأمن الدولي على إخراج بريطانيا وفرنسا من المناطق الخاضعة لانتدابهما. واستخدم السوفيات الفيتو في مجلس الأمن لإجلاء القوات الأجنبية عن سوريا ولبنان. في الوقت عينه، برز تحالف وثيق بين قيادات لبنانية وسورية في معركتي الاستقلال والجلاء ضد الانتداب الفرنسي.

حققت معركة الإستقلال ايجابيات كثيرة للبنانيين، فأصبح لبنان دولة مستقلة ذات سيادة، وتبنّت العلم اللبناني الجديد، والنشيد الوطني، وتسلّمت الإدارة اللبنانية، وبنت الجيش الوطني، وشاركت في توقيع بروتوكول الاسكندرية وتأسيس جامعة الدول العربية. وأصر قادتها على جلاء جميع الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية. ودخل لبنان في الأمم المتحدة عضواً مؤسساً. وتحررت الليرة اللبنانية من وصاية الفرنك الفرنسي أولاً، ومن دمجها بالليرة السورية ثانياً. وأقرت الدولة الجديدة الانفصال الجمركي وتحديد المصالح المشتركة بين الجانبين اللبناني والسوري، وغيرها. وعمل قادة الاستقلال في البلدين على فك التحالف التاريخي الذي ساعد على إنجاح معركة الاستقلال، وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية وتعزيز الحواجز الجمركية بين البلدين.

استقلال يحميه ميثاق وطني وصيغة طوائفية

ليس من شك في أن كثافة الادلجة المعتمدة في كتابة تاريخ لبنان، في جميع مراحله، شوّهت الكتابة العلمية حول قيام دولة لبنان الكبير واستقلالها. فتم تغييب الوثائق الأساسية أو الاعتماد على جزء إنتقائي منها بهدف تضخيم صورة الذات الطائفية التي تشوّه صورة لبنان الوطن، واعتماد مقولات مشوهة تنمّي الحس الطائفي على حساب الإنتماء الوطني. وبرز “صراع إيديولوجي على تاريخ لبنان”. ونُشرت مقولات مغلوطة، كليا أو جزئيا، وأُغفلت عمداً الدراسات الرصينة التي حذرت من أخطار الصيغة الطوائفية كركيزة للنظام السياسي في لبنان المستقل. في المقابل، اعتبر بعض المؤرخين القومويين، سورياً وعربياً، أن لبنان الكبير دولة مصطنعة أقامها الانتداب الفرنسي بناءً لرغبة طائفة معينة، وربطوا قيامها بوعد بلفور والشروع في تنفيذ المشروع الصهيوني لقيام دولة إسرائيل ودعمها لترسيخ التجزئة التي أقرّتها اتفاقات سايكس- بيكو لمنع تحقيق الوحدة العربية.

وتزامنت معركة استقلال لبنان مع نشر تهم دغمائية وقوموية كثيرة، فوصف البعض استقلال لبنان بالهش لأنه لم يتعمد بدماء المناضلين اللبنانيين، ونعته البعض الآخر بأنه صنيعة الجنرال سبيرز لتعزيز النفوذ البريطاني على حساب النفوذ الفرنسي في شرق البحر المتوسط، وقد ولد في لحظة سقوط الدولة الفرنسية تحت الإحتلال الألماني. لكن التيار القوموي، بوجهيه السوري والعروبي في لبنان، فقد الكثير من نفوذه بسبب التبدلات المتسارعة على الساحة السورية وكثرة الانقلابات المتكررة فيها، وإعدام زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده بتواطؤ من القيادة السورية، وإتمام القطيعة الاقتصادية بين لبنان سوريا، واغتيال الزعيم اللبناني رياض الصلح بصفته أبرز دعاة القومية العربية العقلانية التي تؤمن بدور لبنان الطليعي في محيطه العربي. وتجاهلت الكتابات الطائفية المؤدلجة دور القوى الديموقراطية والعلمانية واليسارية في معركة الإستقلال التي ساهم فيها الحزب الشيوعي اللبناني بدور بارز، بالتنسيق مع الإتحاد السوفياتي. وذلك يتطلب تفكيك الخطاب الايديولوجي الطائفي، وتحليل الأهداف المعلنة لتبنّي صيغة الميثاق الوطني غير المكتوب، وهي صيغة طوائفية تستعيد صيغة نظام المتصرفية أو لبنان الصغير التي تطورت إلى صيغة لبنان الكبير المستقل. وتميزت الصيغة الجديدة عن سابقتها بخصائص واضحة أبرزها حرص القوى السياسية اللبنانية على إقامة التوازن بين الداخل اللبناني والخارج الإقليمي والدولي. فلم تعد صيغة طائفية بأغلبية مارونية تكرر مقولة “لبنان والمارونية توأمان”، لتقابلها صيغة شيعية هدفها “البحث عن تاريخنا في لبنان”، أو صيغة سنّية تستند إلى “تاريخ لبنان الاسلامي”. وتعارضت صيغة “لبنان اللبناني” مع صيغة “لبنان المندمج” كلياً في محيطه القومي السوري او العربي أو المتوسطي أو الاممي. فالصيغة الجديدة تستند حصريا إلى استقلال لبنان، مع الترويج لهوية مستقلة او “لبنان في ذاته” وليس “لبنان بين مشرق ومغرب”. وتنسب لبنان إلى حضارة ممتدة عبر ستة آلاف سنة، وأقيم على أرضه تراث حضاري هو ملك لجميع اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. وهي صيغة التغني بمقولات لبنان ملجأ الطوائف المضطهدة، ولبنان الأبجدية، ولبنان التنوع الثقافي والتعددية العرقية، ولبنان الصيغة الحضارية التي يفتخر بها جميع اللبنانيين لأنها مختبر للتفاعل بين الشعوب والحضارات، ولبنان الرسالة، وغيرها.

معركة الإستقلال والدروس المستفادة

حين تسلّم قادة الاستقلال مقاليد السلطة، سار معظمهم على النهج الانتدابي السابق، فتجاهلوا من ناضل دفاعاً عن الاستقلال وسقط بين قتيل وجريح ومعوق تحت ستار المحافظة على علاقات جيدة مع فرنسا بعد انسحاب قواتها من لبنان. وتجاهلت دولة الاستقلال دور القوى الوطنية التي حمت الاستقلال بصدورها العارية في بشامون وراشيا وغيرهما من المناطق اللبنانية، كما تجاهلت دور القوى غير الطائفية التي لعبت دورا ملحوظا في معركة الاستقلال، وتبنت الصيغة الطوائفية باسم الميثاق الوطني غير المكتوب لتوزيع المراكز الأساسية محاصصةً في دولة الاستقلال، وصيغة العروبة النفعية أو عروبة المصلحة في التعاون مع الدول العربية، إلى أن اضطرت في دستور 1992 إلى الاعتراف بعروبة الذات من دون التخلي عن عروبة المصلحة. وبدأت الترويج لما سمّته “المعجزة الاقتصادية اللبنانية”، و”لبنان سويسرا الشرق” في خمسينات القرن العشرين. نتيجة لذلك، تأسست قواعد صلبة لنظام طائفي تحول أخيراً إلى نظام مذهبي يجدد أزماته الدورية. وذلك يتطلب لمحة سريعة جداً لتحليل السمات الأساسية للمرحلة الممتدة من الاستقلال السياسي للبنان في العام 1943 حتى اليوم وآفاقها المستقبلية. فالصيغة الطوائفية تواجه اليوم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تنفيذه وفق استراتيجيا اميركية – اسرائيلية مشتركة تهدد وجود لبنان كوطن حر، ودولة مستقلة ذات سيادة على كامل أراضيها. فبعد مرور أكثر من سبعين عاما على الاستقلال نطرح السؤال: ماذا بقي اليوم من قيم الوحدة الوطنية التي تجلت في معركة الاستقلال لعام 1943؟

لقد تعزز دور الطائفية بدلاً من إلغائها كما تمنى الرئيس رياض الصلح، وتبنى زعماء الطوائف ديموقراطية توافقية نعتها مهندس الصيغة اللبنانية، ميشال شيحا، بأنها “ديكتاتورية مقنعة”. وتميز العهد الاستقلالي الأول بالفساد الإداري والمالي وبروز ظاهرة سماسرة العهود الاستقلالية المتعاقبة التي تضم حاشية العائلة والأقربين. وتم تزوير الإرادة الشعبية في انتخابات 25 ايار 1947 تمهيدا لبدعة تعديل الدستور وتمديد الولاية التي أصبحت هدفاً سعى إليه عدد متزايد من رؤساء الجمهورية اللبنانية. واستمر حكم الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني قبل الاستقلال ولعقود طويلة بعده. ولم يستفد اللبنانيون من تجارب الدول ذات التعددية السكانية والعرقية والثقافية واللغوية والدينية التي نجحت في بناء دول ديموقراطية عصرية عرفت كيف تحافظ على التعددية السكانية والتنوع الثقافي في ظروف إقليمية ودولية مضطربة. وأجرى المثقفون اللبنانيون مقارنات عدة بين التجربة اللبنانية والتجربة السويسرية بعد وصف لبنان مراراً بسويسرا الشرق، فأكد بعضهم أن تجربة سويسرا في التعددية والتنوع شبيهة في بعض جوانبها بالتجربة اللبنانية من حيث الشعارات التي رفعتها: كالعيش المشترك، والحفاظ على الحريات الفردية والجماعية، ورفض العنف والانعزال والشعارات التي تهدد الوحدة الوطنية. لكن المقارنة غالباً ما كانت شكلية وغير مقنعة. فقد نجحت التجربة السويسرية بفضل قادة متنورين من العلمانيين، وبورجوازية عقلانية شاركت في تطوير الإنتاج والقوى المنتجة وجعلت من سويسرا بلداً معروفاً جداً في عالم المال والاقتصاد على المستوى العالمي. في المقابل، لا يزال اللبنانيون أسرى بورجوازية ريعية، تركّز على الخدمات، والمضاربات العقارية، والوساطة التجارية، وأدخلت لبنان في أزمات اقتصادية ومالية وإجتماعية مستمرة بوتيرة متصاعدة منذ الاستقلال. وتضخم دور الطائفية كثيراً لتتحول إلى مذهبية ضيقة تعمل على تدمير الوحدة الوطنية في لبنان. وفي حين أنشأت سويسرا جيشاً عصرياً يعتبر من أفضل جيوش العالم خبرةً وتسليحاً، تبنى قادة الاستقلال شعارات خلافية أبرزها: “قوة لبنان في ضعفه” و”لبنان تحميه صداقاته الخارجية”، و”الحياد الإيجابي” في الصراع العربي – الاسرائيلي. علماً أن تلك الشعارت الخادعة لم تثبت جدواها على أرض الواقع بل عرضت وحدة لبنان للتفكك وأراضيه للإحتلال. وكان مهندس الصيغة الطوائفية في لبنان، ميشال شيحا، من أوائل الذين نبّهوا إلى أخطار المشروع الصهيوني على لبنان، في كتابه المشهور “فلسطين”.

بعد تحالف وثيق وطويل الأمد بين القيادتين والشعبين اللبناني والسوري في معركة الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي، عمل قادة البلدين على فك ذلك التحالف وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية، والانفصال النقدي والجمركي. ساند قادة الاستقلال اللبناني بورجوازرية الخدمات والوساطة التجارية، والمضاربات العقارية، وتجاهلوا بالكامل دور قوى المنتجة والعاملة في القطاعين الصناعي والزراعي على امتداد الأراضي اللبنانية، وساروا على خطى الفرنسيين في تشجيع التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي، وتعزيز التعليم باللغتين الفرنسية والإنكليزية الذي قاد لاحقاً إلى تراجع نوعي في التعليم والإنتاج الثقافي باللغة العربية. وتم تجاهل الدراسات العلمية التي أطلقها غبريال منسى، وموريس الجميل، والأب لوبريه منسق بعثة “إيرفد”، وغيرها من الدراسات الرصينة التي دعت إلى الاهتمام بالأرياف اللبنانية، وتنويع مصادر الدخل في لبنان بتطوير الانتاج والقوى المنتجة الى جانب قطاع الخدمات. ولم تظهر دولة الاستقلال اهتماماً جدياً بدراسات المهندس ابرهيم عبد العال المائية الذي دعا إلى ضرورة الافادة من مياه لبنان التي تذهب هدراً إلى البحر، وبناء السدود الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بأعداد كبيرة لأن لبنان معرض للتصحر ما لم يتم تدارك هذا الخطر قبل فوات الأوان. ولم تساعد القطاعات المنتجة في الزراعة والصناعة على تثبيت اللبناني على أرضه مع توفير شروط العيش الكريم له ولأسرته. فتزايدت حدة الأزمة إلى أن باتت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة في المدن والأرياف اللبنانية أشد سوءا مما كانت عليه في مطلع عهد الاستقلال. وأجهض تحالف الاقطاع السياسي مع بورجوازية الخدمات جميع الاصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية التي أنجزت في عهد الرئيس فؤاد شهاب ووصفها الدكتور إيلي سالم في أطروحته المتميزة “تحديث بدون ثورة”. ونظراً إلى الفشل المستمر في مختلف مجالات الإصلاح، بقيت الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني، وشهدت مرحلة اتفاق الطائف تحالف رأسمالية الخدمات مع ابناء العائلات التاريخية، من دون أن تحدث نقلة نوعية في النظام السياسي الطائفي الذي يواجه اليوم مأزقاً بنيوياً يصعب تجاوزه. وتراجع دور التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، ومعها دور الأحزاب اللبنانية غير الطائفية، والنقابات العمالية، والإتحادات المهنية الجامعة.

إشكالية المقاومة والدولة الوطنية في لبنان

سعى المشروع الصهيوني منذ انطلاقته الأولى مع وعد بلفور إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل، فدخل لبنان دائرة الخطر الوجودي كشعب حر، ودولة مستقلة ذات سيادة تامة على أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية المعترف بها دوليا. وهيمنت المنظمات الصهيونية على مساحات واسعة من لبنان، وكثفت إسرائيل إعتداءاتها اليومية على لبنان، وكان الشريط المحتل يتمدد باستمرار داخل الأراضي اللبنانية، فتقدم لبنان بآلاف الشكاوى ضد إسرائيل، وهي مسجلة رسمياً في الأمم المتحدة التي لم تتحرك لفرض عقوبات عليها بسبب الرعاية الأميركية المستمرة لها.

بعد إنفجار الحرب الأهلية في لبنان لعام 1975، استغلت إسرائيل إرسال قوات عربية، سورية في الغالب، إلى لبنان، لضبط الأوضاع فيه، فبادرت في العام 1978 إلى احتلال مساحات واسعة من جنوب لبنان، وإنشاء قوى عميلة تتحكم بسكّانه، مما استدعى تحركاً لبنانياً وعربياً ودولياً أثمر عن صدور القرار 425 لعام 1978 عن مجلس الأمن الدولي، الذي نص على انسحاب إسرائيل الفوري من لبنان من دون قيد أو شرط. لكنها لم تنسحب من شبر واحد من أراضيه المحتلة بل سارعت إلى احتلال قرابة نصف مساحة لبنان في العام 1982، وكانت بيروت أول عاصمة عربية تقع تحت الإحتلال الإسرائيلي. ونظراً لتفكك الدولة اللبنانية ومؤسساتها السياسية والعسكرية، بادرت القوى الوطنية والتقدمية إلى إطلاق “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” التي ضمّت في البداية أحزاباً عقائدية، وعلمانية، وقومية، ومنظمات سياسية مختلفة تعبّر عن جميع أطياف المجتمع اللبناني المقاوم. ثم اتخذت لاحقاً صفة المقاومة الإسلامية، ونجحت في إخراج إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية المحتلة في 24 أيار من العام 2000، باستثناء مزارع شبعا وقرية الغجر. وبرعاية سورية واضحة، نجحت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد اتفاق الطائف في تبنّي مقولة “الشعب والجيش والمقاومة” لحماية لبنان من غزو إسرائيلي محتمل. فاحتفظت المقاومة بسلاحها بعدما جُرّدت الميليشيات من سلاحها وأُدخلت أعداد كبيرة منها في مؤسسات الدولة، وبخاصة العسكرية منها. وتبلورت معارضة واسعة تطالب بإخراج السوريين من لبنان بعدما مارسوا أساليب الوصاية على المؤسسات اللبنانية، والتحكم بالإنتخابات النيابية، ورئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومات، والتدخل المباشر في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

وزادت حدة الأزمة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، فاستغلت إسرائيل نقمة اللبنانيين على المتهمين بقتل الحريري، وفي طليعتهم سوريا و”حزب الله” لتعلن حرباً مدمرة على لبنان في صيف 2006 انتقاما لهزيمتها في العام 2000. لكنها فشلت مجددا من دون أن تتخلى عن هدفها الإستراتيجي بتدمير المقاومة اللبنانية التي تبنت استراتيجيا الرد الشامل على محاولة تغيير حدود الدول في منطقة الشرق الأوسط بأكملها وإبدال إتفاقات سايكس – بيكو القديمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد في رعاية أميركية – إسرائيلية مشتركة لإمرار المشروع الصهيوني. وبعد اتفاق الدوحة لعام 2008 أقيم حوار وطني جامع لوضع استراتيجيا دفاعية يكون هدفها الافادة من سلاح المقاومة لحماية لبنان من أخطار المشروع الصهيوني. ودعت القوى الديموقراطية مراراً إلى إطلاق مبادرات وطنية جامعة للرد على إسرائيل، أبرز بنودها: تمسك اللبنانيين بمشروع الدولة والمؤسسات الشرعية وبميثاق الطائف والدستور، وتشكيل حكومات وطنية جامعة، واستكمال الحوار الوطني بشأن السلاح غير الشرعي في لبنان، وتأكيد دور الجيش اللبناني بصفته المؤسسة الضامنة للوحدة الوطنية، وإبعاد لبنان عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية. فكان تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي عملاً بطولياً رائداً في تاريخ العرب المعاصر بسبب التضحيات البشرية والاقتصادية الكبيرة التي قدّمها شعب لبنان المقاوم. لكن فساد الطبقة السياسية في لبنان والعالم العربي عرّض ذلك الانجاز التاريخي للخطر الشديد، كما أن القوى الوطنية اللبنانية لم تحسن توظيفه في بناء دولة ديموقراطية سليمة تحصّن المجتمع اللبناني من الفتن الطائفية والمذهبية، وتحافظ على وحدة لبنان واستقلاله وسيادته. بيد أن ثقافة المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، المسلحة منها أو بأشكال أخرى، شكلت نقطة تحول جذرية ومضيئة في تاريخ لبنان المعاصر. وتقع مقاومة الهيمنة الخارجية في منزلة القلب من مشروع إصلاح النظام السياسي الطائفي في لبنان بعدما أثبتت المقاومة الوطنية قدرة اللبنانيين على بناء كتلة بشرية واسعة تحمل أهدافاً وطنية شاملة لحماية وطنهم من الأخطار التي تهدد وجوده. وعلى رغم الصيغة السياسية الطوائفية المتخلفة، قدّم اللبنانيون النموذج الأرقى لدور ثقافة المقاومة في تصليب الجبهة الداخلية ورفض التطبيع مع العدو الصهيوني.

من دستور الطائف إلى اتفاق الدوحة

على رغم مرور أربعين سنة على انفجار الحرب الأهلية المدمرة لعام 1975 التي طالت الانسان والأرض والاقتصاد، وما رافقها من صيغة اتفاق الطائف الذي أعلن في العام 1989 بمشاركة عربية ودولية لوقف الحرب في لبنان، لم يستخلص زعماء الطوائف اللبنانية الدروس اللازمة لمنع تجدد الحرب الأهلية في لبنان. فإلى جانب تكريس عروبة الذات، كرّس اتفاق الطائف، والدستور الذي بني على اساسه، صيغة طائفية هشة نسفت ركائز الإدارة اللبنانية، وعرّضتها للشلل التام، ومنعت كل اشكال الإصلاح السياسي والإداري، فتحولت الطائفية إلى مذهبية، والوحدة الوطنية إلى مقاطعات طائفية تحكمها الدولة بالتراضي مع زعماء الطوائف المحليين. وبقيت التوصيات التنموية التي نص عليها اتفاق الطائف حبراً على ورق، ومنها اللامركزية الإدارية، وتعزيز دور الجامعة اللبنانية، والتوافق على كتاب التربية الوطنية والتاريخ المدرسي الموحد، وغيرها. وتمخض اتفاق الطائف عن تبدلات دستورية ذات طابع طوائفي فكّكت ركائز النظام السياسي وأدت إلى إضعاف مركزية الدولة اللبنانية ومؤسساتها. وعاش اللبنانيون مرحلة الخوف الدائم على المصير في دولة لم تعد تتمتع بالحد الأدنى من سمات الدولة العصرية القابلة للإستمرارية بصيغتها الراهنة.

تميزت الفترة من 2008 إلى 2015 بتأجيج الصراع المذهبي في لبنان والمنطقة المجاورة. وزادت حدة الممارسات التكفيرية والإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأخواته. ولا يزال التدخل العربي والاقليمي والدولي يلعب دوراً أساسياً في إطالة حرب الاستنزاف في سوريا، وإغراق لبنان في نزاعات داخلية تهدد وحدته الوطنية. وبات اللبنانيون على اقتناع تام من أن استمرار الصراع في سوريا يقود حتماً إلى زعزعة الاستقرار في لبنان، وأن النزاع الداخلي اللبناني بصيغته الطائفية والمذهبية يُستخدم لأهداف إقليمية تهدد وجود أكثر من دولة في الشرق الأوسط.

تبدو الجهود العربية والدولية اليوم عاجزة عن احتواء الأزمة اللبنانية، وإعادة طرفي النزاع في لبنان للعمل معاً على استقرار لبنان وتعزيز الجبهة الداخلية. وهي مدعوة مجدداً لحماية المجتمع اللبناني من سلبيات الحوادث الدموية التي تنذر بفتن طائفية ومذهبية مدمرة. ليس من شك في أن ساسة لبنان لم يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية لضبط التشنج السياسي والمذهبي المتمادي إلى ابعد الحدود، ولم يعملوا على حل أيٍّ من المشكلات الكبيرة التي تواجه اللبنانيين، فزادت نسبة الفقر والبطالة، واستفحل التعصب الطائفي والمذهبي، وانتشرت المخدرات والجريمة والسرقات والفساد الإداري والمالي على نطاق واسع. وتهدد أمن اللبنانيين بصورة مرعبة بعد انفجار الحرب في سوريا، مما دفع القوى النقابية الطليعية إلى التضامن عبر هيئة التنسيق النقابية، التي خاضت نضالات مطلبية بأبعاد سياسية، واجتماعية، واقتصادية فاعلة وغير مسبوقة في تاريخ لبنان المعاصر. كما أن التحركات النقابية والإجتماعية الواسعة التي شهدها لبنان في العام 2013 لم تخفف الاحتقان الطائفي والمذهبي المتزايد. كما أن النظام السياسي الطائفي لا يزال يعمل لصالح قيادات سياسية بنت استراتيجيتها على تشجيع الولاء المذهبي على حساب الولاء الوطني، وتنمّي مصالحها الشخصية على حساب المصلحة الوطنية العليا، وتعزز ارتباطها التبعي بقوى إقليمية على حساب الوحدة الوطنية الضامنة لإستقلال لبنان وسيادته ووحدة شعبه. وأضيفت إليها تداعيات الأزمة السورية المستمرة منذ ثلاث سنوات، التي دفعت بقرابة مليوني نازح سوري إلى لبنان، فزادت من حدة مشكلاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وأثبتت الحوادث الدموية المستمرة بوتيرة متزايدة في لبنان، أن النظام السياسي الطائفي لم يعد قادراً على تجديد نفسه في ظروف انفجار الإنتفاضات العربية لعام 2011. وبعدما أسقطت الشعوب العربية أنظمة عربية عدة، من المتوقع ألاّ تبقى الأوضاع العربية من دون تغيير لأن الشعوب العربية كسرت حاجز الخوف من أنظمة الإستبداد والقمع. وهي تعمل على منع تجددها بكل الوسائل المتاحة. كما أن المقاومة الإسلامية حسمت خيارها الإستراتيجي بالإنخراط في معركة مصيرية استقطبت دولا إقليمية كبيرة، وشهدت تحالفات عربية وعالمية تحت شعار تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير أو التصدي له لمنع تغيير الحدود الجغرافية لدوله.

يؤكد تفاقم الأزمة الراهنة في لبنان اليوم، وفي ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة، أن النظام السياسي اللبناني يفتقر إلى قيادات وطنية جامعة، وإلى مؤسسات مركزية قوية تحصّن اللبنانيين من أخطار الانجرار السهل وراء قيادات مذهبية لا تتورع عن إشعال حرب أهلية دفاعاً عن مصالحهم. وهي تعتمد أسلوب الإحراج المتبادل لمنع أيّ إصلاح جذري، مما أدى إلى تفكك مؤسسات الدولة اللبنانية التي بنيت على ديموقراطية توافقية لضمان مصالح زعماء الطوائف وليس مصالح المواطنين وحماية التعددية والتنوع.

لا يزال تقسيم الدوائر الانتخابية أسير صيغة إتفاق الطائف، وهو يتناقض جذرياً مع أبسط أشكال الديموقراطية وحقوق المواطن. وقد فصلت الدوائر على مقاس زعماء الطوائف ومصالحهم الشخصية. وباتت النتائج النهائية معروفة سلفاً لعدد كبير من المقاعد النيابية قبل إجراء العملية الانتخابية نفسها، مما ساعد على استمرار الأزمة اللبنانية عبر التجديد لقياداتها الميليشيوية التي عجزت عن تحصين لبنان من أخطار الصراعات الإقليمية والدولية المتفجرة برعاية أميركية – عربية- إسرائيلية. بالإضافة إلى اختراق صهيوني متزايد للطبقات السياسية الحاكمة على امتداد العالم العربي، والإهتزاز الأمني في غالبية الدول العربية التي باتت عرضة لأزمات داخلية وأخرى وافدة من وراء الحدود، مما جعلها عرضة لإملاءات خارجية ذات أهداف غير عربية، لا بل ضد مصالح الشعوب العربية. وهناك شعور كبير بالعجز عن إصلاح النظام السياسي الطائفي لدى الغالبية الساحقة من المثقفين اللبنانيين بسبب غياب المشروع الوطني الجامع لدى فريقي الموالاة والمعارضة معا، وانعدام قدرة قوى التغيير الجذري لدى أحزاب ومنظمات المجتمع المدني في إيجاد موقع لها في التركيبة السياسية المتناحرة على السلطة. وبعدما رفض زعماء الطوائف التوافق على قانون جديد للانتخاب، مدّد البرلمان لنفسه مرتين من دون أي مبرر شرعي، وتعطلت مؤسسات الدولة، وبرز فراغ على مستوى الحكومة بعد فراغ مستمر منذ أكثر من عام في موقع رئاسة الجمهورية. وليست هناك إرادة سياسية جامعة لتحقيق شراكة وطنية حقيقية، أو عقد سياسي جماعي لبناء مواطن خارج القيد الطائفي، ودولة ديموقراطية عصرية.

ومع غياب المشاريع الوطنية القادرة على إنقاذ لبنان الوطن المهدد بالتطرف الديني، والعصبيات السياسية، والميليشيات العسكرية، والمحاور الإقليمية، والتدخلات الخارجية، يصعب الحديث عن مستقبل مشرق للبنان في حال بقاء زعماء طوائفه عاجزين عن تنظيم انتخابات نيابية ديموقراطية على قاعدة قانون عصري للإنتخاب يساوي بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، او تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، أو الجلوس إلى طاولة للحوار من دون شروط مسبقة للتوافق على استراتيجيا وطنية للدفاع تحمي اللبنانيين من الأطماع الإسرائيلية. كما أن سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية لم تنجح في منع بعض القوى اللبنانية من التدخل مباشرة إلى جانب النظام أو المعارضة في الصراع العسكري في سوريا. فشهد لبنان موجة تفجيرات إرهابية طالت جميع المناطق اللبنانية، وأودت بحياة مئات الأبرياء، وقيام فتن طائفية ومذهبية متنقلة، وإرهاب إقليمي ودولي منظم، فبات مصير لبنان أسير نزاعات إقليمية ودولية متفجرة في الشرق الأوسط.

أخيرا، في العام 2015، يعيش اللبنانيون ظروفاً صعبة جداً بسبب الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والتفجيرات الأمنية التي طالت معظم المناطق والطوائف اللبنانية. وهي الثمرة المرة لأداء طبقة سياسية فاشلة ساعدت على تزايد حدة العصبيات الطائفية، والتطرف الديني، والإهتزاز الأمني، والتدخل الإقليمي، والإختراق الصهيوني. لم تتعظ الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بموجب إتفاقي الطائف والدوحة من دروس النظام الطائفي الذي بني على الميثاق الوطني في مطلع عهد الإستقلال. فتحول لبنان إلى تجمعات طائفية ومذهبية لا تخضع لدولة القانون والعدالة والمؤسسات، وعم الفساد والنهب العلني من دون رقيب أو حسيب. وزوّرت إرادة الشعب اللبناني تحت لافتة ديموقراطية شكلية وانتخابات برلمانية زائفة. تهدد بعض القوى السياسية بالفيديرالية، والتقسيم، والأمن الذاتي، في ظل موجات التطرف الديني والغرائز المذهبية المتفلتة من الضوابط الأخلاقية والقيم الإنسانية. وشهدت المدن اللبنانية اقتتالاً عبثياً لا يخدم سوى المشروع الصهيوني.

يبدو لبنان بحاجة إلى انتفاضة شعبية لبنانية على أسس وطنية سليمة لمواجهة هذا التفتت الطائفي والمذهبي، وترسيخ مفاهيم الإستقلال الحقيقي والثوابت الوطنية، وفي مقدمها وحدة لبنان وعروبته، وبناء نظام ديموقراطي حقيقي يساوي بين اللبنانيين على مختلف الصعد، وتحرير المرأة من القيود الكثيرة التي تعوق مشاركتها الفاعلة في بناء لبنان الوطن، والحفاظ على الطاقات الشابة داخل لبنان لأن الشباب هم عماد الوطن، والقاعدة الصلبة للتغيير والإصلاح. ومن أول واجبات الدولة المركزية معالجة مشكلات الفقر والفساد، وتحقيق الإنماء المتوازن، واستقلال القضاء، ونشر الأمن على كامل تراب الوطن، وكسر الاصطفافات السياسية والمذهبية، والعمل على توليد تيار وطني عابر للطوائف. غني عن التذكير أن المثقفين اللبنانيين بحاجة ماسة اليوم إلى استعادة مقولات جيل الرواد من المثقفين اللبنانيين الذي ناضلوا بصلابة لبناء لبنان الوطن على أسس علمانية غير طائفية، فتحول مثقفو التنوير إلى رموز مضيئة في سماء لبنان ودنيا العرب لأن حياتهم اليومية كانت مرآة صادقة لكتاباتهم النظرية. وشكلت مواقفهم السياسية والفكرية والنضالية تراثاً رائداً لأجيال متلاحقة من اللبنانيين. وكم نحن بحاجة إلى متنوّرين جدد تستعيد بهم النخب الثقافية العربية بعض احترامها لدى الشباب العربي الذي فجّر انتفاضات شعبية أسقطت رموزاً سياسية فاسدة، وملأ الساحات العربية بملايين الشباب المطالبين بالتغيير الجذري. وغالباً ما يجدون اليوم إلى جانبهم مثقفين محبطين فقدوا الأمل في التغيير الديموقراطي. فأين لبنان اليوم من متنوري مرحلة النضال ضد الإستبداد العثماني، والإنتداب الفرنسي، ومن أجل الإستقلال والسيادة الوطنية؟ ومتى ينخرط مثقفو التنوير في لبنان إلى جانب القوى التي تدافع عن حرية اللبناني، وكرامته، ولقمة عيشه، وحقه في المواطنة والعلم والعمل والسكن، وفي تحقيق حلمه بقيام دولة القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة؟ فلبنان بحاجة دوما إلى مثقف تنويري غير طائفي لبناء لبنان الجديد.

سبعون عاما على الصيغة السياسية الطوائفية في لبنان

يعيش لبنان اليوم مرحلة فراغ سياسي وسط حوادث أمنية متنقلة وبالغة الخطورة تهدد أمن اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. ذلك يطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل لبنان في ظل مواقف متشنجة وغير مسؤولة لقادة سياسيين تقاعسوا عن القيام بدورهم الوطني تجاه شعبهم ودولتهم، وإكتفوا بالاستنكار وإدانة التفجيرات. وهي قيادات مذهبية تناحرت على قانون جديد للإنتخاب لم يبصر النور، ووقعت في الفراغ الدستوري والبرلماني، وعجزت عن تشكيل حكومة مصلحة وطنية جامعة. وأدى الفلتان الأمني إلى خسائر اقتصادية جسيمة شكّلت كارثة اجتماعية وطنية كبيرة طالت لبنان بجميع طوائفه ومناطقه. فاندلاع الفتن بين أبنائه يهزّ ركائز الوحدة الوطنية فيه ويسمح لإسرائيل بإمرار مخططها الإجرامي ضد لبنان. كما أن اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز على أراضي لبنان وفي مياهه الإقليمية، دفع إسرائيل إلى إبراز أطماعها في الهيمنة الكاملة على حصة لبنان من الثروات الطبيعية.

أسست قوانين الإنتخاب في عهدي الانتداب والإستقلال لحياة برلمانية في لبنان أنتجت دولة طائفية رخوة وفاشلة بسبب فساد التمثيل الشعبي الذي بُني على التنوع الطائفي وأنتج قوانين غير عادلة. فترسّخ منطق التسوية اللبنانية على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” ليكتشف اللبنانيون جميعاً غلبة الطبقة السياسية المسيطرة على حساب التمثيل السليم للشعب اللبناني من خلال ديموقراطية شكلية. وهيمنت الأحزاب والمنظمات ذات القاعدة الميليشيوية القادرة على حماية مصالح الزعيم السياسي الذي يجيّش طائفة بأكملها دفاعاً عن مصالحه. وفي ظل الوصاية السورية على لبنان فقدت القوى اللبنانية القدرة على التأثير المباشر في الحياة السياسية في وطنها، فباتت الانتخابات وتشكيل الحكومات تُصنَع في الخارج. وتهمّش دور الأحزاب العقائدية، وعاد بعضها إلى صفوف القوى التقليدية والطائفية. وتخلّى قادتها عن شعارات التغيير الثوري، والإشتراكية والتقدمية والقومية العربية. وانحدر التمثيل البرلماني من الطائفية إلى المذهبية الميليشيوية. وبعدما عجز زعماء الطوائف اللبنانية عن التوافق على قانون عصري للإنتخابات في مؤتمر الدوحة، تبنوا قانون 1960 لإجراء الإنتخابات النيابية عام 2009. ثم تقاعسوا عمداً عن إصدار قانون جديد للإنتخابات طوال سنوات 2009 – 2013، فمدّدوا لأنفسهم من دون أي مسوغ قانوني. ووقفت غالبية قادة الأحزاب الطائفية والقيادات التقليدية ورجال الدين ضد أي قانون عصري جديد يؤسس لحياة ديموقراطية سليمة في لبنان، فتفككت البنية السياسية اللبنانية مع صعود قوى طائفية ومذهبية جديدة كانت أسوأ بكثير من الإقطاع السياسي الطائفي القديم. وتم تغليب البرامج الطائفية على البرامج الإصلاحية والتنموية التي بشّر بها إتفاق الطائف. وشعر المواطن اللبناني بأن دوره مهمّش للغاية لأن قانون الإنتخاب يفضي إلى استخدام محادل انتخابية تتحكم بنتائج الإنتخابات البرلمانية قبل إجرائها، مما أدى إلى شلل شبه تام في النظام السياسي وفي مؤسسات الدولة المركزية. وتمسكت القوى الطائفية والمذهبية بنظام التمثيل الأكثري، وتطييف العملية الإنتخابية، وتكريس زعامة القطب الطائفي على مستوى الدوائر الكبرى وتبعية مرشحي الطوائف الأقل وزناً انتخابياً إلى الزعيم الطائفي الأكبر، فأفضت قوانين الإنتخاب والطريقة المعتمدة في العملية الإنتخابية إلى صيغة طوائفية بالغة الخطورة تهدد بقاء لبنان.

بقي أن نشير إلى أن الجيش اللبناني لا يزال موحدا وصامدا في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية، وبات اليوم ضماناً أساسياً لوحدة لبنان ومنع تجدد الحرب الأهلية فيه بعدما فشلت بعض القوى السياسية اللبنانية في تشويه صورته أو الزج به في نزاعات داخلية للتشكيك في حياده الإيجابي. وهو يلعب دوره الوطني بكفاءة عالية في حماية الوحدة الداخلية، والسلم الأهلي، والحفاظ على وحدة المجتمع اللبناني وما تبقى من هيبة الدولة المركزية. تتحمل المؤسسات اللبنانية الحريصة على السلم الأهلي في لبنان مسؤولية تاريخية لبناء جيش قوي مزود أسلحة حديثة تلبي حاجاته وتطلعاته. وهي فرصة ذهبية لحماية أمن لبنان عبر جيش وطني متماسك لم تخترقه النزاعات الطائفية والمذهبية، واثبت كفاءة عالية في تعزيز ما تبقى من سلطة الدولة.

لقد شارفت الصيغة الطائفية وميثاقها على نهايتها المأسوية التي باتت تهدد بقاء استقلال لبنان ووحدته وسيادته. ولم يعد مفيداً تكرار الأسئلة حول من أطلق صيغة لبنان الكبير، فرنسا أم اللبنانيون؟ ولمصلحة من ولدت؟ وهل لبنان دولة مستقلة، ذات سيادة على أراضيها، ومعترف بحدودها الدولية؟ وغيرها.

يحتاج لبنان اليوم إلى توافق وطني على استراتيجيا سليمة للدفاع عنه في مواجهة الأطماع الصهيونية المعلنة، والتخلي عن أوهام الضمانات الخارجية، وإلى بناء نظام ديموقراطي عصري للحفاظ على التضحيات الكبيرة التي حققها الشعب اللبناني بصموده الرائع في الدفاع عن وطنه. علما أن الحرب المستمرة على أرض لبنان أفرزت ثقافة طائفية مجوفة وفارغة من أيّ مضمون عقلاني أو وطني. وهي تلعب دورا ملحوظا في ضرب الوعي الوطني، وتشجيع الانغلاق الطائفي والمذهبي، وإعاقة نشر العلوم العصرية، وتنشيط مؤسسات لبنانية مذهبية في مختلف مجالات الإعلام والإعلان والثقافة التي تعوق بناء وحدة اللبنانيين على أسس وطنية تتلاءم مع متطلبات عصر العولمة وثقافتها الكونية. ويعاني اللبنانيون اليوم من نظام سياسي لم يتطور من داخله، وكان عصياً على التغيير لأنه نظام لبناني بأبعاد كوسموبوليتية تحصنه من رياح التغيير القسري. وباتت السياسة الطوائفية خطراً داهماً يعوق التغيير الديموقراطي في لبنان بسبب غياب الانتماء الوطني الشامل الذي ناضل من أجله اللبنانيون في معركة استقلال لبنان، وسيادته ووحدة أرضه وشعبه. فهل ينجح دعاة التغيير الديموقراطي في لبنان في تطوير الدستور اللبناني لضمان المواطنة الكاملة؟ وهل يثبت اللبنانيون قدرتهم على إنجاز التغيير الديموقراطي السلمي من خلال التوافق على قانون عصري للإنتخاب يساعد على بناء حياة برلمانية سليمة، وممارسة ديموقراطية حقيقية تحترم نضالات الشعب اللبناني لبناء دولة عصرية متحررة من النزاعات المذهبية والذهنية الميليشياوية؟

كلمات موجزة للتعريف بكتاب قديم

تبنيتُ منهجية التاريخ الإجتماعي التي بدأتُ العمل فيها منذ صدور كتابي “تاريخ لبنان الإجتماعي 1914-1926” بطبعته الأولى عن “دار الفارابي” في بيروت العام 1974 حتى الآن. فكان الأول في بابه من حيث التأريخ للبنان على أسس اجتماعية وليست طائفية. وصدر كتابي الثاني “الإستقلال، الصيغة والميثاق”، عن معهد الإنماء العربي في العام 1977 ثم أعيد طبعه وصدر عن “دار المطبوعات الشرقية” في العام 1984. وتعيد “دار الفارابي” إصدار الطبعة الثالثة العام 2015.

منذ صدور طبعته الأولى ساهم هذا الكتاب في ترسيخ منهجية التاريخ الإجتماعي بهدف تجاوز المرويات الطوائفية التي كانت المصدر الأهم في كتابة تاريخ لبنان. ونشرت عشرات الكتب العلمية بالإستناد إلى الوثائق المكتوبة لمؤرخين لبنانيين تبنّوا منهجية التاريخ الإجتماعي غير الطائفية وساهموا في كتابة تاريخ لبنان على أسس موضوعية. فقراءة متأنية لعناوين الأبحاث التاريخية التي صدرت منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى الآن تشير إلى بلورة ظاهرات جديدة في دراسة تاريخ لبنان على أسس أكثر دقة وموضوعية.

1- لعل الركيزة الأساسية في تاريخ لبنان تكمن في تعزيز التعايش بين الطوائف والمذاهب في الدرجة الأولى. فهي صيغة فريدة ومتميزة في زمن السلم الأهلي، لكنها سرعان ما تتحول إلى بؤر للتوتر والنزاعات الدموية إبان الأزمات الداخلية الحادة والمشاريع الإقليمية والمخططات الدولية. أما وجود قوميات أخرى غير عربية في لبنان فلم يكن مصدر نزاع بين اللبنانيين وليس ما يشير إلى تفجرها بسبب ضعف أعدادها وتمركزهم في أحياء صغيرة أو مناطق محددة.

2- أبرزت الدراسات التاريخية الإجتماعية الحديثة تطور المقاطعات اللبنانية من التجزئة إلى ولادة دولة لبنان الكبير، فتجاوزت مقولة “الأطراف والمركز” أي التركيز على طوائف جبل لبنان أو لبنان الصغير في عهد المتصرفية، إلى إبراز مسيرة العيش المشترك بين طوائف لبنان في دولة لبنان الكبير وعاصمته بيروت، من دون التركيز على أولوية طائفية على أخرى.

3- تزايد حجم الدراسات التاريخية الحديثة التي تبرز دور العامل الإقتصادي في تاريخ لبنان. صدرت في العقود الماضية دراسات عدة تناولت إنتاج الحرير، والضرائب، والتجارة، وتطور الموانئ، وولادة بعض المدن التجارية الساحلية خاصة بيروت، وبروز عائلات التجار في طرابلس، وصيدا، وبيروت وغيرها.

4- تمت الإفادة العلمية من المعلومات التاريخية المتوافرة في وثائق الأرشيف الدولي، والمحاكم الشرعية والوثائق المحفوظة في المؤسسات الدينية والمدنية اللبنانية. وأبرزت معطيات الأرشيف الفرنسي، والإنكليزي، والروسي، والأميركي، التي اطلعتُ عليها أهمية المقارنة بين تلك الوثائق لكتابة تاريخ المقاطعات اللبنانية، قبل قيام دولة لبنان الكبير وبعد قيامها، وإبراز دور زعماء الطوائف اللبنانية في عرقلة التغيير الديموقراطي فيها.

5- أفردت دراسات تاريخية عدة لتحليل الأسباب العميقة للعاميات الفلاحية والإنتفاضات الشعبية وتحليل أشكال الإضطهاد التي كانت من الأسباب الحقيقية لثورات الفلاحين في جبل لبنان. وقدمت بعض الدراسات تحليلاً معمقاً للمشكلات التي كانت تواجه إعادة إعمار المدن والمناطق التي شهدت بعض النزاعات الطائفية. ورصدت دراسات موثقة ورصينة الأسباب العميقة لبروز انشقاقات مذهبية داخل الدين الواحد وأثر التدخل الأجنبي في ولادة بعض الملل الجديدة ودعمها في السلطنة العثمانية بشكل عام وفي المقاطعات اللبنانية بشكل خاص.

6- تناولت دراسات جديدة أسباب الهجرة والنزوح وأثرهما الإيجابي والسلبي في المجتمع اللبناني. وعالج بعضها، وبكثير من الدقة والموضوعية، مشكلات سكن الفقراء، ومشكلات النازحين من الأرياف إلى ضواحي المدن الكبرى، ومنها بيروت بشكل خاص. ونبهت بعض الدراسات التاريخية إلى أخطار الهويات الطائفية والمذهبية المتناحرة في لبنان، وقدمت مداخل منهجية جديدة لدراسة تطور الحركة السياسية في لبنان إنطلاقا من معطيات اقتصادية، واجتماعية وليست طائفية ومذهبية وعرقية فقط.

7- أفردت الدراسات التاريخية التي كتبها مؤرخون من ذوي النزعة العلمية غير الطائفية أهمية خاصة لتحليل الجذور العميقة لولادة أهم التيارات السياسية والثقافية العقلانية في بيروت وجبل لبنان في أواخر العهد العثماني. وتم التركيز على الأشكال الثقافية الجديدة، ودور المثقفين النهضويين في تكوين الرأي العام من خلال الجامعات، ومدارس الإرساليات، والصحافة، والطباعة، والفنون. وكان للمثقفين اللبنانيين النهضويين دور بارز في تأليب الرأي العام العربي ضد السلطنة العثمانية انطلاقا من الفكر القومي الليبيرالي والتنويري الذي آمنوا به، فنشروا مقولات التنوير بشكل واسع في بيروت ومختلف أنحاء بلاد الشام، وكانت لها أهمية استثنائية في ولادة الدولة الحديثة في مختلف أنحاء بلاد الشام، ومنها دولة لبنان الكبير. ويستمر نشر مذكرات بعض القادة المحليين، وقناصل الدول الأجنبية وسفرائها، وذكريات بعض الرحالة الأجانب، والشعراء، والرسامين، وسيدات المجتمع. وأُعدت دراسات ميدانية مزيّنة بالرسوم والمخططات الهندسية الجميلة ساهمت فعلاً في كتابة تاريخ بيروت، وطرابلس، وصيدا، وغيرها من المدن اللبنانية.

كان لنشر الدراسات التاريخية الإجتماعية الجديدة الأثر الكبير في تعزيز دور منهجية التاريخ الإجتماعي في لفت الإنتباه إلى ضرورة الحفاظ على التراث المادي في تاريخ لبنان من قصور، ومدارس، ومستشفيات، وأماكن عبادة، وقلاع، وحصون منتشرة على امتداد الأراضي اللبنانية. وصدرت حديثاً عشرات الكتب التي تضمنت وصفاً دقيقاً لأشكال العمران التي كانت سائدة في المدن والأرياف اللبنانية، وساعدت أعمال المؤرخين الإجتماعيين في ولادة أجيال متعاقبة من المؤرخين اللبنانيين المهتمين بتاريخ لبنان الموحد من منطلقات علمية. وهي تكشف زيف تاريخ لبنان المكتوب بشكل إيديولوجي أو طوائفي مشوّه ساهم في تعميق الأزمات المستمرة في لبنان منذ أواسط القرن التاسع عشر. وأثبت المجتمع اللبناني قدرة هائلة على تجاوز الصدامات الداخلية التي غالبا ما كانت نتاج تداخل الأزمات المحلية مع نزاعات إقليمية ودولية، فتركت الحروب الأهلية المستمرة على أرض لبنان هوة ثقافية كبيرة في تاريخ لبنان المعاصر، فكان لا بد من نشر دراسات علمية موثّقة لإعادة التواصل الثقافي بين اللبنانيين بعد الحرب الأهلية، وإبراز تطور البنى السياسية والإدارية والإقتصادية اللبنانية بالإستناد إلى التوثيق الجيد والتحليل العلمي. وهي تتبنى منهجاً نقدياً لقراءة الحدث التاريخي من خلال وثائقه الأصلية، والإفادة من الدراسات الاكاديمية حول تاريخ لبنان والمنشورة بلغات عدة. وبعدما استنفدت المرويات الطوائفية غاياتها في الأدلجة المسيئة إلى تاريخ لبنان وحاضره ومستقبله، شكلت منهجية التاريخ الإجتماعي خطوة جريئة لنقل الكتابة التاريخية في لبنان من التاريخ المؤدلج لكل طائفة أو منطقة إلى التاريخ الإجتماعي لجميع الطوائف والمناطق اللبنانية. وذلك يتطلب تحليل سبل الإنتقال من الإنتماء الطائفي إلى الإنتماء الوطني، ومن التجزئة المناطقية والطوائفية إلى المواطنة الكاملة في دولة لبنانية عصرية، مستقلة ذات سيادة تامة على جميع مواطنيها، وجميع مناطقها.

ختاما، بعد قرابة أربعين عاما على صدور طبعته الأولى عام 1977 لم نجد حاجة لإدخال أي تعديل أو تغيير في فصولة وإشكالياته وفرضياته وإستنتاحاته، فأضفنا مقدمة مطولة تلقي الضوء على تراجع دور الصيغة والميثاق ما بين 1943 و2015. فحافظ الكتاب على صدقية ما جاء فيه بعدما أصبح في متناول الباحثين والنقاد المهتمين بإستقلال لبنان وصيغته وميثاقه. ودلت الدراسات العلمية التي تناولته بالنقد الموضوعي على مدى الحاجة إليه لأن المنهجية العلمية التي اعتمدت في التوثيق والتحليل والإستنتاج لا تزال صالحة، لا بل تعطيه حصانة علمية ليبقى مرجعا أساسيا بين الكتب التي تناولت تاريخ لبنان المعاصر. ورسم الكتاب حركة الصراع والتفاعل بين اللبنانية الحية والمنتشرة في جميع الطوائف. وقد لعبت دورا فاعلا في حماية استقلال لبنان في ظروف اقليمية ودولية بالغة الخطورة. فلبنان المستقل دولة حديثة ارتبطت ولادتها وتطورها واستقلالها بحركة الصراع والتفاعل ما بين دول اخرى أنشئت حديثاً في المشرق العربي، وعلى أسس مشابهة لولادة دولة لبنان الكبير وتطورها.

 

 

 

العفاف السياسي الممانع/ سناء الجاك

أظهرت عطلة الاسبوع الماضي ان الاصرار على السير بلبنان نحو الانفجار الكبير يبقى المرتجى. لهذه الغاية لا بأس بتفخيخ تحرك شعبي مرتبط بملف النفايات او غير ذلك من مقادير السمّ في طبخة فساد الدولة الفاشلة المحكوم عليها بالاستمرار “لا معلقة ولا مطلقة” لتسهيل التحكم بمفاصلها. كذلك أظهرت كذب من ركب موجة هذا التحرك واستهجن ممارسات القوى الأمنية وأدانها، مدعياً انه يريد تغيير النظام في اتجاه الديموقراطية والدولة المدنية رغم انه يسترزق من خلال الطائفية والمذهبية وانتحال صفة الدفاع عن حقوق المسيحيين، او بتهييج جمهوره مع “دم الشيعة عم يغلي غلي”، استدراجاً لمظاهر تؤدي الى الفتنة في القاطع الآخر وتقضي على الاعتدال، ومحاضراً في العفاف السياسي رغم مشاركته الكاملة في السلطة وفي صفقات الفساد، لأن هدفه الأبعد هو الاستيلاء على النظام كله لتحقيق أطماع أصحاب المشاريع الاقليمية التوسعية وتحصيل مكاسبه الخاصة من خلالها.

كان المطلوب في عطلة الاسبوع الماضي إخراس أصوات نزلت الى وسط بيروت وفضحت الطبقة السياسية كلها. وبعفوية، ألغت الحدود بين “8 و 14 آذار” ونسفت المذهبية المفروضة على شعب طفح كيله ولم يعد يصدق تهريج من يسرقه في النفايات والكهرباء والاتصالات، ثم يسعى الى سرقة تحركه ومصادرة مطالبه.

لتنفيذ المطلوب، جاء استغلال التحرك الشعبي، على اعتبار انه فرصة ذهبية لاطلاق وطاويط الليل المأجورين من طبقة الكبتاغون يعتدون على القوى الأمنية ويستفزونهم ويدعونهم الى الاحتكاك مع المتظاهرين، فيجهضون التحرك الذي اذا نضج ونجح، هدد المتاجرين بعفافهم السياسي. لذا شاهدنا وجوه المعتدين على القوى الأمنية وعلى الأملاك الخاصة والمرافق العامة. انها وجوه الذين ارتدوا قميص بيروت الوسخ في 7 أيار 2008. لذا انطلقت شعارات مذهبية بغية حرف التحرك المدني السلمي عن مساره وإثارة الغرائز سعيا الى ردود الفعل. وغلبت هتافات اسقاط النظام على هتافات تطالب بتطبيق النظام ومحاسبة المرتكبين. ونادى بعض المتظاهرين بـ”يسقط… يسقط حكم العسكر”. وقد حاولت ان افتش عن حكم العسكر، فوجدت ان لا حكم في لبنان، وان العسكر المغلوب على أمره أصبح اداة تستخدم وتخترق باستنسابية وفق مصالح مشبوهة سواء في طرابلس او في صيدا او في سجن رومية او من الرابية، وان الغالب هو تقاسم مكاسب من جهة، ودويلة داخل الدولة من جهة ثانية، وسياسات اعتباطية لمواجهة تساقط المؤسسات.

بالتأكيد، لا براءة في استثناء أيٍّ من المسؤولين المفروض اتهامهم بالاسم، وليس التركيز على أسماء بعينها لخدمة هدف بعينه. وايضا، لا براءة في كلام الانتهازيين الذين يأكلون حصتهم من الكعكة ويرجمون الفساد، ويواصلون سعيهم لإسقاط من لا يقتل، فهو لا يلزمهم، لذا توجَّه الشتائم والاتهامات بالفساد اليه دون سواه. اما من يقتل ويترعرع في الفساد فهو حاجة وضرورة لاستمرار الدويلة داخل الدولة، وتقضي الحكمة بتجنب شتمه والا لن يقتصر الأمر على المندسين المعروفين بالوجه والاسم والعنوان، بل يصل الى القتل الفعلي عندما تتضرر مصالحه ومشاريعه.

المؤسف ان الانتهازيين الكذابين سارعوا الى احتلال الشاشات لإدانة خصومهم السياسيين، وتجاهلوا دور وطاويط الليل وحاولوا تصويرهم على انهم شباب مندفعون غاضبون يطالبون بحقوقهم على طريقتهم. ربما يرتبط السبب ارتباطاً مباشراً بالطبخة الكبرى التي يتولاها طهاة دوليون في هذه المرحلة الحرجة الباحثة عن تحقيق مكاسبهم من المجزرة السورية. المؤسف اكثر فأكثر استخدام كل الادوات المتاحة لتفخيخ اي تحرك في لبنان حتى يغرق في الدماء ويصبح ورقة تضاهي الورقة السورية. ولعل تزامن ما حصل في وسط بيروت مع انفجار الوضع في مخيم عين الحلوة يصب في الخبث ذاته.

يبقى الاجتهاد والعمل لاستكمال خلق البيئة الحاضنة و”تدعيش” لبنان وتخويف الاقليات وافهامها ان ايران ومن يتوافق ومحورها هم وحدهم قادرون على حماية هذه الاقليات. لنا في ما جرى ويجري لدى زيارات مسؤولين من هذا المحور خير مثال على الانتهازية، ومن ثم ادعاء العفاف السياسي الممانع.

النهار

 

 

 

ربيع بيروت…/ وائل حجار

صيف بيروت المشتعل على وقع حرارة «آب اللّهاب»، كما يوصف هنا هذا الشَّهْر من الصّيف، الذي تضاف إليه من صفات حسّية هذا العام، روائح النفايات المُوَزّعة في مناطق لبنان المختلفة، بساحله وجبله.. وبيروت.

أمّا أين الرّبيع وسط ذلك؟

فالشّارع، الذي عاد ينبض، رغم كلّ الكلام الذي قيل أو يقال لنقد الاحتجاجات التي بدأها ناشطون بيئيون وأعضاء في جمعيات غير حكومية ومناضلون يساريّون، لا يلغي حقيقة الانقسام السّياسي الذي لا يزال طاغيا في بلاد تنعم باستقرار نسبيّ محيّر، وسط منطقة تشتعل بالثورات والحروب الأهليّة والصّراعات الإقليمية والدوليّة المسلّحة. ليست المسألة هنا أن الشارع لم يتحرّك.. بل أنّ تحرّكه هو الأصدق أو الأكثر استقلالية منذ حقبة التسعينيات من القرن الماضي.. فهذه الحقبة على ما حملته من تحرّكات شعبيّة، كانت محكومة في كثير من الأحيان بأطراف الصراع السّياسي، الذي كان أقلّ ضجيجاً آنذاك بسبب وصاية النظام السوري وقبضته السياسية والأمنيّة.

تلك الفترة التي شهدت اصطفافات متغيّرة، أخذت في الركون إلى قسمة نهائية مع أفول سيطرة النظام السوري واشتداد أزمته اللبنانية.. وفي لبنان. وبقيّة القصّة التي أفضت إلى عنوانين لقوى سياسية ومصالح تتناحر باسم الرابع عشر من آذار والثّامن منه معروفة.

حرَّكت أطنان النّفايات التي طافت بها بيروت والمناطق، الشارع اللبناني بطريقة بدا فيها تحدّ لسلطة مختلف الأفرقاء السّياسيين.. وفي برجا، البلدة ذات الغالبيّة السّنيّة التي تقع على مقربة من السّاحل اللبناني، وتتبع انتخابيا بسبب موقعها في الشّوف في جبل لبنان، لنفوذي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والزعيم السُّني سعد الحريري، تحرّك النّاس مدفوعين بعصب من الشّباب، رفضاً لمشروع مكبّ للنفايات يجاور بلدتهم، ليتحدّوا كلّا من الحريري وجنبلاط.. الأوّل لم يستطع أن يمون على رئيس المجلس البلدي في برجا الذي أيَّد التّحرك، وهو المنتمي إلى تياره السّياسي، والثّاني تهكّم على هذه البلدة وحراكها واصفا، في زلّة لسان، تَحرُّكها بتحرّك الفلاحين اللبنانيين، وجلِّهم من الموارنة، في القرن التاسع عشر، بوجه الاقطاعيين الدّروز والمارون آنذاك. وهكذا، كان التتالي الذي أفضى إلى تظاهرات بيروت، سريعا ومفاجئاً، للقوى التي تحكم البلاد.

لست ملمّاً بكلّ تفاصيل الحراك، ولم أسر إِلَّا في مظاهرة يتيمة، انتهت بصدامات عنيفة بين جزء من المتظاهرين، ممن هم عادة أو على غير عادة في الطّليعة..

لكنّني أعترف بأنني كنتُ متفرّجاً أكثر بكثير من أيّ مشاركة، ربّما بسبب نقص حماس، لكنّني أظن أنني أعرف أيضاٌ، لأنني اعتدت على المشاركة في مظاهرات شتّى في مراحل عمريّة سابقة.. أنّ الخليط الَّذِي شاهدته في مظاهرة الأحد الماضي، كان يمثّل فئات متضرّرة من سياسات النّظام اللبناني وقواه الحاكمة والنّافذة، ومن بيئات أكثر تنوّعاً وشباباً من بيئة الشّارع المصطفّ إلى هذا الفريق من الصّراع اللبناني أو ذاك. فتح الصِّدام العنيف مع قوى الأمن اللبناني من شرطة وقوات مكافحة شغب ومخابرات وجيش، الباب مشرّعاً أمام مئات الأسئلة المحقّة أو الخبيثة بشأن خلفيّات ما جرى، التي صدمت بعض البيئات اللبنانية التي إن لم تكن متحمّسة في البداية، فكانت على الحياد الإيجابي بشكل عامّ.

كان يكفي لوسائل إعلام «تيّار المستقبل» وبعض وسائل إعلام تحالف الرّابع عشر من آذار، أن ينقل صور فئة من المتظاهرين تكسّر المحال التّجاريّة في وسط بيروت التّجاري شبه الخالي من أيّ حركة تجارية منذ سنوات، أو تكتب شعارات مهينة على قبر رفيق الحريري، حتّى يخرج شبّان قلّة من منطقة سنيّة في ضواحي بيروت ليقطعوا الطّريق احتجاجاً.. وتتبعهم تصريحات ناريّة لعضو كتلة المستقبل معين المرعبي تحذّر وتتوعّد متظاهري بيروت من تكرار هذه الفعلة الشّنيعة!

ولم يقتصر استنكار الشّغب هذا على «تيار المستقبل» وإعلامه المباشر.. صحيفة «لوريان لو جور» الناطقة بالفرنسية التي طالما كانت منبر البرجوازية المسيحية، خرجت بعنوان استفزازي إن لم يكن عنصريّاً، لتتساءل من الذي أفلت الكلاب في الشوارع.. كان من الطَّبِيعِي جدًّا، أن تنتفض السّلطة الائتلافية في بيروت وتسخّر كلّ جهودها لتطلق النَّار معنويّاً على تحرّك يستهدفها.. الحال أن كثيراً من هذه القوى فضّل بدل ذلك إطلاق مواقف متضامنة مع تحرّك الشباب، مستخدما وسائل إعلامه، إِلَّا «تيار المستقبل» الذي بدا وكأنّه وحده الذي يضطلع بمهام «الثّورة المضادة».

صحيح أن هذا لم ينطل ربّما على النّاشطين، وصحيح أن العديد منهم لا يزال يصرّ على مواجهة السّلطة بكلّ مكوّناتها، ورغم كلّ الضّبابية في تحرّك اختار أن يتصرّف حملةُ الشّعار فيه على طريقة تشابه لا نريد شيئاً، ونريد كلّ شيء.. كلّ هذا صحيح ربّما، لكنّ الصّحيح أيضاً، أن الغضب الاحتجاجيّ، يبقى عرضة لمخاطر القسمة والاستهداف والجرّ إلى الاصطفاف.. فهل يكفي أن يكون الشّعار عابراً للطّوائف فيما جمهور الاعتراض معرّض للقسمة عند أوّل صدام؟

كلّها أسئلة تبدو لي مقلقة ومحيّرة..

الشّارع أن يتحرّك ليرفع عن نفسه القمامة التي قادت سياسات السلطة إليها، هو الأمر الصحّيّ والطبيعيّ وسط كُلِّ ذلك.

٭ صحافي لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

نفايات تهدد بقذف لبنان إلى المجهول/ محمود الريماوي

اكتسب الحراك المدني الذي شهدته بيروت بصورة متنامية، منذ نحو أسبوعين مضيا، طابعاً فريداً. فالمحتجون لم يخرجوا من أجل الخبز أو الحرية، وهما المطلبان الحيويان اللذان رفعتهما شعوب شتى في المعمورة، منها شعوب عربية، وإنما تحركوا ضد النفايات المنزلية المتراكمة في بلدٍ، طالما وُصف بأنه سويسرا الشرق. على أن هذا المطلب لا يُحتسب من قبيل النضال البيئي، فلو كان الاحتجاج، مثلاً، على طرق جمع النفايات، أو وسائل إحراقها، أو إعادة تدويرها، لكان الأمر نضالاً متطوراً من هذا القبيل. ثار التحرك لأن لا أحد يجمع النفايات ويرفعها، وكما هو الحال في بعض عشوائيات وهوامش عواصم العالم الثالث، فقد توقفت الشركة المولجة بهذه المهمة، وتدعى سوكلين، عن تقديم خدماتها. فكان أن تحركت مجموعات شبابية رافعة شعار “طلعت ريحتكم”، والمقصود رائحة السياسيين النافذين. وهكذا، أخذ الاحتجاج يرتدي طابعاً سياسياً، وخصوصاً مع رفع صور سائر السياسيين البارزين ورؤساء الأحزاب (باستثناء حزب الله). واتخذ المحتجون من ساحة رياض الصلح، وسط العاصمة، مسرحاً لاعتصامهم، وقريباً من مقر مجلسي النواب والوزراء. وبلغ الأمر أن معتصمين رفعوا شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، لكنه لم يلق تحشداً حوله، أو مجرد قبول من سواد المعتصمين والمحتجين.

هناك مظاهر خلل وأعطاب في النظام اللبناني وروائح فساد، وظاهرة التوريث، والتنازع مع الدولة على سلطتها وولايتها على البلاد والعباد. والنظام يترنح بالفعل، فلبنان بدون رئيس جمهورية منذ 465 يوماً. والمجلس النيابي ممدد له، بما يلقي ظلالاً على تمثيله الناخبين. ومجلس الوزراء، إلى جانب المؤسسة الأمنية (الجيش والدرك) هما المؤسستان الباقيتان والممثلتان لوجود الدولة.

“احتمال داهم بالاستثمار السياسي والحزبي للمشكلة، بركوب موجة احتجاجات الشارع، والتهيئة لـ”انقلاب شعبي” يستفيد منه حصراً نافذون معلومون”

وقعت اصطدامات بين المحتجين والقوى الأمنية، وجرى تخريب منشآت ومرافق، منها تمثال رياض الصلح، والرجل، صاحب التمثال هو، إلى جانب بشارة الخوري، أب الاستقلال اللبناني. جرى الحديث عن مندسين نشطين وشبه محترفين، تولوا مهمة التخريب. جرى اعتقال زهاء 90 محتجاً، تم الإفرا ج عنهم. وقد تبرأ المحتجون من أعمال التخريب. أما السياسيون النافذون فقد انقسموا بين من يسعى إلى احتواء الوضع، ومعالجة مشكلة النفايات، وفريق يسعى إلى استثمار سياسي عبر التهديد بالنزول إلى الشارع، بما يعني ركوب موجة الاحتجاج، وتوجيهها لخدمة هذا الفريق الدائم التطلب. ففي يوم الأربعاء الماضي، 24 أغسطس/آب، عمد وزراء التيار الوطني الحر وحزب الله (6 وزراء)، وتضامن معهم ممثل حزب الطاشناق الأرمني، وأيضاً، وزير ينتمي لحزب المردة (سليمان فرنجية)، على الرغم من أنه خارج البلاد، عمد هؤلاء إلى الانسحاب من جلسة لمجلس الوزراء، لأنهم لا يريدون التوقيع على مراسيم عادية، تتعلق بمصالح مواطنين وإحالات على التقاعد… ومع أن القرارات في مجلس الوزراء تتخذ بالأكثرية، فقد هدد هؤلاء بالنزول إلى الشوارع لقيادة المحتجين عملياً، إذا ما تم نشر المراسيم في الجريدة الرسمية. وقيل إن الوزراء المنسحبين سبق أن وافقوا على تلك المراسيم، لكن اعتراضهم الأساسي على التعيينات والترقيات العسكرية والأمنية. يريد الجنرال ميشال عون، الأب الروحي للتيار الوطني الحر (سلّم قيادة التيار لصهره باسيل جبران وزير الخارجية) ترقية صهره الآخر قائد فوج المغاوير في الجيش، العميد شامل روكز، وهذا سر اعتراضه الجوهري والمبدئي. وحزب الله يرفع شعار: لن نسمح بكسر عون! أي لن نسمح بعدم تلبية مطالبه “الوطنية”! وفيما كانت الجلسة مخصصة للنفايات، إلى جانب إصدار المراسيم، فقد فشلت الجلسة في الوصول إلى قرارات شافية.

لا شك أنه إخفاق مُدوّ أن تفشل حكومة في بلدٍ، عرف بتطور خدماته، بمعالجة مشكلة نفايات، وأن تصل المشكلة إلى حد عدم وجود من يرفع النفايات. إنها مشكلة “صومالية”، مع الاحترام للإخوة الصوماليين. والمقصود هنا التأشير إلى مستوى التطور والتأخر. وهذه مشكلة صحية خطيرة، سواء في حال ترك النفايات، أو في حال تكفل الناس بحرق جبال من النفايات وسط شوارع وأحياء سكنية مكتظة. في ظروفٍ طبيعية، يتعين أن تستقيل الحكومة، اعترافاً بهذا الفشل وتحملاً لمسؤوليته. وقد قيل إن تمام سلام، رئيس الحكومة، وهو شخص وفاقي وغير حزبي، هدد بالاستقالة قبل نشوب هذه الأزمة، وبالتأكيد، لديه الآن أسباب إضافية للاستقالة، غير أن مغادرة هذا الموقع تعني، في الظروف اللبنانية، انهيار المؤسسة الدستورية الباقية. ففي حالة الاستقالة، سيريد ميشال عون حكومة ورئيس حكومة على هواه، وإلا لن تتشكل. والحليف حزب الله لن يسمح بكسر عون. والحال أن لا أحد في وسعه ملء الفراغ الحكومي، لو وقع سوى القوى الأمنية من جهة، وقوى الأمر الواقع المسلحة من جهة أخرى. يرفع عون شعار حقوق المسيحيين.. فيما واقع الحال يفيد بأنه طامح لـ”حقوقه” هو و”حقوق “الأصهار. فحقوق المسيحيين تُضار ابتداء من حليفه حزب الله الذي ينتقص من مركز رئاسة الجمهورية والمؤسسات السيادية الأخرى، بالاستيلاء على قرارات السلم والحرب، والمشاركة العسكرية في نزاعات خارج لبنان.

النظام في لبنان قبل أن يسقط، بحاجة إلى إعادة تجميع، أولاً، بالسماح بانتخاب رئيس جمهورية وإجراء انتخابات نيابية، ثم إعادة تأهيله وتجديده تجديداً شاملاً، ما أمكن ذلك. فالنظام يمثل تعاقداً بين طوائف ومناطق. إنه أشبه بكونفدرالية طوائف (16طائفة وفي رواية أخرى 18) كما سمّاه الكاتب الراحل جوزيف سماحة، وسقوطه يعني فتح الباب أمام تنازع أهلي طاحن على الحقوق والتمثيل. هذا هو حال هذا البلد، منذ أكثر من سبعة عقود على استقلاله. ومع العيوب البنيوية للنظام، إلا أنه حقق تقدماً في مجال الخدمات العصرية المصرفية والأكاديمية والصحية والسياحية والإعلامية. وعلاوة على ذلك، باتت الديمقراطية التوافقية التي تتيح هامشاً واسعاً من الحريات خياراً إلزامياً وضرورة حياة للبنانيين، وليست مجرد خيار سياسي! فالديمقراطية التوافقية تسمح بالجهر بالمطالب والتظلمات والحقوق، بمختلف الوسائل السلمية، فإذا ما تقوّضت هذه، فكيف لممثلي وأبناء كل طائفة أن يضمنوا التعبير عن حقوقهم، بالتشارك في إدارة مؤسسات الدولة؟ لهذا، فإن الوعي العصري للنخب اللبنانية العريضة يناهض الطائفية، على مستوى الحياة الاجتماعية والفردية والتعليمية والثقافية، لكن الأغلبية، باستثناء فريق يساري يضمحل تأثيره ووجوده، لا ترى بديلاً للنظام إلا من داخله، وذلك ضمانة للسلم الأهلي والتوازنات الاجتماعية.

الخشية هي انزلاق البلد إلى المجهول، تحت ضغط عاملين، أو أحدهما. الأول، محاولات البزنس الاستثمار في مشكلة النفايات بالسمسرة وسواها من ألاعيب، فيما الدولة مرهقة مالياً وديونها تناهز 67 مليار دولار. الثاني هو الاحتمال الداهم بالاستثمار السياسي والحزبي للمشكلة، بركوب موجة احتجاجات الشارع، والتهيئة لـ”انقلاب شعبي” يستفيد منه حصراً نافذون معلومون.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

حراك لبنان ومحاذير السياسة/ حسام كنفاني

كم كان المشهد مفرحاً! مئات الشبان والشابات من مختلف المشارب الطائفية والسياسية تجمعوا في ساحة واحدة، للهتاف ضد فساد النظام في البلاد. مشهد لم يكن لأحد أن يتوقعه في لبنان، الغارق في الانقسامات السياسية والطائفية أفقياً وعمودياً، بشكل بات معه من شبه المستحيل أن يتوحّد أبناء الشعب خلف عناوين مطلبية معينة، لكن المستحيل بات اليوم ممكناً. جاءت أزمة النفايات في البلاد، والتي عانى منها الجميع من دون استثناء، لتكون فرصة لالتقاء الكل في الساحات، وفي هتاف واحد ضد الطبقة السياسية جمعاء.

العنوان الخدماتي كان أبعد ما يكون عن الانقسام السياسي وتشعباته الطائفية والمذهبية. لم يكن هناك أحد في لبنان لم يعان من تكدس النفايات في شارعه أو أمام مقر عمله. لم يكن من الممكن لمثل هذا العنوان أن يكون محل خلاف. وعلى غراره، من الممكن أن تكون هناك عناوين كثيرة يمكن أن يتجمع حولها المتظاهرون، وتزيد أعدادهم، خصوصاً إذا كانت عناوين مطلبية غير موغلة في الملفات السياسية. انقطاع الكهرباء والمياه، مثلاً، من العناوين الجامعة بين أبناء بيروت والضاحية الجنوبية والمتن والجبل والشمال والجنوب. عنوان كان يستأهل التحرك منذ زمن بعيد، خصوصاً أن الحكومات المتعاقبة على لبنان، منذ نهاية الحرب الأهلية، لم تتمكن من معالجة هذا الملف، على الرغم من حجم الإنفاق الضخم عليه، والذي ذهب، في مجمله، إلى جيوب المسؤولين الذين ولدوا مافيات بديلة لتقديم هاتين الخدمتين للمواطنين مقابل بدل مادي.

من المؤكد أن الأوان قد آن لتخرج هذه المطالبات الخدماتية وغيرها إلى الشارع، وبصوت واحد جامع، قبل الانزلاق إلى المطالب السياسية التي من شأنها أن تخرّب الحراك في هذا التوقيت المبكر. لا شك أن المطالب السياسية التي تم رفعها محقة، وأساسية لمن يريد أن يبني بلداً جديداً حقيقياً، ويتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة. لكن من المؤكد أيضاً أنه من المبكر جداً طرح شعارات مثل “استقالة الحكومة” أو “حل المجلس النيابي” أو “انتخاب رئيس جمهورية” أو “إجراء انتخابات برلمانية مبكرة”. كل هذه العناوين، على أهميتها وأحقيتها، لكنها مادة انقسام حاد بين اللبنانيين، خصوصاً عندما يبدأ التماس بين السياسة والطائفية أو المذهبية، سواء في ما يتعلق بموقع رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس المجلس النيابي.

الأرضية قد لا تكون مهيأة الآن لرفع الشعارات الكبرى الخلافية. لتكن محاربة الفساد والمفسدين فرصة التقاء وتآلف أطياف المجتمع اللبناني في ساحة واحدة، وربما الخروج بحركة سياسية حقيقية عابرة للطوائف والتبعات. حركة حاملة لهموم شعبية ومؤسسة لمرحلة وعي سياسي لا تزال الغالبية اللبنانية بعيدة عنه. فحتى النزول إلى الشارع ضمن العناوين الخدماتية، قد لا يمنع لاحقاً هذا المتظاهر من التصويت في أي “انتخابات مبكرة” للطبقة السياسية الحاكمة نفسها حالياً، خصوصاً عندما يبدأ العزف على الوتر المذهبي والطائفي، وهو الوتر التي تسوق فيها الأحزاب كل جماهيرها.

الالتقاء في ساحتي رياض الصلح والشهداء، وبوجود مجموعات شبابية خارجة من الإطارات الحزبية والطائفية، فرصة لتكوين وعي جديد، وهو ما بدأ فعلياً يحصل، ويثير مخاوف الطبقة السياسية والحزبية التي بدأت تطلق جمهورها لمواجهة المتظاهرين، ومحاولة وصمهم بانتماءات سياسية، للحد من قدرتهم على سحب الجمهور من الأحزاب نفسها. فمجموعات 8 آذار، بقيادة حزب الله، تروج أن التحرك مدعوم من السفارات الأجنبية، ويحمل أجندات مشبوهة، ومجموعات 14 آذار، بقيادة تيار المستقبل، تصف المتظاهرين بأنهم من “سرايا المقاومة” التابعة لحزب الله. بغض النظر عن التوصيفين المتناقضين، إلا أنها المرة الأولى ربما التي تتفق فيها التيارات السياسية المختلفة في لبنان على شيء، هو معاداة هذا التحرك الشعبي.

العربي الجديد

 

 

 

 

لبنان يُحطّم جدار الخوف/ بيار عقيقي

يعود جزء من اللبنانيين، اليوم السبت، إلى ساحة الشهداء، وسط العاصمة بيروت. يعودون بمطالب اجتماعية وعناوين التغيير، بعد أن كانت معظم التجمّعات السابقة تاريخياً سياسية. يعود اللبنانيون اليوم إلى عاصمتهم، لا من أجل فريق سياسي، أو لإحياء ذكرى سياسية، بل للمطالبة بأدنى حقوقهم المعيشية والاجتماعية، وكسر جدار خوفٍ بَنَاه نظام سياسي ـ طوائفي بعد أكثر من 72 عاماً من الاستقلال. لم يُكسر هذا الجدار، إلا بعد أن انحدرت البلاد إلى الحضيض، مع انتشار النفايات في كل مكان، منذ أكثر من شهر ونيّف، وتحوّل مجاري الأنهر والوديان إلى مكبّات ومطامر مُستحدثة، وبدء عهد حرائق النفايات الليلية يومياً. وكأن البشر في لبنان حقل تجارب، أو مجرّد دافعي ضرائب، لطبقة فاسدة لا تعرف أدنى مقوّمات الإنسانية.

قبل أقلّ من أسبوعين، كان كل شيء يموت ببطء في لبنان. الإيمان بالاستمرارية والعمل في البلاد كان من سابع المستحيلات. الحلم بالتغيير وإطاحة كل أركان الطبقة السياسية أقرب إلى معجزة واهية. الأساس حين تولد في لبنان هو أن تختار زعيماً، أو يختارك لانتمائك الطائفي والمناطقي. وتضطر أن تلوذ به، ليستخدمك بيدقاً في صراعه، أما أنت فتعمل على إنشاء ما تظنّه “شبكة أمان اجتماعية”، استناداً على “الزعيم”. ولا تعود تتعلّم في أي مدرسة أو جامعة، أو تدخل مستشفى، أو تعمل، أو تحلّ مشكلة عقارية أو قضائية، أو تفتري على جارٍ لك من غير ميولك السياسية، إلا بدعمٍ من “الزعيم” أو سائقه. حقوقك البديهية في هذه الحالة تُضحي في قبضة “الزعيم”، وخارجها لا حقوق لك.

بعد هذا كله، تجد نفسك متماهياً مع “الزعيم”، خصوصاً حين تتابع كل ما يتعلق به عبر وسائل إعلام تابعة له، وتكون، بالتالي، أمام عملية “غسل دماغ” واسعة، لتنسى معها أنك مواطن حقيقي، وأنك إنسان يحق له العيش بكرامة ضمن منظومة دولتية، لا بسبب “رضى الزعيم” عليك. وتُقاتل جارك وزميلك ورفيقك وأخاك على موقف سيارة في مبنى مشترك، باسم “الزعيم”. في الواقع، من السخافة أن تبذل ذاتك من أجل شخصٍ يعمل كل ما في وسعه لتسييرك كالدمية، لكن الأمر يبقى مفهوماً، حين يُمسكك بأبسط حقوقك. هنا يحصل “التدجين” و”الترويض” لنُصبح مثل سكان “سيرك” ثابت.

قفز هذا كله إلى الواجهة منذ أيام في بيروت. تخطى الشعب كل منظّري الأحزاب والفئات السياسية. كان التخبّط في أداء الحكومة والأطراف السياسية غريباً. لم يكن يتوقع أحدٌ أن يقف لبنانيون ويقولون “كفى”. ظنّ كثيرون أن البلاد لن تشهد حركة اجتماعية قد تتحوّل إلى ثورة، واعتبروا أن الموت البطيء الذي يعيشه سكان هذه الأرض لن يجعلهم ينتفضون بسبب أكياس النفايات.

غير أن اللبنانيين رفضوا السكوت بعد اليوم، وشغلوا العالم. الداخل قبل الخارج. الأبواق الطائفية التي صَدَحَت، تلاقَت مع الأصوات الرافضة لأي حراكٍ شعبي، والمدفوعة بذهنية “المؤامرة”. ولم يكن غريباً تحوّل معظمنا، وفقاً لهؤلاء، إلى “أتباع الثورات الأميركية الملوّنة”، أو “من مؤيدي إسقاط النظام اللبناني خدمة لحزب الله”. ويُظهر هذا التفاوت بين العنوانين مدى صدقية الحراك اللبناني. كما أظهر الحراك أن هؤلاء المنتقدين لا يستطيعون التفكير أبعد من الحدود الطائفية والمناطقية، أو لا يثقون بقدرة الشعب على التفكير، وكأن منطق “التدجين” يبقى أقوى من أي انتفاضة شعبية. وللمرة الأولى، يتحالف الأضداد الطوائفيون والسياسيون الذين اعتادوا على محاربة بعضهم باسم الطوائف والأحزاب، واستخدام الناس مطية لقتالهم، ضد فئة اجتماعية. لم يعد لبنان مجرّد كوميديا سوداء، أو ألياذة هزلية تقتل الإنسان باسم الطائفية والمناطقية. لبنان اليوم ليس لبنان الشعر الواهم والتاريخ الكاذب، بل الوطن الذي يستحق أبناؤه وسكانه العيش بحريّة، بمعزل عن زعماء طائفيين اعتادوا نهش أجسادنا.

العربي الجديد

 

 

 

 

إسحبوهم من بيوتهم/ محمّد علي مقلّد

ليست دعوة إلى الثورة بل إلى عقلنتها. والعبارة قالها نبيه بري” لولا الوضع الطائفي في البلاد لكانوا سحبونا من بيوتنا”. هي حقاً لقطة ذكية وعلى المنتفضين في الربيع اللبناني أن يسترشدوا بها ليصوغوا برنامجهم، ويرسموا خريطة طريقهم.

تنطوي العبارة على حقيقتين دامغتين، الأولى أن أهل النظام يتحصنون بالطوائف ويضرمون النار بالمشاعر الطائفية ليحفروا تحت أسس النظام البرلماني الديمقراطي ويهدموه، والثانية أن حجم فسادهم وفضائحم صار يبرر للجمهور غضبه و سحبه إياهم من بيوتهم.

غير أن الجمهور يحدس هاتين الحقيقتين حدساً ولا يدركهما يقيناً، ولذلك يفجر غضبه، في كل مرة، خبط عشواء. عبارة نبيه بري تصوب لهم بوصلة سبق أن صوبوها قبل الآن مرات عديدة في الاتجاه الغلط.

عام 2011 مشى العلمانيون تحت المطر والمظلات مطالبين بقيام الدولة المدنية. صادقون في حدسهم ومخطئون في تصويبهم. لذلك اندس معهم في التظاهرات أتباع أهل النظام وزبائنه وحماة الفساد وصناع الفضائح. تعب المتظاهرون وتفرقوا، وحمّلت المجموعات المتظاهرة بعضها بعضاً فشل نضالهم الصادق والشجاع.

في عامي 2013 و2014 جمعت هيئة التنسيق النقابية أكثر من مئة ألف متظاهر تحت سقف المطالب الاجتماعية. التصويب الخاطئ كان كفيلاً بتفريق تلك الحشود، بعد أن صوّب  النظام وأهله وأتباعه ونقابيوه المدجنون على رئيس الهيئة وعاقبوه على تجرؤه، وطردوه من فريق الهجوم، ووضعوه على مقاعد الاحتياط. البارحة لم تتمكن هيئة التنسيق من أن تجمع، في مؤتمرها، أكثر من مئتي شخص، والمدعوون للحضور عشرات الآلاف.

وفي عامي 2013 و2014 أطلق اقتصاديو لبنان صرختين مدويتين تنبهان إلى المخاطر الاقتصادية المحدقة بالوطن إذا ما استمر أهل النظام في حال المناكفة والمحاصصة والتخريب الممنهج للدولة والنظام الديمقراطي. صرختان في واد من غير صدى.

في كل هذه المناسبات كنا نشارك من موقع النقد الإيجابي للتصويب على الهدف الصح.  طالبنا اقتصاديي لبنان بأن يغادروا إحجامهم  عن العمل السياسي ، وأن يقتحموا ساحته من دون واسطة، لأن من أوكلوا إليهم هذه المهمة من السياسيين، لم يكونوا مرة أمينين لا على مال الرأسماليين ولا على المال العام، بل كل همهم ، كالمافيات الموصوفة في كل الطغم السياسية ، أن يتقاسموا من خارج القانون، هم وحاشياتهم وأتباعهم ومحازبوهم،  الثروة الوطنية المالية والبشرية بالمحاصصة، باسم الطوائف لا بين الطوائف (ثلاث مقالات في جريدة المدن: اقتصاديو لبنان جبناء، بين التاجر والفاجر، ربيع برلماني لبناني).

وقلنا للعلمانيين إن “الزواج المدني لا ينجب إصلاحاً” سياسياً، وأن أهل النظام يستقوون “بالمؤسسات الأهلية على المجتمع المدني”، وأن فضائح الطغمة الحاكمة هي جزء من ” علامات ظهور الربيع اللبناني”. وكتبنا “كلاماً صريحاً مع النقابيين” حذرناهم فيه من مكائد السياسيين ومن الدخول في اصطفافاتهم التحاصصية.

الغضب اليوم كالغضب البارحة. غضب صادق من شعب اكتوى بنار الفساد والحرب الأهلية وفضائح أهل السياسة. شعب يصرخ في وجه الناهبين ومنتهكي القانون والدستور، في وجه الذين يزوّرون الإرادة الشعبية ويمددون للأزمة ولفشلهم المتكرر، في وجه نواب لا يعرفون من التشريع أحرفه الأولى، ووزراء ما أن اغتصبوا النفوذ حتى امتلأت جيوبهم بالمال الحرام. لكن، لا يجوز أن ينتهي غضب اليوم بمثل ما انتهى إليه غضب البارحة أو قبل عام أو أعوام.

الربيع اللبناني بدأ قبل عشر سنوات. 14آذار أوقفت ثورة الشعب اللبناني في منتصف الطريق ووظفت انتفاضته لتأبيد سيطرة أحزابها وتوريث أبنائها، و8 آذار حوّلت الغضب الشعبي لتمجيد عهد الوصاية والدوس على تضحيات بذلها اللبنانيون، بمن فيهم جماعة 8 آذار، ليتخلصوا من كل الجيوش الأجنبية العدوة والصديقة والشقيقة، والتعامي عن الدروس المستفادة من الحرب الأهلية، وعلى رأسها صون الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية.

كل شيء في لبنان يدعو إلى الثورة. لكن ضد من ومن أجل ماذا؟ لم يعد جائزاً أن يتحول الغضب، كما في كل مرة، إلى خيبة وانكفاء. علينا أن نستكمل الثورة حتى آخرها، ضد كل أطراف النظام، على جانبي الاصطفاف الآذاري، أن نستبعد من سلوكنا وشعاراتنا كل ما يبدو أنه تحييد لهذا الطرف أو ذاك، أو ما يمكن تفسيره أنه انتصار لهذا الطرف أو ذاك، أو ما يمكن توظيفه لصالح هذا الطرف أو ذاك.

” العيب ليس في الأشخاص، على علات بعضهم، بل في نظام يبرئ المجرم ويحمي الفاسد ويشرع للسرقة ويعاقب المشتكي ويسجن البريء ويحرر المدان ويستر على المتهم. العلة في نظام تنطبق عليه كل مواصفات المافيا”. للدقة، العلة هي في نظام لا يطبق النظام، في أهل النظام الذين ينتهكون الدستور والقوانين، في وزراء يتظاهرون ضد الحكومة، في نواب ووزراء يمتنعون عن القيام بواجباتهم ويستمرون بقبض رواتبهم،  يمددون لأنفسهم بدل أن يتنحى الفاشلون منهم و يستقيلوا، وبدل أن يصرف الفاسدون منهم أو يقالوا.

إثنان يتحصن خلفهما الفاسدون، الطوائف أي أهلنا، والمؤسسات الدستورية أي الدولة، دولتنا.على الانتفاضة أن تجتاز الممر الضيق بمهارة. بين حماية الطوائف من المحاصصين باسمها والقضاء على الطائفية؛ بين الدفاع عن النظام البرلماني الديمقراطي والقضاء على نظام المافيا؛ بين الدفاع عن الشرعية الدستورية والتخلص من رموز الفساد المتحصنين بالشرعية ومؤسساتها. أن تتصرف كطبيب  ينتزع الشوكة من العين من غير أن يؤذي العين. ألا ترفع أي شعار يمس المؤسسات الدستورية ، الحكومة والمجلس النيابي ورئاسة الجمهورية، لأن في ذلك خطراً على الوطن و الدولة والجمهورية وعلى الانتفاضة.

سياسيو لبنان الفاسدون هم الشوكة والمؤسسات الدستورية هي العين. هذا هو معنى كلام نبيه بري. إسحبوهم من بيوتهم ولا تؤذوا المؤسسات. الشعب يريد تطبيق النظام. الشعب يريد حماية المؤسسات الدستورية.

المدن

 

 

 

من مشكلة نفايات الى فوضى شاملة/ د. نقولا زيدان

اللبنانيون الذين تابعوا وما زالوا أحداث وسط بيروت تنازعتهم مشاعر متناقضة لدى مشاهدتهم تطور تلك الأحداث في ساحة رياض الصلح المجاورة للقصر الحكومي. فقد كان كل شيء حسناً أول الأمر عندما بدأت المجموعات الأولى تتحلّق في الساحة. فالمطلب الرئيسي الداعي لحل مشكلة النفايات التي تقضّ مضاجع اللبنانيين والمثير للسخط والغضب، ما زال يحظى بتأييد وعطف جماهيري واسع، لا سيما أنه قد انقضت أسابيع عدة من دون أن تصل محاولات الحكومة للاهتداء الى حل نهائي للمشكلة. فقصر النظر وانعدام التخطيط وفقدان القدرة على الحد الأدنى من الرؤيا المستقبلية في معالجة هذه المشكلة، شأنها شأن العديد من المشكلات المماثلة، كانت من دون ريب هي الدافع الذي يكمن وراء النزول الى الشارع تعبيراً عن التنديد بمواقف المسؤولين. وكان ذلك بعد ظهر الأحد في 23 آب الجاري، أي في النهار المناسب لجمع أكبر عدد ممكن من الشباب للتحرك.

كان كل شيء مقبولاً أول الأمر ولا يتعدى حدود التعبير السلمي عن الغصب، وذلك بصرف النظر عن بعض الشعارات القاسية والنابية التي ما لبثت أن بدأت تظهر على اللافتات أو على ألسنة بعض المحتشدين. وقد لعبت بعض وسائل الإعلام المتلفزة دوراً فعالاً في تحريض المحتشدين، حيث راح بعضهم يحاول تجاوز الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن القصر الحكومي، بل الى إلقاء الحجارة والمقذوفات المحرقة على رجال الأمن ولم تفلح خراطيم المياه بردع هذه المحاولات ولا القنابل المسيلة للدموع، حيث كان خطأ مؤسفاً أن يلجأ بعض رجال الأمن لعدم الاكتفاء بالرصاص المطاط الى حدّ استخدام القوة المفرطة. فإذا بعناصر جديدة مجهولة الهوية تحضر الى الساحة التي عمتها الفوضى والذعر وتبدأ بإطلاق القذائف المحرقة على رجال الأمن، ثم تستدير لتقتلع الإشارات الكهربائية وتبدأ بتحطيم واجهات المحال وإحراق السيارات وتحطيمها وكأن ثمة خطة مبيّتة تهدف لحرف التظاهرة السلمية وأخذها باتجاه آخر المقصود منه إثارة الفوضى وتعميم الخراب. هذا، ولم يجدِ نفعاً المؤتمر الصحافي العاجل الذي عقده، رئيس الحكومة في الحال ولا تعهده بمحاسبة مطلقي النار ولا دعوته لعقد اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء.

الأخطر في كل ما جرى كان الوتيرة المتصاعدة للشعارات السياسية التي بدأت بالظهور. فمن اتهام الطبقة السياسية الحاكمة بالرشوة والفساد، الى شعار «إسقاط الحكومة» الى شعار «إسقاط النظام»!.

هذا ما عدا وجوب إسقاط البرلمان والدعوة الى انتخابات جديدة الى آخر السبحة من الشعارات.. هذا وما زالت مشكلة النفايات، بعد إلغاء المناقصات المعروضة تتطلب حلاً فعلام كل هذا الزعاق ومحاولات التخريب الآثم المدان؟

لا بد لنا إزاء هذه التطورات من إبداء الملاحظات الضرورية والمناسبة:

– لم نعلم، وما زال مجهولاً حتى اللحظة من هي الجهة أو الجهات التي دعت الى التظاهرة أو الاعتصام. جلّ ما علمناه هو أن ثمة جهة تدعى «طلعت ريحتكم» كانت وراء التجمع في صورته الأولى. وهي تطرح بقوة مشكلة الفساد.

– فات هذا التجمع، لو كان جدياً ومسؤولاً بحق، أن يسهر على سلمية التحرك وعلى حسن تنظيمه، وأخذ التدابير اللازمة للحؤول دون حرفه ودفعه نحو مناحٍ أخرى. فقد تبين وبالملموس أنه سهل الاختراق والانقياد، والدليل على ذلك أن العناصر البشرية السلمية النوايا سرعان ما أخلت الساحة بعد انفلات الوضع، ليحتلها مثيرو الشغب فيصبح المطلوب ليس حل مشكلة النفايات بل افتعال معركة صدام دموي مع رجال الأمن كمقدمة لنشوب أزمة عامة تجتاح البلاد لتأخذها نحو المجهول.

– التداعيات والارتدادات المثيرة للقلق البالغ التي ولّدها هذا التحرك المرتجل والذي اتخذ طابع العنف والشغب عندما أطلق في غير منطقة تحركات مضادة تدعو الى حمل السلاح والحضور الى الساحة نفسها للذود عن القصر الحكومي وموقع الرئاسة الثالثة.

– ما زالت عالقة في ذاكرة اللبنانيين صور اعتصام عام 2006 و2007 في ساحة رياض الصلح نفسها والذي أفضى الى حوادث 7 أيار عام 2008 عندما اجتاح مقاتلو حزب الله بيروت الغربية. وكان الهدف من تلك التحركات جميعاً إسقاط الحكومة بالقوة وفرض النفوذ العسكري لحزب الله، إلا أن لقاء الدوحة (قطر) بين الأطراف اللبنانية أدى الى تسوية الاتفاق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان وإجراء انتخابات جديدة. أما الآن فإن الأزمة أعمق بما لا يُقاس مع اندلاع الثورة السورية وتدخل إيران الواسع في الحرب الدائرة هناك وانغماس حزب الله الكلي فيها. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما نجد البلاد بلا رئيس. وبرلمان معطل مشلول عاجز عن انتخاب خلف له، بل اتسع منطق التعطيل ليطاول الحكومة نفسها وسط هرطقات دستورية لا تهدف في حقيقتها سوى لمسألتين: فرض رئيس خاضع لمشيئة حزب الله ودفع البلاد الى المزيد من الأزمات والتردي على مختلف الصعد والمؤسسات، فالشلل يضرب لبنان من أقصاه الى أقصاه. فحذار حذار أن يضطر، رئيس الحكومة للتنحي والاعتكاف لأن ثمة من يسعى لتحقيق هذا المأرب التدميري ومن داخلها بالذات تارة عن طريق إثارة صلاحيات رئيس الحكومة وآلية وضع جدول الأعمال وطوراً بالمطالبة بالمشاركة المزعومة وفي آن معاً ممارسة الابتزاز السياسي عن طريق فرض تعيينات ملتبسة في هذه المرحلة بالذات وإلا فالنزول الى الشارع تحت ستار الحفاظ على حقوق المسيحيين، بل في بروز بدعة المناداة بضرورة عقد مؤتمر تأسيسي الذي إن انعقد لن يؤدي سوى لتقليص دور المسيحيين أنفسهم وحضورهم وتمثيلهم في المؤسسات.

– إن المثالثة التي يسعى وراءها حزب الله والتي تروق للجنرال عون ما دامت تؤمن له موقع الرئاسة الأولى تتطلب وفقاً للمخطط المرسوم أن تتوالى الأزمات وينشر التعطيل وتتعمّم وتسيطر الفوضى وأن يسقط لبنان في أزمة وطنية عامة على غرار فرنسا عام 1958 عندما اضطر الوضع الفرنسي المأزوم لاستدعاء الجنرال «ديغول» كمنقذ للبلاد. إلا أن تركيبة الوضع اللبنانية ليست بالإطلاق كفرنسا آنذاك.

إن المساس باتفاق الطائف هو مغامرة في غاية الخطورة، لأنه يظل مقبولاً التحرك من أجل مشكلة نفايات قابلة للحل من هنا، ومشكلة كهرباء مستعصية من هناك، وغيرهما من المشكلات، أما إدخال البلاد في متاهات صلاحيات رئيس الحكومة وتكريس رقيب تابع لحزب الله في كافة الوزارات فيذكرنا بعهد الانتداب في الزمن الغابر. إن ما بدأنا نواجهه الآن لأخطر من ذلك بكثير عندما لم يعد حزب الله يكفه حمله السلاح غير الشرعي وانخراطه في الحرب السورية وسيطرته على المرافق الرئيسية للبنان، ولا تكريس الشغور في موقع الرئاسة الأولى وتعطيله دور البرلمان ومحاولته فرض حليفه رئيساً بالقوة فوق رقاب اللبنانيين، بل تجده في اللحظة التاريخية الراهنة يقود لبنان الى الفراغ الشامل في السلطات والإجهاز على الدولة وتعميم الفوضى والخلاء.

إنه يتقن ببراعة متناهية التوفيق والجمع بين أقصى التناقضات للوصول الى مراميه كأن يتحالف وهو المؤمن بولاية الفقيه مع فريق مسيحي متشدد، وفي آن معاً يشارك في حكومة وفاق وطني لكنه يعمل على تعطيل انتخاب رئيس جديد للبنان وعلى شل البرلمان، وبالمقابل يدعي الذود عن مسيحيي البلاد لكنه ليس لديه موظف مسيحي واحد في المؤسسات التي يملكها ومن جهة أخرى يفرض هنداماً وسلوكاً صارمين في المناطق التي في قبضته وفي آن معاً يدير حواراً مستداماً مع تيار المستقبل الليبرالي لكنه يوعز في آن معاً لتنظيمات حليفة أخرى بمهمة إثارة الشغب في ساحة رياض الصلح ونشر الفوضى والدعوة لإسقاط النظام لاستبداله بمشروع المثالثة الى آخر السبحة… إنه لاعب ماهر على رقعة الشطرنج.. ولكن!

المستقبل

 

 

 

 

حتى يبقى الحراك مدنياً سلمياً/ د. ميشال شماس

ما شهدته ساحة رياض الصلح في بيروت ليل الأحد 23/8/2015، حرّف انتفاضة الشعب اللبناني إلى مكان آخر، يختلف اختلافاً كلياً عن الأهداف التي وضعتها حملة «طلعت ريحتكم»، إذ بدا واضحاً للعيان من خلال صراخ مجموعة اندست بين المتظاهرين لشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» وسعيها لافتعال صدام مع القوى الأمنية وصولاً إلى استدراجها لمواجهة مفتوحة مع المتظاهرين، وهو ما حدث فعلاً، فتحولت ساحة رياض الصلح إلى ما يشبه ساحة حرب.

فمن تابع البث المباشر للقنوات اللبنانية تبين له بالصوت والصورة كيف كانت مجموعة ظهر بعض أفرادها ملثمين سعوا بوضوح إلى التحرش بالقوى الأمنية واستفزازها على مدى أكثر من نصف ساعة، وذلك بالرغم أن اللجنة المنظمة للتظاهرات أعلنت انتهاءها في ساحة رياض الصلح، بعد أن نجحت التظاهرة في الضغط على الحكومة وايصال ما تريده بحسب احد المنظمين. إلا أن تلك المجموعة استمرت في تحرشها بالقوى الأمنية وحصل ما حصل، فتحولت ساحة رياض الصلح ساحة حرب بين القوى الأمنية وتلك المجموعة المندسة التي عملت لتخريب بعض الممتلكات العامة والخاصة. ولكن هذا لا يبرر مطلقاً العنف المفرط الذي واجهت فيه القوى الأمنية المحتجين، وهو أمر يجب محاسبة المسؤولين عنه بكل شفافية سواء من قبل القوى الأمنية أو من بعض مثيري الشغب خصوصاً المثلمين منهم.

وقد ساهم منظمو حملة «طلعت ريحتكم» بشكل غير مباشر بالحال التي آلت إليها التظاهرة، نتيجة عدم وضوح الشعارات واختلافها، وعدم تحديد مدة زمنية للتظاهرة، وترك الخيار للمتظاهرين بمتابعة التظاهرة بعد اعلان أحد المنظمين انتهاءها، وهنا كان يجب الحسم بوضوح والإعلان عن انتهاء التظاهرة وليس ترك الخيار للمتظاهرين في البقاء من عدمه. كما كشفت أحداث ليلة الأحد أن التظاهرة كانت تفتقد القيادة والتنظيم، حيث بدا الارتباك واضحاً بين المنظمين، بعد أن فقدوا السيطرة على حركة المتظاهرين مما أوحى بعدم أهليتهم لقيادة هكذا حراك.

كما إن بعض المحطات التلفزيونية اللبنانية، وبدل أن تعمل لتهدئة الموقف وفضح التحركات المشبوهة لبعض الفوضويين الذين اندسوا بين المتظاهرين ورفضوا الالتزام بدعوة منظمي حملة «طلعت ريحتكم» بإنهاء التظاهرة، أخذت تعمل على تأجيج الموقف من خلال التركيز على ما تفعله القوى الأمنية وتجاهل تلك المجموعة المندسة التي سعت بإصرار الى استفزاز القوى الأمنية، كما أن تلك الأقنية كانت تحاول التركيز على رئيس الحكومة وبعضها أعضائها كوزير الداخلية في محاولة واضحة ومكشوفة لتجيير التظاهرة لمصلحة أطراف سياسية من مصلحتها تعطيل الحكومة كما عطلت انتخاب رئيس الجمهورية، وذلك من خلال الالتقاء ببعض المتظاهرين المعروفي الانتماء الى تلك الأطراف السياسية في محاولة اختزال الأزمة اللبنانية بشخص رئيس الحكومة وتحميله المسؤولية لوحده.

وحسناً فعل منظمو حملة «طلعت ريحتكم» أن قرروا إرجاء التظاهرة التي كانت مقررة يوم الأثنين الماضي الى وقت لاحق.. لفسح المجال أمام المنظمين على ما يبدو للوقوف على ما حصل ليلة الأحد والسبت، ولمراجعة خططهم وتحركاتهم المستقبلية بعد مشاهدة ما جرى، واتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر لمنع أي اختراق لهذا الحراك المدني والتشديد على الأهمية القصوى لعملية التنظيم لمنع تكرار ما حصل.

ولعل الخطر المحدق بتلك الاحتجاجات هو رفع شعارات براقة وكبيرة يصعب تحقيقها من قبيل «الشعب يريد اسقاط النظام»، وعلى المنظمين أن يعوا خطورة الانسياق وراء تلك الشعارات، وأن يتعلموا مما حصل في سوريا، وأن يحصروا أهدافهم في شعارات واقعية يمكن تحقيقها. فليس كلّ من كبّر الحجر أصاب هدفه.

نقول هذا الكلام لحرصنا على إنجاح تلك التظاهرات في الوصول إلى تحقيق أهدافها المشروعة بشكل سلمي وحضاري، ولكي لا يتحول هذا الحراك من حراك مدني إلى شغب مدني يفاقم الوضع بدل حلحلته.

حقوقي سوري

المستقبل

 

 

 

 

 

 

جيل ما بعد ٨ و١٤ آذار/ سامر فرنجيّة

ليس هناك من «شعب» في لبنان تصدر عنه السلطات وتعود إليه لحظة الأزمات، ويمكن أن يشكّل بديلاً عن «النظام». وليس هناك «مجتمع مدني»، يقوم تدريجياً بـ «عقلنة» المجتمع، وقد يشكّل منظومة حكم بديلة. وليس هناك «شارع»، يختصر الشرعية ويحتكرها، ويعبّر عنها في لحظات تعطيل الأطر المؤسّساتية للشرعية. من نزل إلى الساحات في الأيام الأخيرة، مزيج من هذا كله وأكثر، «اندسّوا» على بعضهم البعض ليكوّنوا أكبر التظاهرات منذ «مليونيات» تحالفي ٨ و١٤ آذار الشهيرين. ليسوا بديلاً عن أحد لأنّه ليس من بديل. وهذا ليس مشكلة. هم، كتجمّع لمكوّنات عدة، نتيجة سياق تاريخي. فالمقارنة هنا مع تظاهرات الـ ٢٠٠٥ ليست من باب العدد فحسب، بل هي إشارة إلى العلاقة بين هاتين اللحظتين وبوادر انتهاء مرحلة بدأت في الـ ٢٠٠٥.

أطّر تحالفا ٨ و١٤ آذار الحياة السياسية، حزبياً أو طائفياً أو خطابياً، منذ عقد، ليصبح انقسامهما البنية المؤسِّسة للسياسة اللبنانية. وعلى رغم امتعاض البعض من هذا الاحتكار، نجح الانقسام في الاستحواذ على جميع المواقع السياسية والسيطرة المطلقة على الخطاب السياسي، لتنزلق أية حركة سياسية أو موقف سياسي تلقائياً إلى أحد طرفي المعادلة. ربما كان هناك مبرر لهذا التجاذب في لحظة سياسية معيّنة. بيد أنّ تلك الثنائية بدأت تهتزّ على أثر التحوّلات الإقليمية من جهة، وفشل ممثليها داخلياً من جهة أخرى، لتصبح ثنائية قاتلة للسياسة والبلاد. لم يظهر تعبير، سياسياً، عن هذا الاهتراء قبل تظاهرات الأيام الأخيرة، التي كسرت احتكار ممثلي هذين الطرفين، عبر دخول من سمّاهم حازم صاغيّة «جيل ما بعد ٨ و١٤ آذار» على السياسة. وهم جيل ما بعد الاستقطاب، وليسوا تكراراً للمحاولات السخيفة في كسر هذه الثنائية، كتحرّك «١١ آذار».

فـ «جيل ما بعد ٨ و١٤» ليس طليعة لشعب موحّد أو الجزء الضاجّ من أكثرية صامتة أو تحالف «الأوادم» في وجه «الزعران». إنّه جيل دخل السياسة والبلد مقسوماً حول شعارات ٨ و١٤ التي شكّلت لكثر منه أحد المدخلين إلى السياسة. فهم بعض من أضفى شرعية سياسية على التحالفين تفوق شرعيّتهما الطائفية، وهي محاولة ربّما كانت مبررة في لحظة ما، غير أنّها سقطت بعدما تبيّن أنهما غير قادرين أو راغبين في حمل أي عنوان سياسي يفوق التجييش الطائفي الرثّ. فـ «جيل ما بعد ٨ و١٤»، لا يمثل بالتأكيد كل من شارك في التظاهرات الأخيرة، لكنه دخل إلى السياسة من هذه التجربة ليجد نفسه، بعد عقد، أمام خداعهما. أما من شارك ولا يزال يعتقد أنه يمكن التوفيق بين معارضة «النظام» ودعم طرفه السياسي المفضّل، فهذا لا يزال يفضّل خداع النفس على خداع الحبيب.

جزء من هذا الجيل دخل السياسة من باب «المقاومة» وحزبها، ليحوّل حزب الله من حزب مذهبي إلى أحد أركان اليسار العالمي، يعوّل عليه لمقاومة كل شيء، من المحتلّ إلى الفساد وصولاً إلى الانحباس الحراري. قامت التلفيقات آنذاك على مقولات سلاح الداخل والخارج وتزامن التحرير وبناء الدولة، ليتحوّل حزب الله من المقاوم الصامت إلى حامل أحلام التحرّر. أمّا الجزء المقابل، فدخل السياسة وحوّل تحالفاً سياسياً اشتهر بفساده إلى ممرّ إجباري للعبور إلى الدولة. لم يستغرب العابر إلى الدولة أن يصطدم بأحد رموز ١٤ آذار عند محاولة العبور هذه. فالتبرير دائماً كان حزب الله وأولية السلاح.

العنف قاتل للسياسة، وهذا كان الجزء الصائب من معادلة ١٤ آذار. غير أن قدرة رموز هذه القوة على التعايش مع العنف فاقت قدرتهم على العبور إلى الدولة.

بدأ طلاق هذا الجيل مع سياسة هذه الثنائية تدريجاً، على أثر فشلهما الداخلي. غير أنّ الحدث المؤسّس للطلاق يبقى الثورة السورية، التي سرّعت انهيار الطرفين، مهما كانت مواقفهما منها. فجاءت الثورة لتؤكد ما كان يعرفه كثر من أن حزب الله حزب سلطة، والعنف طريقه الوحيد للحفاظ على سيطرته. وبقي البعض يحاول أن يوفّق بين القاتل والقتيل عبر مقولة السلاح الموجّه جنوباً وذلك الموجّه شمالاً. بيد أنّه حتى حسن نصرالله نفسه ملّ محاولاتهم، وانتهى تحالف ٨ آذار في سورية، ليجد البعض نفسه مخدوعاً بالسيد وإطلالاته المتلفزة. غير أنّ الثورة السورية قضت أيضاً على سبب وجود قوى ١٤ آذار، عبر تحرير نقد حزب الله من احتكارها الذي بات ابتزازاً. فما تبقى من هذه القوى، بعدما سُحِب منها هذا الاحتكار، هو احتكاراتها الأخرى، من الدالية إلى النفايات وصولاً إلى الوسط التجاري، ومنظّرون حوّلوا الدفاع عن «سوكلين» إلى عمل ثوري، لكنهم سكتوا عن الانتخاب المتكرّر لنبيه برّي والتنسيق الأمني مع حزب الله في وزارة الداخلية والتفاهم مع الخصم العوني على القوانين الأرثوذكسية.

هذا لا يعني أن هذا الجيل سينجح لمجرّد أنّه جيل ما بعد الثنائية أو ما بعد فشلين. ومن غير الواضح ما هو معيار النجاح أو الفشل في هذا السياق. فليس هناك من نظام لكي يسقط، وليس من دولة لتُصلح، وهناك حرب أهلية قادمة مع انهيار كامل لمؤسسات الدولة. بيد أنّ نجاح التحرّك الأوّلي كان في بداية تحرير النقد من احتكار الطرفين، وبالتالي بناء خطاب مستقل من دون أن يكون «خارجاً عن الموضوع».

فالمسألة الاجتماعية بدأت تتحرّر من احتكار جوقة ٨ آذار، بخاصة مع انغماسها في الفساد العام. والمطلوب الآن تحرير نقد حزب الله من 14 آذار قبل تعميمه. فمن دون ربط المسألة «السيادية»، وعنوانها الأساس اليوم هو خطر حزب الله، بالمسألة الاجتماعية، سيبقى «العبور» إلى جيل ما بعد الآذرين غير مكتمل.

«جيل ما بعد ٨ و١٤» لا يعني تساوي الطرفين، بل رفضهما. غير أنّ هذا الجيل يدخل السياسة في وضع سياسي معيّن، ليس تكراراً للتسعينات، أي لما قبل «٨ و١٤». هو وضع يتنافس فيه هذا الجيل مع الوريث الآخر لهذه المرحلة، أي الصراع المذهبي العابر والكاسر للحدود. وهنا أيضاً، يعود هذا الجيل ويجد نفسه في وجه… حزب الله.

الحياة

 

 

تظاهرات بيروت: لندع الشباب يجربون ويغيرون/ حسام عيتاني

لا سابق لما شهده لبنان الأسبوع الماضي في تاريخه الحديث. لقد فُتح الشارع على مصراعيه ونزل إليه كل صاحب اعتراض واحتجاج بعدما كشفت أزمة جمع النفايات ومعالجتها الفشل الشامل للدولة اللبنانية في إدارة الأمور الحياتية اليومية والقضايا السياسية سواء بسواء.

الشعارات التي رُفعت في ساحة رياض الصلح تتراوح بين تسليم السلطة إلى حكومة عسكرية والمطالبة بتشريع الحشيشة، وما بين المطلبين وما يتجاوزهما. إسقاط النظام، محاسبة المسؤولين عن العنف المفرط الذي أصاب المتظاهرين، مطالب شرعية تماماً في تحرك يشمل المتضررين من النظام اللبناني والمستفيدين منه جنباً إلى جنب.

أتاح التحرك استعراض كل الممارسة السياسية اللبنانية السائدة على الأقل في الأعوام العشرة الماضية، من محاولة تحطيمه بالقوة من قبل القوى الأمنية إلى محاولة امتطائه من جانب الأحزاب الطائفية الحاكمة في صراعاتها مع خصومها التقليديين. لا مفاجأة في نزول «مندسين» ولا عجب في عودة الروح إلى شخصيات لم تنبس ببنت شفة منذ بدأت الثورات في البلاد العربية.

يريد هؤلاء حصة من ضوء كاميرات التلفزيونات ومحاولة قطف ما زرعه الناشطون المدنيون الذين انطلقوا من نقطة واضحة ومحددة هي الاعتراض على عدم علاج السلطة لمشكلة النفايات والفساد الفاضح في إدارة مناقصات تلزيم العقود لشركات ترغب في وراثة الشركة الأبرز في هذا المجال، «سوكلين»، التي أبدى أصحابها رغبة في اعتزال فن جمع النفايات.

كرر القدامى خطابهم القديم المعادي للفساد، مع تركيز على جهة سياسية معينة. وكررت الأحزاب الطائفية أساليبها المعروفة في محاولة الاستيلاء على التحرك من داخله. وإلى «القدامة» ذاتها ينتسب رد فعل رجال الامن الذين وجهوا إلى المتظاهرين ما يعتقدون أنه شتائم من نوع «اللوطيين» (المثليين) ومتعاطي الكبتاغون (الحبوب المخدرة)، إضافة إلى القاموس التقليدي الذي يتناول الأمهات والأخوات والنساء عموماً. بيد أن «القدامة» هذه تصطدم رأسياً بـ «جِدّة» غير مألوفة. ثمة من يقول إن الطرق السابقة في إدارة لبنان من خلال تقاسم غنائم المال العام واستتباع المواطنين للزعامات الطائفية عبر إعادة توزيع هذا المال بواسطة اقنية الولاء الطائفي، لم تعد تكفي. الشح الكبير في الواردات ينعكس ضآلة في التوزيع فيتفاقم التململ في القاعدة من الحاجة ومن إصرار السياسيين على مطالب غير واقعية وسط مظاهر البذخ الخرافي والتفاخر بثراء فاجر. «الجِدّة» أن المتضررين الواقعين على هوامش عملية إعادة توزيع الريع الطائفي المذكورة، يمتدون على شرائح شبابية تشمل الافضل تعليماً وإصراراً على تغيير أسلوب الحكم واستبدالها بأخرى أحدث، وتخاطب العصر وتنتمي إليه، والاكثر فقراً وتهميشاً وشعوراً، بالتالي، بالتخلي العام عنها من كل «المؤسسة» السياسية – الطائفية اللبنانية.

الكلام عن حصر المطالب بنقطة معالجة النفايات وعدم التطرق إلى فكرة إسقاط النظام القابلة للتحول تحولاً سريعاً إلى أداة إجهاض للتحرك، تخطاها الواقع. وأظهرت عملية فض عروض مناقصات جمع النفايات يوم الإثنين في 24 آب (اغسطس) أن الجماعة السياسية الحاكمة لم تتأثر بأي تحرك وأنها على تمسكها بأساليبها في استغباء اللبنانيين، ما أدى إلى تصعيد في الشارع ثم إلغاء مجلس الوزراء في اليوم التالي لنتائج المناقصة.

هو إذاً الفشل الكامل في عمل النظام (وليس الدولة فقط) الذي، على رغم قوته وقدرته على إغراق التحرك في الوحول الطائفية، لا يملك أي بديل أو أي تصور لإخراج البلاد من عثراتها المتعاقبة. يدفع هذا الإفلاس بمنظمي التحرك إلى الإصرار عليه وعلى المضي فيه على رغم المشكلات والانشقاقات التي بدأت تظهر في صفوفهم والتي ربما كانت طبيعية بسبب الضغط الرهيب الذي يتعرضون له ولافتقارهم إلى تماسك نادر الوجود خارج التنظيمات الحديدية.

لكن الإصرار على المضي في التحرك لا يعني أنه وجد «خطابه» ولا يعني أنه قادر على تخطي أفخاخ وألغام القوى الطائفية. بل الارجح أنه يعني رغبة في إكمال التجربة والقبض على اللحظة السياسية الحالية ومحاولة تطويعها نحو حل يساهم في إخراج لبنان من المأزق الذي يقيم فيه منذ عشرة أعوام.

في ظاهر الأمور (أو المنطق الشكلي إذا جاز التعبير) ان السير في اتجاه إسقاط مؤسسات الدولة يفتح الطريق أمام الجهة الأقوى والاكثر تنظيماً وتسليحاً (وهي ليست سوى «حزب الله» في حالتنا هنا) للنزول إلى الشارع ومحاولة فرض نفسه كحاكم او على الاقل كسلطة أمر واقع. بيد أن للظاهر هذا باطناً لا يقل أهمية، هو أن الحزب المرتبك من جراء تورطه في الحرب السورية سيغامر بذلك بما تبقى من تماسك الكيان اللبناني ويدفع خصومه إلى خطوات مشابهة في مناطق نفوذهم.

بهذا نكون وصلنا إلى أن الساحة مفتوحة للتجريب بمعناه الواسع. التجريب بأخطاره وفرصه، بانعدام القيادة والبرنامج ومحاذيره، وبالدينامية والمرونة اللذين ينطوي عليهما الغياب المذكور. التجريب المحكوم بحلم التغيير ولو الجزئي والتدريجي وبكابوس الارتكاس إلى حرب أهلية ضروس.

خبرات الأجيال السابقة من «المناضلين» الذين انتهت تجاربهم إلى كوارث أو ما يشبهها غير ذات قيمة كبيرة أمام واقع بهذا التعقيد والتشتت. قد لا يرضي هذا الكلام اليساريين الذين يعتقدون بامتلاك ناصية المنهج التاريخي الصائب. ولن يوافق عليه أرباب الطوائف المتربعون على مقاعد السلطة منذ أن ظهرت بذرة الكيان اللبناني في عهد المتصرفية او ربما قبلها. لكن لا مناص من الاعتراف بأن عملية تقاسم الدولة باعتبارها غنيمة وبرعاية القوى الخارجية باتت شديدة الصعوبة.

الشبان ماضون إذاً في تحركهم وفي نحت تجربتهم الخاصة. حساب النجاحات والخيبات مسألة مختلفة.

الحياة

 

 

 

بيروت إذ تطفو على أشياء كثيرة/ نهلة الشهال

… النفايات أحدها، بينما غضب كبير وبؤس أكبر يكشفان سر المدينة التي ما زال العالم يظن أنها مترفة، لاهية، ملتقطاً صور سهراتها الصاخبة ومعتدّاً بازدحام بعض المطاعم. بيروت مدينة خاصة جداً. لم تعد كوزموبوليتية منذ خبا دور لبنان كوسيط تجاري ومالي وخدماتي بين أوروبا والداخل العربي، لكنها ما زالت كذلك قليلاً، بسبب وجود البعثات الديبلوماسية والمنظمات المدنية العالمية والصحافة الأجنبية (ولو بالوكالة، بواسطة مكاتب خدمات في كثير من الأحيان)، وبسبب عدد من الجامعات العريقة المرتبطة بمراكز تعليمية كبرى، والتي تنشر نمط حياة يجعل الكثير من طلابها اللبنانيين «يشبهون الأجانب»… لكن بيروت صغيرة، فيُترجَم كل ذلك كثافة يمكن تلمسها في واجهتها، أي، وعلى رغم كل شيء، الحمراء ورأس بيروت والجميزة. وبيروت مدينة مأزومة، أعيد إعمارها بطريقة انفصامية بعد الحرب الأهلية المدمرة، لكنها كانت وقتها تضمر أشياء أفشلتها سياقات الواقع: لم يتحقق «السلام» الشامل في المنطقة مع إسرائيل، ولم يُمْكِن حسم مسألة «هانوي وهونغ كونغ تحت سقف واحد» (وآخر محاولة وفشل كان في عدوان 2006 الإسرائيلي)، فلم تتم مهمة إعادة تعريف دور لبنان ذاك، وهجر السائحون من أثرياء العرب «داون تاون» بيروت الأشبه بديزني لاند للكبار، وتدنت بقوة نسبة إشغال الفنادق العديدة والكبيرة، الأعلى من 5 نجوم، وراحت الواجهات البراقة للماركات العالمية من الثياب والمجوهرات تستدعي سؤال «لمَن؟» وجواباً ساذجاً يعتبرها «تبييض أموال»… للإبقاء على العقلانية في الميدان.

لا يصل «هاي واي» الرينغ المرتفع، والمعاد تأهيله ضمن إعادة الإعمار، بين الجزءين الغربي والشرقي فحسب، بل يطل على قلب المدينة القديم، الذي بعدما كان ساحة تماس واقتتال، ثم خلاء وركام، عاد اسمه مجدداً ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح وشارع المصارف ومبنى اللعازارية وساحة البرلمان، وعلى تلاله ترفل السراي الحكومية العثمانية البناء، مهيبة ولا شك، إنما توحي بفراغ في داخلها علاوة على عزلة من الخارج أقيمت بعناية لدواعٍ أمنية. ولعل الأكثر «كيتشية»، أنَّ شوارع الوسط التجاري القديمة، والتي كان لكل واحد منها طابعه وانشغالاته وطبقات ناسه، جُمعت كلها داخل «مول» تحمل ممراته على يافطات لا يلتفت إليها أحد، أسماء باب إدريس وسوق الطويلة الخ…

المشكلة أن بيروت الإدارية، وحتى الكبرى، قابلة للاجتياز بدقائق، خارج ساعات الزحمة بالطبع، وذلك يسمح بالاطلاع السهل على الفروقات المهولة، ليس من قِبَل متفرج أجنبي أو باحث أو صحافي، بل من قبل أبنائها أنفسهم. مخيمات اللجوء، كصبرا وشاتيلا مثلاً، لم تعد مساكن للفلسطينيين وحدهم بل امتلأت بالسوريين والعراقيين والسودانيين والبنغال وكل البؤساء، وحتى بلبنانيين نازحين حديثاً من الأرياف، ممن هم في أسفل سلم الفقر… وهذه لا يُعقَل أن تكون على مسافة كيلومترين بالأكثر من حي فردان الثري مثلاً، بينما الأحياء الكبرى «المهمشة» (ما يُنعت عادة بالعشوائيات) تتمدد على شاطئ بحر المدينة الجنوبي بموازاة مطارها الفخم لتلتف عليه وتصل إلى أقدام الجبل هناك (حيث «حي السلم» المدقِع فقراً قرب مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين جنوب العاصمة، وحيث في شمالها الغربي كان حي النبعة القديم، ولو بشروط وتعريفات أخرى مختلفة عن ماضيه وكذلك عن قرينه الحالي).

وأما أحياء الخندق الغميق واللجا، الأشبه بالجيوب في قلب مركز المدينة التاريخي، فأقرب من ذلك بكثير إلى «الداون تاون» ذاك، الذي لم يكن معقولاً أن يمتلئ بالشبان والشابات خلال الأسبوع الماضي، المعترضين على طمر بيروت بالنفايات، وعلى الانقطاع غير المحدود للكهرباء والافتقار لمياه الشرب… من دون أن يخاطب صدى هتافاتهم شباناً وشابات «من نوع آخر» (كما قيل)، يصلون إلى هناك بدقائق، ويفرضون إيقاعهم المختلف المولول بطالته المديدة التي يعرف أنها لن تنقطع، والسجن الذي ألفه من فرط ما ارتكب من جنح: بسبب سطو صغير من هنا، للحاجة أو للتسلية، وسكين تبقر معدة آخر في شجار لأي سبب، ولتعاطي المخدرات أو لتوزيعها… حين استَغربَ سحنتهم سائر الشباب، أجابوهم بأنهم ضحايا أكثر منهم لجبال النفايات ولانقطاع الكهرباء والماء ولأشياء أخرى، رأفوا لحالهم فلم يخبروهم عنها بالتفصيل.

«مندسون» كما قيل عنهم بداية. حقاً؟ ألأنهم أشد غضباً وعنفاً وأقل خوفاً من «أقرانهم»، وهم أصلاً جاؤوا إلى «الحفل» متأخرين، إذ بالتأكيد جذبتهم، علاوة على «القضية المشتركة» كما قالوا، أصوات الرصاص ودخان قنابل الغاز التي أطلقت على المجموعات «المُهندَمة» منذ اليوم الأول للتجمع، ومن دون أي مبرر، في ما يبدو أنه كان ضيقاً ببعض التصرفات التي تقع في أي تظاهرة، كرشق الشرطة بقناني الماء البلاستيكية أو حتى بالحجارة. أو ربما كانت محاولة للتخويف والتخلص بسرعة من «وجع الرأس» ذاك.

وهناك على سطح كل ذلك تجاذبات مصلحية بين قوى السلطة المتصارعة. وقد يخطر لبعض أطرافها أن يدفع الموقف في اتجاهات يظهر خطرها بعد فوات الأوان. وهناك أطراف يمكن أن تَحسب مصلحتها انطلاقاً من انسداد المجالات أمامها، فتكون قريبة جداً من منطق «عليّ وعلى أعدائي…». وبالطبع، وكجزء من تعريف السياسة نفسها، تقوم محاولات لتوظيف التظاهرات وتداعيات حالتها الغاضبة في ذلك الصراع، أو حتى لافتعال ما يمكن استثماره (لذا، فوجود «المندسين» شأن عادي، ولكن هويّاتهم قد لا تُطابِق ظاهر الأمر)، وهناك أيضاً ارتباك عميق للسلطة القائمة، التي أُجبِرت فجأة على التعامل مع واقع اجتماعي متفجر، يُخرِجها من الاستغناء المريح (لها) عن حساب رضا الناس أو استيائهم، ومن اطمئنانها الى سكنهم في استقطابات مذهبية عنيفة ولكن عقيمة، أو إلى يأسهم من طلب أي شيء أو من التصدي لواقع الفساد المالي المهول والاستهتار الإداري البشع. وهناك ما نعرفه عن حساسية وضع الإقليم المائج والمتغير، والذي ينعكس بقوة على لبنان، مهما تكررت التأكيدات عن وجود توافق دولي وإقليمي يقضي بـ «تحييده». ومجدداً فكل ذلك ينضوي في تعريف الحياة السياسية. لكن المعرفة بذلك كله لا تمنع اعتبار الحراك الجاري في بيروت، كما في كل لبنان، من عكار الى الجنوب، علامة على حيوية اجتماعية ظُنّ أنها مفقودة، وعلى ديمومة الصراع… الذي هو شرط الأمل.

الحياة

 

 

 

حول التباسات الحراك اللبناني/ حسن شامي

ليس من السهل العثور على توصيف دقيق لحركة الاحتجاج المندلعة في وسط مدينة بيروت على خلفية أزمة النفايات المتفاقمة. فالتظاهرات والتجمعات التي نجحت في حشد الآلاف وتخللتها مواجهات مع قوى الأمن أسفرت عن اعتقال وتوقيف عشرات الشبان وسقوط جرحى حالة بعضهم خطرة ترجحت بين التعبير الاحتجاجي المطلبي والتعبير عن الحاجة إلى تغيير سياسي جذري.

ومثل هذا الترجح في بلد يقف دائماً على شفير نزاعات أهلية مفتوحة إلى الحد الذي يجعله بيتاً بمنازل كثيرة سيكون بدوره مدار تأويلات متضاربة وحافلة بمختلف النوايا. يرجح في الظن أن قدراً من الحيرة حيال حركة الاحتجاج المتواصلة يلابس معظم الأدبيات الساعية إلى توصيفها، بما في ذلك الأدبيات المؤيدة للحراك وتلك المشككة في خلفياته أو في جدواه. في هذا التشخيص ما يكفي للتدليل على ترسخ الشعور بصعوبة تشكل قطبية اجتماعية وسياسية جامعة ومشتركة تتجاوز الاصطفافات الطائفية والمذهبية وتمهد لعملية اندماج وطني.

يمكن رد هذه الصعوبة المصحوبة باستبطان للعجز إلى تجربة اللبنانيين المديدة مع النزاعات الأهلية في الحرب والسلم على حد سواء. ففي لبنان تنتهي الأمور دائماً إلى إعادة إنتاج نظام المحاصصة الطائفية من خلال تجديد صيغتها وصبها في قوالب مستحدثة على قياس التحولات الداخلية ومرجعياتها الإقليمية والدولية وتبدل أوزان اللاعبين الجدد، والقدامى بطبيعة الحال. الثابت الوحيد في تبدلات الترسيمة هو وجه «جانوس» الموزع على نصفين من طبيعتين مختلفتين.

وقد يكون هذا اللبس التأسيسي مفهوماً بالنظر إلى أحوال الاجتماع اللبناني ونظامه السياسي «التوافقي». نقصد بذلك أن الحراك المعطوف على مواجهات «مدنية» لم تكن خلواً من العنف بين المتظاهرين المحتجين والقوى الأمنية لا ترمي حجراً كبيراً في بحيرة راكدة، كما يخيّل لنا، بل في بحيرة هائجة. ولم يكن مستغرباً أن يدور القسم الأكبر من التعليقات والنقاشات على صلاحية وقيمة رمي الحجر في بحيرة تهتاج حركتها بقدر ما تأسن مياهها. ولا يمنع هذا من وجود مفارقة تتلخص في استنقاع الهيجان الذي يجعل البلد كله وطبقته السياسية الموصوفة عن حق بالفساد وقصر النظر أشبه بلاعب السيرك المحترف والشاطر في القفز الهوائي والرقص على الحبال المشدودة إلا أنه لا يتفطن إلى انطفاء سحره ولا إلى الوهن الذي ينخره ولا إلى تعفّن خبز الناس البائت بين يديه. ليس مصادفة أن تحمل حملة الاحتجاج شعار «طلعت ريحتكم» أو أن تفتح الباب أمام شعارات وجمعيات من طراز «بدنا نحاسب».

اللبس التأسيسي الذي نشير إليه يكاد يطاول كل شيء ويجعل أي ظاهرة كانت حمّالة أوجه. من هنا تتأتى صعوبة إطلاق صفة الحراك ذي التمثيل الشعبي على نشاط شبان يتصفون بالجرأة كي يصرخوا صرخة احتجاج وتمرد على دهاقنة لعبة سياسية ممجوجة. في بلد يتوزع فيه «الشعب»، بالأحرى قطاعات عريضة منه، على جماعات معتصبة ومعتصمة بحبال الطائفة والمذهب والمنطقة والحارة، يصبح الحديث عن التمثيل الشعبي ضرباً من الرومانسية الثورية الحالمة أو ضرباً من ادعاء شرعية القبض على الحقائق والوصفات الخلاصية. وقد لا يخلو مثل هذا الادعاء من اختلال دلالي لا تنتظم فيه العلاقة بين الدال والمدلول. فليس أمراً مؤكداً أن صفة «الشعب» الشائعة في أدبيات الأحزاب الحديثة، بمختلف ألوانها الإيديولوجية، تحيل إلى مدلول واقعي. بل لا نستبعد أن تكون الصفة أقرب إلى المعنى القاموسي الأولي الذي يجعل الشعوب رديفاً للقبائل.

ينطبق هذا اللبس أيضاً على الصفة المدنية وعلى ما اشتهر في أدبيات جمعيات ناشطة باسم «المجتمع المدني». وقد سبق لباحثين لبنانيين أن ألقوا الضوء على التباس الصفة هذه في التجربة اللبنانية. ويدخل في هذا السياق الحديث عن النظام التوافقي. فهذا الأخير هو أصلاً صيغة لجأ إليها باحثون في العلوم والنظم السياسية لضبط النزاع بين مكونات وأطياف تفترض وجود هوة سحيقة وقاطعة تفصل بعضها عن البعض الآخر. ولأن الهوة هذه تتقدم كما لو أنها قدر جماعات متصارعة يصبح النظام التوافقي كصيغة لإدارة النزاع هو أهون الشرور والطريقة الوحيدة لتجسير العلاقات المضطربة بين الجماعات المتنازعة. النظام التوافقي هو، في هذا المعنى، نظام تنازعي.

مع ذلك كله يبدو أن الحراك الجاري خاطب، في جانبه المطلبي في الأقل، تململاً حقيقياً يستشعره الكثير من اللبنانيين. وطاول هذا التململ قطاعات من المقيمين على ولائهم لطائفتهم وممثليها في السلطة والحكومة والمجلس النيابي. فموضوع الاحتجاج على النفايات المرمية والمتراكمة في الشوارع قد يتبدى للمراقب البعيد أمارة على انتشار الشاغل البيئوي لدى فئات حديثة من الشبان. على أن اندراج الموضوع في سياق من التأزم الحكومي ومن تردي الخدمات الأولية العامة وتحول الفساد إلى منظومة كاملة يتحدث عنها «التوافقيون» بوقاحة، يجعل من الصعب فصل الشق المطلبي عن مضاعفاته السياسية. فالأمر لا يتعلق بسوء إدارة أو قلة كفاءة، بل يصيب مقتلاً إذ يطاول ركناً بارزاً من أركان العلاقة بين السلطة كما يمثلها أرباب الطبقة السياسية «التوافقية» الحاكمة وبين محكومين هم أقرب إلى أن يكونوا رعايا من أن يكونوا مواطنين. والركن هذا هو قصر العلاقة بين سلطة الحاكم وإذعان المحكوم على المحسوبية والزبائنية. لقد طفح الكيل. هذا ما يفصح عنه الحراك الجاري وهذا ما يلاقي صدى في بيئات المناصرين المعتادين على لعبة التراشق والتحدي بين الجماعات.

أهل السلطة التوافقية لا يعدمون، بطبيعة الحال، إمكانات الاحتواء، بما في ذلك انتحال المطالبة بتغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم. يسعهم مثلاً أن يحولوا الاحتجاج إلى مادة تنازع وصولاً إلى تسوية توافقية لا مناص منها مهما كانت مغشوشة ومبتذلة.

ورقة الابتزاز الأقوى هي التلويح بأن البديل عن الصيغة التوافقية هو الفوضى والاحتراب الأهليان. ومن شأن مثل هذا الابتزاز أن يردع كثيرين مقابل جوائز ترضية تبدو بمقتضاها الحقوق الأولية والبديهية منّة وتفهماً موقتين يتطابق تاريخ انتهاء صلاحيتهما مع الانتخابات المقبلة في حال عدم التمديد. تتعزز قدرة التوافقيين ـ المتحاصصين على احتواء الاحتجاج بالنظر إلى ما آل إليه الربيع العربي. لا أحد يتمنى التباساً يجمع بين السنونوات والغربان.

الحياة

 

 

 

حياة وآلام اللبنانيين اليومية بين أوبئة النفايات والاهتراء السياسي/ محمد أبي سمرا

منذ أواسط تموز/يوليو الماضي وحتى اليوم، يغرق اللبنانيون في نفاياتهم وفي قيظ صيف شحّت فيه أوقات التغذية بالطاقة الكهربائية المقنّنة والغارقة إدارتها وتجهيزاتها في اهتراء وفساد ونهب ماليين مزمنين. ووسط أكوام النفايات وروائحها، وشدة القيظ، والتردي في سائر الخدمات العامة وقطاعات العمل والمؤسسات الحكومية وتدهور الأحوال المعيشية، اشتد الدبيب المزمن لتنافر ونكايات القوى السياسية وزعمائها ودهاقنتها، وبلغ تمزق الرأي العام والجماعات الأهلية حدّ الهذيان.

مناخ التظاهرات المسموم

في هذا المناخ المحتدم والمتعفن بالمسموم، تداعى شبان وشابات من ناشطي المجتمع المدني، وأطلقوا على وسائل التواصل الاجتماعي حملة سموها «طلعت ريحتكم». أي فاحت رائحتكم أيها السياسيون والزعماء ودهاقنة الحكم «الفاسدين». ودعت الحملة الناس إلى التظاهر احتجاجاً في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت. وفي تظاهرتهم الأولى 22 آب/اغسطس الجاري، رُفعت صور السياسيين والزعماء اللبنانيين للتشهير بهم وبفسادهم وتقاسمهم مغانم الدولة والحكم. لكن دعاة الحملة الناشطين استثنوا صورة السيد حسن نصرالله من الإشهار والتشهير. وقد يكونون فعلوا ذلك خوفاً منه ومن حزبه المسلح المقاتل في سوريا إلى جانب نظامها الأسدي. وربما تداركاً منهم لخلافاتهم الداخلية، اذ قد يكون فريق من مطلقي الحملة يُجِلّ ما يسمى «المقاومة» و»سيدها» وإمامها وخطيبها، ويرفعه فوق ترهات السياسة والحكم وغرق البلاد في نفاياتها المتراكمة في الشوارع.

عدد لا يستهان به من ناشطي الحملة كانوا قد عمدوا إلى الاستثناء نفسه، عندما أطلقوا في العام 2011 حملة ما سمي «اسقاط النظام الطائفي» في لبنان، نسجاً على منوال الثورات العربية في بداياتها المجيدة آنذاك. وبعد عدد من تظاهرات الحملة تلك، انقسم الناشطون واشتبكوا وتضاربوا في ما بينهم وسط احدى التظاهرات على خلفية تضارب الشعارات وصور الزعماء المرفوعة تشهيراً. وكان السيد حسن نصرالله محور خلافاتهم، قبل تفرقهم أيدي سبأ. أما في أمسية التظاهرة الاولى من حملة «طلعت ريحتكم»، فقد تصادم المتظاهرون ورجال الأمن الموزعة أمرة أجهزتهم على أقطاب سياسيين وحكوميين يتبادلون النكايات ويتقاسمون مغانم الدولة. وتحول محيط مجلس النواب، الواقع ضمن حماية جهاز الشرطة التابع لأمرة رئيس المجلس نبيه بري، وكذلك محيط السرايا الحكومية القريبة التابع جهاز شرطتها لوزارة الداخلية ورئيس الحكومة، ساحات للكرّ والفرّ والتراشق بالحجارة والعبوات الزجاجية والقنابل المسيلة للدموع التي أطلقها رجال الشرطة مع الرصاص المطاطي والرصاص الحي أحياناً في تلك الليلة. هذا فيما سهر اللبنانيون حتى منتصف الليل في بيوتهم أمام شاشات محطات التلفزيون التي نقلت في بث مباشر حي وقائع الصدامات، وسط غبطة المذيعين والمذيعات في استديوهات المحطات، وغبطة المراسلين والمراسلات الميدانيين. فبدت إدارات محطات التلفزيون اللبنانية أشد حماساً من المتظاهرين، كأنها في عرس مشهدي تحتفي بصوره وتتنافس تنافسا محموماً على زيادة أعداد المشاهدين في سبقٍ إعلامي مشهود بين المحطات المتناحرة.

مياه وغيوم كثيرة جرت في التظاهرات والصدامات واكتنفتها. وسرت شائعات وأقاويل وانقسامات وخلافات حول ما حدث، ومن بادر إلى الصدام، وما هي أهواء المشاركين. ولم توفّر الانقسامات المتظاهرين المدنيين والسلميين من دعاة الحملة وجمهورها. فإلى الحملة الأولى «طلعت ريحتكم» ودعاتها، ظهرت في التظاهرات اللاحقة حملة جديدة عنوانها «بدنا نحاسب». أي نريد محاسبة السياسيين والحكام. أحد منظمي الحملة الأولى اتهم علناً أمام كاميرات محطات التلفزة، شرطة مجلس النواب بالمبادرة إلى الاعتداء على المتظاهرين مساء السبت 22 آب/اغسطس. أما بعد التظاهرة الثانية الكبرى (قدّر عدد المشاركين فيها بـ10 آلاف) مساء الأحد 23 آب/اغسطس، فسرعان ما اندلعت الصدامات أيضاً، بعدما اخترقت زمر من فتيان الشوارع الفوضويين والعنيفين صفوف المتظاهرين المدنيين والسلميين، وصولاً إلى مقدم التظاهرة، محاولين نزع الأسلاك الشائكة، فاصطدموا برجال الشرطة خلفها، والتابعين لوزارة الداخلية وأمرة رئيس الحكومة. وذلك للوصول إلى السرايا الحكومية. وكما في الليلة السابقة دارت المجابهات المتلفزة في ساحة رياض الصلح ومتفرعاتها. ونقلت الصور مشهداً لواحد من رجال الشرطة يجلس أرضاً يبكي منهكاً ومنهاراً.

في نهاية الاثنين والثلاثاء توعّد منظّمو الحملتين المنقسمون باستكمال عزمهم التحرّك والتظاهر بعد ظهر السبت 29 آب/اغسطس الجاري. ولردم هوة خلافاتهم وانقساماتهم، بل لتجنبها وتركها تعسُّ وتتفاقم في الخفاء، لتنفجر لاحقاً، سمّى كثيرون من الدعاة المنظّمين زمر فتيان الشوارع العنيفين القادمين من الأحياء الشيعية والمختلطة طائفياً والقريبة من وسط بيروت التجاري الجديد، بـ»المندسّين». وذلك تجهيلاً لهويتهم الأهلية والطائفية، بعد اختراقهم جمهور التظاهرة المدني السلمي بهويتهم هذه، وتصادمهم مع رجال شرطة السرايا الحكومية. وخلف كلام بعضٍ من دعاة الحملات ومنظميها عن «حرية أشكال التعبير وتباينها» أثناء التظاهرة، جرى التستّر على العداء الطائفي المحموم الذي تكنّه تلك الزمر الرعاية العنيفة للسرايا الحكومية ورئاسة الحكومة. هذا بعدما كانت شرطة مجلس النواب هي التي بادرت إلى العنف ضد المتظاهرين المدنيين والسلميين في تظاهرة مساء السبت في 22 آب/اغسطس. والمعروف أن جهاز شرطة المجلس النيابي، تعود امرته وعصبته الأهلية الغالبة إلى رئيس المجلس الذي يواليه أيضاً جمهور الأحياء التي توافد منها فتيان الشوارع العنيفون الذين اخترقوا تظاهرة مساء الأحد في ساحة رياض الصلح، وباشروا الصدام مع شرطة السرايا الحكومية. والفتيان الرعاع هؤلاء وزمرهم موطنهم أحياء خندق الغميق وزقاق البلاط، وهم من جمهور حركة «أمل» و»حزب الله» الشيعيين. وهم أنفسهم قاموا قبل مدة بحرق أكوام النفايات، والإغارة بها وتكديسها أمام دارة رئيس الحكومة تمام سلام في حي المصيطبة القريب من أحيائهم. ثم إنهم لم يخفوا انتماءهم الشيعي، بل اشهروه أثناء اختراقهم تظاهرة مساء الأحد، عراة الصدور الموشومة والمزينة بقلادات معدنية لامعة تمثل سيف الإمام علي بن ابي طالب، ذو الفقار الشهير. هذا فوق شتائمهم البذيئة وهتافاتهم المعتصبة مرددين: «شيعة، شيعة، شيعة»، و»الدم الشيعي عم يغلي غلي». وقد شوهد وسُمع ذلك واضحاً في ساحة التظاهر، وبثت شاشات التلفزيون وشبكة التواصل الاجتماعي صورة أشد وضوحاً. وعلى الرغم من هذا كله أصرّ بعض منظمي الحملات على ادراج هذه الأفعال والمظاهر في خانة «حرية التعبير وتنوع أشكاله واختلافها» بين جماعات المتظاهرين الذين رفعوا شعار «إسقاط النظام الطائفي».

صور الأوبئة والطواعين

على أي وجه وصورة يمكن اليوم، إذاً، التمثيل على حال اللبنانيين هذه؟ ربما صار من الصعب العثور على تشبيه أو صورة جامعة تكثّف الكناية عما يعيشه اللبنانيون في حياتهم اليومية المهترئة، وفي تدبيرهم شؤون معاشهم وخدماتهم العامة وإدارتها، وفي تصريفهم خلافاتهم ومنازعاتهم المتناسلة، جماعات أهلية وطاقم حكم وزعماء سياسيين – إلا باستحضار أطياف صور مما عاشته ممالك وسلطنات وأقوام وشعوب حلّت بها الأوبئة والطواعين في أزمنة غابرة، يعود بعضها إلى العصور الوسطى في المشرق.

مثل هذه الصور حاضرة في كتابات ومرويات تأريخية كثيرة عن المدن المشرقية (دمشق، حلب، والقاهرة) في عهد المماليك ومؤرِّخه الأشهر المقريزي. وهي حاضرة أيضاً في مؤلفات عبد الرحمن الجبرتي، ايام حملة نابليون بونابرت العسكرية الفرنسية على الديار المصرية. أما اليوم فعلى الأرجح ان عراق ما بعد ديكتاتورية صدام حسين، وسوريا ديكتاتورية حافظ وبشار الأسد، قد تجاوزا تلك الصور التراثية الغابرة. لكن ظلال أو أشباح صور الطواعين الضاربة والمتفشية اليوم في الديار المشرقية (من اليمن وصولا إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا) لم تعثر بعد، بالرغم من تفاوتها، على مؤرخيها ورواة أيامها، إلا في ما ندر من الكتابات والتحقيقات الصحافية، غير العربية غالباً. هذا على الرغم من مرور عقود على دبيب الطواعين والاوبئة، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، في الديار اللبنانية، منذ بدايات الحروب الأهلية الملبننة في العام 1975. وإذا كانت تلك الحروب قد توقفت قبل عقد ونصف العقد، لتتولى الوصاية السورية الأسدية إدارة شؤون لبنان ودولته في حقبة ما سمي «إعادة البناء والأعمار» طوال عهد حكومات رفيق الحريري، فإن أشباح الطواعين والأوبئة المادية والمعنوية والأخلاقية والسياسية التي تهدد لبنان اليوم، هي وليدة الحقبة الحريرية ـ السورية الأسدية التي انتهت باغتيال الحريري في طرف وسط بيروت المعاد بناؤه وإعماره وإحياؤه، قبل ان تغرق سوريا الأسد بالدم والدمار. وها هو لبنان بدوره يغرق منذ الاغتيال الكبير في العام 2005، في استنزاف إرث دولة اتفاق الطائف (1990) الصورية المعلقة في فراغ اجتماعي كبير، بعدما أُعيد ترقيقها وإدارتها على مثال إقطاعات أهلية لا جامع بينها سوى إذعانها الخائف والمتواطئ للوصي السوري الأسدي، ويتصدرها زعماء لا جامع بينهم سوى تطاحنهم على النفوذ والسلطان ونهب المال العام للدولة الصورية بالتواطؤ مع الوصاية السورية الأسدية.

نفايات عسكرية قاتلة

ما جرى وصفه أعلاه من حملات وتظاهرات لا تزال تتناسل احتجاجاً على غرق الديار اللبنانية في النفايات، ليس سوى وجهٍ من وجوه غرق لبنان الدولة والمجتمع في متاهات الانقسامات والنكايات الأهلية التي يحاول الناشطون إخفاءها ببراءة ما يسمونه المجتمع المدني، فيما دهاقنة السياسة والإعلام والمال يتربصون بهذا المجتمع الضعيف المرهق وبناشطيه ومتظاهريه السلميين.

وإلى النفايات والكهرباء ومتاهات الانقسامات ودبيبها مع الطاعون المعنوي والأخلاقي، ووقاحة النهب والتطاحن السياسي عليه بين الزعماء وحاشياتهم، وفيما كانت تظاهرة الاحتجاج تتعرض لعنف أجهزة الشرطة في ساحة رياض الصلح، كان مخيم عين الحلوة الفلسطيني قرب صيدا، يعيش حالاً من تناسل الأوبئة والطواعين العسكرية شبه الاجرامية فيه. فبعد ظهر السبت 22 آب/اغسطس، كانت حركة «فتح» الفلسطينية في المخيم تشيّع قتيلاً سقط برصاص رفيقه في ما سمي «حادث فردي»، فأطلق مسلحون «مجهولون» النار على أحد مقدمي «فتح» في الجنازة. أصاب الرصاص مرافقيه الثلاثة، منهم الملقب أحدهم بـ «العجل». فاندلعت اشتباكات عشوائية بين مقاتلي «فتح» ومسلحي الجماعات الاصولية الإسلامية المتشددة، وامتدت إلى معظم أرجاء المخيم وأحيائه البائسة. استمرت الاشتباكات 15 ساعة متواصلة، فسقط فيها 3 قتلى وجرح 20 آخرون معظمهم من «فتح»، ودمرت منازل ومحال تجارية وسيارات، وتعطلت شبكتا الهاتف والكهرباء، فيما نزح عدد كبير من سكان المخيم هاربين في الليل سيرا على أقدامهم في اتجاه مدينة صيدا.

ليست هذه الحوادث سوى غيض من فيض الأوبئة والطواعين المتناسلة في الديار اللبنانية. وهي مرشحة للتفاقم والانتشار على القارب في الأيام المقبلة. إنه قدر لبنان على شفير المقاتل في المنطقة كلها.

 

القدس العربي

 

 

 

 

 

 

كعكة نفايات .. وجيل شبابي يؤرّق زعامات ميتة/ وسام سعادة

اعتاد اللبنانيون، لا سيما في السنوات الأخيرة على تخلّف نظامهم السياسيّ لسبب أو لآخر عن احترام المواقيت والمواعيد الدستورية، فمدّد المجلس النيابي لنفسه مرتين، المرة الأولى بدعوى حاجته إلى وقت

إضافي لقانون الانتخاب المأمول، وكي ينتخب رئيسا للجمهورية، والمرة الثانية بدعوى اخفاقه في هذين الأمرين. كذلك لم يراع الوقت الدستوري المتصل بالرئاسة الأولى، الشاغر منصبها منذ عام ونصف.

وحده ملف بيئي أساسي هو ملف إدارة عملية تجميع ومعالجة النفايات لم يخلف وعداً، إذ كان معروفاً للقاصي والداني ان مطمر الناعمة لن يعود قابلاً على تقبل المزيد من شاحنات القمامة لطمرها، بعد 17 تموز/يوليو

الماضي، هذا في وقت تشهد فيه هذه المنطقة عملية طمر مخربة للبيئة ومسمّمة للسكان.

اعتقد اللبنانيون في الأيام الأولى انّهم أمام مشكلة تدوم أياماً معدودات، لكن عدم تمكن الحكومة الحالية من إيجاد معالجة سريعة للموضوع أدى إلى تفاقمه، هذا في وقت بدت فيه الأركان الأساسية في الحكومة تتوقع

ان تبقى النقمة الشعبية محصورة في تنازع، أو «ترافض» المناطق اللبنانية المختلفة رمي النفايات فيها، وإيجاد مطمر بديل للناعمة على أرضها. بالتوازي، استفحلت في البلاد، عملية الطمر العشوائي هنا وهناك، في ما يقترب في أحيان كثيرة من مرتبة «جرائم بيئية موصوفة».

في البدء، حمّلت الأكثرية الحكومية التيار الوطني الحر مسؤولية تعطيل عملها وبالتالي كف يدها عن معالجة في وقتها لموضوع النفايات، وبدا الرأي العام ميالاً إلى ذلك، ولما انطلقت حملة «طلعت ريحتكم»

لم يكن الأمر ليوحي بأنها قادرة على تحريك قوة احتجاجية في المركز اللبناني، وأخذ على الحملة جملة» تخبيصات» في الشعار والأداء، أو في غياب سرعة البديهة عندما أطلّ العميد شامل روكز من سيارته في

بداية تحرّكاتها محيياً الجمهور، فبدت كما لو أنها تأخذ طرفاً في ما يناقض تنديدها، من موقع المجتمع المدني، بكافة الأركان المشاركين في الحكومة أو بما يسمّى «الطبقة السياسية».

يبقى ان حملة «طلعت ريحتكم» امتلكت منذ البدء عناصر قوة أساسية، منها طبعاً تشكل قسمات وعي جيل شبابي جديد ناقم على الأوضاع السياسية والاجتماعية في لبنان، ويثيره استهتار القوى الأساسية في 8 و14 آذار مجتمعة بأي احتكام إلى الناس، وهو احتكام كان مؤمنا جزئياً، سواء في مشهد التظاهرات المتواجهة للفئتين الآذاريتين، أو في صناديق الاقتراع، ثم انتفت آخر معالم هذا الاحتكام.

أيضاً أجادت الحملة الربط بين ملف يعني صحة وسلامة اللبنانيين، ولا يمكن التأجيل فيه، وهو ملف النفايات، وبين جبل الفساد المريع، الذي يظهر جلياً في هذا القطاع بالذات، حيث أعلى كلفة لمعالجة النفايات من قبل شركة خاصة في العالم، وتخريب اجرامي للبيئة وتسبّب بمقتل الآلاف من السكان على مدى السنوات. هذا الربط بين العجز الحكومي وبين استفحال الفساد لم يرق لدى بعض كوادر 14 آذار التي لا تفهم حركة نقابية للموظفين أو العمال ولا حركة مطالبة بايجاد حل لكارثة النفايات إلا بعد حل مشكلة سلاح حزب الله، هذا السلاح الذي تساكنه في الحكومة، نفسها والذي لم تخرج في تظاهرة واحدة ضده منذ آذار 2011.

بالتوازي، فان كوادر أساسية في «انتفاضة الاستقلال»، وفي صناعة وهج 14 آذار 2005 سارعت إلى تأييد التحرك أو الالتحاق به تدريجياً، وبالتوازي مع تجذره، وكذلك حصل في بيئات 8 آذار، ليصار إلى حديث،

متسرّع بعض الشيء، عن تجاوز الثنائية الآذارية. متسرّع لأنه صحيح وخاطئ. فقوى 8 آذار لا تزال في مكانها، في موقفها الداعم للنظام السوري وسياساته الدموية، لكن ما حصل هو انهيار 14 آذار نفسها، وانشطارها بين «14آذار – المسخ» التي لم تجد ما تعبّر عنه حيال مشهد آلاف اللبنانيين المنتفضين سوى الاستعارة اليمينية المتطرفة لشعارات معاداة الشيوعية القديمة، وبين الاستقلاليين – الاجتماعيين – البيئيين- الشبابيين، ان صح التعبير، الذين هم من أكثر المؤيدين للثورة السورية في لبنان، وأكثر المؤيدين للمحكمة الدولية والمناهضين لهيمنة حزب الله على البلاد، لكنهم يدركون، أنّه لا يمكن بالبساطة تأجيل كل قضايا الفساد إلى ما بعد حل مشكلة سلاح حزب الله، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقطاع النفايات. يمكن ان يتعايش البلد مع فراغ رئاسي أو حكومي، ومع سلاح فئوي تغلبي، ومع حدود وطنية غائبة، لكنه لا يمكن ان يتعايش ببساطة مع مشكلة لا حل لها طالما الصيغة الحاكمة لإدارة الشأن العام هي بهذا العداء للطبقات الشعبية، وبهذا الاستهتار المريع بصحة الناس وسلامتهم، وهذه التغطية أو التورط في عملية تخريب البيئة وتسميم المياه «سرطنة» السكان.

القوة الاحتجاجية تواجه بتحديات كثيرة، لكنها تستمد قوتها من ان السلطة الحاكمة عاجزة عن القيام بأي معالجة حقيقية لقطاع النفايات، وحتى تقسيم كعكة الزبالة بين المتمولين المحسوبين على الجهات النافذة سياسياً ومالياً، وبكلفات خيالية، وابهام الشروط البيئية، لم يكن إلا سبباً لتوسع الاستياء الشعبي.

بقايا 14 آذار الرسمية تدمن في هذه الأثناء نظرية المؤامرة بشكل هستيري. تتحدث عن المتظاهرين كـ»باسيج» و»فرس» وهلمجرا. في الوقت نفسه التحرّك يعاني من مشكلتين، واحدة تتعلّق بردّات فعل ناشطي

المجتمع المدني غير القادرة على استيعاب عملية توسع المشاركة الشعبية خارج إطار ترسيمة الطبقة الوسطى المدنية، وثانية تتعلّق بمحاولة بعض القوى السياسية والأمنية تشويه التحرّك بالشبيحة.

لا يزال مبكراً معرفة من سيخرج خاسراً من لعبة الشارع أكثر من سواه بين الزعامات السياسية اللبنانية التي ظهر فتور الولاء الشعبي لها حتى في البيئات المحسوبة عليها، في مقابل ظهور جيل شبابي لبناني بات

واضحاً في التصرّف كما لو ان الزعامات السياسية الرئيسية باتوا أعداء وطنيين له، وهذا بحد ذاته يحمل في طيه جمرة ثورية .ما من شأنه تقوية الحراك هو هذا الهلع الذي تعيشه أركان السلطة من الطابع الاجتماعي للاحتقان الشعبي الاستهدافي لشخصياتها بشكل جذري، غير مسبوق بهذه الحدة، وانفلات صراع أجيال اعتقدت السلطة بأنه غير مطروح وبأن كل «لورد طائفي» يورث تاجه في ربعه والسلام. الجدار الاسمنتي الذي بني حول السراي الحكومي ارتد سلباً على من أمر به، وكذلك القمع، علما ان القوى الأمنية اللبنانية غير مؤهلة جدياً لـ»مكافحة الشغب»، ويمكن لأي مواجهة تمتد لأيام أن تفتح الخيار على احتمال تدخل عسكري في الأزمة، وهذا، في شرقنا العربي كما في سواه، غير مستبعد بعد احتقان متداخل بين أزمة دستورية حادة وبين أزمة فساد وعجز غير مسبوقة. يبقى الموقف الغامض، موقف حزب الله. والموقف شبه المتوقع، ان تطلب الأكثرية الحاكمة معونة حزب الله في مواجهة التحدي الذي تواجهه في الشارع، وهي عندما تصف أبواقها المتحركين بـ «الباسيج» لا تفعل سوى توجيه استرحام لحزب الله بأن أدركنا. وكل هذا يقوي الشعور بأن الشباب، غير المستعد للتكلم بالسياسة بشكل حصيف، يفهم جيداً أنه اذا كان يواجه زعامات خبيثة، فهو يواجهها موميائية، ميتة. هذه هي قوة «طلعت ريحتكم» وأخواتها حالياً.

القدس العربي

 

 

 

 

قراءة هادئة لتظاهرات بيروت الصاخبة/ قاسم قصير

شكلت التظاهرات والاعتصامات العفوية والشعبية التي شهدتها بيروت طيلة الأيام السابقة، بدعوة من حملة «طلعت ريحتكم» احتجاجا على سياسات الحكومة اللبنانية، تطورا مهما في المشهد السياسي والشعبي والإعلامي والاجتماعي في لبنان رغم كل المحاولات الهادفة لتشويه هذا الحراك الشعبي أو التهجم عليه أو السعي لحرفه عن مساره. فقد بدأت هذه التحركات والاحتجاجات من خلال الحملات الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي(فيسبوك ـ تويتر) ومن ثم بدأت تنزل على الأرض عبر اعتصامات صغيرة ومحدودة للاحتجاج على تراكم النفايات في الشوارع اللبنانية ومن ثم احتجاجا على الاهمال الحكومي لهذا الملف.

وبدأت مؤسسات المجتمع المدني وبعض مناصري القوى السياسية والحزبية بالانضمام إلى التحرك الميداني بحيث تحولت التحركات العفوية إلى تظاهرات واعتصامات منظمة، إلى ان كان التحرك الأضخم يوم السبت في 22 اب/اغسطس الماضي حيث انضم آلاف المتظاهرين من مختلف المناطق والاتجاهات وخصوصا من قبل طلاب الجامعات والطبقات الوسطى في المجتمع اللبناني إلى التحرك الشعبي الواسع في ساحة رياض الصلح، وتحولت الشعارات من قضية النفايات والزبالة إلى كل قضايا المجتمع وإلى اسقاط النظام والحكومة اللبنانية والمجلس النيابي.

لكن التطور الأبرز في ذلك اليوم الهام كان في تصدي القوى الأمنية للمتظاهرين بالقوة واستعمال الرصاص الحي والرصاص المطاط والقنابل المسيلة للدموع لتفريقهم ومن ثم اعتقال عدد كبير من المتظاهرين، وكانت ردة الفعل معاكسة، فأصر المتظاهرون على البقاء في ساحتي رياض الصلح والشهداء وعلى تصعيد التحركات مساء السبت ويوم الاحد في 23 اب/اغسطس، حيث زاد عدد المتظاهرين واضطر رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق والأجهزة الأمنية للتراجع أمام المتظاهرين واطلاق المعتقلين والدعوة للحوار معهم والسعي لتلبية بعض مطالبهم. لكن اندساس بعض المجموعات المنظمة إلى هذا التحرك والعمل لتخريب التظاهرات والاصطدام مع قوى الأمن وتخريب الأملاك الخاصة والعامة أدى لحصول ردود قاسية من القوى الأمنية والعمل لتفريق المتظاهرين وإصابة العشرات منهم، وانعكس كل ذلك انقساما وخلافات داخل الجهات المنظمة وبدأت تبرز مجموعات جديدة تدعو للتحرك بعد ان قررت حملة «طلعت ريحتكم» تأجيل التظاهرات إلى يوم السبت 29 اب/اغسطس. لكن بقية المجموعات نزلت إلى الشارع واستمرت بالتحرك وفرضت على الحكومة إزالة الحائط الذي اقيم أمام السراي والغاء المناقصات الفضيحة حول جمع النفايات ومعالجتها.

ولا تزال شوارع بيروت والمناطق اللبنانية تشهد تحركات شعبية متعددة في حين بدأت النقاشات والأسئلة حول جدوى التحركات ونتائجها وهل ستنجح في اسقاط النظام الطائفي أو مواجهة الفساد أو تغيير الواقع السياسي اللبناني؟

ورغم كل الانتقادات والملاحظات السلبية التي وجهت لهذه التحركات والجهات والأشخاص والمؤسسات التي ساهمت فيها، فانه يمكن القول وبصراحة وبدون أي مبالغة ان هذه التحركات الشعبية شكلت تطورا مهما في الحياة السياسية والحزبية اللبنانية وأفرزت حالة جديدة في الواقع السياسي وسيكون لها دور مهم في المرحلة المقبلة إذا تابعت حراكها واستفادت من الأخطاء التي حصلت وتم تطوير ادائها وتنظيم امورها.

فقد تميز هذا الحراك الشعبي بعدة نقاط أساسية ينبغي التوقف عندها وهي التالية:

اولا: انه حراك من خارج الاصطفافات الحزبية التقليدية بين 8 و14 آذار وهو عابر للطوائف والمذاهب والمناطق.

ثانيا: يحمل الحراك مشروعا سياسيا تغييريا حقيقيا رغم صعوبة التغيير في لبنان وارتفاع مستوى الشعارات والمطالب.

ثالثا: اتى هذا الحراك في ظل ظروف سياسية وشعبية صعبة وتعرض لهجمة قاسية من أركان النظام والقوى الفاعلة ومع ذلك نجح في تحريك الناس وانزالهم للشارع رغم ضعف الامكانيات والأدوات التنظيمية.

رابعا: لقي الحراك اهتماما إعلاميا وسياسيا وشعبيا مهما وساهمت وسائل الإعلام سواء التقليدية أو الجديدة بدعم الحراك وحض الناس على المشاركة فيه.

خامسا: لم تستطع أي قوة سياسية أو حزبية أو طائفية من تجيير الحراك لصالحها أو تطييفه رغم كل المحاولات التي سعت لذلك.

سادسا: كشف الحراك عن وجود قوة شعبية واجتماعية حقيقية مستعدة للنزول إلى الشارع وحمل قضايا الناس والتفاعل معها والتضحية من أجلها، وهذه القوة تضم شبابا ومؤسسات وفئات واسعة من مختلف الشرائح وخصوصا من أبناء الطبقة الوسطى من مهندسين وأطباء وأساتذة وإعلاميين وفنانين وكذلك من مختلف الطبقات.

سابعا: برزت الحيوية الكبيرة داخل المجتمع والقدرة على مواجهة أدوات القمع والمرونة في الحراك والاستعداد لتجاوز المطبات التي توضع من قبل المعادين للتحرك.

لكن مع هذه المميزات الإيجابية فقد حصلت بعض الأخطاء التي شوهت الحراك أو أضعفته ومنها بروز بعض الخلافات بين المنظمين والاستعجال في قطف الثمار وعدم وضوح الرؤية المستقبلية للحراك واستعمال بعض الشعارات والمواقف الحادة والتعاطي السلبي مع بعض الجهات التي تعاطفت مع المشاركين في الحراك.

وبالاجمال يمكن القول ان ما حصل في 22 اب/اغسطس الجاري في بيروت ومناطق لبنانية أخرى أسس لمرحلة سياسية جديدة في لبنان وهو استكمال لتحركات سابقة حصلت في السنوات الأخيرة ولا سيما منذ العام 2011 حتى اليوم ومنها التحرك تحت عنوان: اسقاط النظام الطائفي  وغيرها من التحركات الشعبية، لكن استكمال هذا الحراك يتطلب نفسا طويلا ونشاطا مستمرا ومنظما ورؤية مستقبلية واضحة وخطة عمل غير عفوية، لكننا على الأقل نستطيع القول اليوم اننا أمام قوة شعبية جديدة تتجاوز كل التقسميات الحزبية والطائفية والمناطقية وسيكون لها دور فاعل في المستقبل إذا أحسن المنظمون تنظيمها ورعايتها ومتابعتها.

القدس العربي

 

 

 

الإختلاف حياة الثورة البيروتية/ رامي الأمين

ان ينزل مواطنون لبنانيون عاديون مع أطفالهم إلى تظاهرة للمطالبة باسقاط الحكومة وحل مشكلة النفايات، مع معرفة هؤلاء حجم الخطر الذي يتهدد أولادهم بسبب استخدام الشرطة اللبنانية العنف المفرط مع المتظاهرين، فهذا يعني أن اليأس لدى كثير من اللبنانيين وصل إلى درك لم يصله من قبل. هناك من وصل إلى نقطة اللاعودة. بالنسبة إلى عدد من المتظاهرين فإن الموت، من دون شكّ، بات أفضل من الخنوع في هذه البلاد تحت هذه السلطة الجائرة. ولهذا لم يترددوا في الوقوف في وجه القوى الأمنية المولجة حماية السرايا الحكومية من المتظاهرين، وتلقوا بصدورهم ووجوههم المكشوفة هراوات العــــســكــر ورصــاصهم المـطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع.

هذه المرة الأولى التي تشهد فيها بيروت في هذا النوع من التظاهرات، حضوراً كثيفاً لأطفال يرافقون ذويهم للمطالبة بمستقبل أفضل. بعض الأطفال صغار لا يعون شيئاً مما يحدث. لكن أهاليهم أصروا على إحضارهم، لكي يعلموهم الحرية منذ الصغر، ولكي يؤسّسوا شخصياتهم على رفض الظلم. إحدى السيدات أتت مع ابنتها التي تبلغ السادسة، وابنها البالغ تسع سنوات. تقول إنها لا تخشى الرصاص بقدر ما تخشى من المستقبل القاتم لأبنائها. لا تعرف ماذا ينتظرهم في بلاد لا تحترم الإنسان، ولا تؤمّن للأجيال طموحات لائقة بمستقبل أفضل. سيدة أخرى تقول إن ابنتها الصغيرة البالغة ثماني سنوات تطالبها بضرورة الهجرة من هذه البلاد. أن يفكر أطفال بعمر الورد بالهجرة، فهذا لا يعني إلا شيئاً واحداً، التربة في هذه البلاد مسمّمة. ولا عجب، فالنفايات، تطمر، كالجثث والتاريخ والأفكار والكتب والأحلام.

أحد المتظاهرين أحضر معه كلابه الثلاثة. لكنته العربية مكسّرة، لأنه عاش لأكثر من عشرين عاماً مهاجراً في كندا. وقرر العودة أخيراً، ليجد بلاده تغرق بالنفايات. قرر المشاركة في الانتفاضة ضد السلطة، لأنه لا يريد الإستسلام مجدداً للهجرة. يقول إنه أحضر كلابه الثلاثة لأن من الممكن ان يشكلوا نموذجاً تحتذي به الحكومة: «الكلب اذا اخطأ، يستحي بخطئه، يستدير ويختبئ، لكن حكومتنا تخطئ وتواجه شعبها بوقاحة، وتستمر بالخطأ».

أحد الأطفال يقول بوضوح، وقد جهّزته والدته بكمامة ونظارتين لحمايته من الغاز المسيل للدموع: «لا أريد أن أصير سياسياً في المستقبل كي لا أُشتم من شعبي». بالنسبة إلى جيل كامل، تتحول السياسة إلى عيب. ويتحول العمل السياسي بحد ذاته إلى شتيمة. ليس هناك مسؤولون سياسيون في لبنان لم يُشتموا من قبل الناس. منذ سنوات والطبقة السياسية برمتها تشتم من قبل الشعب اللبناني. صحيح أن كل فريق يشتم زعماء الفريق الآخر، لكن الجميع نالوا الشتائم التي يستحقونها. في هذا الحراك الأخير، والواعد، يبدو أن كثيرين توحدوا على شتم الجميع ونبذهم دفعة واحدة، بعدما تبين بوضوح، أن هذه الطبقة السياسية برمّتها، ورغم خلافاتها السياسية، تعمل بالتكافل والتضامن ضد مصلحة شعبها، مطمئنة إلى خدر الناس وانصــيــاعـهم إلــى شبكة المصالح التي تؤمنها للمستزلمين لديها.

التجمعات التي بدأت عفوية، ثم راحت تتخذ اشكالاً أكثر تنظيماً، ما كانت لتنطلق لولا أن رائحة مقرفة أزكمت الأنوف، بعدما تراكمت النفايات في الشوارع. وهذه التجمعات، المؤلفة من جماعات مختلفة، ميزتها، حتى الآن، أنها لا تفكر أو تتحرك بمنطق الجماعة. التنوع الفردي البارز بين هذه الجماعات، وحتى بعض الخلافات التي راحت تنشأ فيما بينها على مسائل تتعلق بالأسلوب والتنظيم والأهداف، لا يمكن وضعها إلا في خانة الإيجابيات. فالمشكلة الأساس في بلد مثل لبنان هو تحكم الزعماء السياسيين بالجماعات السياسية (والطائفية) اللبنانية. كل زعيم يتحكم بطائفته، بشكل شبه كامل، على القاعدة التي وضعها غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير»، والتي تقول باختلاف «نفسية الناس المنخرطين في الجمهور أساساً عن نفسيتهم الفردية»، فـ»الذكاء الفردي لا يلعب أي دور في هذا المجال، فدوره يتعطل عندما يصبح الإنسان منخرطاً في الجماعة. وحدها العواطف اللاواعية تلعب دوراً آنذاك».

من هنا يبدو ايجابياً جداً إنضمام الناس أفراداً إلى حراك ليس له حتى الآن أي إطار جماعي واضح، وهو ما يسمح للـ»ذكاء الفردي» أن يلعب أدواراً عديدة، لكن لا تغيب أيضاً العواطف اللاواعية التي تستقدمها الجماعات معها إلى الميدان. بهذا المعنى، يشكل خليط الأفراد مع الجماعات، مادة يغنيها الإختلاف بين الأفراد انفسهم، وبين الجماعات على اختلافها. من هنا يستمد الحراك حياته، على قاعدة مهدي عامل الشهيرة «الموت في التماثل والإختلاف حياة الزمن». لا يتشابه الناس في الشارع المنتفض ضد الحكومة اللبنانية. للمرة الأولى تكال اتهامات كثيرة متناقضة لتحرك ما. فهو «نخبوي ثقافي» بالنسبة إلى بعض المنتقدين، و»شعبوي» بالنسبة إلى بعضهم الآخر. هناك من قال إنه لم ير في التحرك إلا «ساعات الروليكس والثياب السينييه»، وهناك من لم ير فيه إلا الفقراء الغاضبين الآتين من الأحياء الشعبية. هذا يعني أنه حراك متلون وغني بالإختلاف والتناقضات. ولهذا لم يستطع أحد بعد اتهام فريق بتدبيره ضد فريق آخر، كما سبق أن حدث في تحركات سابقة طالبت باسقاط حكومات.

التاريخ اللبناني لم يشهد تظاهرة شعبية متنوعة ضد حكومة «وحدة وطنية» تناضل جميع الأحزاب المشاركة فيها من أجل صمودها واستمرارها، كضمانة لاستمرار النظام المهدد بالفراغ التام، بعد شغور كرسي رئاسة الجمهورية، وتمديد المجلس الـنيابي لنفسه بطريقة غير شرعية.

لم يتفق المنتفضون في الشارع على المطالب، ولا استطاعوا توحيد الهتافات، أو رسم سقف واضح للتحرك. الحراك تخطى مطلب التخلص من النفايات بأشواط. بالنسبة إلى كثيرين ليست هذه بمشكلة. التحرك يهدف إلى إسـقـاط أي شـيء يـمـكـن اسقاطه من مداميك النظام اللبناني القائم على الطــائفــية والوراثة السياسية والفساد. محاصرة الســلـطة في الســرايا الحكومية إنــجـاز بحد ذاته. إحراج القوى الــســيـــاسية على اختلافها، انجاز آخر. مشاركة وجوه وفئات جديدة في التحركات المطالبة بالتـغـيير تدفع للتفاؤل. أما حضور الأطفال، وبكثرة، فذلك هو الأمل.

القدس العربي

 

 

 

العودة إلى الشارع: ربيع لبناني أم تعميم الفوضى للذهاب إلى مؤتمر تأسيسي؟

سعد الياس

:إعتقد كثيرون أن الحركة الاحتجاجية التي لبست عناوين مختلفة من «طلعت ريحتكم» إلى «بدنا نحاسب» هي بداية ربيع لبناني على الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان من أجل مستقبل أفضل خال من المحسوبيات والصفقات كما كان الحال في تظاهرات تونس وميدان التحرير في مصر. لكن سرعان ما إختلط الحابل بالنابل في هذه التحركات الاحتجاجية في شوارع وسط بيروت وبدا أن بعض الأطراف الحزبية والسياسية إستغلت المطالب الحياتية المحقة لتعمّم الفوضى وتحاول قلب النظام وتنادي بإسقاط الحكومة ومجلس النواب ونسيت المطلب الأساسي الذي نزلت تحت عنوانه وهو حل أزمة النفايات التي طفح بها الكيل.

وسرعان ما بدأ التحرك ينحرف عن مساره وينزلق نحو الفوضى على الرغم من أن البعض حصر الفوضى بوجود مندسين جيّروا التحرك لإحداث أعمال شغب وتحطيم واجهات محلات تجارية والاعتداء على رموز وطنية مثل تمثال الرئيس رياض الصلح والإساءة إلى سوليدير الشركة العقارية التي تولت إعادة اعمار وسط بيروت في زمن حكومات الرئيس رفيق الحريري.

وفيما وجّهت أصابع الاتهام إلى شبان من الخندق الغميق بتشويه صورة وأهداف التحرك وذهب بعضهم إلى القول إن هؤلاء الشبان ينتمون إلى حركة «أمل» الشيعية وأنهم أطلقوا النار مرة على المتظاهرين ومرة على رجال الأمن، إلا أن رئيس مجلس النواب نبيه بري رفض مثل هذه الاتهامات التي تأتي ضمن خطة مرسومة للنيل من الحركة. وعَكَسَ مناصرو قوى 8 و14 آذار التباين في النظرة إلى الحركة الاحتجاجية فإعتبرتها أوساط 14 آذار بأنها «صارت مطيّة لجملة أحزاب وفئات سياسية ومخابراتية وغوغائية التصقت بها ولم تنفع صرخات القيّمين عليها من تنقية الصفوف»، ورأت «أن الاشكالية ان هذه الحركات لا يمكنها الخروج من الشارع وتجيير انجازاتها ولا يمكنها ايضاً تنقية صفوفها ومنع استغلال حركتها من قبل من خانهم جمهورهم ولم يلب مشاريعهم التي تأتي على حساب مصلحة البلاد الأمنية والاقتصادية والتي بدأت تسقط تصنيف لبنان من مصافي دولة إلى ساحة والذهاب إلى مؤتمر تأسيسي».

أما أوساط 8 آذار التي تشارك أيضاً في الحكومة والمجلس النيابي فإتهمت السلطة بأنها «تحاول تعميم الفوضى للتذرّع بها من أجل قمع شعبها بالقوة والوحشية». وقالت في تشجيع للتظاهرات «إن السلطة ترغب لو أنها تنام وتصحى فتجد أن السبت وهو موعد التظاهر قد ولى من الأيام، لأنه يقلق الحكم ويدفعه إلى ارتكاب الشغب دفعة على الحساب لتخويف الناس وردعهم عن الشارع»، معتبرة أنه «مع كل حالة ردع تسقط السلطة أكثر، فهي بنت جداراً بينها وبين الناس فنزل عاراً على رأسها. ضربت واعتقلت شباباً سلميين فإتسخ سجلها بعد عفن رائحتها، ولن تستطيع القوى الأمنية والسياسية أن تنفي وقائع وصوراً ومقابلات رصدت مع موقوفين».

وفي وقت كان المتظاهرون في ساحة رياض الصلح يرفضون حضور أي سياسي أو أي حزبيين في تحركهم، إلا أنه بدا أنهم يفتحون أذرعهم لوجوه قديمة مثل النائب السابق نجاح واكيم والوزير السابق زاهر الخطيب والوزير السابق شربل نحاس والأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة والنقابي حنا غريب وهم المعروفون بإنتماءاتهم السياسية، كذلك فإن منظمي التحرك كانوا بدأوا التنسيق مع التيار الوطني الحر للمشاركة في تظاهرة السبت ولاسيما أن العونيين يتلاقون حالياً مع المحتجين ضد الحكومة بعد انسحاب الوزراء من جلسة مجلس الوزراء الثلاثاء ومقاطعتهم جلسة الخميس اعتراضاً على إصدار رئيس الحكومة تمام سلام مراسيم عادية لا تحمل تواقيع 24 وزيراً ما يعتبرونه سلباً لصلاحيات رئيس الجمهورية في ظل الشغور الرئاسي. وهكذا يستفيد المتظاهرون والعونيون معاً من الحجم الشعبي للضغط على الحكومة نيل المطالب، وسيستغل العونيون هذا التحرك لتشكيل حالة ضاغطة في موضوع المراسيم والتعيينات الأمنية. وبحسب مصادر التيار الوطني الحر فإن الشارع سبق كل المبادرات، ولذلك قرر تكتل التغيير والاصلاح العودة إلى التظاهر سواء الخاص أو المشترك، معوّلين على ما سمّوه صدمة انسحاب الوزراء التي فعلت فعلها لدى أهل السرايا فتمّ التراجع عن المناقصات الفضيحة للنفايات وتراجع الرئيس سلام عن إصدار مراسيم جمهورية في غياب الرئيس وأوعز بعد نشر المراسيم السبعين غير الميثاقية وغير الدستورية.

وأمام مخاطر العودة إلى الشارع تتضافر الجهود داخلياً واقليمياً ودولياً لمنع سقوط الدولة من خلال سقوط حكومة الرئيس تمام سلام، وبرز مسعى الرئيس نبيه بري إلى حل وسطي للمراسيم التي وقّعها وزراء من دون وزراء التيار العوني وحزب الله.

واعتبرت أوساط قريبة من 14 آذار أن ورقة استخدام الشارع عادت لتبرز بعدما كانت محظورة حتى الأمس القريب مع التظاهرات المحدودة المفاعيل للتيار الوطني الحر، وقالت إن حزب الله رفع الغطاء عن هذه الورقة متلطياً خلف ملف النفايات، مشيرة إلى أن الحزب يريد توجيه رسالة لمن يهمه الأمر بأن منطق فائض القوة ما زال سارياً ومتحكماً بالاستقرار على الساحة الداخلية، وعلى سائر الفرقاء الانصياع إلى رغباته، وان من يقف خلفه من قوى اقليمية، أي إيران وسوريا، ما زالت ممسكة بزمام الأمور في ساحات المنطقة لا سيما الساحة اللبنانية ومستعدة لتفجيرها إذا ما اقتضت الظروف.

وكانت مواقع التواصل الاجتماعي إشتعلت بالتعليقات حول أبعاد التحركات الشعبية فوضعها بعضهم في خانة القرف من السلطة وتجاهل مطالب الناس وغياب الخدمات من كهرباء ومياه إضافة إلى انتشار الزبالة في الطرقات .إلا أن تعليقات أخرى أسفت لمشهد الشغب والاعتداء على القوى الأمنية وانتقدت نظريات المجتمع المدني والشعارات الرنانة التي ستودي بالبلد إلى الانهيار والمجهول، وكتب أحدهم «فلت الشارع وإن شاء الله ما تتكرّر قصة معروف سعد بصيدا…المطلوب حسم سريع وعدم التوقف عند نظريات وتنظيرات ما يًسمى المجتمع المدني لأنو ما حدن رح يخرب البلد إلا المزايدات والشعارات الرنانة …وبعدين لن ينفع الندم».

وجاء في أحد التعليقات «بدنا نروق بيكفينا مغامرات غير محسوبة…ولا ينفع بعدين القول لو كنا نعلم…وكل هالنقل المباشر وفتح الهواء بيضرّ أكثر ما بينفع …واذا متكلين على هالشتلات حتى يحاسبوا ويعملوا ثورة فمش هيك بتصير الثورات لأنو هودي اصلاً سياسيين معقّدين مجرّبين وفاشلين والمردود عم بيكون عكسي، إحترموا حرية الآخرين برفض الانزلاق إلى المتاهات وإلى الشارع وإلى الفتنة».

إلى ذلك، استمرت التحقيقات لكشف هوية المشاغبين الذين عاثوا في العاصمة خراباً وفساداً والجهات التي تقف خلفهم، كشفت مصادر أمنية مطلعة لـ «المركزية» ان القوى الأمنية عطلت يوم الاحد الماضي خطة مجموعة من الفلسطينيين الذين كانوا يستعدون للانتقال من شمال لبنان في اتجاه وسط بيروت للمشاركة في الاعتصام المقرر في المنطقة على خلفية التشويش على الدعوة التي اطلقت من أجل اعتصام سلمي رفضا لما آل إليه وضع النفايات في لبنان.

وفي إطار المتابعة لمشاهد الاعتصام والتظاهر في ساحة رياض الصلح، أثارت صور لوشوم على أجسام بعض المتظاهرين العراة في بيروت ترمز إلى الطائفة الشيعية وما فعلوه خلال احتجاجات حملة «طلعت ريحتكم» تساؤلات حول مغزى مشاركة هؤلاء في أعمال الشغب التي شهدت إشعال الحرائق وتكسير الممتلكات وإلقاء الزجاجات الحارقة على قوى الأمن.

وتداولت وسائل الإعلام ومواقع إخبارية صور شاب على ظهره «صورة منسوبة للإمام علي»، والآخر يلبس قلادة على شاكلة «سيف ذو الفقار» للإمام علي، والثالث كتب على ذراعه الأيمن شعار «يا علي مدد»، ولكن بين هذه الرموز ثمة رقم له دلالات في المذهب الشيعي وهو الرقم «313» حيث كان موشوماً بين كتفي أحد المتظاهرين .ولاحظ بعضهم أن هذا الرقم يمكن مشاهدته في تسمية الصاروخ الإيراني من طراز «فاتح 313» والذي أزاحت طهران الستار عنه تزامناً مع اليوم الوطني الإيراني للصناعات الدفاعية، وأعلنت أن مداه يبلغ 500 كيلومتر. ولفت بعضهم إلى أن هذا الرقم يظهر أيضاً على طائرة مقاتلة حملت اسم «قاهر 313» في نهايات حكم محمود أحمدي نجاد، وقيل إن باستطاعتها أن تضاهي مقاتلة «الشبح» الأمريكية، ليتبين لاحقاً أن الطائرة مجرد مجسم تم تصويره في صالة عرض فقط.

وقام موقع «العربية.نت» ببحث الكتروني باللغة الفارسية لمعرفة دلالات هذا الرقم، وأظهر محرّك البحث أسلحة إيرانية وموقع قرصنة إلكترونية ومجلة إلكترونية تابعة لقوات الباسيج التابعة للحرس الثوري ومدونات خاصة باللغة الفارسية تحمل رقم «313» وعادت «العربية.نت» إلى موقع «الحوزة»، (أي الحوزة الدينية بمدينة قم الناطق بالفارسية)، ووقعت على دراسة تتحدث عن «أصحاب الإمام المهدي» أي الإمام الغائب في المذهب الاثني عشري، تؤكد «أن أصحاب الإمام المهدي الخواص الذين سيشكلون أركان القيادة التابعة له عددهم 313 شخصاً».

ويضيف الموقع «أن عدد أصحاب الإمام المهدي المنتظر يماثل عدد الصحابة الذين حضروا معركة بدر وأيضاً أصحاب النبي طالوت أي 313».

 

 

 

حركة الشارع في بيروت هل تفضي إلى اقصاء الفساد لصالح الناس؟… مثقفون وسياسيون ومفكرون يقرأون في الحدث ايجابيات/ زهرة مرعي

العيون شاخصة إلى وسط بيروت المشحون بحركة شعبية مناهضة لاستخفاف الحكومة، ومن سبقها من حكومات بأبسط مطالب الناس. اللبنانيون في الشارع لأن النفايات أزكمت أنوفهم. شكلت النفايات شرارة للحراك الشعبي. جاؤوا من كافة المناطق اللبنانية. أطفال، نساء، رجال وشباب كثر. رائحة النفايات المنتشرة في بيروت وضواحيها، وفي كل لبنان حرّكت مجموعة قليلة من المعترضين رغم تصدرها الصالونات، والموائد العامرة وحتى لقاءات الأحبة. تشكلت حركة «طلعت ريحتكم»، ومن ثم حركة «بدنا نحاسب»، وتالياً «عكار ليست مزبلة» وذلك رداً على قبول عدد من نوابها استحداث مطمر فيها. باختصار يرى البعض حقاً مثبتاً لدى المتظاهرين بالمناداة «يسقط حكم الأزعر»، ولا يرون حقاً مثبتاً للقوى الأمنية بممارسة العنف غير المسبوق بحقهم.

هنا مجموعة آراء لسياسيين ومثقفين لبنانيين رداً على سؤال «القدس العربي»: كيف تقرؤون في الحراك الشعبي القائم في وسط بيروت منذ اسبوعين.

خالج المفكر والباحث الدكتور جورج قرم في تحرك وسط بيروت «شعور مزدوجا، من جهة إيجابي ابتهاجي، لأن جزءاً من الشعب اللبناني تحرك أخيراً ضد الطبقة السياسية التي تدير البلاد وكأنها مزرعة خاصة بهم، وبطريقة سيئة للغاية، ومن جهة أخرى شعور بالخوف فهناك من يتربص هذه الحركة الشعبية، ليديرها، ليستغلّها، ليحرّفها لمصلحة مشروع سياسي ناتج عن الوضع الشائك السياسي والدستوري الذي استقر عليه لبنان منذ أكثر من سنة». وأضاف: من الواضح أن هناك مندسين في هذه التحركات، وفي آخر النهار. وكلما توسع التجمع نرى مندسين يقومون بأعمال شغب، ويستفزون قوى الأمن مما يؤثر بطبيعة الحال على التجمع، فيترك بعض المتظاهرين التجمع خوفاً من الفوضى ومن التعرّض للقمع الذي تقوم به القوى الأمنية. نحن بانتظار السبت المقبل حيث النداء الواسع للتجمع مجدداً في ساحة رياض الصلح، احتجاجاً على الحكومة التي أراها طبقة سياسية باتت تحتاج لطبابة نفسية، بعد أن وقعت في مرض التوحد. حكومة نسيت أن هناك شعبا لبنانيا يئن منذ سنين تحت ظواهر الاستغلال الكبيرة جداً، والحرمان من الكهرباء والمياه، من نظام معالجة النفايات، من نظام للنقل وغيره. يعيش لبنان الآن لحظة استحقاق العجز في إدارة النظام السياسي، ولهذا السبب أيضاً تُطرح العديد من الأفكار للخروج من هذه الأزمات، والعودة إلى الحياة الدستورية، وإلى التغيير التدريجي للنظام الذي انبثق من اتفاق الطائف منذ أكثر من 20 سنة. فأي نظام يتطلب تطويراً وتغييراً. إضافة إلى أن النظام الطائفي كشف مرة أخرى أنه نظام يولّد العجز، الفساد والإفساد. فهؤلاء الزعماء يختبؤون خلف كرامة الطائفة، كي لا يجرؤ أحد على مساءلتهم. ونحن نرى في دول أخرى كما العراق وما حصل بعد الغزو الأمريكي من توزيع البلاد إلى حصص طائفية متفاوتة. نخشى من هذه التقسيمات الطائفية والمذهبية المجنونة، والتي تساهم بتدمير النسيج الاجتماعي الديني إلى مجتمعات عربية عديدة. نذكر أيضاً اليمن ودولا أخرى جميعها تعيش في حالة تفكك مجتمعي، وبحالة طبقات حاكمة منغمسة في الفساد والافساد.

اعتبر الكاتب نصري الصايغ أن «الحركة القائمة في وسط بيروت هي تعبير عن غضب تأخر كثيراً. كان اللبناني قد بلغ درجة من التخلي والإستسلام، دفعته الطبقة السياسية إلى التسليم بأن البلد برمته لا شفاء منه، وأنه برمته ميت على قيد الحياة. الطبقة السياسية التي تدين بدين الفساد وتعتبر ذلك سياسة لا بد منها، وأن فسادها مبارك من «جمهورها» الطائفي والمذهبي، والمحصّن بالدعم الخليجي والارتهان الخارجي، أوصل لبنان إلى العجز التام. لا كهرباء، لا ماء، لا بيئة نظيفة، لا عدالة، لا تنمية ولا أفق مفتوحاً أمام الأجيال الجديدة، إضافة إلى سرقة الأملاك العامة على الشاطئ اللبناني الخ.» وتابع: أزمة النفايات أصابت اللبناني التابع لقطيعه المذهبي، وأصابت اللبناني الصامت والمتمرد، أو الطالق من أي انتماء سياسي. جاءت لحظة العصيان لتبرهن أن هناك فسحة أمل. إن «الطبقة الفاسدة» ليست قدراً، وأنه يجب أن تستعيد السياسة أخلاقها عبر تعبيرها عن مصالح الناس، وصيانة حقوقها، جاء الحراك ليعيد الضمير إلى السياسة… واليوم أمام اللبنانيين الخيار الوحيد، إما أن يكونوا مع حركة الشارع بما يعنيه من انتماء، أو يكونوا مع «الطبقة السياسية الفاسدة». الأيام المقبلة قد ترسّخ مساراً يفضي إلى انتزاع مكاسب لمصلحة الناس، ومزيداً من تعرية زعماء الســيـاســة، والمذاهب والطوائف في لبنان.

ذكّر الشاعر بول شاوول أن 14 آذار حررت الشارع، وقال: كانت المظاهرات محرّمة أيام الوصاية السورية. وإن سوّل البعض لنفسه بالتظاهر كانوا يأتون بالأحباش مع العصي والسكاكين لقمعهم. الأهم حالياً أن الشارع تحرر وليس لأحد قدرة اغلاقه كما يحاول حزب الله. هو عدو الشارع ويخاف من الناس. وكل حزب مسلح يخاف من الناس. ولهذا افلت حزب الله سرايا المقاومة على المتظاهرين وحطّموا الأملاك العامة والخاصة في الوسط وسرقوها. وليس أفراد من حركة أمل من قام بهذا الفعل، بل سرايا الغستابو الذين يحملون وشماً طائفياً ويهدفون للفتنة في لبنان. عبثاً يفعل حزب الله، لن يستطيع مصادرة الشارع كما فعل شقيقه بالروح بشّار الأسد. من يحارب مع نظام البراميل لا يحق له الكلام في الديمقراطية. في المبدأ لمن يتواجدون في وسط بيروت الحق بالتظاهر السلمي. التظاهر السلمي يعزز الديمقراطية في لبنان، إنما سلاح حزب الله هو المشكلة. مظاهرة (الأمس) «الثلاثاء» كان يتصدرها زاهر الخطيب، والحزب الشيوعي حيث شاهدت صديقي محمد قاسم وحركة الشعب. لهؤلاء حق التظاهر، رغم أن نجاح واكيم من مؤيدي النظام السوري الذي قتل حتى الآن 400 ألف سوري. في الختام رفض شاوول أن يكون من فريق 14 آذار وقال: اتقاطع معها ضمن ما تطرحه حول السيادة والحرية والدولة. وسبق وتقاطعت مع حزب الله عندما قاوم إسرائيل وأيدته، ولست مع ولاية الفقيه.

عبّر الشاعر محمد علي شمس الدين عن يأس متناه وقال: يمكن القول أن المحتجين في وسط بيروت تحركوا أو استيقظوا متأخرين قليلاً، فيجب أن يكون الغضب قديماً في وطن أسوأ ما فيه حُكّامه، وأسوأ ما في حكّامه الشعب. فكما تكونون يولّى عليكم. هذه السلطة العريقة في الفساد، والمتمثلة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية معاً، وتتبع لها السلطة القضائية، وكذلك الإدارة، حيث الفساد عريق ومتجذر في التراب كأي سنديانة في الجبل. الحاصل أن الفساد محصّن بالشرخ المذهبي والطائفي الموجود في البلاد. من العبث قيام حركة في الشارع. في رأي ليس في لبنان دولة ولا وطن. لبنان بضعة أفراد مبدعين. وما تبقى طبيعة وشمس وهواء وبحر لوثه الناس والسلطة. الناس فاسدون لأنهم يعيدون إنتاج هذه السلطة في مواعيد محددة. بكل بساطة ليس لي وطن. وهذا الحراك فقاعة كما سواه. حتى المقاومة التي حمت لبنان ففي البحث عن جذورها لا أستطيع القول أنها نتاج الشعب اللبناني، فليس لدينا شعب في لبنان، بل شِعب متشعّبة. أنا في نقطة أبعد من اليأس. قال المبدع جبران «لكم لبنانكم ولي لبناني»، ونحن لنا لبنان آخر.

وجد النائب السابق سمير فرنجية في الحراك الشعبي «تعبيراً عن حالة قرف لدى الناس. عن حالة رفض الاستسلام للأمر الواقع». وأضاف: نزل هؤلاء إلى الشارع بمعزل عن انتماءاتهم السياسية. هو أول تحرك في الشارع اللبناني منذ زمن طويل. هذا الحراك تجاوز بمعنى ما الحالة الطائفية القائمة في لبنان. من يتظاهرون في ساحة رياض الصلح ينتمون لكافة أطياف لبنان. هو حراك له صلة وشبه بما حصل في العراق اعتراضاً على انعدام الكهرباء ومن ثم سيادة الفساد. جرى هذا في العراق في لحظة انقسام المجتمع بشدّة مذهبياً. في لبنان كان للنفايات دورها، وكأنها أعلنت سقوط النظام الطائفي. هو نظام قائم على الزبائنية، وتوظيف كافة موارد الدولة لأغراضه. لدى شباب الحراك الشعبي وعي شديد لهذا الواقع. ليس للقوى السياسية أن تستوعب حجم هذا التحرك سريعاً، يلزمها وقت. ربما توقف هذا التحرك، إنما هو ترك وعياً لدى اللبنانيين بضرورة الإمساك بمصيرهم. هذا مهم جداً. في حين كانت حوارات الناس تشير إلى حل بين الولايات والمتحدة وإيران يؤدي لحل في لبنان. أي تسليم المصير الوطني لإعتبارات خارجية، في حن أن الحراك ردّ الأمور إلى الداخل. مع اختلاف الأحجام هو حراك يشبه حراك 2004 الذي مهّد لحراك أكبر.

القدس العربي

 

 

مهمّات ثوريّة أمام اللبنانيين/ خليل عيسى

في الوقت الذي تلتهب فيه المنطقة العربية بحرائق ومشاريع استعمارية تقسيميّة، إيرانية أم غربيّة، وفي الوقت الذي يقع فيه لبنان في قلب هذه المشاريع، حيث لا ينبغي ولا يمكن أن ننسى أنّ حزب الله اللبناني هو أداة استعماريّة إيرانية، تعمل في قلب هذه الديناميكيّة الهائلة من سورية حتى اليمن، باتت النخب النيوليبرالية-المافياوية الحاكمة، ومن ضمنها حزب الله، كما تيار المستقبل وتيار ميشال عون، والبقية التي تنقسم كلها ظاهرًا إلى “8 و14 آذار” في كثير من عناوينها المُعلنة، ولكن التي تتفق فيما بينها، عمليًّا وواقعياً، على استدامة الوضع الكارثي الذي يعطّل عمل القانون والدستور والمحاسبة، حيث تزدهر مشاريع النهب وتجنيد المليشيات الاستعماريّة والسرقة والسطو على أملاك الدولة والمواطنين قائمة على قدم وساق، والتي باتت كلها تحكم البلاد، تحت أعذار مختلفة من خلال سلطة انقلابيّة، من دون مجلس نواب دستوري، ولا حكومة دستورية.

بكلمة أخرى، إن نخب “14و8 آذار” الحاكمة متواطئة الآن، وستتواطأ جميعها ضد أيّ عمليّة خرق سياسيّة، تواجه مشروع ديكتاتوريتها الأوليغارشية-المافيويّة، بخيارٍ ثالثٍ متكاملٍ، ألا وهو الخيار الديمقراطي الوحيد الحقيقي في لبنان، بالمعنى الأصلي للديمقراطية الاجتماعية: خيار أن تكون ضدّ تحالف “14و8 آذار” السلطوي الذي يؤّدي إمّا إلى تهجير الناس، بحثًا عن العمل والحياة الكريمة، أو إلى إرسالهم إلى سورية غزاة لشعبها، ويحرّروه من نفسه في الزبداني، كمليشيات طائفية. إنّ التحرّك الشعبي الذي يجري الآن في لبنان، والذي أشعلته فضائح التحاصص المتبادل حول مسألة النفايات، وأدى إلى ابتزاز اللبنانيين، الذي عليهم أن يقبلوا بالسطو على أموالهم العامة أو أن يرتضوا العيش بين أكوام النفايات، بعد أن مُنعوا من حقهم في الانتخابات، وفي مشاريع الموازنة، وفي تحقيق الأمن وفي المحاسبة، أي إنّه لم يعد أمام اللبنانيين سوى خيار وحيد أوحد، هو العمل السريع على تجميع وبلورة خط ثوري خارج “14و8 آذار”، وضد هذه الثنائية، في الوقت نفسه.

“مهمتك، كديمقراطي ثوري، ليست أن تجد وتتبرع للسلطة بالحلول، بل بالعكس، عليك أن تضعها أمام مأزقها لتقدم التنازلات إثر التنازلات”

لكن، هناك عنصر أساسي، يفتقر إليه الحراك المذكور، وهو فائق الأهميّة، وهو الوقت، ولا ينبغي أن نغفل فهم ذلك أبدًا: موضوعيًّا الأخطار الخارجيّة والداخليّة الأمنية حقيقيّة. وهنا، لا أعني الإشكالات التي لا تتورّع هذه السلطة عن إشعالها، عمدًا هنا وهناك، وهذه أيضا ممكنة. الأخطار الحقيقيّة مرجّح أن تزداد بسرعة (اقتراب تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود في جوسيّة، المعارك العسكريّة في مخيّم عين الحلوة، نيات إسرائيل العدوانيّة تجاه لبنان)، خصوصا مع تخبط السلطة وعدم قدرتها على فهم كيف يتحرّك العالم من حولها، بالإضافة إلى حس اللامسؤولية “الميكونوسي” الصفيق، لدى وزرائها ونوابها، والذي يصل إلى الصفة الجُرميّة. ذلك كلّه يجعل لزامًا على الديمقراطيين اللبنانيين أن يعملوا بإحساس بالمسؤولية أعلى بكثير من السلطة التي يصارعونها، والتي يجب أن نجعلها تنصاع للقوانين والدساتير، وأن تمتثل لقوانين اللعبة الديمقراطية للدولة البرجوازية الرأسمالية “العاديّة”، والتي بذل مناضلون لبنانيون كثيرون سابقًا من أجل محاولة ترسيخها، وذلك في الوقت القصير الذي نملكه.

يجعلنا ذلك كله في سباق حقيقي مع كل ما يحصل من حولنا، ويجعل مهمتنا التي تصل إلى المصاف الثوري التالية: إجبار السلطة على العودة إلى العجلة القانونية والدستوريّة، والدفع لجعل النظام الدستوري يعمل بوقت قياسي، وليس الكلام الشعبوي عن “إسقاط النظام”، والذي لا يؤدي إلى شيء عملاني. والطريقة الوحيدة التي أراها هي الدفع بالمطالبة بالانتخابات النيابيّة، بأسرع طريقة ممكنة، ولو بقانون أعوج كالقانون الانتخابي الحالي، من دون الدخول في ترّهات الجدل حول القانون الانتخابي، لأنّ ذلك سيؤخّرنا كثيراً، ونحن الآن لا نملك هذا الترف، خصوصًا أنّ هذه السلطة تلعب لعبة التسويف ببراعة كبيرة: إذا حصلت الانتخابات، مهما كان القانون، نستطيع، حينها، أن نكوّن لوائح تمثّل الحراك الشعبي الحاصل في كلّ لبنان، واستغلال هذه الفرصة التاريخية السانحة التي وصل فيها تعبير الناس عن غضبهم ضد السلطة إلى مستويات تاريخيّة من تحقيق خرق نيابي. وبالتالي، إكمال العمل الثوري بعدها مع حظ كبير في الحصول على “حزب ثوري” (أو أحزاب) في المجلس النيابي خارج “8 و14 آذار”.

من أجل أن يكون للحراك تأثيره الحقيقي، يجب أن يكون كلّ ما يحصل فوق “8 و14 آذار” معًا، جهرًا بكل قوة وكلّ ثقة: أي أن لا تكون هناك أي مغمغة من المنظمين، من أجل منع دفع الحراك في أحضان “8 آذار” (أقلام اليسار “النبوخذ نصّري” تجنّ، وهي تريد تحويل الحراك مطيّة بيد حزب الله وأقرانه للتصويب الكلامي على “14 آذار”، أو يصبح الأمر كله “مؤامرة أميركية”)، أو محاولة بعضهم في “14 آذار” تلزيم الحراك برنامج عملهم (أي انتخاب رئيس جمهورية من مجلس نيابي فاقد دستوريته)، وإلا لتحوّل الحراك إلى “مؤامرة على وسط بيروت والسوليدير”، في تناغم مثير للسخرية مع أبواق “8 آذار”، و لا ننسى حزب “العونيين” الذي تباكى كالأطفال بأنّ الديمقراطيين “سرقوا شعاراته” الديمقراطيّة، بينما كان ميشال عون يعيّن زوج ابنته رئيساً للتيار بالتزكية، والذي كان يقول عن عمّه هو الآخر بأنه “الرئيس الأبدي للتيار”!

“يشكّل التحرّك منصّة لاستثمار فرصة تاريخيّة كهذه، إذا ما تحلّى المنظمون بنفس سياسي طويل، لا يقتصر على وهم تحقيق كل ما يريده الناس من بضع مظاهرات”

لذلك، تكتسب هنا تحديدًا لاطائفية الحراك المعلنة أهمية قصوى. وبالتالي، الواجب الأول هنا هو الحفاظ على النقاء الثوري للحراك، وهو القوة الوحيدة الحقيقية التي بيديك في وجه نظام نهب وتهجير عمره أكثر من 70عاماً، سيستميت في الدفاع عن نفسه. وهذا يعني، تحديداً، إيجاد خيار سياسي آخر، جاد، غير مهادن، غير “14 و8 آذار” معًا، وعلى كلّ الملفات بلا أيّ استثناء، ولو بقيَ الأمر، في هذه اللحظة، على مستوى النيّة السياسية التي هي حكماً قاصرة عن التحول إلى فعل سياسي بين ليلة وضحاها. بهذا المعنى، يشكّل التحرّك منصّة لاستثمار فرصة تاريخيّة كهذه، إذا ما تحلّى المنظمون بنفس سياسي طويل، لا يقتصر على وهم تحقيق كل ما يريده الناس من بضع مظاهرات: وبهذا المعنى، الهدف هنا من مقولة الانتخابات، بأي قانون مهما كان، هو رمي كرة النار، البرلمان غير الدستوري، إلى يدي السلطة، وجعلها تقرّر ما عليها أن تفعل، فمهمتك، كديمقراطي ثوري، ليست أن تجد وتتبرع للسلطة بالحلول، بل بالعكس، عليك أن تضعها أمام مأزقها لتقدم التنازلات إثر التنازلات.

العربي الجديد

 

 

 

النظام” اللبناني و”الدنيا” المصرية/ عبّاد يحيى

ثمّة ظاهرة مهمة في الغناء الشعبي المصري، وهي ثيمة وموضوع متكرر بشكل لافت من ناحية المقاربة، وتشابهها بين كثيرين من مؤلفي الأغاني الشعبية ومغنيها، يمكن وصف الأمر بتمركز “الدنيا” كمخاطب وموضوع توجيه لشكوى واللوم والتحسر والرجاء. أي اعتبار “الدنيا” بمثابة الفاعل الرئيس في حياة صاحب الأغنية، وهي، بالتالي، موضوع خطابه البائس أو المستسلم، وهي أيضاً مسبب ما هو فيه من حالة تيه وضياع واستسلام.

التشكي من “الدنيا” واتهامها، يتكاثر في الأغنية الشعبية من دون تحديد واضح لما هي هذه “الدنيا”، خصوصاً حين تغدو الشكوى في قضايا محددة، مثل الفقر أو هجر الحبيب أو الظلم أو حتى التوتر النفسي والاكتئاب وغياب السعادة. واللافت أن “الدنيا” تصبح السبب والمتهم وموضع الرجاء في حالات يمكن العثور، ببساطة، على المسبب والمتهم. مثلاً، يمكن استبدال كلمة الدنيا، في حالات كثيرة، بمفردات من قبيل “الظالم” أو “السلطة” أو”الدولة” أو “القدر” أو “الدين” أو “المجتمع”، وستحتفظ الأغنية بمعناها، بل وستغدو أوضح. لكن ذلك لا يحدث. ولذلك، لا ترتقي الأغنية من كونها مجرد تحسر غنائي استسلامي، إلى حالة نقد اجتماعي أو سياسي أو غيره.

في أحيان كثيرة، يبدو جليا أن المشكلة ليست في قدرة صاحب الأغنية ومرددها على تحديد مصدر شقائه، فهذا ممكن وسهل، بل المشكلة في عدم وجود نية أو جرأة على التحديد. وإن شئنا نقل النقاش إلى مستوى آخر يمكن القول إن بقاء الأمر عائماً بهذه الطريقة ووجود متهم مائع مثل الدنيا، مريح للجميع، للمتهمين والنادب الجبان.

في لبنان، ومع تصاعد المظاهرات الاحتجاجية الأخيرة، قبل أيام، والأمل ببداية تشكل حالة احتجاجية، مختلفة عن احتفاليات المليونات التي بدأها لبنان قبل الجميع بعد اغتيال رفيق الحريري، ظهر في الخطاب الإعلامي اللبناني، بمختلف أشكاله وموجهيه، شيء شبيه بـ “الدنيا” في الأغنية الشعبية المصرية.

“النظام” هو المعادل اللبناني لـ”الدنيا” في الأغنية المصرية، وبقدر ما تبدو مفردة “النظام” حمالة لمفارقة في الحالة اللبنانية، إلا أنها حاضرة بقوة في السجال حول التظاهرات، واللافت أن الكل يريد إسقاطه ويهاجمه، وعلى رأسهم رموز هذا النظام والقائمون عليه. أما لماذا يهاجمونه؟ فلأنه بدون معنى، ولا يحمل أي صيغة تحديد يمكن أن تقول بوضوح من هم المتهمون في كل ما يحصل لشعب يمتلك طاقة عجيبة في النهوض، بعد كل مأساة.

في اللحظة الأولى التي قال فيها التونسيون إن “الشعب يريد إسقاط النظام”، كان “النظام” يحمل معنى محددا، وحتى اتساع مضامين المفردة كان مفيداً في تلك اللحظة، كانت عامة لتشمل الكثير، ولتقطع مع التسويات ومحاولة تخفيف غضب الجماهير بصفقات جزئية، يعزل فيها وزير أو تشكل لجنة تحقيق. أما اليوم وفي حالة لبنان، يشي الاستخدام المفرط للمفردة، من كثيرين، يعلم الجميع أنهم متورطون بالحال المزرية للبنانيين، بالسعي إلى تمييع الحراك المطلبي، وتحويله إلى طقس باهت يشبه شكوى الجميع من النظام الطائفي كأنه قدر لا يمكن الفعل حياله.

اليوم وبعد سنوات من الفعل الاحتجاجي العربي، لا بد لأي موجة احتجاج جديدة أن تستقي دروسها من تجارب الاحتجاج المريرة، وتحديداً الدروس البسيطة التي يمكن أن يدركها الجميع، ولا تحتاج لتبلور قيادة للاحتجاجات لتعبر عنها وتنقلها للناس، بل يمكن إدراكها بحس المتظاهر السليم، وربما أهمها، في الحالة اللبنانية، تحديد المستهدفين بهذا الحراك، تحديدهم بالأسماء والصفات والجماعات واتهامهم. و”الاتهام” ليس مفردة قانونية هنا، بل هو وعي جمعيّ يدرك أن “النظام” مفردة ذات دلالة، لم تبلغها الكيانات الجاثمة على صدور الشعوب العربية. ولذلك، ربما يتورط الجميع في حرب ضد الجميع، وهم يبحثون عن ذاك “النظام” الذي يريد بعضهم إسقاطه، ويريد بعض آخر حمايته.

العربي الجديد

 

 

 

الجدار الذي أتى ورحل/ ياسر أبو شقرة

حلّ الإجهاد بفرقة مكافحة الشغب التي تحرس مبنى السراي الحكومي في بيروت على مدار يومين، الأمر الذي أوحى لقائد سرية الحرس الحكومي بفكرة أن يضع جداراً يفصل بين المبنى والمتظاهرين في ساحة رياض الصلح، لكن هذا الجدار السريع والذي لم يستغرق وضعه سوى أربع ساعات فقط، أزيل في اليوم التالي بأمر من رئيس الحكومة.

خلال الفترة المنقضية بين وضع الجدار وإزالته، توجّه بعض الفنانين والنشطاء الذين شعروا أنه يخدم قضيتهم أكثر مما يضرها، وبدأوا بالرسم والكتابة عليه، حتى تحوّل من جدار حكومي رمادي كالح اللون، إلى جدار للشعب يضج بصخب ألوان الغرافيتي وبالمطالب الثورية التي حوّلت الكلمات والرسوم إلى حقائق وأهداف أمام أعين المتظاهرين. عكس الجدار شكلين من أشكال الحياة، وجه رمادي ميت ينظر نحو الحكومة، ووجه ملون واعد وممتلئ بالحياة ينظر نحو المتظاهرين.

في الساعات القليلة التي تلت وضع الجدار في مواجهة المتظاهرين، رُسمت على قطعه الكثيرة عدة رسومات ظلت ثابتة تشير إلى أن القوى السياسية اللبنانية تأخذ لبنان إلى الكفن. رسم المتظاهرون وجوهاً سدّت أفواهها بكمامات، وعلى كل واحدة منها اسم لطرف سياسي، الأمر الذي لم يرق لبعضهم، فحاول أن يمحو كلمة حزب الله دون أن ينجح في ذلك فقد كانت الرسمة أقوى من أن يزيلها المعترضون عليها.

هناك قطع أخرى كُتبت عليها عبارات مثل: “شكراً لهذه المساحة وهذا الحائط، فهو يساعدنا في التعبير عن رأينا”. الجدار الذي أتى ورحل، بسرعة احتج مع المحتجين وكان أكبرهم حجماً، ما اضطر الحكومة إلى الانسحاب ورفعه معلنة عجز سلطتها عن مواجهة سلطته الساخرة. وبعد أن أدركت الحكومة أن الجدار ما وضع إلا في وجه مزاجها العكر، قررت إزالته ليستطيع السراي التنفس على هواه مطلقاً الغازات والمياه والحقد الذي كبته الجدار لساعات.

رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام أمر بإزالة الجدار بعد أن تحول إلى معرض فني، بدعوى أنه لا يريد جداراً يفصل بين الحكومة والمواطنين، موحياً بأنه يقف ضد الدلالة الرمزية لإقامته. هنا، لا يمكننا الجزم بأن الرجل لم يكن يريد بناء جدار فعلاً، وأن القرار اتخذ من دون الرجوع إليه، فأشياء كهذه تحصل في لبنان بشكل طبيعي بسبب فوضى الحكومة وغرقها في الفساد، لكن حتى وإن إزيل الجدار بهذه الطريقة فهذا لا ينفي انتصار الغرافيتي على السلطة.

قِطع الجدار، التي يبلغ سعر الواحدة منها ألف دولار أميركي، استعارتها الحكومة من شركة خاصة ضمن اتفاقية تتيح لها ألّا تدفع ثمنها شريطة أن تعيدها فور الانتهاء منها. إلا أن هذه القطع لم تعد صالحة للإعادة، ولم تعد تنفع لبناء أسوار خانقة، إنما باتت لوحات فنية بتوقيع اللبنانيين، وربما ستغري معارض العالم لشرائها بأبهظ الأثمان، لكن من المؤكد أن السلطة لن تلتفت إلى “مساخر” كهذه، ولن يخطر ببالها بيعها، بعد أن نهبت كل شيء من اللبنانيين ولم تترك لهم سوى فنونهم وأدوات تعبيرهم.

*مسرحي فلسطيني سوري

العربي الجديد

 

 

 

 

صُور التظاهرات اللبنانية في مصر: مُزز!

أحمد ندا

لا يستحقون منا اخراج وساخاتنا الذكورية وإحباطنا الثوري

تبدو السياسة اللبنانية لمن يتابعها من بعيد، ساحة من الحسابات المركبة. تعقيدات وميراث أكبر من إمكانية استيعابه بالنسبة لكثيرين، وربما للبنانيين أنفسهم.. لكن لبنان بالنسبة للمصريين –الكثير منهم- هو بلد إنتاج “المُزز”، الفتيات المثيرات، مع صور ضبابية لرفيق الحريري، وحسن نصر الله بجعجعته الخطابية…

غير أن الصورة السياسية، سرعان ما تتوارى مع السيل البصري من جميلات الشاشة اللواتي يتوافدن على العقلية المصرية، عاماً بعد عام، حتى اختصرت بلداً بكل حمولته المثقلة بالتاريخ الطائفي والحرب الأهلية، وحالة “اللادولة” التي يعيشها الآن، إلى مصنع الجنسانية.

هذه الصورة، بدت في أوضح حالاتها في الأيام القليلة الماضية عندما بدأت التظاهرات تجتاح الشوارع اللبنانية، وردّة الفعل المصرية التي لم ترَ في هذا الحدث السياسي إلا “المزز”. مرة أخرى لا يرى المصريون لبنان بلداً، بل مجرد مكان مليء بالنساء الجميلات. حتى احتجاجاتهم السياسية ليست سوى مكان لتجمع النساء الجميلات اللواتي يلبسن كما يردن، وسخرية ذكورية شديدة الفجاجة والوضاعة.

لا يعرف الكثيرون الحال السياسية المأزومة للبنان، وربما لا يريدون أن يعرفوا. بل قد يصل التمادي إلى الاستخفاف بتظاهرات تسير فيها النساء من دون أن يخشين التحرّش، ومن دون أن تنهال عليها الأيدي بالعنف الجسدي، كما قالت إحدى الناشطات في فيديو سجّلته رداً على السخرية المصرية المليئة بالخسّة الجنسيّة، وهو الرد الذي شكرها عليه باسم يوسف في تغريدة له، لأنه يلخص الكثير من الأمراض المصرية وبعض أسباب فشل الثورة، ثورتنا الميتة.

ليس غريباً في مصر أن يُختزل لبنان في نسائه الجميلات، فمصر هي الدولة العربية التي ترتفع فيها نسبة العنف تجاه المرأة (تسبق السعودية والسودان والصومال).. وليس ذلك غريباً على مصر حيث صار التحرّش بحجم دولة، ولن يكون غريباً ألا يرى المصريون في بلد مثل لبنان إلا صور بعض نسائه المستقاة من كليشيهات الأفلام والمسلسلات والفيديو كليب.

هذه الحالة الغالبة والمريضة من ذكورية منحطّة، هي بنت كارثة اجتماعية ترى في النساء –لا نساء لبنان فحسب- مستودعاً للرغبات فقط. لكن الخيال المصري هذه المرة تمادى إلى وضع سيناريوهات “لجوء للمزز” ليكونوا من “نصيبنا” بعدما “منينا بالسوريات”.

لم تكن تلك المرة الأولى من حيث متابعة حدث سياسي خارج مصر ويُختزل في نسائه. سبقتها المظاهرات اليونانية والتركية التي تحولت كذلك إلى ألبومات صور للجميلات هنا وهناك في مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن الدور هذه المرة على لبنان، لأنه بلد عربي ولا يجوز أن تكون هذه الفتنة قريبة منا ولا ننال نصيباً منها.

وإذا كانت ردود الأفعال على المقهى الافتراضي الكبير، بهذا الانحطاط، فما هو عذر الصحافة المصرية التي خصّصت مواضيع عن “جميلات لبنان في المظاهرات”؟! ذلك أن سعار “الترافيك” يريد أن يعرض أي إثارة حتى لو خالفت أبسط قواعد المهنية والإنسانية.

وعلى الطرف الآخر، فأصحاب خبرة الثورة في مصر، تركوا الخوض في ذلك النقاش الجنسي الخسيس إلى الاستخفاف بما يفعله اللبنانيون، وما إذا كانت هناك “ثورة أم لا”، أو إن كان فعلاً له جدوى على أرض الواقع. ليكن ما يكون عزيزي صاحب الخبرة الثورية، ولتكن “كل الثوارت تفشل” كما يقول دولوز، لكن مطالب اللبنانيين ليست مجال عرض لخبرتك أو الاستخفاف ببلد لمجرد أن مجموع سكّانه أربعة ملايين نسمة أو أنهم أقل عدداً من سكان حي شبرا في القاهرة.

كل الأمراض المصرية تتبدى في ردود الأفعال على ما يحدث في لبنان، لكنها لا تؤذينا نحن فحسب، بل تؤذي اللبنانيين الذين يستحقون منا –على الأقل- أن نصمت ونراقب. لا أن نُخرج وساخاتنا الذكورية وإحباطنا الثوري.

 

 

 

 

ما بعد بعد التظاهرة/ ساطع نور الدين

كانت خطوة الى الامام من دون خطوتين الى الوراء، على ما تقول السردية اللينينية الشهيرة. تظاهرة الأمس حفرت مكاناً في الشارع وفي الذاكرة اللبنانية يمنحها شرعية المقارنة مع تظاهرات فريقي الثامن والرابع عشر من آذار العام ٢٠٠٥، من دون التسرع في اعلان نهاية هاتين الكتلتين او تخطيهما، خصوصا وانهما تختزلان الان ببعديهما السني والشيعي المدمر، برغم ألوان الطيف المسيحي التي تزين كلا منهما.

الحشد كان متقدماً، حسب المعايير اللبنانية العابرة للطوائف التي كان ولا يزال بامكان اي منها ان تحشد اضعاف هذا العدد من المتظاهرين برمشة عين من زعيمها. الحشد كان هادئاً ومنظماً الى حد بدا معه وكأن المحتجين خرجوا الى كرنفال، الى مهرجان صيفي. وهو ما يبدو انه ارتقاء عن التظاهرة الاولى الاسبوع الماضي التي كانت أشبه بسيرك مفتوح.

تكوين التظاهرة الثانية لم يكن غامضاً ولا كان مسيساً كما كان يخشى، او كما كان يؤمل. غادرتها الاحزاب كلها، واحداً تلو الاخر، بعدما اطمأن كل حزب الى ان خصمه لن ينزل، ولن يوظف ذلك التحرك المدني ضده، ولن يستثمر ذلك الحشد من أجل فتح مجلس النواب مثلا لانتخاب رئيس للجمهورية او لاسقاط الحكومة او لانقلاب عسكري على الطريقة اللبنانية التي تفترض عادة تحويل قائد الجيش الى منقذ وطني يستفيد من ترهل الطبقة السياسية وتفكك عصبيتها وفساد أحوالها.

لم تتردد في التظاهرة الشعارات والهتافات المستعارة من تونس او من مصر التي تدعو الى اسقاط النظام. وهو دليل وعي سياسي بانه لا يمكن الدعوة الى اسقاط نظام غير موجود، وهو يتخذ الان شكل شركة مساهمة تديرها مافيات معروفة ومحددة الهوية، تختلف بين الحين والاخر على تقاسم الحصص والانصبة والارباح في ما بينها، كما هو حاصل اليوم في ملف القمامة الوطني!

بدت التظاهرة أكثر جدية من سابقتها، حتى عندما استفادت من تمويل وتنظيم وتغطية اعلامية لم يسبق لها مثيل، وكانت في حد ذاتها تعبيراً عن خلاف ظاهر للعيان بين محطتين تلفزيونيتين مع طرف او أكثر في السلطة الحاكمة. وهو ما لا يحرج ولا يعيب المتظاهرين ولا يحسم من رصيدهم السياسي الذي لا يزال في طور التكوين، ويحتاج الى المزيد من الاختبارات العملية لكي يتحول الى تيار او الى فريق ثالث.

التشكل العام للتظاهرة ترك الانطباع بان هذا هو الطموح الرئيسي: جمهور ما كان يعرف بالاغلبية الصامتة يعبر عن ضيقه من استفزاز السلطة واستخفافها به، كما يعبر عن تعبه من فريقي الثامن والرابع عشر من آذار وخدعتهما المشتركة التي يلجآن اليهما عند كل منعطف، حيث يزعم كل واحد منهما ان الاخر هو الحاكم الفعلي وهو المسؤول الأوحد عن ضياع البلد.

كان الخارجون على طوائفهم واحزابهم وتياراتهم هم عصب التظاهرة الثانية ومحركها الفعلي، بحيث بدت التظاهرة بمثابة انتفاضات مصغرة داخل كل طائفة على زعامتها السياسية والدينية، تجمعت في مكان واحد وزمان واحد من اجل ان تستمد قوة من المنتفضين الاخرين، تكفي للاطاحة بالقيادات المتوارثة او المتحكمة في كل الطوائف بالمال او السلاح او الاثنين معا. وكان الحضور المسيحي اللافت في التظاهرة مؤشراً على ان البيئة المسيحية تعبت من المكلفين بقيادتها اكثر مما تعبت البيئة الاسلامية من قيادييها.

ولعل هذا هو أهم مقياس لنجاح التظاهرة الاخيرة: هي بمثابة هزة سياسية متوسطة القوة داخل كل طائفة، وهي أشبه بإنذار لقادة الطوائف كل على حدة، بان زعامتهم ليست أبدية، وتحذير لأعضاء مجلس إدارة الشركة-الدولة فرداً فرداً، بان أساليبهم لم تعد لائقة وخلافاتهم لم تعد تخدع أحداً.

عدا ذلك فان الكرنفال السياسي الجذاب الذي جرى في وسط بيروت وانتهى الى “مطالب مشنوقة” والى أعمال شغب محتملة، لا يمكن ان يدرج في اي سياق، لا في الربيع العربي الذي بدأ بالسعي لاصلاح اجهزة الشرطة والأمن وتدرج الى المطالبة إسقاط وزير الداخلية وصولا الى الاصرار على إسقاط النظام قبل ان تنقض الانظمة كلها عليه وتتركه فريسة الدواعش.. ولا في تحديث التكوين الوطني اللبناني، الذي لا يزال عبثه أقوى من أي نظام.

 

 

 

 

النساء اللبنانيات يتظاهرن/ دلال البزري

هذا المقال هو ردّ على تعليقات فايسبوكيين وصحافيين مصريين حول “النساء اللبنانيات” اللواتي ظهرن على الشاشة خلال إشتراكهن في التظاهرات والإعتصامات الأخيرة ضد الفساد، والتي يجدر بنا عدم نقل تعبيراتها لشدّة ابتذالها وذكوريتها:

خلال الحرب الأهلية، وتحت القصف والرصاص، كانت أم جمال، وهي من القاطنين في حيّ شعبي، لا تخاطر بالخروج من بيتها، من دون تصفيف شعرها باللفائف البيتية، وارتداء واحد من فساتينها اليومية الأنيقة، ووضع شيء من الكحل وأحمر الشفاه. أم جمال لم تكن “تحت نصيبها”، تبحث، عبر هندامها، عن “عريس مناسب”؛ إنما كان متزوجة، وأم لثلاثة أطفال، وتتأنق تلقائياً، مثل غيرها من اللبنانيات، من دون تفكير، أو تحفيز، أو نوايا خاصة. كانت هذه حالة اللبنانيات بغالبيتهن، وعندما انتهت الحرب، وبرزت التيارات الدينية الإسلامية وطغت بحجابها وتشادورها على المشهد، لم تحتجب اللبنانيات، بل بالعكس، انفجرن أناقة ونداوة وترتيباً للهندام، كما لم يسبق أن فعلن. حتى المحجبات من بينهن، أبينَ الخروج  من البيت إلا بعد تنسيق ألوان حجابهن وقصّات ثيابهن، الضيقة احياناً، والمتناسبة في كل الأحوال. فصرتَ تخرج إلى الشارع، أو تتنزه على الكورنيش، أو في وسط البلد، أو بين أزقة الأحياء الضيقة، ولا يفاجئك شيء بقدر ما تفاجئك أولئك النساء الحريصات على جمالهن وأناقتهن ونظافتهن وتناسق اجسادهن، وكأنك في حفل مقيم، تسيطر عليه الشابات اليافعات، ولكن تدخل فيه أيضاً المسنّات والهرِمات من النساء، كلٌ بحسب إمكانياتها وذوقها وثقافتها. أولئك النسوة يخضن عباب الشارع مثل الأمازونيات، أجسادهن كأنها منطلقة، لا ينقصهن سوى القوس والسهام. عكس الأجساد التي تجدها في عواصم عربية أخرى، منكمشة، مستحية، خائفة، تزحف، لا تمشي.

الآن، صحيح ان الأمر لا يخلو من المبالغة: خصوصا في كثرة عمليات التجميل والنفخ والشدّ والإزالة، التي تسرق ذاكرة الوجوه بمنحها شباباً مستعاراً، أو إتّساقاً يتشبّه بالشباب؛ فضلاً عن الميل الجارف إلى الشعر الأشقر إعتقاداً من صاحبته، ومن حلاقها، ذاك الديكتاتور الخفي، بأن الشقار يقرِّب صاحبته من نموذج الجمال الغربي، وهي ما زالت تعتقد بأن الشقار يشكل عموده الفقري. صحيح أيضاً ان الكثيرات من بين اللبنانيات يتشبهن بنجمات الفيديو كليب، اللواتي بتنَ ملهِمات لوصفات الإثارة قبل الجمال… كل هذا صحيح، ومشهد تلك الفئة، أو المجموعة من النساء لا يشكل سوى نموذج واحد من بين النماذج الفائقة التنوع في هندام النساء اللبنانيات: من الشورت، إلى التنورة والأكمام الطويلة، والحجاب أو التستر، من طرق المسنّات في الغواية، إلى الحيّل والرتوشات الصغيرة، الى المخيلات الواسعة في تصور ألبسة جديدة… كل هذا يسِم المشهد العام، في الشارع، الذي لا تغيب عنه النساء.

يجب القول، هنا، انه بفضل الرجال اللبنانيين، ذوي النظر الذي شبع جمالاً، ترتاح النساء في الشارع، وتتجمل من أجل الخروج إليه. في الحرب الأهلية مثلا، الطويلة أصلاً، لم يحصل إلا عدد قليل من جرائم الإغتصاب؛ وإن حصل، فان غالبيتها ارتكبها جنود سوريون على الحواجز. أما اليوم، فلا نسمع عن تحرشات كالتي تحصل في البلدان العربية، لا فردية ولا جماعية، وجلّ التحرش يقتصر على كلام معسول. فيما الاغتصاب أقل من التحرش حدوثاً، ونسمع عن نسبه الرهيبة في بلدان أخرى متفاوتة التقدم، مثل الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والهند.

ولكن هذا لا يعفينا من المفارقة: ففي بلد مجبول بالعصبية والتوتر، في بلد تزداد فيه الجرائم ضد النساء، من “شرف” وغيرها، تجد النساء اطمئناناً في الشارع، لا يضاهيه آخر. هل يكون ذلك عائد الى كون المجال العائلي الخاص، هو تحت قانون الدين، منظَّم الأحوال الشخصية، فيما قانون المجال العام هو الدولة… المتهالكة الفاسدة المعطوبة، ولكن دولة مفترضة؟

لماذا؟ ما الذي جعل نساء لبنان يتمتعن بهذه الحرية في التأنق والهندام، حرية معتادة من زمان، غير متساوية التوزيع، ولكنها ميل وطني عام لا يحتاج إلى شهود…؟ الإجابات متداخلة ومتفاوفة وقد تقتصر على فرضيات: نحتاج إلى دراسة تاريخ خروج النساء إلى المجال العام في لبنان، مقارنته بخروج آخر، عربي وغربي. وذلك بغية تحديد أنماط وأوقات التثاقف التي حصلت بين المسلمات والمسيحيات من بين اللبنانيات؛ بالتأكيد المسيحيات، بفضل ألفتهم مع الغرب، كن السباقات في تحرير أجسادهن من وطأة القعود، والتجمّل والتأنق. ولكن كيف حصل التأثير؟ أين بدأ؟ ما الذي قاومه؟ الإجابات منثورة هنا وهناك في كتب التاريخ، تحتاج إلى من يجمعها. والتساؤلات تنسحب أيضا على العلاقة القائمة بين العنف المنزلي والسلام الخارجي؛ كيف يتقاطعان؟ كيف يتفاعلان؟ هل يكون الخارج تعويضاً؟ أم مراساً؟ أم دروس في المواطنة؟ مهما بلغت هذه المواطنة من تردِّ في أحوالها؟

وتبقى الفرضية الأخيرة لظاهرة حرص اللبنانيات، بصفتهن الفردية، على الخروج إلى الشارع بحرية أجسادهن وجمالهن. فالمرأة اللبنانية ليست لاجئة، ولكنها أقرب إلى حالة اللجوء، منه الى حالة المواطنة المستقرة. عليها ان تتدبر كل لحظة، كل دقيقة، الأمور الأعقد، كما الأبسط. ومهما كانت الطبقة التي تنتمي اليها، من تلك السيدة الخارقة الجاذبية، الجالسة خلف زوجها، أو رفيقها، في دراجة هوائية، كأنها خارجة من فيلم “مهمة مستحيلة” لتوم كروز… إلى تلك الأخرى التي تشتري الخضار من أغلى سوبر ماركت في المدينة، الأيسر منها حالاً، والتي لا تقلّ عنها سحراً… جميعهن على يقين تام بأن الأمور تسوء الآن، وهي نحو المزيد، وانهن سوف يعشن أياماً ربما أكثر اسوداداً، ولا اعتماد إلا عليهن، على أنفسهن الشخصية. والعمل على ابقاء أجسادهن تخرج الى الشارع وهن قويات جميلات، يتطلب منهن التعبير عن أقصى درجات تعلّقهن بالحياة: إطلاق أنفسهم في المكان العام… لعلهن بذلك يتغلّبن على أشكال الحروب التي تعْبر حيواتهن.

 

 

 

لبنان: لحظة الحقيقة!/ جيمس زغبي

لقد كانت مفاجأة عبقرية أن أطلق الشباب المحتجون في لبنان اسم «طلعت ريحتكم» على حركتهم. وفي كلمتين اثنتين فقط، أصابوا كبد حقيقة الأزمة المباشرة في دولتهم المتعلقة بالقمامة المتراكمة ومشكلاتها الهيكلية المتفشية منذ أمد طويل.

ومنذ أشهر تتراكم القمامة في مدن لبنان، بينما يُساوم السياسيون في البلاد على منح عقود جمعها والتخلص منها. وبينما نحن في فصل الصيف، تنتشر رائحة المخلفات المتعفنة في كل مكان. ولكن كما يشير المتظاهرون، وهم محقون، أن هذه الفوضى ليست سوى دلالة على العفن المتجذر والمتمثل في الفساد داخل لبنان، والنظام السياسي الطائفي المشلول في الوقت الراهن.

فالبرلمان لا يعقد جلساته، ولا يمكن أن يحشد الأصوات اللازمة لانتخاب رئيس جديد (ومن ثم لا يزال المنصب شاغراً منذ عامين تقريباً)، كما أنه لم يقر موازنة منذ نحو عقد، ومدد تفويضه مرتين، لأنه لا يمكنه الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات المقبلة.

وربما يقول المرء إن لبنان يمثل حلم المحافظين الأميركيين، ويجسد شعارهم: «الحكومة التي تحكم أقل، تحكم أفضل»، وقد يتفق المرء مع ذلك الشعار إلى أن يشم رائحة القمامة!

وفي غياب المؤسسات الحكومية الفاعلة، تكمن السلطة والامتيازات في أيدي العشائر والطوائف ورؤساء الاقطاعيات الذين يديرونها. وفي دلالة على التشوش، تبدو حالة الوهن هذه ونظام محاصصة السلطة والوصاية المتفق عليه، لبعض الوقت، مصدراً للمرونة في لبنان، إذ إن هذا النظام قدم لأعضاء كل طائفة درجة من النفوذ والوصاية، وامتص غضبهم. وعلى رغم أنه أصبح بالياً، إلا أنه يظل هو النظام الوحيد القائم في البلاد. وقد أحدث التدخل من قبل الإسرائيليين والسوريين والفلسطينيين، في حقب زمنية مختلفة من تاريخ لبنان، ضغوطاً هائلة اختبرت بقسوة هذا النظام الهش عن طريق الإخلال بالتوزيع الديمغرافي والعلاقات المجتمعية وميزان القوى، وقدرة لبنان على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيه.

بيد أن لبنان يمر الآن بمرحلة دقيقة، ولاسيما أن الحرب الدامية في الجوار تلهب نيران الطائفية، وقد انخرط فيها بصورة مباشرة بعض اللبنانيين (خصوصاً «حزب الله»)، وهجّرت نحو مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، واضعة ضغوطاً شديدة على مصادر البلاد ونظامها السياسي المتحلل. ويتفاجأ المراقبون من أنه حتى في ظل تلك الضغوط، لا يزال لبنان هادئاً بصورة ملحوظة. وحتى الآن تعتبر «طلعت ريحتكم» هي حركة الاحتجاج الأولى التي تعبر عن الغضب الجماهيري.

وعلى رغم ذلك، تعتبر مشكلة لبنان أشد عمقاً، إلى درجة أنها لن تُحلّ بالاحتجاجات الجماعية، وخصوصاً أن النظام الطائفي منتشر، وعلى رغم الثقافة السياسية النشطة والحريات النسبية في لبنان، إلا أن هناك غياباً ملحوظاً للمؤسسات السياسية الوطنية غير الطائفية التي يمكن أن تكون وسائل للتغيير المنشود.

غير أن هناك شيئاً يمكن البناء عليه، فمن خلال تحليل استطلاعات الرأي التي أجريناها في لبنان خلال العقد ونصف العقد الماضيين، لاحظت تقارباً ملحوظاً في الرؤى عبر الطوائف المختلفة يمكن أن يشكل أساساً لحركة شعبية واسعة النطاق من أجل إحداث تغيير جذري. وبالطبع هناك قضايا تُقسّم اللبنانيين، ولكن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي تصرح فيها كافة الجماعات الديمغرافية بأن هويتها الأساسية هي بلدها وليست عروبتها أو انتماؤها الديني. وعلاوة على ذلك، يحدد جميع اللبنانيين من كافة الطوائف نفس الأولويات السياسية المتمثلة في توفير فرص العمل والقضاء على الفساد والمحسوبية والإصلاح السياسي وتحسين نظامي التعليم والرعاية الصحية في البلاد. ومن الملاحظ بصورة كبيرة، أنه عندما سئل اللبنانيون عما إذا كانوا يؤيدون الانتخابات التي تعتمد على نظام المحاصصة الطائفي الحالي أو نموذج صوت واحد لكل شخص، أكد غالبية اللبنانيين من كافة الطوائف أنهم يفضلون الطريقة الأخيرة.

وبالطبع، ستجد الكيانات القائمة في نهاية المطاف طريقة لجمع قمامتها، ولكنها لن تتخلى طوعاً عن امتيازاتها. وما يحتاجه لبنان هو حركة سياسية قادرة على قبول أجندة إصلاح وطني غير سياسية، يمكنها حشد اللبنانيين حول القضايا التي توحدهم، حركة يمكنها أن تقدم مرشحين يخوضون الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويبدؤون عملية الدفع بجيل جديد من القادة إلى مقدمة الساحة السياسية.

ولبنان ليس كمصر أو تونس، وإنما هو دولة ضعيفة وتحتاج إلى مؤسسات وطنية قادرة على إجراء تحول سياسي مستقر، لا يمكن أن يأتي إلا من خلال حركة وطنية منضبطة برؤية استراتيجية. ولن يكون ذلك سهلاً، ولن يحدث التغيير سريعاً، ولكن لا بديل عن ذلك في النهاية.

* رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن

 

 

طلعت ريحتكم» .. «مش بس بلبنان/ ماجد كيالي

«طلعت ريحتكم»، صيحة لا تتعلق فقط بلبنان، وإنما بكل العالم العربي، ومنذ زمن بعيد، وهي تنم، عن بساطة، ومباشرة، عن القهر، والغضب، مثل سابقاتها، كصيحة «كفاية» في مصر، و»هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية» في تونس، و»الشعب السوري ما بينذل» و»أنا انسان وماني حيوان» في سوريا.

هذه صيحة تفضح فساد الطبقة السياسية، التي لم تعد تحتمل، إذ وصلت في تفاهتها، وجشعها، وغربتها عن شعبها، إلى حد ترك البلد يغرق بالنفايات، كي تراكم امتيازاتها وثرواتها حتى من النفايات. والمغزى، أن هذه الفضيحة تكشف أن مشكلة العالم العربي لا تكمن، فقط، في الاستبداد، وإنما في الفساد، أيضا، كفعل وكفاعلية. أي أن النظام السياسي القائم على الفساد، يفسد كل شيء معه، كما أنه يطبع المجال العام بطابعه، بحيث لا يعود الأمر يقتصر على السياسة، او النظام السياسي، وإنما يشمل إفساد أجهزة الأمن وقطاعات الاقتصاد، ومؤسسات التعليم والثقافة، ووسائل الاعلام. وهذا لا يستثني المجتمع، الذي يتم إفساده، أيضاً، بتكريس النظام الطائفي، وقيام أحزاب أو ميليشيات طائفية، ومذهبية، بحيث يكف المجتمع عن كونه مجتمعاً، أو لا يتصرف بناء على وعيه لذاته كمجتمع، أو بناء على مصالحه الجمعية.

ولعله ليس من قبيل المصادفة ان صيحة «طلعت ريحتكم» اللبنانية، تزامنت مع الصيحة ذاتها في العراق، بما يؤكد أن النظم الطائفية، كما تبدت في هذين البلدين، لا تقل في ضيق افقها، وتفاهتها، وعطالتها، ومخاطرها، عن النظم الاستبدادية، وان النظام القائم على الفساد، يحجب نظاماً استبدادياً، ما يعزّز فكرة أن «السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة»، كما يعزز عكسها، أي أن «المفسدة المطلقة هي سلطة مطلقة»؛ ولنا في الأنظمة الاستبدادية، لاسيما النظام السوري، افضل دليل على ذلك.

«طلعت ريحتكم»، تفيد، أيضاً، ان النظم القائمة على الفساد والاستبداد والطائفية، لا تعمل كنظم وطنية، تضع في أولوياتها مصلحة المجتمع، لأنها تخدم طبقة سياسية محددة، تتواطأ في ما بينها، بغض النظر عن انتماءاتها الأولية، في حين هي تستمد بعضاً من نفوذها، من التلاعب بهذه الانتماءات والهويات، ووضعها ازاء بعضها، لأن في ذلك ما يمكنها من إعادة انتاج ذاتها، وتأبيد سلطتها.

ثمة ذكرى مريرة لصيحة «طلعت ريحتكم»، إذ أُشهرت في بداية حقبة الدولة العربية، أي بعد الانتهاء من الحقبة الاستعمارية، مع الاخفاق المروّع للعالم العربي في مواجهة خطر إقامة إسرائيل، والذي مازلنا ندفع ثمنه حتى اليوم. وحسب هيثم كيلاني، في دراسته عن «حروب فلسطين العربية ـ الاسرائيلية» (الموسوعة الفلسطينية، ج 5، ص 484)، فقد «بلغ مجموع «جيش الإنقاذ»، الذي شكلته جامعة الدول العربية، آنذاك، 4630 مقاتلا؛ في حين بلغ مجموع ما قدمته «اللجنة العسكرية»، المنبثقة عن الجامعة العربية، للفلسطينيين، التابعين لـ»الهيئة العربية العليا»، 1600 بندقية فقط. نرجح أن ميزان القوى في حرب 1948 كان على الشكل التالي: في المرحلة الأولى من القتال، نحو 20,000 مقاتل عربي نظامي وغير نظامي، مقابل 67.000 جندي إسرائيلي. في المرحلة الثانية من القتال نحو 40,000 مقاتل عربي نظامي وغير نظامي، مقابل 106,000 جندي إسرائيلي.

طبعاَ، هذه الكارثة تأخذنا إلى الشعارات، المتعلقة بمركزية فلسطين، والصراع العربي الإسرائيلي، التي عاشت عليها الأنظمة، التي بررت بها استبدادها وفسادها، ومصادرتها حريات مواطنيها، والسيطرة على ثروات بلدانها. كما تأخذنا إلى عشرات، بل مئات، مليارات الدولارات التي صرفت على بناء الجيوش والاجهزة الأمنية، بحجة مواجهة الخطر الإسرائيلي، في حين انها لم تفعل شيئا سوى الهيمنة على شعوبها، وتعزيز سلطاتها، مع ما شهدناه من خيبات هذه الجيوش، في مجال الصراع العسكري ضد إسرائيل، أو غيرها.

في المجالات الاقتصادية، لم تكن الخيبات أقل هولاً، فالعالم العربي، الذي تزامن قيام دوله مع استقلال دول اخرى، في آسيا وأميركا اللاتينية، ظل في آخر البلدان، في سلم التنمية البشرية والاقتصادية، لا يضاهيه في ذلك إلا بعض الدول الأفريقية، رغم ما يتمتع به من ثروات، وموقع جغرافي، واطلالة على الممرات والبحار الاستراتيجية. وحتى إزاء إسرائيل، فإن هذه الأخيرة أثبتت حيوية فائقة في نموها الاقتصادي، ( قرابة الـ300 مليار دولار ناتجاً سنوياً، و 36 الف دولار كمتوسط للدخل السنوي للفرد، في حين كان في العام 2007، 174 ملياراً و 24 ألفاً للفرد، أي انه قفز إلى الضعفين تقريبا في قرابة العقد).

وبينما بلغت صادرات إسرائيل عام 2010، 58 مليار دولار فإنها بلغت عام 2013 قرابة الـ66.500 ملياراً، علما أنها كانت قرابة الـ23 ملياراً فقط عام 1990، فضلاً عن احتلالها مكانة ممتازة بين اول خمس دول في العالم في مجال الانفاق على التعليم والبحث العلمي. هذا يعني انها تتفوق على العالم العربي بالصادرات السلعية (اذا استثنينا النفط)، كما تتفوق عليه كثيرا في دخل الفرد، رغم تميزه بالثروات الطبيعية (كالنفط والغاز وغيرهما)، ورغم الفارق الهائل في المساحة وعدد السكان.

ثمة احصائيات عربية تثير القلق، وتبعث على القهر؛ مثلا، حسب تقرير التنمية الاقتصادية العربية (2014)، فإن القيمة المضافة للصناعات التحويلية العربية تبلغ قرابة الـ213.4 مليار دولار، فقط، أي 9 بالمئة من الناتج السنوي، بينما تبلغ الصادرات من الصناعات التحويلية 107 مليارات دولار فقط، أي ضعف الصادرات الإسرائيلية فقط. وتقدر نسبة الأمية بين البالغين (15 سنة فما فوق) 22.5 بالمئة، ومعدلات البطالة قرابة الـ18 بالمئة، أما حصة الإناث في سوق العمل فهي قرابة الـ23 بالمئة فقط، بينما لا يزيد الانفاق على الصحة على 6 بالمئة، وهي معدلات متدنية جدا، مقارنة بالمعدلات الدولية.

وبينما نشهد، في كل المجالات، صعود دول في سلم التنمية الاقتصادية، وهذا لا يقتصر على الصين، إذ يشمل دولة كبيرة تعج بالهويات والانتماءات والاختلافات الاثنية والدينية واللغوية والطبقية، مثل الهند، كما يشمل ذلك البرازيل وجنوب افريقيا وتركيا وماليزيا واندونيسيا، نرى أن العالم العربي يرزح في ظل التأخر، والجمود، وبخاصة في ظل الافتقار إلى النظام السياسي الذي يتأسس على دولة القانون والمؤسسات؛ حتى قبل الديمقراطية.

اخيرا، وللتذكير، فقبل اكثر من عشرة اعوام ظهرت صيحة «طلعت ريحتكم»، مع بداية صدور تقارير «التنمية الانسانية العربية»، التي تحدثت عن مكامن الخلل في العالم العربي، المتمثلة، بنقص الحرية ونقص المعرفة ونقص تمكين المرأة، مؤكدة ضرورة تعزيز الحرية ودور المرأة والتنمية الاقتصادية وترشيد نظم الحكم، وهي صيحة مبكرة تم تجاهلها من قبل النظام العربي السائد، بحيث افضى ذلك إلى مزيد من التدهور، ونمو مشاعر الاحباط والقلق والغضب، وصولاً إلى «الربيع العربي» بما له وما عليه.

«طلعت ريحتكم»، صيحة من وجع ومن أمل ضد كل نفايات وطفيليات العالم العربي، السياسية والطائفية.

 

طلعت ريحتكم: خطوة خطوة/ زيـاد مـاجد

كمنت أهمّية حملة “طلعت ريحكتم” بكونها ذات هدف محدّد وواضح: ربط أزمة النفايات بأداء الطبقة السياسية اللبنانية الفضائحي.

وعبّرت الحملة المواطنية عن توقٍ لاستعادة السياسة ومُحاسبة المسؤولين في مرحلةٍ من الانحطاط لم يشهد لبنان السياسي مثيلاً لها منذ الحرب الأهلية.

وكمنت أهمّية الحملة أيضاً في إظهارها إمكانية تجاوز اصطفافَي 8 و14 آذار في الشارع، كما في الشعارات المطلبية عبر ربط السياسة بقضايا الحياة اليومية وليس فقط بالقضايا “الاستراتيجية” (على أهمّية الأخيرة).

وسبق للبنان أن عرف في أواخر تسعينات القرن الماضي مبادرات مواطنية عدّة، مثل “الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات” و”بلدي بلدتي بلديّتي” والحملات من أجل المخطوفين والمفقودين، وحملات الزواج المدني والحملات البيئية. وتلاها بين العامين 2000 و2004 ثم بعد العام 2009 حراكٌ مدنيٌ نشِط ارتبط بقضايا المرأة والعنصرية وإصلاح النظام الانتخابي والأوضاع المعيشية وحقوق المعلّمين وغيرها.

ما يمكن قوله حول هذه التجارب إنها أظهرت أنه بِقَدر ما يكون التركيز فيها على موضوع واحد أو على اختصاصٍ محدّد بقدر ما يكون الإنجاز ممكناً. وكلّ ما تعدّدت الإنجازات كلّ ما صار خرق جدار النظام احتمالاً. ذلك أن النظام اللبناني، المُترنّح والمُتعذّر إصلاحه والواجب يوماً طيّ صفحته، يملك في فلسفته وفي آليات اقتسام السلطة المعمول بها في ظلّ الانقسامات الأهلية الراهنة ما يعينُه على الاستمرار.

فهو إذ صار عاجزاً عن حلّ الأزمات لانعدام المرونة في صِيغه ولتبّدل خصائص النخب السياسية وتوازناتها، ما زال يلبّي في المقابل الحاجات الزبائنية للمنخرطين في “مؤسساته” ويعتمدهم وسطاء وحيدين بين الدولة والجماعات بما يُبقي مشروعيّاتهم الشعبية قائمة الى هذا الحدّ أو ذاك.

فإن أُجريت انتخابات وِفق نظم التمثيل الأكثري فازوا، وإذا عُلّقت الانتخابات (أو علّقوها) صَرّفوا الأعمال ليُحضّروا انتخاباتٍ مقبلة. فَعلَ معظمهم ذلك في ظلّ هيمنة النظام السوري على لبنان، واستمرّوا بالأمر بعد تغيير اصطفافاتهم عقب أفول الهيمنة تلك.

بهذا المعنى، ليس شعار “طلعت ريحتكم” وقصر التحرّك مرحليّاً على شأن النفايات وتلزيماتها و”اقتصادها السياسي” أمراً بسيطاً، ومثله أي تحرّك يخصّ الكهرباء أو يبحث في النظام الانتخابي أو يخوض في قضايا حقوق المرأة وسوى ذلك من شؤونٍ كلُّ تحقيقٍ لتغييرٍ فيها يؤسّس ببطء وبتراكم خبراتٍ لتغيير أشمل.

أما القفز نحو شعارات “إسقاط النظام” دفعة واحدة واعتبار الترفّع عن الشؤون “الصغرى” كفاحاً ثورياً جذريّاً، في وقت يحاذر “الثوريّون الجذريّون” إضافة صورة أمين عام أكبر حزب لبناني وأشدّ الأحزاب مذهبيةً وأكثرها تأثيراً في الشأن العام وأوحدها حضوراً عسكرياً وتدخّلاً في صراعات المنطقة منذ العام 2005 الى صوَر باقي الزعماء الذين يريدون إسقاطهم ونظامهم، ففي هذا القفز ما يدعو الى إضعاف التحرّك وجعله نهباً للاختلافات وعرضةً للاستغلال وللنزعات الطائفية.

لذلك، ليس من المبالغة القول إن تحقيق حملة “طلعت ريحتكم” لهدفين من نوع فرض الشفافية على التلزيمات الحكومية للشركات وفرض الفعالية على عمل الشركات ومراقبة أدائها، فعلٌ ثوري سيكون تأسيسياً لأفعالٍ في مجالات حيوية أخرى قد تكفل مع الوقت والمثابرة إضعاف البنية الزبائنية وتغيير الكثير من الأمور، بما فيها “النظام” المتهالك والمُفلس…

 

 

 

من هم المندسّون في تظاهرات #طلعت_ريحتكم؟/ أنّـا ماريـا لوكـا

عندما بدأت الإشتباكات السبت الماضي، لم يشاهدهم أحد. بينما كانت القنابل المسيلة للدموع تسقط في الشارع في ساحة رياض الصلح أمام الحكومة اللبنانية وخراطيم المياه تُوَجَّه إلى الجدار البشري لتحرّك #طلعت_ريحتكم، لم يرَ المتظاهرون سوى وجوهاً مألوفة حولهم. فهذا لبنان، وهنا الجميع يعرف الجميع.

“كنّا نحن فقط، الناشطون. كنّا مرتبكين، نركض”، قالت المتظاهرة ياسمينا لـNOW. أمضت ياسمينا نهاية الأسبوع في وسط بيروت تتظاهر ضد أزمة النفايات. وبدأ المندسّون المزعومون بالظهور قرابة منتصف ليل يوم السبت، عندما كان المتظاهرون قد هدأوا والناشطون يحاولون إعادة تجميع أنفسهم في رياض الصلح. كان لدى متظاهري #طلعت_ريحتكم اعتصام شبيه باعتصام الثورة الأوكرانية البرتقالية: أي قرية من الخيام في مركز بيروت الإداري.

“فجأة ظهروا. كنا نريد إحضار خيام للنوم هناك”، قالت تينا، وهي متظاهرة أخرى. “لكن كان لديهم خيامهم الخاصة- ثلاث إلى ست خيام، وكانوا يجلسون هناك، يشربون الأركيلة. ومن ثم قرابة الـثانية، بينما كنتُ أسير عائدة الى المنزل، رأيتُ مجموعة منهم تخطط لرمي أكياس نفايات على القوى الأمنية. لا أعلم من أين أتوا بهذه الأكياس. لم أر ما الذي جرى بعد ذلك، ولكن أعتقد بأنهم تخلوا عن الفكرة”.

هؤلاء الرجال كانوا في قلب الاشتباكات مع القوات الأمنية في مصرف لبنان الأحد الماضي. لقد أُغرقت تظاهرة #طلعت_ريحتكم بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز ليلة السبت الماضي. حيث دعت الحركة الاجتماعية التي نظّمت التظاهرة الى اعتصام هادئ وسلمي، مُدينةً فرض تطبيق القانون القاسي من قبل القوى الأمنية. إلاّ أنّه ليل الأحد، بعد خطاب رئيس الوزراء تمام سلام، ظهر شبّان مقنّعون وحاولوا إزالة سياج الأسلاك الشائكة الذي أقيم بين الشرطة والمتظاهرين، مستفزين القوى الأمنية لافتعال اشتباك.

الصحافيون الذين كانوا في المشهد دعوهم “مندسّين”. وقال مراسل الوكالة الوطنية للإعلام من قلب الحدث إنّ “مندسّين بين المتظاهرين في وسط بيروت يطلقون قنابل مولوتوف على القوى الأمنية”. بعض المتظاهرين سمّوهم “قاطعي طرق غير متحضرين”، وقالوا إنّهم من الشياح وخندق الغميق في بيروت، متّهمين حركة أمل بإرسال داعميها لتشويه سمعة حركة #طلعت_ريحتكم.

حكاية حشدين

كانت المظاهرات سلمية لحين ظهور المندسّين – وكانوا مجموعة من الشبان الذين لا يرتدون القمصان، تسلّلوا الى الحشد وصولاً الى القوى الأمنية. العديد من بينهم كانوا يرتدون رمز سيف الإمام علي حول أعناقهم، ولديهم وشم “313” في دلالة إلى أتباع الإمام المهدي الـ313 الذين حسب المذهب الشيعي سوف يساعدونه عندما يظهر من جديد. “بدا واضحاً أنهم يخططون لشيء ما”، قالت ياسمينا. وقف متظاهرو #طلعت_ريحتكم جانباً وأفسحوا لهم الطريق.

قال جان بيار، وهو متظاهر آخر من حملة #طلعت_ريحتكم لـ NOW إنّ المتسللين بدوا منظمين جيداً ومصممين على إحداث اضطراب. “وصلوا قرابة الساعة 7:30 مساء، جميعهم صغار في السن، العديد من بينهم كانوا مراهقين. نصفهم كانت وجوههم مغطاة بقميص أو بوشاح ملوّن”، كما قال، “وأبعدوا الناس الذين كانوا هناك قبل. كانوا متلاصقين وكانهم مجموعة واحدة، لم يتفاعلوا معنا نحن المتظاهرون. كانوا وحدة متراصة، قريبين جداً من بعضهم البعض. بدوا وكأنهم كانوا يتوجهون الى ساحة معركة”.

“كانوا يسيطرون”، قالت ياسمينا، مضيفة: “كانوا مختلفين عنّا، علمنا بأنهم لم يكونوا الناس الذين كانوا معنا يُضرَبون يوم السبت. بقينا بعيدين، انتقلنا الى الجهة الأخرى وتركناهم يفعلون ما يريدون”.

إلاّ أنّ جان بيار شاهد شيئاً آخر أقلقه. وكان المتظاهرون ينشدون “فليسقط النظام” ويطلقون الشتائم. قال إنّ أحد الصبية في المجموعة صرخ قائلاً بدون قصد: “الله، نصرالله، والضاحية كلها”. وباقي المجموعة صرخوا في وجهه قائلين له بأن يصمت. فهذا الشعار ما كان يجب أن يُنشد هنا”.

محرضون ومتسللون، أم مجرّد حركة؟

قال بعض ناشطي #طلعت_ريحتكم إنّ الشبان الذين تسبّبوا بالاضطراب في المظاهرة أغضبتهم الشعارات التي أطلقت ضد رئيس حركة أمل نبيه بري، وهددوا في الواقع المتظاهرين الذين أنشدوا ضدهم.

شعاراتهم، وأوشامهم، والغرافيتي التي خلّفوها وراءهم، مثل شعار “المهدي عائد 313″، كلها تدلّ على أنهم داعمو حركة أمل. وقال أحد متظاهري وسط بيروت الأحد الماضي إنّهم رسموا شعارات مثل “استقلال، حرامي، بيروت لنا” و”قاطع طريق مات. دورك آت” على صور رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

وقال أمير فقيه من منظمي حملة #طلعت_ريحتكم للنهار إنه وزملاءه شاهدوا المتسللين عن قرب وأنهم بدوا أنهم داعمو حركة أمل.

من جهتها أنكرت حركة أمل “الادعاءات الاعلامية” بأنّ “أفراد من الحركة حاولوا إشعال الشغب”، معتبرين أنها “عارية عن الصحة” و”محاولة واضحة لإحداث فتنة”.

البحث عن أرضية مشتركة

أما ايلي، وهو متظاهر آخر من #طلعت_ريحتكم فقال إنّ الناس مخطئون إنْ اعتقدوا بأنّ المتسللين وحدهم هم الذين اشتبكوا مع الشرطة، مضيفاً أنّ المحرضين لم يبقوا في الساحة لفترة طويلة، “ظهروا عدة مرات. بعد الظهر، قرابة الساعة الخامسة أو السادسة، أتوا وأنشدوا شيئاً متعلقاً بكرة القدم ومن ثم غادروا بسرعة. عادوا الساعة 7:30 حاملين قناني بلاستيكية وبدأوا الاشتباك مع القوة الأمنية. ولكنهم لم يبقوا لأكثر من نصف ساعة ومن ثم اختفوا. استمرت الاشتباكات من قبل متظاهري #طلعت_ريحتكم، تماماً مثل يوم السبت”، كما قال.

وقال أيضاً إن ليس كافة الشبان الذين كانوا يرتدون قلادة سيف علي ولديهم وشم 313 شكلوا جزءاً من المحرضين والمتسللين. “كان هناك الكثير من الناس من الشياح وخندق الغميق الذين كانوا معنا في اليومين. كانوا جزءا من الحركة، لم يكونوا متسللين”.

وقالت ياسمينا أيضاً إنّه بعد أن بدأ الاشتباك “الجميع كانوا متحمسين جداً”، والمجموعتان اختلطتا. “في مرحلة معينة، لم نعد أكيدين من كان يحارب القوى الأمنية”.

واجهت حملة #طلعت_ريحتكم أزمة بعد اشتباكات الأحد. فبعد ظهر الاثنين، في مؤتمر صحافي، دعت الحركة الى تظاهرة جديدة يوم السبت، 29 آب، الساعدة السادسة مساء. غير أنّ العديد من الناشطين استمروا بالتظاهر في رياض الصلح يومي الاثنين الثلاثاء.

وبعض متظاهري #طلعت_ريحتكم اتهموا كذلك المتظاهرين بالطائفية ونعتوا أفراد الحركة “بقطاع الطرق غير المتحضرين” لأنّهم قدموا من أحياء فقيرة. “أعتقد بأننا يجب أن نحتضن كل شيء وكل شخص وبأن نجد أرضية مشتركة”، قالت ياسمينا. “ما كنا سنبتعد. كنا بحاجة الى الجلوس معاً ورؤية مطالب الجميع”.

آنا ماريا تغرّد على “تويتر” @aml1609

ساهمت ميرا عبد الله في جمع المعلومات لإعداد التقرير

هذا المقال ترجمة للنص الأصلي بالإنكليزية

(ترجمة زينة أبو فاعور)

موقع لبنان ناو

 

 

 

لماذا التصويب على نصرالله يا #طلعت_ريحتكم؟/ علي شهاب

أنا كواحد من كثيرين من اللبنانيين كان يأمل خيراً في حملة #طلعت_ريحتكم و #بدنا_نحاسب وغيرهما من الحملات. وكوني كاتبًا وإعلاميا يعاني في بعض الأحيان من ظلم الرأي العام في تصنيفي على هواه، فقد كنتُ حريصا على رفض الاتهامات التي يتداولها بعض المعارضين بحق قادة بعض الحملات المطلبية تارة بالعمالة للسفارات الاجنبية وطورا بالتصويب على مسائل شخصية، وذلك من منطلق الحرص على دعم الحراك المطلبي الضروري على أمل احداث ثغرة في النفق الوجودي المأزوم الذي دخلته البلاد.

وكي تتضح للقراء العرب الغاية من عنوان مقالتي هذه، دعوني أشرح لكم ما يلي:

–              طوال عقود من الزمن، كانت الطائفية والمذهبية سلاح الحكام الفعال في رسم الاطار العام للمجتمع اللبناني، فتقدم الانتماء المذهبي والطائفي على ما سواه من معايير في قياس الجماهير لمصالحها.

–              يقوم النظام في لبنان على عقد اجتماعي “جنتلمان” غير مكتوب بين الطوائف وزعمائها، يقضي باطلاق يد زعماء الطوائف في السياسة وتقاسم السلطة في مقابل توفير الخدمات والحماية السياسية للمواطنين. وهذه النقطة بالغة الاهمية، فلا يظنن احد ان النظام في لبنان هو مجموعة من الدخلاء، بل هو ببساطة نتاج انتخابات نيابية يمارسها الشعب منذ سبعين عاما. ولا يمكن بالتالي استقدام التجربة المصرية او الليبية او السورية او التونسية واسقاطها على النموذج اللبناني.

–              وسط لوحة الفسيفساء اللبنانية هناك حالة جماهيرية موجودة من رحم معاناة أهل الجنوب اللبناني مع الاحتلال الاسرائيلي وتفرض نفسها بقوة خياراتها السياسية وهي حزب الله. وكي أكون اكثر دقة دعوني اعتمد تسمية “المقاومة” لأني لست بصدد الدفاع هنا عن حزب الله كتيار سياسي يصيب ويخطئ (ولكم أن توافقوا او تختلفوا معه في سياساته وتحالفاته المحلية والخارجية)، ولكني اقصد قضية هذا التيار الشعبي في مقارعة اسرائيل ودعم القضية الفلسطينية. وهذه القضية هي للكثيرين معيار الحكم على أي حراك ينادي باسقاط النظام في لبنان.

لقد رفعت الحملات المطلبية حتى الساعة شعارات جميلة كالدعوة الى انتخاب رئيس للجمهورية واجراء انتخابات نيابية ومحاسبة الفاسدين في السلطة ومعالجة مشكلة النفايات عبر اطلاق يد البلديات، ولكن الذهاب بعيدا في اطلاق شعارات تسترجع ثورات “الربيع العربي” السيء الذكر في أذهاننا يستحضر عندنا سؤال: “و بعدين ؟”

ويفتح هذا السؤال الباب واسعا على موقف الحركة التغييرية من قضية المقاومة. وهنا يكمن بيت القصيد.

قرر بعض الناشطين المنفعلين تصنيف حسن نصرالله ضمن فئة الزعماء الفاسدين ماليا، مع ان الرجل لم يكن يوما من المنتفعين من كعكة السلطة، بل تفيد التجارب الحكومية والنيابية منذ انطلاقه في العام 1982، بأن أحد مآخذ جمهور المقاومة على حزب الله عدم فعاليته في الشأن العام والملفات المعيشية للمواطنين بدعوى تقديم قضية الدفاع عن لبنان على ما سواها.

في موجز الكلام، لا تستطيع أي حركة شعبية في لبنان ان تعالج مشاكلنا باستعداء نصف الشعب وتنفيره عبر طرح شعارات مستفزة واطلاق العنان للتعميم بدعوى “الثورة”.

تنشأ الثورات لإحقاق الحقوق وفرض العدالة لا ممارسة اساليب السلطة بالتعميم الظالم.

لقد أصدر حزب الله قبل أيام قليلة بيانا لافتا دعم فيه بوضوح مطالب الشعب (و في ادبيات الحزب يمكن البناء على هذا البيان الى حد اعتباره تغطية سياسية للمتظاهرين)، غير أن الاصرار على ادراج صور نصر الله مع “المتهمين” فيه الكثير من التجنّي على شخص يشهد له اعداؤه بالمناقبية والمصداقية.

يمكنكم الاختلاف ما تشاؤون في السياسة مع أي مكوّن، ولكن ليس من مصلحة حركة شعبية معاداة نصف الشعب.

لقد قتل فينا زعماء الفساد في لبنان الأمل في أن نعيش في كنف دولة تحترم شعبها، فلا تقتلوا فينا الأمل بالتغيير.

 

 

رائحة الحرب الأهلية في لبنان/ موناليزا فريحة

لبنان الذي نجح في البقاء بعيداً نسبياً من الأتون السوري المشتعل حوله منذ أكثر من أربع سنوات، فاجأ الحلفاء قبل الاعداء. استقراره، وإن يكن هشاً، أدهش كثيرين. مراراً، حاولت النيران المشتعلة من حوله مد ألسنتها الى اراضيه، قصفا حيناً وخطفاً حيناً آخر وتفجيرات أحياناً، لكنه صمد. العبء الثقيل لمئات آلاف اللاجئين السوريين ذوي الولاءات والانتماءات المختلفة لم يثنه عن التكيّف مرغماً مع ديموغرافيا جديدة، على رغم تركيبته السياسية والطائفية المعقّدة. تورّط فريق من اللبنانيين طوعا في حرب سوريا لم يزعزع اقتناع فريق آخر بوجوب النأي بالنفس عن نزاع أكبر من طاقتنا. وبسحر ساحر، أمكن تجنيب لبنان مصيبة أكبر، واقتصرت معاناتنا حتى الآن على تشييع الذين يسقطون في حرب الآخرين على ارضهم.

لبنان ليس بعيداً مما يحصل في سوريا. الحرب المفتوحة التي يخوضها الجيش اللبناني مع المسلحين على الحدود كبّدته خسائر كبيرة في الارواح. الخلايا النائمة التي تفكك بين الحين والآخر ليست الا قنابل موقوتة. ومع ذلك، يمكن التباهي بأن التداعيات الامنية وخصوصاً للحرب السورية بقيت محصورة. الخسائر المباشرة أصابت المؤسسات الدستورية. الجمهورية بلا رئيس منذ أكثر من سنة ومجلس النواب ممدد له مرتين، ومثله القيادات الامنية. حكومة تعمل بلا تفويض شعبي، ونشاطها معلّق على مزاج بعض الزعماء. الا أنها مع ذلك بقيت الحصن الاخير أمام الفراغ الكبير.

لكن الاستقرار الهش هذا يكاد يسقط أمام أزمة النفايات. صحيح أن هذه المشكلة ليست بنت ساعتها، الا أن الحلول السريعة والقذرة التي حاولت الحكومة اجتراحها، سواء ببيع أسوج النفايات أو محاولة رشوة بلديات مناطق نائية لتحويلها مكبات في مقابل مساعدات انمائية، ليست بعيدة من اخلاقيات أمراء الحرب الذين حكموا لبنان طويلاً. السماح بحرق النفايات في الشوارع أو نقلها من هذا الشارع الى ذاك الوادي، يعكسان غياباً تاماً للوعي. ارجاء فض العروض اسبوعاً افساحاً في المجال لهذه الشركة أو تلك، فيما الشوارع تضيق بالنفايات واللبنانيون يختنقون بروائحها، ليس قرار سلطة مسؤولة. المحاصصة العلنية والمفضوحة في مناقصات النفايات بحجة التعجيل في معالجة الازمة وتلبية مطالب المحتجين ليست الا دليل عجز وفساد طبقة سياسية تمعن في تقويض هيبة الدولة أو ما تبقى منها.

في المونتيفيردي، احدى اجمل بقاع لبنان الخضراء، رائحة تحيي في أذهاننا ذكرى الحرب الاهلية. رائحة مكب النفايات الذي كان خط تماس بين المتن الجنوبي والمتن الشمالي. وكما في المونتيفيردي كذلك في قلب العاصمة روائح منبعثة تنذر بأزمات أكبر. فهل من ينقذ لبنان قبل أن تحقق النفايات ومَن وراءَها، ما عجزت عنه الحرب السورية بترساناتها الضخمة؟.

النهار

 

 

القوّة الخفيّة للنظام اللبنانيّ/ حازم صاغية

كان أحد المعاني الكبرى التي كشفتها المحنة السوريّة، ولا تزال تستعرضها، إفضاء الثورة السلميّة التي انفجرت في 2011، إلى حرب أهليّة طاحنة. أمّا السبب الأهمّ وراء ذلك فهو ما فعله النظام ابتداء بـ 1970، سنة انقلاب حافظ الأسد على رفاقه وتسلّمه السلطة وحده. ذاك أنّ السلطة الأسديّة أوجدت نوعاً من التماهي بينها وبين طائفة ومنطقة بعينهما: هكذا أمّنت احتماءها بهاتين الطائفة والمنطقة من دون أن تقدّم لهما ما هو أكثر من استثارة العصبيّة والتخويف بالآخر، ومن ثمّ التعويض الوهميّ والزائف عن البؤس الفعليّ.

وشيء مشابه كان ما فعله البعث العراقيّ منذ وصوله إلى السلطة في 1968 بقيادة أحمد حسن البكر وصدّام حسين، لكنْ بدل الطائفة العلويّة والمنطقة الساحليّة الغربيّة في سوريّا حلّت الطائفة السنّيّة ومنطقة المثلّث السنّيّ، لا سيّما منه مدينة تكريت، في العراق.

بطبيعة الحال، لم ينطلق حافظ الأسد وصدّام حسين في ما فعلاه من الصفر. فما أقاماه إنّما بني على التاريخ الحديث للبلدين، خصوصاً منذ استقلالهما، حيث لم تتحقّق أيّ وحدة وطنيّة تتعدّى اللفظيّة والرموز إلى روابط جدّيّة مادّيّاً وثقافيّاً، كما كانت الانقلابات العسكريّة المتواصلة، والمعبّرة عن ضعف الإجماعات الوطنيّة، تعيق أيّ استقرار يتيح للسلطة أن تستقرّ وتتوطّد.

في المقابل، لم يقم نظام عسكريّ في لبنان، وكان واضحاً على الدوام أنّ هذا البلد – وبفعل توازناته الطائفيّة – لا يمكن أن يُحكم بقبضة العسكر. فقد تبيّن هذا مع فشل المحاولة الانقلابيّة التي نفّذها القوميّون السوريّون في اليوم الأخير من عام 1961، ثمّ مع فشل المحاولة الأخرى التي نفّذها، في 1976، الضابط عزيز الأحدب. مع هذا فالمعادلة السوريّة – العراقيّة تصحّ أيضاً في لبنان، ولو ارتبطت بنظام ينطوي على قدر لا يُستهان به من الحرّيّات والحياة الحزبيّة: ذاك أنّ التماهي الذي نشأ هنا هو بين النظام الطائفيّ وسلام المجتمع واستمراره. وفي هذا المعنى بات اشتغال النظام الطائفيّ شرطاً شارطاً لتجنّب الحرب الأهليّة المفتوحة كما لتجنّب الحكم العسكريّ.

والحال أنّ النظام المذكور يشبه النظامين البعثيّين في سوريّا والعراق في أنّه، هو الآخر، يقدّم تعويضاً زائفاً ووهميّاً لفقراء الطوائف ومهمّشيها المقصيّين عن السلطة الفعليّة والمُعانين لسوء توزيع الثروة.

إلاّ أنّه يشبههما في أمر آخر مفاده قوّة النظام: لكنْ إذا كانت تلك القوّة صريحة وجلفة في دمشق وبغداد، فإنّها ناعمة وملساء في بيروت.

وقد يكفي تدليلاً على القوّة هذه أنّ ذاك النظام استطاع أن يكيّف ظاهرة في ضخامة الثورة الفلسطينيّة، في الستينات والسبعينات، بحيث غدا المسلّحون الفلسطينيّون “جيش المسلمين في لبنان”، بحسب تسمية شهيرة، ثمّ استطاع أن يكيّف ظاهرة في ضخامة حزب الله الذي تحوّل، وقد “تلبنن”، إلى أقوى فصائل النظام المذكور ومصالحه.

واليوم إذ يبدو هذا النظام عاجزاً عن تلبية أبسط مطالب المواطنين، أي حلّ مشاكل النفايات والكهرباء، فإنّه يبدي قدرة مدهشة على طحن القضايا وإعادة تدويرها طائفيّاً. وهنا تحديداً تكمن محنة اللبنانيّين الذين لا يريدون الذهاب إلى حرب أهليّة، إلاّ أنّهم ما عادوا يطيقون العيش في ظلّ نظام ساقط وتافه وعاجز، غير أنّه، لشديد الأسف، قويّ جدّاً.

 

 

 

محاولات متظاهر فاشل/ حـازم الأميـن

على المرء أن يُمارس قدراً هائلاً من ضبط النفس إذا ما قرر المشاركة في تظاهرات وسط بيروت، وذلك تجنّباً لقرار حكيم يتخذه بمغادرة التظاهرة والعودة إلى المنزل.

فالمشاركة نوع من التهوّر، وتمرين على مدى قدرة المرء على أن يتجاوز نفسه. نفسه التي مضى عليها عقود طويلة لم تألف خلالها أن تشارك في تظاهرة إلى جانب شربل نحاس ونجاح واكيم وزاهر الخطيب… وعصام نعمان، نعم عصام نعمان! هل تذكرونه؟ كان إلى جانبنا بالأمس في التظاهرة.

عليك أن تجيب المنادي الذي في داخلك بعبارة: لا بأس، فقد سبق لنفسك الكريمة أن جاورت شخصيات مشابهة في النصف الآخر من المجتمع ومن الطائفة. وعليك أن تُنبهها بأن لا تكون أمّارة بالسوء، وأن صديقيك روجيه عوطة وعليا كرامي يراقبانها. ثم عليك أن تستعين عليها بخيباتك من “14 آذار”. الخيبات التي بدأت تتراكم منذ اليوم الأول من التظاهرة ومن تشكّل هذه الجماعة.

أنت الآن تتظاهر ضد نفسك، وضد انعدام أخلاقك، وهذا تمرين قاسٍ عليك أن تمارسه، وأن تعتبره نوع العقاب الذي لا بد منه لكي تستعيد توازناً أفقدتك إياه الخيبات.

لكن يا أيتها النفس “غير المطمئنة” والهاربة من صاحبها، إلى أين تتجهين؟ إلى نجاح واكيم وشربل نحاس وزاهر الخطيب؟ كم يبدو حظِك عاثراً. فها أنتِ هاربة من صبية غازي كنعان إلى صبية رستم غزالة… رحمهما الله!

“التظاهرة ليست هؤلاء أجابت ريان ماجد. عليك أن تُشيح بوجهك عنهم”. وها أنا قد أشحت بوجهي عنهم، فشطبت وجهي لافتة عُلّقت باسم المجتمع المدني تدعو إلى “حكومة عسكرية” انتقالية تتولى تنظيم انتخابات نيابية تعقبها انتخابات رئاسية… فحكومة جديدة. واللافتة غير موقعة من قبل التيار العوني.

قد تساعدك على ضبط نفسك أثناء تجوالك في أنحاء الاعتصام رائحة الصفقة الفاشلة المنبعثة من السراي القريبة، والجدار الغبي الذي باشر رجال الأمن بإزالته.

تحضرك في هذه اللحظة تجربة فشل مشابهة. في 14 آذار 2006، أي بعد مرور عام واحد على مشاركتك في التظاهرة الأولى، قررت أن تشارك على رغم أن القناعة كانت تعرضت لاهتزازات جوهرية. حينها كان من بين المتظاهرين من رفع صوراً لصدام حسين، ومن بينهم أيضاً من كان يهتف “الدم السنّي عم يغلي يغلي”. حينها غادرت التظاهرة وكتبت التزاماً بأن لا تشارك في المرة المقبلة. وحينها أيضاً جاء من يقول لك أن هؤلاء ليسوا كل التظاهرة. لكن السنوات اللاحقة والتظاهرات اللاحقة لم تساعدهم بما يقولون.

 

لا شك في أن المشاركة اليوم تنطوي على عنف ممارس على النفس يفوق العنف الذي مارسته القوى الأمنية على المتظاهرين. لكن لا بأس أيها المواطن الجديد. استمر في التقدم، ففي نهاية الجمع، هناك في محيط التمثال يقف من يشبهك. في وجوههم مخاوف تشبه مخاوفك. ناشطون خائفون من محاولة ميشال عون، وبمساعدة من أنصار “حزب الله” في التظاهرة، أكل التحرك وتوظيفه في خطته للوصول إلى كرسي الرئاسة عبر فراغ ناجم عن احتمال سقوط الحكومة.

أنت الآن بين خوفين. الخوف من الصفقة في السراي، والخوف من فراغ يملأه ميشال عون. أي من الكارثتين عليك أن تختار؟

ديما كريم قالت لي إنها لا تعتقد أن العونيين سيتمكنون من ابتلاع التظاهرة، وأن الناشطين طردوا الوزير العوني الياس بو صعب عندما جاء للمشاركة.

لا بأس إذاً سأصدّقها.

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

إيران تجهض «ثورتي» بغداد وبيروت/ حسان حيدر

عندما زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف كلاً من بغداد وبيروت قبل فترة قصيرة، تحدث عن استقرار العراق ولبنان، لكنه كان عملياً يعني «استقرارهما» في أيدي حلفاء إيران، أي «حزب الدعوة» و «حزب الله» اللذين يهيمنان على القرار في هذين البلدين، بما يتماشى مع توجهات طهران الإقليمية والدور الذي تسعى الى تعزيزه في المنطقة بعد انجاز الاتفاق النووي مع الأميركيين.

وهكذا تكرر السيناريو ذاته في العاصمتين: أزلام إيران ينقضّون على تحرك شعبي شعروا بأنه يهدد هيمنتهم وتفردهم بالقرار، ولأسباب غير تلك التي يعلنونها.

ففي بيروت، خرج متظاهرون مسالمون السبت الماضي بأعداد متواضعة قاربت عشرة آلاف شخص بحسب المنظمين، وهو رقم لا يوحي بالقدرة على «انقلاب»، ويفترض ان لا يخيف المسؤولين السياسيين والأمنيين اذا ما قورن بحجم التظاهرات المليونية التي خرجت في عز الانقسام بين فريقي 8 و 14 آذار. لكن الذي جعل فرائص وكلاء الايرانيين ترتعد، كان ان هؤلاء المتظاهرين عابرون للطوائف والمذاهب، ونجحوا في إلغاء القواطع المرسومة بدقة وعمق بين المكونات اللبنانية، وتوحدوا تحت شعار محاربة الفساد مطالبين فقط برفع الإهمال والغبن اليوميين اللذين يفتكان بعيشهم.

استطاع التحرك على بساطته ان يضع الطبقة السياسية كلها في قفص الاتهام فلا يفرق بين ممثلي طائفة وأخرى، بمن في ذلك «شيعة ايران» الذين اكتشفوا ان المتظاهرين العفويين قد يشكلون، بسبب مطالبهم المحقة وتعبيرهم عن سخط اهلي محتدم، نواة لحركة أوسع لن يستطيعوا استيعابها، ولهذا جاء قرار مواجهتهم بعنف شديد فاق التوقع. لكن التعاطف الشعبي الذي نالوه بعد تفريقهم بمدافع المياه والهراوات والرصاص الحي، أحرج أهل السلطة، وضاعف مخاوف «حزب الله» من انهيار الجدران النفسية التي يرعاها بين اللبنانيين وتخدم استئثاره بطائفته وبالبلد كله.

وكان أن أرسل في اليوم التالي عصابات تأتمر به لافتعال مناوشات مع قوى الامن وحرف التظاهرة عن سلميتها وعفويتها وشمولية مطالبها، فأطلق هؤلاء الشعارات الطائفية، وحطموا واجهات المحال التجارية وإشارات السير، في تجسيد لحقد قديم على بيروت ووسطها التجاري الذي يمثل جزءاً من إرث رفيق الحريري واتفاق الطائف. ولم يسلم ضريح الراحل من اساءاتهم، وهم المُتهمون بدمه.

وفيما الحركة المطلبية السلمية تجهد للحفاظ على زخم تحركها وانقاذه من الغوغاء التي استولت عليه، وإعادة تأكيد هويتها الأهلية الجامعة، عطل وزراء الحزب ووزراء حليفه ميشال عون جلسة الحكومة التي كان يفترض ان تعالج بعض المطالب الشعبية الملحة، ملوحاً بالنزول الى الشارع، وهو أمر يجيده، وتاركاً التحرك الشعبي في بلبلة وحيرة.

وفي بغداد، ألمّ الجزع نفسه باتباع إيران عندما انطلقت تظاهرات شعبية شارك فيها سنّة وشيعة ومسيحيون، وخلت شعاراتها من السياسة، مقتصرة على مطالب وقف الفساد والهدر وتأمين الكهرباء، وقفزت بعفوية فوق الطائفية التي تكرسها الاحزاب الايرانية الهوى وتعمل على قوننتها وتأبيدها.

وبدت اللحظة سانحة لرئيس الوزراء العبادي لتصفية الحسابات داخل «حزب الدعوة»، فركب موجة «الاصلاحات» وحاول الإطاحة بسلفه وخصمه المالكي الذي لا تزال له يد طولى في مؤسسات الدولة وأجهزتها، لكن طهران التي لم تستسغ الانشقاقات في صفوف حلفائها الأقربين سارعت الى ارسال قاسم سليماني للجم العبادي واستيعاب التحركات الشعبية. وتجول رجل «الحرس الثوري» القوي في سوق كربلاء في تأكيد لأولوية المرجعية الايرانية السياسية والمذهبية، وسيادة قرارها في الشأن العراقي. ولم تتأخر مواقف الأحزاب الشيعية العراقية الموالية لطهران في الظهور تباعاً، ساعية الى استعادة زمام الأمور من الشارع الذي توحّد في غفلة منها، وانبرى بعضها يدافع عن المالكي ويحد من اندفاعة العبادي، وسارع آخر الى محاولة تجيير التظاهرات لمصلحته عبر دعوة تياره الى المشاركة الكثيفة فيها.

في العاصمتين اللبنانية والعراقية، نجحت ايران في اجهاض تحركين عفويين هددا بكسر هيمنتها عبر إزالة التقسيمات المتعددة المستوى التي يستخدمها حلفاؤها لرسم موازين القوى والإمساك بالقرارات، ولم تستطع العفوية الشعبية الصمود في وجه آلتهم الحزبية وعنفهم وخبثهم. وأثبتت ايران انه عندما يتعلق الأمر بخطر يحيق بنفوذها، سرعان ما تنسى تصريحات مسؤوليها الواهية عن «فتح صفحة جديدة» في سياستها الاقليمية.

الحياة

 

 

 

لبنان: النظام سيّس التحرك/ حسام عيتاني

عاين اللبنانيون مرة جديدة في أزمة النفايات المتفاقمة، الارتباط الوثيق بين السياسة وبين الشأن الحياتي والادارة العامة.

حصر منظمو التحرك المطالب بحل الازمة، مجموعة «طلعت ريحتكم»، دعوتهم بحل من ضمن آليات العمل الحكومي ومؤسسات الدولة. عندما فاجأهم رد القوى الامنية القاسي في ليلة تظاهرتهم الكبيرة الاولى (السبت 22/8) افلت منهم شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» كمن تفلت منه شتيمة مقذعة في لحظة غضب. تراجع المنظمون عن الشعار لكن «النظام» لم يقبل التراجع ولا الاعتذار وأبى إلا ان يحضر بقوته العارية خصماً مباشراً للمنظمين، الذين اسقط في ايديهم فأعلنوا في اليوم التالي انسحابهم مدة اسبوع من الشارع.

لا مزاح اذاً مع «النظام» الذي يأخذ كل تحرك من خارج آلياته وانقساماته الداخلية على محمل شديد الجدية ولا يتأخر عن قمعه وتمزيقه واختراقه بكل الوسائل الممكنة. ادرك القائمون على النظام منذ اللحظات الأولى للتحرك طابعه الشامل واستحالة الفصل بين المطلب الحياتي بتنفيذ الدولة أقل واجباتها برفع النفايات وبين السؤال السياسي حول مستقبل النظام المأزوم والقلق.

لوم المنظمين لرفعهم شعارات سياسية جاء الرد عليه من «النظام» نفسه في اليوم التالي، عندما كشفت المناقصات التي أجريت للشركات الراغبة في جمع النفايات عن التداخل العضوي بين السياسيين الممثلين في الشركات عبر وكلائهم وبين الفساد المتمثل في أسعار خيالية لعمليات الجمع. الشركات تتولى الجمع فقط من دون المعالجة التي ستبقى مسؤوليتها على الدولة. أي ان الشركات – السياسيين سيحصلون على لبّ الثمرة المفيد ويرمون قشرها للدولة لتتولى حل مشكلة التخلص من النفايات وهي صميم الأزمة الحالية، بسبب الافتقار الى الاماكن المخصصة للطمر او الحرق او المعالجة الحرارية.

لا فكاك من ارتباط الشأن المعيشي البسيط في لبنان، بالشأن السياسي. ولا فكاك من ارتباط السياسة بالفساد وبنهب المال العام. ومن يقرأ دستور ما بعد اتفاق الطائف يرى بجلاء أن مأسسة النفوذ الطائفي أعمق من ان تترك مسألة خارج سيطرتها، فما بالك في مسألة تدر عشرات ملايين الدولارات على المتنفذين والسياسيين من كل الانتماءات والطوائف الكريمة؟

فضيحة فض المناقصات كانت أكبر من ان تحتملها الحكومة رغم تورط اعضاء بارزين منها في فصولها. ألغت الحكومة المناقصة لتصطدم من جديد بجدار النفايات الأكثر ارتفاعاً من ذلك الذي نصبته ليوم واحد امام مقرها في وسط بيروت.

الكارثة تتلخص في وقوع ازمة النفايات على ازمة النظام برمته، وفي اصرار الجماعة السياسية الحاكمة على التمسك بأساليبها في تقاسم العائدات وتوزيع الحصص بعيداً عن أي رقابة. مجلس النواب الذي يفترض ان يمثل الشعب، معطل وشمله التقاسم السلطوي منذ زمن بعيد ولم تعد له قيمة تذكر في الرقابة على السلطة التنفيذية. كذلك الأمر بالنسبة الى هيئات المحاسبة الرسمية المفترض بها الحفاظ على انتظام العمل الاداري. تقاسم مؤسسات الدولة افضى بها الى «توازن رعب» يشلّ كل عمل اصلاحي بذريعة انه موجه ضد هذه الطائفة او تلك والمحسوبين عليها.

عليه، تبدو الأمور مقلوبة. فليس المنظمون من «سيّس» التحرك وطرح شعارات اكبر من قدرته على تحقيقها. بل أن «النظام» تدخل بوسائله المعروفة للحيلولة دون تغيير آليات الحكم على رغم تهالكها وتفككها اليومي، تماماً مثلما تتحلل النفايات تحت شمس آب (أغسطس) الحارقة.

الحياة

 

 

 

زبالة لبنان و «الشراكة» الإقليمية/ وليد شقير

يختلط الحابل بالنابل في لبنان، بين الأزمة السياسية التي عنوانها الرئيس الشغور الرئاسي، والذي يختزل عناوين وعوامل لا تحصى، وبين الحراك الشبابي الاحتجاجي على أزمة النفايات، والذي تدحرج وكبر مثل كرة الثلج ليشكل تعبيراً عن سخط المواطن اللبناني العادي على فساد الطبقة السياسية وعجزها واستئثارها بمقدرات البلاد من طريق المحاصصة الطائفية البغيضة، والتي تبرر آلياتها لفريق من هذه الطبقة شل المؤسسات وتعطيلها.

لكن هذا الاختلاط يبخس الحركة الاحتجاجية الشبابية أحقيتها في الاعتراض والتظاهر ورفع الصوت إزاء التدهور الذي أصاب الأوضاع المعيشية للمواطنين، الذين تراجع مستوى حياتهم اليومية وخدمات الدولة التي يفترض أن تقدمها لهم، وصولاً إلى إغراقهم في النفايات وتحويلهم إلى قبائل تتزاحم على رفض مناطقهم استقبال الزبالة حتى تلك التي ينتجونها في منازلهم ليرموها على مناطق أخرى. هذا التردي أصاب القطاع الاقتصادي الخاص نتيجة تفاقم الأزمة السياسية والقلق من تراجع الأمن بفعل فتح الحدود مع سورية الذي استجلب التنظيمات الإرهابية والنازحين بمئات الآلاف منها ليقاسموا اللبنانيين الخدمات والعمل، بحيث ضاقت بهم سبل العيش وازدادت أسباب البطالة نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي، فكبر جيش العاطلين عن العمل. وهي عوامل تجعل انضمام المواطنين العاديين إلى الحركة الاحتجاجية المنبثقة من المجتمع المدني، مفهوماً ومنطقياً، خصوصاً أن بين المنضمين إليها من ينتمون إلى أحزاب وزعامات طائفية هي أصل العلة التي أطلقت الاحتجاج الشبابي. وعلى رغم الاعتقاد بأن النظام الطائفي سيعيد من انضموا للحركة الاحتجاجية، إلى كنف الزعامات التقليدية، فإن التمرد الذي دفع منتمين إلى هذه الزعامات للمشاركة في الاحتجاج، لا بد من أن ينشئ بالتراكم، قلة فاعلة ستنسلخ عن هذا الولاء الأعمى، على رغم قول رئيس البرلمان نبيه بري قبل أيام أنه «لولا الطائفية في لبنان لكان المحتجون سحبونا من منازلنا»، مبرراً للمحتجين تحركهم، ومتوقعاً أن تحول غلبة الانتماء الطائفي دون أن تكتمل ثورة الناس على زعاماتها.

لا يُنقِصُ سعي قوى سياسية وطائفية إلى ركوب «الانتفاضة» القائمة، ومحاولة توظيفها لخدمة أهداف هذا الفريق أو ذاك من أطراف أزمة الرئاسة اللبنانية، من براءتها حيال تلك الأهداف، التي لها أبعاد إقليمية. ولا تقلّل محاولة التوظيف هذه من معقولية وصف البعض ما يجري بأنه «ربيع بيروت» مصغر، أو تشبيه الـ «ميني انتفاضة» بتلك التي شهدها العراق خلال الأسبوعين الماضيين، على رغم الفروقات بين ظروف البلدين وفي الأحجام السياسية والاقتصادية. ولا تكفي الحاجة إلى أن يوحّد الشباب المحتجون قيادتهم وشعاراتهم بحيث تكون واقعية وتجمع أوسع شرائح من المجتمع، أنهم يستندون إلى أسباب جوهرية وموضوعية منزّهة عن مصالح الطبقة السياسية.

إلا أن الخيط الرفيع الذي يحتم التداخل بين تلك الحركة الاحتجاجية المستقلة وبين عوامل الأزمة السياسية التي يلخصها الشغور الرئاسي وما استتبعه من شلل في المؤسسات، يبقى قائماً لأن بإمكان الفرقاء الذين ينوون ركوب الموجة أن يجعلوا من انضمامهم إليها ومصادرة شعاراتها، على رغم أن بعضها كان موجهاً ضدهم، منصّة تحرفها عن أصولها.

فمن اتخذ قرار شلّ السلطة المركزية في لبنان، عبر الحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية، إذا لم يضمن مجيئه من توجه إقليمي معين، وضع في حسابه إمكان استغلال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والتباينات على تفسير الدستور، من أجل الحؤول دون أن يتصدى ما تبقى من هذه السلطة لتلك المشاكل لإغراقه فيها. وإذا كان المخفي وراء الشغور الرئاسي هو الصراع على من يملك القرار في لبنان، في إطار الصراع الإقليمي على النفوذ قبل الاتفاق على النووي وبعده، فإن رفع شعار «الشراكة» في اتخاذ القرار داخل الحكومة اللبنانية، بعد تعطيل اتخاذه ومعالجة أصغر المشاكل وأكبرها، سواء كانت تتعلق بالنفايات، أو بعلاقات لبنان الإقليمية، يصبح حافزاً لركوب التحركات الاحتجاجية في ظل الفوضى التي تدب في البلد على كل المستويات، بعد أن غاب الانتظام العام للحياة السياسية ودور الدولة في تنظيم شؤون المجتمع.

هكذا، يمكن أن تصبح قضية «الزبالة» في الشوارع وما تطلقه من تفاعلات، جزءاً غير مرئي من مرحلة الصراع على تقاسم النفوذ في لبنان، في مرحلة ما بعد الاتفاق على النووي، على الصعيد الإقليمي.

علمتنا مرحلة الوصاية السورية، وأي وصاية في أي بلد، أن من وسائل ترسيخها ترك السلطة فيه تغرق في المشاكل الحياتية والمعيشية والسياسية، حتى إذا احتاجت إلى مساعدة في معالجة تداعياتها، دفعت ثمناً مقابلاً في السياسة… وشعار «الشراكة» هو حصان هذا الثمن، والمساهمة في الفوضى احدى وسائلها.

الحياة

 

 

 

 

 

 

المندسّون» في الشراكة اللبنانية/ زهير قصيباتي

ابتسم أنت في لبنان. كل ما عليك أن تفعل أن تتحسس رأسك حيثما حَلَلْت. فالغليان بات طليقاً. احصِ ما في جَيْبَيْك ليوم «عصيان» يهدِّد به طرف سياسي، ملوِّحاً بورقة «الشراكة» وأصولها وفروعها… ومهدِّداً بعصا الشارع.

ولكن أليس الشارع للمجتمع المدني؟

واحد من التفسيرات لشغب المولوتوف في ساحة رياض الصلح في قلب بيروت، يجدر أن يتوقف عنده أصحاب الحراك الشعبي- الاجتماعي الذين اعتبر بعضهم أنه سينعى في تظاهرة السبت المقبل نظاماً سياسياً عفِناً، حطّم أحلامهم وثقب جيوبهم، وأغرقهم بظلام الأزمات المتناسلة منذ نحو 15 سنة. يعتبر أصحاب نظرية «مؤامرة» الساسة من كل الألوان، أن الشارع صودر على أيدي كل القوى السياسية والأحزاب التي تتبادل الركلات على أجساد اللبنانيين، كلما سنحت لها فرصة، لإثبات الوجود وترميمه… وما إن لاحت ملامح انتفاضة الغضب لدى الشباب اللبناني حتى تملّك الذُّعر تلك القوى من إمكانات تفلُّت خيوط اللعبة من أيديها.

بلد التعدُّدية والحريات سُجِن في ظلام العتمة، وروائح الصفقات السياسية أشد من عفن النفايات، وطاعون أزمتها الذي حوّل قلب العاصمة مسرحاً للفوضى، وشغب «طارئ» أولى نتائجه إشاعة شبهات التطرُّف حول الشباب، ومحاولة حرق قلب بيروت بذريعة الاقتصاص من السلطة، وأداتها الأمنية.

وإن كان السؤال البديهي هو لماذا الإصرار على الاعتصام والتظاهر أمام السراي الحكومي، حيث يقتنص «المندسّون» المشاغبون ذريعة لافتعال مواجهات مع قوى الأمن، قد تقود لبنان إلى الفوضى… فالسؤال- المفارقة الذي أثاره انسحاب وزراء «حزب الله» و «تكتُّل التغيير والإصلاح» (بزعامة ميشال عون) من جلسة الحكومة الثلثاء، هو عمّا وراء تجديد التكتُّل اتهام رئيس الحكومة تمّام سلام بتنفيذ انقلاب على الشراكة، وبالمسّ بحقوق الوزراء المسيحيين. وبعيداً من التفاصيل، إذا كان التوافق معطّلاً في مجلس الوزراء، فلماذا يكون التصويت بالأكثرية محرَّماً؟ أي هدف للحزب والتكتُّل، فيما تتكرر إشارات إلى دخول لبنان مرحلة اضطراب، تمهيداً لفرض «مؤتمر تأسيسي»، يطيح اتفاق الطائف، ويرسي نظاماً سياسياً بديلاً؟

قراءة أزمة النفايات وتداعياتها تتعدّى المطامر إلى المآرب، بصرف النظر عن المطالب المشروعة للمتظاهرين الذين يصرّون على انتزاع بصيص أمل بالتغيير. فما النفايات إلا آخر أزمات البلد المعطّل، على وقع جرِّه إلى مستنقع الحرب السورية. كان الهمّ الأول «التصدّي للتكفيريين» ومنع تسلُّلهم إلى لبنان. بدا أن «حزب الله» أقنع قاعدته الشعبية بأنه يدافع في سورية عن الداخل اللبناني، وبدا واضحاً رهان خصوم الحزب على تورُّطه بالحرب التي طالت.

الخارج من الداخل إلى الهجرة يتخلص من الجحيم. إنه جحيم الظلام والفقر والبطالة، وطاعون صفقات تفشّى بأزمة النفايات.

ابتسم أنت في لبنان. في الجرود «تكفيريون»، في العاصمة «مندسّون»، وشباب متّهمون بتلقّي دعم من سفارات، قد يُلامون لأن المعركة في سورية «أولوية»، وأيهما أهم: التصدّي للإرهابيين أم البحث عن ملذات التنعُّم بالكهرباء والمياه، والتخلُّص من النفايات؟ هل يُعقل أمام «المصالح الكبرى» الوطنية والإقليمية، أن يتلهّى اللبنانيون برفاهيتهم، متناسين أن المرحلة هي لدحر الإرهاب، وليست لإنقاذهم من عوز «طارئ»، ولا حتى للتفكير في حماية صحّتهم وبيئتهم، أو تأمين فرص عمل لشبابهم لكي لا ينجرفوا إلى فخ التطرُّف؟ إنه طاعون الفراغ في الجدار الضخم الفاصل بين جيل الشباب اللبناني، وأجيال طبقة سياسية تدير معاركها الصاخبة في وادٍ بعيد من حقوقه وتطلُّعاته. صحيح أن الرهان صعب على صمود تحرُّك شعبي «نظيف»، لا تديره الأحزاب من وراء الستار، لكنّ الصحيح أيضاً تبعاً للقاعدة اللبنانية أن كل طرف قد يتّهم الآخر بما يعدّه هو، على طريق «الانقلاب».

أزمة «النفايات السياسية» في لبنان، تفتح الباب لمرحلة مغايرة، يرى فيها بعض خصوم «حزب الله» مدخلاً لنسف اتفاق الطائف، بذريعة «تصحيح» الشراكة… الفوضى ذريعة، قد تستبق تسويات إقليمية، ولـ «الانتصار» في سورية ثمن.

وكما في كل أزمات لبنان، المحاصصة وباء محصّن، جاهز لأي شراكة. بعد حرب تموز (يوليو)، أُرسِيت صيغة معدّلة للشراكة محصنة بالثلث المعطّل، والتوافق المرّ. تعطلت المؤسسات، انكسر اللبنانيون في العتمة والفقر، لدى «حزب الله» ممنوع كسر الحليف العماد ميشال عون.

بعد حرب سورية، أو التسوية المقبلة لتجميدها، أي فريق في الشراكة اللبنانية المطلوبة، سيكون قابلاً للكسر؟

الحياة

 

 

هل ما يُدبّر تحت طاولة التحرّك الشعبي؟/ روزانا بومنصف

ثمة اقرار بأمرين يكاد يجمع عليهما السياسيون من مختلف الاتجاهات: احدهما ان التحرك الشعبي الذي انطلق في ساحة رياض الصلح بسبب موضوع النفايات هو موضوع محق بحيث تسابق واضطر الجميع الى تبني الصرخة التي اطلقها الناس ولو صاحبها استغلال سياسي وترهيب امني فضلا عن ترهيب شارعي من بعض الجهات حاولت توظيف التظاهرات المطلبية اما من اجل تخريب وسط العاصمة او من اجل توجيه رسائل سياسية في اتجاهات معينة. ويقول احد الوزراء بان القضية محقة في حين ان محاميها كان فاشلا نتيجة خطأ تداخل الشعارات ببعضها وتضييعها عن اهدافها فضلا عن سوء التنظيم الذي ادخلها في متاهات حساسة. والاقرار الآخر ان الحكومة ارتكبت اخطاء جسيمة في فترة زمنية قصيرة جدا لا تتعدى الايام القليلة ان في مقاربة ملف النفايات التي اظهرت فيه تخبطا وعشوائية لا تختلف عن تخبط المتظاهرين في ساحة رياض الصلح او في الملف الامني المتصل بهذه التظاهرات. يضاف الى تخبطها في الخلافات السياسية بين مكوناتها تحت عناوين دستورية تتصل بآلية مجلس الوزراء في حين ان المطالب الحقيقية في مكان آخر ولو ان موضوع الآلية بات عنوانا خلافيا انضم اليه “حزب الله” تضامنا مع حليفه العوني. وهذا لا يخفي تخبطا في المقابل في كل من فريقي 14 و8 آذار ولو تم السعي الى لملمته نسبيا في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء بتضامن المردة والطاشناق الى جانب “حزب الله” مع التيار العوني في مقاطعة الجلسة الاخيرة. في حين برز فاضحا تخبط كتلة المستقبل في المساعدة لمعالجة موضوع النفايات وارسالها الى منطقة عكار ما استفز نوابها اعضاء الكتلة الذين تصرفوا بدورهم بانفعال بالغ.

على رغم انطلاق مساع في اليومين الاخيرين لإيجاد تسويات تحفظ ماء الوجه للجميع وتستوعب مطالب التيار العوني فتحول دون مساعيه لتوظيف موجة التظاهرات المدنية المرتقبة يوم السبت ضد ما يقول انها “الاكثرية الحاكمة” وكذلك مساعي الحزب الذي تعهد بدعم حليفه في الشارع ولو انه يعلن حرصه على عدم سقوط الحكومة، لا اطمئنان فعلياً او كلياً الى عدم وجود نيات مضمرة او اجندات خفية محلية واقليمية من وراء التظاهرات المرتقبة. فالدلائل كانت كثيرة وواضحة أظهرت تورط افرقاء متصلين بفريق 8 آذار ولو نفى الحزب ذلك في محاولة استفزاز القوى الامنية ومحاولة اشعال وسط بيروت. ينطلق السؤال البديهي بالنسبة الى اصحاب الشكوك من واقع الى اين يريد “حزب الله” وحليفه العوني الوصول في هذه التظاهرات؟ هل هي للضغط على الحكومة بسبب المراسيم التي وقعت ام هي تغيير الآلية المعتمدة في مجلس الوزراء او الى ما قد يدفع بالرئيس تمام سلام الى عدم القبول به ما يؤدي الى استقالته ما يفتح الباب امام احتمالات مختلفة ؟ فاذا كان من هدف حقيقي لتظاهرات يستفيد منها من قوة حليفه في الشارع فانما يفترض ذلك وجود هدف اكبر ليس بالتأكيد الفوضى الشاملة بل قد يكون محاولة الضغط من اجل انتخاب عون رئيسا بعدما يئس من امكان التوافق سياسياً على انتخابه وتالياً السعي الى قلب الطاولة من اجل محاولة تحقيق ذلك وانتزاعه قسرا تحت وطأة ضغوط دولية تمارس من اجل منع الذهاب الى فوضى كبيرة. في موازاة ذلك ليس خافيا الربط الذي تحدثه مصادر عدة بين ما يجري في المنطقة وانعكاسه على لبنان وحتى بين ما يجري في ايران نفسها بين التيار المتشدد والتيار الاقل تشددا الممثل بالرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف الذي زار لبنان اخيرا. فلبنان من ابرز من يعاني من كل العوارض التي تلم بدول المنطقة وصراعاتها. ومع ذلك فان هناك من لا يستبعد على رغم الاعتقاد بجدية ان الحزب قد لا يكون في وارد الاعداد لعملية ما تحت الطاولة بذريعة المطالب التي يرفعها عون وصولا الى الشارع بدليل مساعيه مع بعض القوى السياسية لمحاولة اعطاء زعيم التيار العوني ما يساهم في استيعابه بان الثقة غير موجودة فعلا وان الشكوك في النيات مبني على التخوف من وجود اجندات اقليمية تستخدم لبنان ايضا من ضمن استخداماتها لساحات او دول اخرى. يسأل هؤلاء هل دينامية التظاهرات ستقتصر على ما يقوم به هذا الفريق ام يفسح المجال امام دينامية مقابلة قد لا تبقي الامور ممسوكة او من ضمن النطاق المقبول على غرار الاستعدادات في المناطق التي استفزتها الشعارات ضد رئيس الحكومة او محاولة التعدي على السرايا الحكومية؟

ولا يركن اصحاب هذه الشكوك كذلك الى مساعي بعض السفراء الى تهدئة الصراع السياسي القائم تحت عنوان اولوية الحفاظ على الاستقرار في هذه المرحلة والحرص على الحكومة. فالدول المؤثرة المنشغلة بأولويات اخرى لا يقع لبنان من ضمنها ومن السهل عبر التجارب التي عاشها لبنان ان تتغاضى عن امر واقع يفرض فجأة في حال لم يتخط حدوداً حمراً معينة خصوصاً ان المسألة ملتبسة ظاهرياً ولا تقع بين “حزب الله” وتيار المستقبل او بين 8 و14 آذار بل انها بين طرف يشكل رأس الحربة فيه ظاهراً فريق مسيحي مدعوم من “حزب الله” يتصدى لفريق اكثري عنوانه رئيس الحكومة والتيار الداعم له ويضم افرقاء مختلفين. ولكن الخشية الفعلية من ان لا تصح حسابات الحقل على حسابات البيدر احيانا.

النهار

 

 

 

لسنا طوائف ولسنا دولة/ عباس بيضون

يبدو لمن يتابع يوميات السياسة اللبنانية أن الاشتباك الطائفي هو الذي يتصدّر ويحتل الواجهة من سنين طويلة والأمر هكذا. تركت الحرب الأهلية في أعقابها خيطاً دخانياً موصولاً هو السجال الطائفي. انفتح هذا السجال على وسعه وأصبح جهيراً وأوضح من دون استحياء ومن دون الإضمار الذي كان عادة يُلجَأ إليه. الآن يبدو الغبن الطائفي والمطالبة الطائفية معلنَيْن بل هما في أحيان كثيرة عمود الخطاب السياسي. حتى حين يكون الأمر بعيداً أو شبه بعيد يجري إدماجه بطريقة ما في الخطاب الطائفي. بالطبع يملك هذا الخطاب قدرة هائلة على النفاذ والإفحام، فليس غريباً أن تشكو كل الطوائف من الغبن، وليس مستهجَناً أن تكون جميعها غير مستوفية مطالبها وحقوقها. لكل طائفة مشروعية في إحساسها بالغبن، ولكل طائفة حق في أن تشعر بنقص في حقوقها. ثمّة وجه لهذا النقص وثمّة مظهر له في كل مكان ولن تتعب الطائفة حتى تجدَه. لن تتعب حتى تعثر عليه وتتبنّاه ويغدو بسرعة ركناً في خطابها. لا بدّ أن المحاصصة الطائفية لا تترك وراءها إلا شعوراً بالنقص والغبن، فليس ممكناً بعد في المماحكة الطائفية أن تستوفي كل طائفة ما تراه حقاً لها، وليس ممكناً في هذه المماحكة أن تحصل على حصة كاملة، ما دام الأمر سباقاً ومنازعة واشتباكاً، فإن الشعور بالضيم يبقى هو الحافز وهو الباعث وهو الوقود الخاص بالمعركة.

لكنّ الأمر ليس فقط بديهياً وليس بنيوياً فحسب. إذا كان واضحاً أن ليس هناك من مجال للتلبية الكاملة، وليس ممكناً أن يصل كل طرف إلى حصة وافية أو يراها وافية ما دام النقص هو المحرّض الأول، وهو بالطبع وقود المعركة. الشعور به والإلحاح عليه هما بؤرة الحياة السياسية ومادّتها. هذا بالطبع صحيح لكن التحريض الطائفي موجود وموجود بصورة كيفية. ثمّة من يتوسّلون الخطاب الطائفي لدعواتهم وللتكتيل حولهم وللتعبئة اليومية. ثمة من يجعلون من خطاب الغبن سياستهم الأولى وهم بالتأكيد مقتنعون بأن صدى هذا الخطاب مضمون، وأن اختباره فالح باستمرار، وأن رَجْعه أكيد.

هذا في الوقت الذي تتراكم فيه مشاكل لا يمكن استيعابها طائفياً. هذه المشاكل، التي تخصّ كل اللبنانيين أياً كانت طوائفهم ومناطقهم، تزداد فرادة وتزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، ولا ينجح الخطاب الطائفي إلا في تمويهها، فلا بد أن المعتصمين في ساحة رياض الصلح كانوا على حق إذ لاحظوا في البداية أن الشعب المثخَن بالتعبئة الطائفية مستعدّ للسير فيها بمئات الألوف، بينما يتوانى عن السير بالآلاف في معركة النفايات أو الكهرباء وغيرهما من المطالب التي تخصّ الجميع.

يبدو هذا مفارقاً، إذ إن ما يخصّ الطائفة، أو ما تعتبره الطائفة خاصاً بها، يستنفرها بعشرات ومئات الألوف، بينما ما يخصّ الشعب بمجموعه وما يتعلّق بحياة الكل لا يستوقف إلا نخباً قليلة. هذا ما لوحظ بادئ بدء، غير أن شعور الآلاف في ساحة رياض الصلح بتمايزهم واختلافهم وفي هذا المجال بالذات كان واضحاً وصريحاً. لقد نزلوا ليقولوا إننا لسنا أصوات طوائفنا ولسنا في الساحة لتمثيلها. لسنا طوائفنا، وهذه علامتنا الفارقة. أي أن هؤلاء يؤثرون مطالب المجتمع على مطالب الجماعة، ويقدّمون مصالح المجتمع على مصالح الجماعة. ما يهمهم جامع ومشترك، ولا تهمّهم بالقدر ذاته مطالب «الشراكة» التي تغدو مستعصية أكثر فأكثر، والتي تبدو مسدودة أكثر فأكثر ولا طاقة لها على تلبية الجماعات المتضاربة التي تصرخ جميعها متشكية مضامة. لم تعد المحاصصة الطائفية، وهي عمدة النظام اللبناني، على قدر من المرونة تستطيع بها أن تلبي، بل إن طاقتها على التلبية معدومة، فكل ضيم طائفي مشروع ما دامت المحاصصة الطائفية هي الأساس، وما دام النظام الطائفي هو النظام. وكل ضيم طائفي يقابله ضيم آخر معلَنٌ أو مستورٌ، لكن الواضح أن التنازع الطائفي لا يعني سوى تراكم المشاكل والمسائل الجامعة، ولا يعني سوى مزيد من إهمال الدولة والمجتمع وتلويثهما وتسميمهما، كما لا يعني سوى فرطهما وبعثرتهما والغرق أكثر فأكثر في الفساد والزبائنية.

ثمة سباق مضطرد بين تداعي الدولة والمجتمع وقوة الاستنفار الطائفي. لا يعني هذا الاستنفار كما يظهر اليوم سوى تسميم الحياة العامة، وتراكم مشكلاتها، والغرق في عطالتها ونقائصها.

لذا يبدو حراك الأيام الأخير حاملاً وبسرعة وجهة أخرى، فالمعتصمون والمتظاهرون يُصرّون علانية أنهم ليسوا أصوات طوائفهم، وليسوا جزءاً من استنفاراتها، وليسوا ممثلين لها. المعتصمون والمتظاهرون يجهَرون بنفي هذه الصفة، بل يعتبرون هذا النفي عنوانهم. لنقل إنها تكاد تكون المرة الأولى، بعد حرب أهلية طوائفية طويلة وفي غضون استنفارات طائفية. إنّها المرة الأولى التي تعي فيها مجموعة من اللبنانيين، تتسع باستمرار وتجذب إليها أعداداً أكبر كل يوم، تعي أن الانقسام الطائفي والخطاب الطائفي يتساوقان بشكل مضطرد مع تنامي المشاكل، ومع انهيار السلطة واختلال الدولة ومع تعميم الفساد وتفاقمه.

إنها المرة الأولى التي ينزل فيها آلاف، مرشحة للتزايد، للشكوى ليس من الدَّيْن الطائفي المتفاقم، وليس من الضيم الطائفي ولكن من مسائل وقضايا مطروحة على الدولة وعلى السلطة. مسائل وقضايا لا تخصّ زمرة طائفية ولا تخصّ عائلات طائفية ولكنْ تخص المجتمع بكامله، المجتمع الذي يُعاد اعتباره بعد أن ذاب وانحلّ طوال وقت طويل في جماعات متنازعة متصارعة متناتشة للحصص. ذلك يعني أن جزءاً غير قليل من الناس، جزءاً غير قليل وقابلاً للتزايد وله قدرة جذب أكيدة، غير مقتنع بالخطابات الطائفية وغير قابل بأطروحات لا تزال هي نفسُها من 1860 مروراً بـ1958 فـ1974 إلى أيامنا. لقد آن لبلد فيه ما في لبنان من التعليم المكثف والتعدد اللغوي والسابقة الديموقراطية والتمغرب ونمط الحياة الفريد القائم على الحريات الفردية، آن لبلد له هذا الوضع وهذه المقوّمات أن يخرج من وضع لا اسم حقيقياً له سوى التخلف والسلفية والماضوية. آن لبلد كهذا أن ينتج نخبه الخاصة المتقدمة والمعاصرة والحديثة، نخباً تدافع عن مفهوم للدولة ومفهوم للمجتمع ومفهوم للسياسة ومفهوم للحياة العامة قريبة من مستوى تعليمه وثقافته ونمط حياته. لقد آن، والحراك يشمل الجميع، أن يعرف كل اللبنانيين، أن التنازع الطائفي بات عقيماً وعقيماً جداً، والمحاصصة الطائفية مسدودة وغير قادرة على التلبية، وأن المشاكل التي تتراكم على الدولة والمجتمع هي الجديرة اليوم باهتمامنا، فليس طبيعياً أن يكون المسار في ناحية والمشاكل في ناحية أخرى.

السفير

 

 

التيار” و”حزب الله”: محاولات لسرقة الشارع وشعاراته/ نادين مهروسة

تتركز الانظار على تظاهرة السبت المقبل التي تعتزم بعض الحركات المدنية والشعبية تنظيمها في وسط بيروت، ولا شك أن التضارب في الشعارات والأهداف أخرجت التحرك من إطاره المطلبي وأدخلته في التجاذب السياسي والإصطفاف، فإنقسمت الطبقة السياسية بين مناهض علناً مثل حركة “أمل” وتيار “المستقبل”، وبين معتبر أنه جزء من هذا الشارع وشعاراته مثل “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”.

لم يكن التحرك بعيداً عن التسييس، سرعان ما استدرج المنظمون إلى الخنادق السياسية، بطريقة أو بأخرى، عبر بعض التصريحات التي بدت منسجمة بشكل كبير مع ما يطرحه “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”، بغض النظر إن كان ذلك عن قصد أم لا، خصوصاً أن السيناريو المرسوم والشعارات المطروحة، تقود الى مؤتمر تأسيسي، وهو ما ردده أكثر من قيادي في “8 آذار”، بالإضافة إلى مطالبات أخرى تتعلق بإنتخابات نيابية قبل إنتخاب رئيس للجمهورية.

التقط البعض في “التيار” و”حزب الله” نقاط التقاطع مع الشارع، وكان لافتاً المحاولات المتكررة لسرقة الحراك والشارع واستثمارهما، لا سيما منذ يوم السبت الفائت حين اعتبر رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” النائب ميشال عون أن “تحرك الشباب مبارك”، بالتزامن مع مشاركة عناصر من “التيار الوطني الحر”، وبعض رموز فريق “8 آذار”، كرئيس حركة الشعب نجاح وكيم، والنائب السابق زاهر الخطيب وآخرين.

سريعاً إنتقل “التيار” من مرحلة تفخيخ الحراك بوجوه وشخصيات معروفة، إلى مرحلة الدعوات المباشرة، عبر رموز وقيادات “التيار” التي بدت واضحة في دعوة المناصرين إلى النزول في تظاهرة يوم السبت، وسط تسريبات تفيد بأن “حزب الله” سيشارك ولن يترك “التيار” وحيداً في الشارع، التزاماً بما أعلنه مؤخراً الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله.

على صعيد الإستغلال أيضاَ، لا يمكن فصل ما سيجري السبت عن سياق الإستثمار في الضغط الذي يعتمده “التيار”، مدعوماً من “حزب الله”، على رئيس الحكومة تمام سلام، لا سيما أن هذا الضغط بالإمكان استشرافه من التصريحات التي أطلقها مسؤولو “التيار”، كالوزير السابق سليم جريصاتي الذي اعتبر أن التحرك المطلبي يسرق شعارات التيار التي أطلقها منذ سنوات، مشيراً أن التيار موجود في الشارع بالشعارات وليس بالضرورة بأشخاصه، لافتاً إلى أن هذا التحرك لا يمكن أن ينجح من دون تبنيه من قبل أحزاب سياسية لا علاقة لها بالفساد. هذا الكلام يتلاقى مع ما أكده لاحقاً النائب نبيل نقولا لجهة أنه لا يمكن للحراك الإجتماعي أن ينجح بإيصال مطالبه إلا من خلال مشاركة الأحزاب التي تتوافق مع مطالبه.

عليه، تتخوف مصادر سياسية بارزة لـ”لمدن” من إمكانية استثمار “حزب الله” لهذا الحراك من أجل الدخول في مرحلة جديدة تشبه مرحلة السابع من أيار 2008 ولكن بشكل مطلبي وليس بشكل عسكري أو عبر اجتياح، مرجحة أن تستمر هذه التحركات الشعبية من اجل إبقاء الامور متوترة. ويذهب أصحاب هذه النظرية إلى القول إن “حزب الله” يفعل ذلك تمهيداً للحصول على مكتسبات سياسية وصولاً إلى طرح المؤتمر التأسيسي في مرحلة لاحقة.

أما في المقابل فهناك وجهة نظر معارضة للسابقة تفيد بأن عدم مشاركة وزراء الحزب والتيار و”الطاشناق” و”المردة” في جلسة مجلس الوزراء هو من باب التضامن مع عون، ورفض إنكساره فقط، وترجّح أن يكون جرى إتفاق في سياق تمرير جلسة منتجة للحكومة، لكنه في المقابل لا يبدو أن التيار سيتراجع بسهولة، على الرغم من الإتصالات الجارية من أجل حلحلة الأمور، ولذلك فهو سيركز على تحرك يوم السبت المقبل في الشارع.

ويبدو أن التحرك المطلبي، وقادته أمام مسؤوليات كبيرة، وأمام تحد جديد، خصوصاً انه أعلن مراراً رفضه دخول السياسيين على الخط، ويكرر عبر مواقع التواصل الإجتماعية رفضه لمحاولات “التيار” و”حزب الله”، ويذكر أكثر من ناشط بحادثة طرد وزير التربية والتعليم العالي الياس أبو صعب مع بدايات التحرك من الشارع، لدى مشاركته تضامناً وذلك للتأكيد على أن التحرك لن يقبل مشاركة أحد من الطبقة السياسية.

وفي هذا السياق، يشير عمر ديب، وهو أحد منظمي حملة ”طلعت ريحتكم” لـ”المدن”، أن “الدعوة إلى المشاركة في التظاهرة موجهة للجمعيات المدنية والأفراد الرافضين لكل الخلل الحاصل، ونحن مع مشاركة الأحزاب ولكن تحت الأهداف الأساسية للتحرك والتي تدين الطبقة السياسية كلها، وفي حال حاول هؤلاء تحويل هذه الأهداف لمصالح سياسية فعندها سيتخذون القرار المناسب لردع ذلك”.

ويؤكد وائل عبدلله، وهو أحد منظمي حملة “بدنا نحاسب” لـ”المدن”، أن “الدعوة إلى التظاهر تطال الجميع”، وهو مع دعوة أي رئيس حزب إلى المشاركة للتأكيد أنه خارج هذا الفساد الحاصل، ولكن الأهم “تقديم الإستقالة والتنحي من المنصب من أجل التأكيد أنهم مع الشعب ومطالبه”.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى