“عن الدستور السوري المقترح” –مقالات مختارة-
«محاصصة طائفية» في «الدستور الروسي»: الرئاسة والجيش للأسد… والتشريع للحكومة و«المناطق»/إبراهيم حميدي
تضمنت المسودة الروسية لدستور «الجمهورية السورية» اقتراح نظاماً رئاسياً وبقاء بشار الأسد رئيساً لنهاية ولايته وقائداً للجيش السوري و «التنظيمات المسلحة» الأخرى مع احتمال ترشحه لولاية اخرى عام 2121، مقابل اعطاء صلاحيات تنفيذية اكبر لرئيس مجلس الوزراء وأخرى تشريعية لـ «مجلس الشعب» وأـكبر لـ «جمعية المناطق» التي تتضمن «حكماً ذاتياً للأكراد»، اضافة الى تخلي الأسد عن سلطته التشريعية والقدرة على اصدار قوانين خارج انعقاد البرلمان، وترؤسه مجلس القضاء الأعلى وتشكيل المحكمة الدستورية العليا المعدل دورها. كما ان المسودة تضمنت اقتراح «محاصصة طائفية» على مستوى كبار الموظفين في الحكومة، اضافة الى اشارة «تطبيع» مع اسرائيل، لدى اسقاط خيار الحرب من طريقة استعادة الأراضي المحتلة وفتح الباب أمام تعديل الحدود الدولية في حال جرى ذلك باستفناء عام.
كانت هذه بين الملاحظات التي خلص اليها خبراء قانون ودستور شاركوا في صوغ دستور عام 2012، في وقت انتقد معارضون هذه المسودة ووصفوها بـ «دستور بريمر» في اشارة الى الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، الأمر الذي ازعج موسكو. وأصدر عدد من الجمعيات المدنية والتكتلات السياسية وثيقة طالبت بـ «اعلان دستوري خلال المرحلة الانتقالية» يتضمن عشرة مبادئ بينها «وحدة واستقلال، وسيادة الأرض السورية(…) والتداول السلمي للسلطة وإخضاع الجيش والقوى الأمنية للسلطة المدنيَّة المُنتخَبة، وحظر الشخصيات العسكرية أو الأمنيّة العمل في المجال السياسي»، اضافة الى «إطلاق مسار متكامل للعدالة الانتقالية».
ولدى النظر في هذه المسودة، هنا تخليص لهذه الملاحظات التي حصلت «الحياة» عليها عبر البريد الإلكتروني واتصالات هاتفية ومذكرات خطية:
– معظم المسودة مأخوذ من دستور عام ٢٠١٢ المستند الى دستور ١٩٧٣، مع اضافات من دستور ١٩٥٠.
– هناك صياغات غير دستورية، كأنها موقف اعلامي مثل الفقرة ٤ في المادة ٦ ونصت على ان «سورية تستنكر الإرهاب».
– هناك إقرار بمبدأ المحاصصة الطائفية بالإفادة من التجربة اللبنانية بدءاً من عام ١٩٢٤. ولاحظ سام دلة الخبير السوري في الدستور ان الفقرة الثالثة من المادة ٦٤ تضمنت «تمسّكاً بالتمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية لسكان سورية وتُحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية».
– إشارة إلى إسرائيل والتخلي عن خيار الحرب. إذ ورد في الفقرة الثانية من المادة ٨ إن «سورية تنبذ الحرب كنمط باستقلال دول أخرى ووسيلة لحل نزاعات دولية»، وإمكانية تعديل الحدود الدولية.
– تأجيل كثير من الأمور الى اصدار قوانين تتعلق بالمجلس القضائي واللامركزية الى نتائج الانتخابات.
– اشارة الى الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تعني التمسك بالهويتين العربية والإسلامية لسورية، في وقت تضمن الكثير من العبارات والكلمات التي تتحدث عن «الحكم الذاتي الإداري» والتساوي بين اللغتين العربية والكردية.
– ترد في المادة الأولى عبارة «الجمهورية السورية»، بعد شطب «العربية».
– حذف في المادة الثالثة من الدستور الحالي من أنّ «دين رئيس الجمهورية الإسلام»، وأن «الفقة الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع».
– القسم أصبح: «أقسم أن ألتزم بدستور البلاد وقوانينها، وأن أحترم وأحمي حقوق وحريات الإنسان والمواطن، وأن أدافع عن سيادة الوطن واستقلاله وسلامة أرضه، وأن أتصرّف دائماً وفقاً لمصالح الشعب». أما القسم الحالي، فهو: «أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية».
ماهي صلاحيات رئيس الجمهورية في دستور ٢٠١٢
المادة 83 – تقاسم الصلاحيات التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
المادة 97 – يعين رئيس الجمهورية رئيس مجلس الوزراء ويعفيه من منصبه، بما في ذلك الوزراء.
المادة 98 – يضع رئيس الجمهورية السياسات العامة للدولة، والتنفيذ الخارجي.
المادة 99 – يحق لرئيس الجمهورية عقد الاجتماعات مع مجلس الوزراء وطلب تقديم التقارير.
المادة 100 – يوقع رئيس الجمهورية على القوانين التي يقرها البرلمان.
المادة 101 – يصدر رئيس الجمهورية القوانين، والقرارات، والأحكام.
المادة 103 – يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ.
المادة 105-106 ــ يتمتع رئيس الجمهورية بالسلطة المطلقة على القوات المسلحة، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة.
المادة 111 ــ يحق لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب (البرلمان).
المادة 113 – يتولى الرئيس مهمات السلطة التشريعية في حالة عدم انعقاد البرلمان أو «في حالة الضرورة المطلقة».
المادة 114 – يحق للرئيس اتخاذ «إجراءات سريعة» عند مواجهة الدولة خطراً كبيراً.
المادة 115 – يحق للرئيس «إنشاء الهيئات، والمجالس، واللجان الخاصة»
المادة 116 – يحق للرئيس إجراء استفتاءات حول القضايا المهمة
المادة 121 – رئيس الوزراء، ونوابه، والوزراء مسؤولون أمام الرئيس.
المادة 124 – للرئيس الحق في إحالة رئيس الوزراء، ونوابه، والوزراء على المحاكم في حالة ارتكابهم جرائم جنائية، وفي هذه الحالة يتم إيقاف المتهمين عن العمل فوراً.
المادة 125 (أ)– يتم اعتبار مجلس الوزراء ُمقالاً عند انتهاء ولاية الرئيس.
المادة 132 – يضمن الرئيس استقلال السلطة القضائية بمساعدة مجلس القضاء الأعلى.
المادة 133 – يدير الرئيس مجلس القضاء الأعلى.
المادة 141 – يدير الرئيس المحكمة الدستورية العليا.
المادة 148 ــ لا يحق للمحكمة الدستورية العليا مراجعة القوانين التي يقرها الرئيس بعد عرضها على استفتاء الجمهور والموافقة عليها.
مقارنة بين دستور ٢٠١٢ والمسودة الروسية:
– أعطت المسودة صلاحيات أوسع لمجلس الوزراء مع أن للرئيس الحق في تحديد «الاتجاه العام» ويشرف على تنفيذ القوانين. لكن لم يعد مسؤولاً فقط أمام رئيس الجمهورية، بل ايضاً أمام «جمعية المناطق» التي يقدم لها رئيس مجلس الوزراء «برنامج عمل الحكومة». ولم يعد كما هو الحال في دستور 2012 «رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء مسؤولون أمام رئيس الجمهورية» وحذف «حقه» بـ «إحالة هؤلاء على المحاكمة»
– على عكس الدستور القائم، فإن المسودة نصت صراحة على أنّ تعيين مناصب نواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء يكون «تمسّكاً بالتمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية وتُحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية»، إضافة إلى صلاحية «عقد معاهدات واتفاقيات تعطي الشركات الأجنبية حق الامتياز، والاتفاقيات التي تقصد نفقات إضافية غير منصوص عليها في الموازنة» و «تعيين موظفي الدولة والعسكريين وفصلهم». وأضيف إلى الحكومة صلاحيات تشريعية بحيث «يجري إصدار المراسيم على أساس القانون الذي يعطي الحكومة صلاحيات مناسبة».
– ضمن الصلاحيات الواسعة لـ «جمعية المناطق» او «جمعية (مجلس) الشعب» فإنه يحق لثلث أعضائها طرح حجب الثقة عن الحكومة او حجب الثقة عن الحكومة بغالبية أصوات الحاضرين من «الجمعيتين».
– نصت المادة 33 من الدستور الحالي «تشكيل مجلس القضاء الأعلى وأن يَرأس مجلس القضاء الأعلى رئيس الجمهورية، ويُبين القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه»، لكن المسودة ركزت على مجلس الدولة والقضاء وترك بعض الأمور.
– نصت المسودة ان «المحكمة الدستورية العليا» تضم سبعة اعضاء و «تعيّنهم جمعية المناطق»، بعدما كان يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم وفق المادة 140 من الدستور. لكن خلال المرحلة الانتقالية او في «الأحكام الانتقالية» تبقى التشريعات الصادرة سابقاً سارية المفعول إلى أن تعدل بما يتوافق مع أحكام «الدستور الجديد»، على أن يجري التعديل خلال سنة واحدة منذ تبني الدستور.
– إذ يبقى الرئيس قائداً للجيش والقوات المسلحة، وأضيفت إلى مهمته قيادة «التنظيمات المسلحة» الأخرى، (قد تعني القوات غير النظامية او اجهزة الأمن) ومهمتها انتقلت من «الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادته الإقليمية» وفق المادة 11 من الدستور الى القول ان السوريين «يؤدون الخدمة العسكرية وفقاً للقانون» بدلاً من اعتبار الخدمة العسكرية الإلزامية في المادة 46 «واجباً مقدساً تنظم بقانون». لكن المسودة قالت ان القوات المسلحة «تكون تحت الرقابة من قبل المجتمع ولا تتدخل في مجال المصالح السياسية ولا تؤدي دوراً في عملية انتقال السلطة».
– ليست هناك إشارة الى اجهزة الأمن، لكن الحديث عن «التنظيمات المسلحة» لدى الحديث عن الجيش قد تكون إشارة الى اجهزة الأمن والميلشيات.
– الفقرة الثالثة من المادة العاشرة، انه لأجل «الدفاع وحماية أمن سورية، يسمح بتشكيل قوات مسلحة وغيرها من الوحدات المسلحة».
– ان بقاء الجيش خارج العمل السياسي يدعم العملية الديموقراطية ويخفف القدرة على السيطرة على العملية. (المادة ٦٠)
– اعتمد مبدأ «التعددية السياسية» وبالتالي الأمر رهن الانتخابات بما في ذلك اصدار قانون الانتخابات بما في ذلك قانون خاص باللامركزية.. وهو رهن عملية الانتخابات وليس الحصص المسبقة.
– المادة ٥٩، يحق للرئيس اجراء استفتاء حول مواضيع مهمة.
الحياة
معركة الدستور السوري/ عمر قدور
طُوي الحديث عن مُقترح الدستور السوري الذي أعدته روسيا، مثل أي خبر آخر، مع أن طرح هذه المسودة في مفاوضات أستانة له دلالة على مشروع التسوية التي يبدو أن لدى موسكو تصوراً ناجزاً عنها، وهي في سبيلها لفرضها ما لم تلقَ ممانعة أميركية. يُشار هنا إلى أن مسودة الدستور، على ركاكتها، بدأ الحديث عنها تزامناً مع الاجتماعات التي كانت موسكو تنظّمها في قاعدتها الجوية في سوريا، وربما كانت أيضاً حصيلة اجتماعات أخرى مع أفراد أو منصات في “المعارضة” مقرّبة من الروس.
الجدل الذي رافق تسريب المسوّدة لم يلامس غالباً جوهرها، وبذلك تملص من تقديم، أو التلميح إلى، تصورات بديلة قد لا تملك قوة كافية على الأرض، لكنها تعرّي المسودة ليس فقط من باب وضعها من قبل قوة احتلال. بالطبع، ليس أحسن حالاً ذلك النقد الذي بدأ وانتهى بالاعتراض على المقترح الروسي حول علمانية الدولة، وكأن تلك الإشارة هي الخطر الوحيد من وجهة نظر الإسلاميين، بحيث يُستغنى بعدها عن أي نقاش آخر، بل كأن الإسلاميين في موقع من القوة يتيح لهم اعتبار الاقتراح غير موجود.
تعرف القيادة الروسية قبل الآخرين أن مسودتها ستلقى معارضةً من المعارضة والنظام، وهي تطرحها أصلاً كمادة قابلة للمساومة، على أمل أن تبقى الوثيقة الوحيدة المطروحة للتفاوض حول المستقبل. الحديث يتركز بخاصة على المستقبل القريب، أي المرحلة الانتقالية، ومعلوم أن هذه المرحلة قد تكون شديدة الحساسية على صعيد التأسيس لما بعدها. وأخطر ما في المشروع الروسي هو إعطاء شرعية دستورية لطرح قديم مفاده احتفاظ بشار الأسد، أو خليفته المحتمل، بالسيطرة على الجيش والقوى الأمنية، يشار إليهما نصاً بـ”الجيش والتنظيمات المسلحة!”، وكل ما تبقى من فقرات حول توزيع السلطات أو شكل الدولة لا يعدو كونه تغطية على هذا اللبّ.
هذا هو الجوهر الذي تتحاشى أيضاً المعارضة الخوض فيه، خارج عموميات الحديث عن التحول الديموقراطي وفصل السلطات. فموضوعة الاحتكار المطلق للسلطة تظهر حتى الآن شديدة التبسيط وتكاد تُختصر على النحو التالي: انقلاب البعث ومن ثم حافظ الأسد على الديمقراطية والسيطرة على مؤسسات الدولة الوليدة بقوة المخابرات والجيش، وتكاد تكفي تنحية العائلة الحاكمة وزمرتها لتعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل أكثر من خمسة عقود. هذا التبسيط لا يتحرى شكل الدولة السورية الجديد، ولا العقد الاجتماعي بين سوريين فتتهم قمع الأسدية ليظهر الانقسام جلياً منذ انطلاق الثورة.
في شكل الدولة، بقي النقاش “العلني على الأقل” متوقفاً عند إسقاط الزمرة الحاكمة، والاحتكام بعدها إلى صناديق الاقتراع. لم يحدث نقاش معمّق وموسّع حول مفاهيم الدولة المركزية أو اللامركزية، وعن تسبب الأولى منهما في كافة المجتمعات الشبيهة بالتحول إلى طغيان لا مثيل له. بقي فهم اللامركزية متصلاً بالانقسامات الطائفية أو العرقية، مع إعلان تلك الغيرة المحمومة على وحدة البلاد، وبعض الغيرة يُفهم منه نزوع إلى السيطرة قبل أي اعتبار آخر. أهم من ذلك أن حوار المركزية واللامركزية يحجب التفكير في توزيع السلطات الحساسة، فالقول مثلاً بإعادة تأهيل الجيش والمخابرات على أسس وطنية لا سلطوية هو نوع من الإنشاء، ما لم يقترن بنزع مخالبها كلياً، وبعدم حصر الإشراف عليها بأي حاكم مقبل.
لا يدخل في باب المفارقة أن يتفق قسم من المعارضة مع النظام في تصورات حول مستقبل البلاد، مع اختلافهما حول من يقود المستقبل. هذا التقارب في الرؤى يشير إلى شريحة لا تريد إسقاط النظام، أو لا تعني هذا الشعار عندما ترفعه، هي شريحة لا تملك في أحسن الظنون مرجعية سوى ما ألِفته من النظام نفسه، ولا تريد المخاطرة والتعرف على ما يخدش طمأنينتها. ولعل التخوّف من انقسامات المعارضة، فوق انقساماتها المعروفة، هو ما أعاقها عن طرح رؤية حقوقية حول المستقبل، إذ يعلم كثرٌ فيها أن اجتماعهم ينتهي عند لحظة سقوط النظام. الكلام هنا عن ترك هذه القضايا ليقررها السوريون في ما بعد، فيه ما فيه من التهرب، لأن طرح التصورات حول المستقبل يختلف عن فرضها على السوريين بالقوة.
النظام هو الذي يريد دولة شديدة المركزية، والتعديلات التي تسربت عن تحفظاته على المسودة الروسية تفيد بذهابه إلى الجوهر تماماً، فكل كلام عن علمانية الدولة، أو دين الرئيس وما إلى ذلك من إنشاء، لا تأثير له في الواقع بقدر تأثير السلطات التي يريد تركيزاً أكبر لها في موقع الرئاسة، طبعاً على أمل بقاء بشار في المنصب. الروس أيضاً يريدون تركيز هذه الصلاحيات، حتى إذا كان يضمرون تنحية بشار لصالح شخص آخر. أي نقاش لا يبدأ من هذه النقطة سيكون مضيعة للوقت يرتكبها أولئك الذين أقروا بعدم وجود حل سوى الحل التفاوضي، ففي المفاوضات لا يأخذ أي طرف كل شيء. قبول الاعتراض على العلمانية مثلاً يقتضي التنازل في بند آخر تريده الأطراف المقابلة، وتقييد السلطات المحلية للخائفين من التقسيم يقتضي تنازلاً إضافياً لأولئك الذين لا يطرحون تقييدها من باب عدم الاكتراث بهذه التفاصيل. في المحصلة، إذا جمعنا تحفظات إسلامية وعروبية من هذا القبيل، سيستنزف من يفاوضون باسم المعارضة رصيدهم في مقايضات خاسرة لجهة الإبقاء على جوهر الاستبداد، أو يغادرون قاعة التفاوض رافضين كل شيء بما لا يتماشى مع إقرارهم بالحل السياسي.
تستطيع المعارضة رفض إقرار مسودة دستور بحجة ترك الأمر إلى نهاية المرحلة الانتقالية، فقط إذا بادرت إلى طرح مسودة مبادئ دستورية تحكم المرحلة الانتقالية، وإذا كانت روحية هذه المبادئ تستند إلى الديمقراطية وعدم احتكار السلطات بدءاً من المرحلة الانتقالية ذاتها. ذلك يتطلب أن تقترن المبادئ الدستورية المؤقتة بمشروع تضع فيه تصوراتها عن المستقبل، فالاحتكام إلى السوريين لا يعني مشاركتهم فرداً فرداً في وضع الدستور، بل تأتي القوى السياسية الفاعلة بتصوراتها وتحصل مقايضات ضمن الهيئة التي يُناط بها إعداد الدستور قبل طرحه للتصويت. لا معنى على هذا الصعيد أيضاً من التبجح بأن الدستور سيكون صناعة سورية 100%، إذ ليس لدى السوريين عراقة دستورية تغنيهم عن استلهام العديد من التجارب العالمية الناجحة، وهذا بالتأكيد يختلف عن كتابته من قبل قوة احتلال.
المسودة الروسية شديدة السوء، ويماثلها سوءاً أنها أول اقتراح من هذا النوع يُطرح للعموم ويُثار جدل حوله.
المدن
دستور مرفوض/ ميشيل كيلو
هناك ثلاث ملاحظات على الدستور الذي قالت روسيا إنها قدمته للوفد السوري في مؤتمر أستانة، ونفى أعضاء وفد المعارضة تلقيه أو أنهم رفضوه.
الأولى أن الدستور حجر الزاوية في حياة الدول، وسيلعب دوراً حاسماً في إعادة تأسيس حياة سورية العامة. لذلك، لا يجوز تحويله موضوعاً للتلاعب، أو أداة بيد أي طرف غير سوري، فكيف إذا كان، كالدستور الروسي، معادياً للديمقراطية، أعز مطالب الشعب السوري، وكان يبني نظامه البديل، وبالتالي الدولة السورية الجديدة، على مبدأ الهويات الإتنية والطائفية والمذهبية والفئوية، بحمولته الفاشية والتفكيكية، ولا يبنيه على المواطنة، المبدأ الذي لا تقوم ديمقراطيةٌ بغيره. باعتماده مبدأ الهويات أساساً لإعادة تنظيم سورية، راح الدستور الروسي في اتجاه يقوّض فرص قيام الدولة التي اختارها الشعب، والتي تعترف، من موقعها المرجعي، بحقوق مكوّناتها وتكرّسها دستورياً وفي قوانينها وممارساتها، من المرجح، إنْ لم يكن من المحتم، أن يفضي تطبيقه إلى كياناتٍ هوياتيةٍ نابذة الميول وطنياً، تتبع دولة المركز لها أو تخضع لإرادتها، لتكون، دستورياً، دولةً عاجزة عن حماية نظامها العام، ضعيفةً في علاقاتها مع مكوّناتها المناطقية التي ستمتلك صلاحيات تعطيل بواسطتها قراراتٍ وطنيةٍ لمركز ليس مستقلاً عنها، على الرغم من أنها لا تتبع له إلا في مجالاتٍ محدودة وجزئية.
بدل أن يحمي الدستور المركز، نجده يعطيه ما يفيض عن صلاحيات المكونات، وبدل أن يعزّز دوره دولةً لجميع مواطنيها، ويجعل منها مرجعيةً في كل شأن وطني أو عام، وإن نسّقت مع مكوناتها في المسائل التي تتقاطع عندها المسؤوليات وتتكامل الصلاحيات. لكن الدستور الروسي يفعل العكس، من ذلك أنه يفرض على دولةٍ تريد أن تكون ديمقراطيةً نسباً، طائفية وقومية عند توزيع المناصب الوزارية، في استبدالٍ واضحٍ لنظام طائفي قائم بنظام طائفي قادم.
لو أخذ الدستور بالمواطنة مبدأً للنظام، لكانت المساوة بين المواطنين ترجمته العملية، ولما جرى تحديده بمبدأ الهويات الذي ينكرها، بينما يعترف النظام الديمقراطي بها، وبما يترتّب عليها من حقوق، ويجعل منها فضاءاتٍ وطنيةً لأتباعها ضمانات دستورية وقانونية، مساوية لما يتمتع به غيرهم. لذلك، لا تنتج التفاوت بين المواطنين عامة، ولا تغدو حواجز تقطع الشعب إلى عوالم متجاورة، لكنها لا تنتمي إلى جسدية دولوية/ وطنية واحدة، إن أعطيت حصصاً انتفى المجتمع، وعجزت السياسة عن ردم الهوّة بين مكوّناته وتداعى ما هو عام وجامع في علاقاتها التي لن ترتكز عندئذ على عقد اجتماعي/ سياسي بين الشعب والدولة، وسيستبدل بعقودٍ جزئيةٍ، يمليها كل مكوّن، تنمي خصوصياته خارج الإطار الوطني المشترك. قلت إن الدستور الروسي لا يقيم دولة ديمقراطية في سورية، وأقول الآن: إنه لن يقيم دولة.
ثانياً، يتعارض الدستور الروسي مع وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن التي وافقت روسيا عليها، وجعلت الانتقال الديمقراطي هدفاً ملزماً للعملية السياسية، عليها أن تنتهي إليه. لا يذكر الدستور هذا الانتقال في أيٍّ من بنوده. ويقرّر، نيابةً عن الشعب السوري الذي لم يفوّض واضعيه بذلك، أن نظام دولته القادم سيكون رئاسياً في كل ما يتعلق بالدولة القمعية وأجهزتها السلطوية شبه برلماني في مؤسسات الدولة الأخرى التي ستخضع لمحاصصاتٍ طائفيةٍ وقومية. لتمرير هذه الهجانة المدمرة لفرص قيام الدولة الديمقراطية، يفبرك الروس سلطاتٍ رئاسيةً، لا يحق لأحدٍ التدخل فيها، بينما تتدخل هي، في المقابل، في تعيين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، ووظائف جمعية الشعب وجمعيات المناطق، وتمتلك هي، وكل واحدةٍ من هذه المؤسسات الرسمية، حق إلغاء السلطة التشريعية عبر الحق في قيامها بـ “مبادرات تشريعية”. هذا دستورٌ يكرّس فوضى الصلاحيات وتداخلها الذي لن ينتج غير فوضى قانونية ضارية.
ثالثاً، بتجاهله الانتقال السياسي ووثائقه وقراراته الدولية، وفبركته نظاماً، رئيسه قوي ودولته ضعيفة، أطرافه جبارة ومركزه متهالك، يبعث الروس رسالتين إلى السوريين، تقول أولاهما لأهل النظام: انسوا نظامكم الحالي. وثانيتهما لأهل المعارضة: انسوا النظام الديمقراطي.
إذا كان دستور الروس لا يفي بالحد الأدنى من مطالب شعبنا، ويضعه في مواجهة نظام انتقالي معقد ومشحون بعوامل تضعف الدولة، وتشتت المجتمع، وتؤسّس فوضى صلاحياتٍ لن يستقيم في ظلها الأمر لأيٍّ من مكوناتها، أو مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولن نتخلص من الاستبداد أو ننال حريتنا، لماذا ننصاع لبنوده التي أملتها على واضعيه سيطرتهم علينا؟
العربي الجديد
تحديات العلمانيين في المشهد السوريّ الراهن/ أكرم البني
عندما تغدو روسيا، على رغم ما وظفته من عنف دعماً للنظام، الطرف الأبرز الذي يطالب بعلمانية الدولة السورية، بدلالة بيان فيينا، ومشروعها عن دستور سوري جديد، وعندما يسعّر دونالد ترامب نزعات التفرقة الدينية ويمنع المواطنين السوريين من دخول بلاد العلمانية وحقوق الإنسان، وعندما تفاخر فصائل المعارضة المسلحة بنجاحها في حذف تعبير العلمانية من البيان الختامي لمفاوضات آستانة، والاستعاضة عنه بصفات عامة عن سورية المدنية والمتعددة الإثنيات والأديان، وعندما يطغى البعد الطائفي والمذهبي على الصراع السوري الدامي، مدعماً باصطفافات عربية وإقليمية موازية، عندها يمكن تقدير حجم التحديات أمام العلمانيين، ممن ساندوا ثورة شعبهم ضد الاستبداد والعنف والفساد، وماهية الأسباب التي تربكهم وتحاصر فرص دفاعهم عن خيارهم.
إبان انطلاق الثورة، لم يقتصر تحدي العلمانيين، على دحض مواقف، ذهبت مبكراً للطعن، تحت راية العلمانية، بمشروعية حراك الناس وصدقية مطالبهم، مسوغة كل أشكال القهر والعنف ضدهم، والذريعة أن كتلتهم الرئيسة تنتمي إلى طائفة محددة، وأنهم يعتمدون المساجد مراكز انطلاق لتظاهراتهم، بل امتد التحدي ليؤجج سجالاً قديماً حول الترابط الحيوي بين العلمانية والديموقراطية، ولتثبيت حقيقة، أن لا أفق لدولة يرجى لها أن تكون علمانية، حين يفرضها الاستبداد من فوق بالقوة والقهر ولا تؤسس على التراضي والاحتكام لقواعد الديموقراطية وآلياتها. وقد امتد التحدي أيضاً نحو فضح وتعرية التشويه المقصود الذي يقرن مفهوم العلمانية بالإلحاد، ولتأكيد حقيقة أن فصل الدين عن الدولة وضمان استقلال السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسات الدينية، لا يعني أبداً، إلغاء الدين أو عزله عن الحياة الاجتماعية، بل على العكس رعايته في إطاره الحيوي كحق وخيار شخصيين، بما في ذلك تعرية خطاب مغرض نجحت السلطة في تعميمه عن «دولة علمانية» تهددها جماعات إسلامية تسعى لتدمير تعددية المجتمع وفرض نمط حياتها وثقافتها، والغرض إخافة الأقليات الدينية وادعاء حمايتها لتحصيل بعض الشرعية في الساحتين المحلية والدولية.
والحال، هو تحدٍ مُلح بإقناع الرأي العام بأنه ليست ثمة دولة علمانية في سورية، وأن ما نراه، هو في أحسن الأحوال، دولة تكتسي صفات علمانية كمكتسبات تطورت منذ فجر الاستقلال، إن لجهة الحقوق المدنية، بخاصة للمرأة، في الحياة والتعليم والعمل، وإن لجهة الهوامش المتاحة لممارسة الشعائر الدينية، فرضها موضوعياً تعدد الأديان والطوائف المكونة للمجتمع وتاريخ طويل من التفهم والتسامح بينها.
والقصد، أنه لم تغب، وطوال عقود، ظواهر التمييز بين السوريين تبعاً لانتماءاتهم الدينية أو الطائفية، بل تكرست في شكل خفي في توزيع المناصب السياسية والإدارية والأمنية، وفي شكل صريح في تشتيت قانون الأحوال الشخصية بين مختلف الملل، مثلما لم تغب أو تهدأ آليات التعبئة الطائفية والمذهبية لتعضيد النظام خالقة مظالم لدى الأكثرية وردود أفعال موازية. ولا يغير هذه الحقيقة مراحل موقتة لعب فيها الفكر القومي السلطوي دوراً في إعاقة تقدم الأصولية الدينية وتمكين العلمانية، لكن من دون تكريسها في حقول الحياة والقانون والتربية، بل تسخيرها لتعزيز استبداده وتثبيت خياراته ضد القوى الدينية، ثم عند الحاجة، تشجيع النزعات الاسلاموية المحافظة لمحاصرة موجات المد الشيوعي والفكر العلماني المعارض ودعاته.
وفي المقابل، لم يكن بسيطاً أو عابراً التحدي أمام العلمانيين الديموقراطيين للتخفيف، تحت وطأة الحاجة، إلى التكاتف في مواجهة الاستبداد، من تنامي الشكوك حول صدقية التيارات السياسية التي تستمد من الدين أصولها ومرجعيتها، بما في ذلك الاضطرار لإبراز ما يمكن رصده من تباينات بين التجارب التي يستند إليها للطعن بصدقية التيارات الاسلامية عموماً، وبين الإسلام السياسي في سورية، لتشجيع الرهان على ثبات التزامه بشعارات الحرية والمواطنة والدولة المدنية التي تبناها.
وزاد التحدي صعوبة وتعقيداً، نكوص «الإخوان المسلمين» في مصر عن وعودهم وانفتاح شهيتهم، بمجرد وصولهم إلى السلطة، للاستئثار الفظ بالحكم، ولأسلمة الدولة والمجتمع، ثم اندفاعات أردوغان المتواترة لنزع المزيد من الصفات العلمانية عن الدولة التركية، والأهم انجرار أهم التنظيمات الاسلامية في المعارضة السورية لدعم الهيئات الشرعية ونمط الحياة الإسلامي، على حساب الشعارات المدنية والروابط الوطنية، في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، ليعزز ما سبق السمة المؤسفة للعلمانيين السوريين، بأنهم في غالبيتهم ينتمون إلى أقليات دينية وقومية، لجأوا لتحصين أنفسهم خلف راية العلمانية تحسباً من هيمنة ثقافة تهدد بأجندتها الشمولية خصوصية هذه الأقليات وحقوقها.
لم يعد ينفع بعد اليوم تكرار القصص والحكايات من التاريخ السوري عن عمق التعايش بين الأديان، وعن رحابة صدر الأكثرية الدينية في مراعاة مصالح أبناء الطوائف الأخرى، وعن دورها في حماية مراكز عباداتهم وحرية إقامة صلواتهم وشعائرهم، وعن تباهيها بالسماح لبعض كفاءاتهم بتبوؤ مناصب سياسية رفيعة (فارس الخوري نموذجاً)، لأن مثل هذه القصص والحكايات هو ما يكرس ضمناً التفرقة والتمييز، ويؤبد النظر إلى المجتمع كأكثرية وأقليات دينية وليس كمجتمع مواطنة، ما يفرض تحدياً مزدوجاً على العلمانيين السوريين، مرة، بتشذيب ما تدعيه الأكثرية عن مراعاتها شؤون الأقليات، ومباهاتها بمنحهم العطايا مغفلة الضمانات الحقوقية والقانونية لجميع مكونات المجتمع ونصرة المواطن المتساوي من دون النظر إلى جنسه ومذهبه ودينه وقوميته، ومرة ثانية، ببذل جهود خاصة لتمكين العلمانية من الانتشار والرسوخ في صفوف الأكثرية، ليس فقط من أجل أن لا تغدو راية العلمانية، كما يراد لها سلطوياً أن تكون، أداة ظلم واضطهاد ضد الأكثرية، وإنما أساساً لأن الأكثرية المجتمعية، وبصفتها كذلك، هي موضوعياً المسؤولة عن قيادة المجتمع ديموقراطياً وحضارياً، ومعالجة شروخه القومية والدينية والمذهبية، والتي إن لم تتقدم على الأقليات في ملاقاة مستلزمات الـحضارة الإنسانية، وبناء رؤية جديدة تنأى بالدين عن دنس السياسة، فإنها تفقد دورها التاريـخي الريادي، وتترك مـجتمعها أسير صراعات مدمرة، لا نهاية لها.
الحياة
الدستور القاتل/ علي العبدالله
انطوت مسودة الدستور، التي كتبها خبراء روس لسوريا (في تناقض صارخ مع الأعراف الدولية، التي استقرت على اعتبار وضع دستور لبلد ما حقاً سيادياً لشعب ذلك البلد) ووزعتها الخارجية الروسية على شخصيات من المعارضة السورية مع العمل من أجل وضعها على جدول أعمال اجتماع جنيف الذي دعت الأمم المتحدة إليه لمناقشتها وتبنيها، كاشفة عن أولويات تصورها للحل السياسي للصراع في سوريا وعليها، وعن سعيها للالتفاف على مضامين القرارات الدولية ذات الصلة والتي تقضي بمناقشة الانتقال السياسي بتشكيل حكومة تمثيلية وغير طائفية تضع دستورا وتجري انتخابات، انطوت على تشكيل كيان سياسي هجين بصياغة مواد متعارضة تحدد صلاحيات ومسؤوليات متداخلة يمكن أن تشل الحكومة وتقيد حركتها، ما جعلها وصفة لحياة سياسية غير مستقرة وقابلة للانفجار في أية لحظة.
أبقت مسودة الدستور على النظام الرئاسي ومنحت الرئيس صلاحيات واسعة وأساسية (ضامن الاستقلال وحامي وحدة وسلامة البلاد، تسمية رئيس الوزراء ونوابه، والوزراء ونوابهم، وقبول استقالتهم، وإعفاؤهم من مناصبهم، القائد الأعلى للقوات المسلحة والوحدات المسلحة الأخرى، إحالة رئيس الوزراء والوزراء الى المحكمة في حال ارتكابهم جرائم خلال توليهم مناصبهم، اقتراح تعديل الدستور، تسوية شؤون الجنسية، منح حق اللجوء السياسي، منح الجوائز الوطنية، منح رتب الشرف، تعيين الرتب العسكرية العليا والخاصة، منح العفو، إصدار المراسيم والقرارات والأوامر، عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية، اعتماد السفراء السوريين، قبول اعتماد السفراء الأجانب وتسلم أوراق اعتمادهم، الدعوة الى الاستفتاء العام، التعبئة العامة لمواجهة عدوان خارجي، إعلان حالة الطوارئ … الخ- المواد 55- 60) وحاولت تمويه طابعه بإعطاء صلاحيات مماثلة لرئيس الوزراء و”جمعية الشعب”(تمثل الشعب السوري بأكمله) و”جمعية المناطق”(تمثل الوحدات الإدارية)، لكن دون أن تسحب هذه الصلاحيات من رئيس الجمهورية، ما خلق حالة تداخل وتضارب في الصلاحيات سيترتب عليها صراع على هذه الصلاحيات وشل النظام السياسي. وقضت بقيام برلمانين متوازيين الأول تحت اسم “جمعية الشعب” والثاني تحت اسم “جمعية المناطق” وحددت لكل منهما صلاحيات تسمح لها بإقرار القوانين وبالاعتراض على قرارات ومراسيم الطرف الثاني ومنع تنفيذها، ودعت في الفقرة 4 من المادة 15 الى تحديد وضعية “الحكم الذاتي الثقافي الكردي”، عبارة غامضة لا تحدد طبيعة الحكم وطريقة تجسيده، ما جعل من السلطة التشريعية كائنا برأسين، ومن النظام السياسي كيانا مجهول الهوية لا هو نظام فدرالي ولا هو نظام مركزي ولا هو نظام لامركزي صرف، حالة غريبة لم تعرفها النظم السياسية.
وقف خلف هذا الصيغة الغريبة هدف سياسي روسي مرحلي هو المحافظة على التحالفات الراهنة والتوازنات الميدانية والسياسية، ريثما تتضح توجهات الإدارة الأميركية الجديدة، خطوة في سياق إدارة الأزمة لا حلها، باقتراح دستور على قاعدة محاصة بين الدول والأطراف المنخرطة في الصراع في سوريا وعليها ما فرض إرضاء رأس النظام، الذي وفر لروسيا فرصة التدخل وشرعنه، باعتباره رئيس الدولة من وجهة نظر القانون الدولي، فمنحته صلاحيات واسعة وأساسية. ووضعت ضمن المادة 60 المتعلقة بالقوات المسلحة عبارة “وغيرها من الوحدات المسلحة”(الفقرة 3 و 4 من المادة 10) إرضاء لإيران التي تسعى لتعميم تجربة حزب الله بتشكيل ميلشيا تابعة لها في سوريا، فعلت ذلك في العراق عبر تحويل الحشد الشعبي الى قوة شرعية، تكون أداتها في التأثير على سياسات الدولة وتوجهاتها لحماية مصالحها وتثبيت نفوذها. وأشركت رئيس الوزراء وجمعيتي “الشعب” و “المناطق” في بعض صلاحيات رئيس الجمهورية للإيحاء بحصول تغيير سياسي تحقيقا لبعض مطالب المعارضة إرضاء لتركيا، كما قالت بتشكيل “جمعية المناطق”، وحذفت الصفة القومية للدولة، ودين رئيس الجمهورية، واستبعدت الشريعة الإسلامية كمصدر رئيس للتشريع، وصاغت القسم الدستوري(اقسم أن التزم بدستور البلاد – المادة 7) دون تحديد بمن يتم القسم، إرضاء للقوميات والأعراق غير العربية، والمسيحيين والمذاهب الدينية الأخرى. وهذا شكل مأزق مسودة الدستور لأنها في توجهها لإرضاء أطراف ذات مواقف ومصالح متناقضة خلقت كيانا سياسيا تختلط فيه الصلاحيات والأدوار، مثلا المادتان 43 و44 المتعلقة بصلاحيات “جمعية الشعب” تقول بصلاحية الجمعية بإقرار القوانين دون تحديد من يضع هذه القوانين، وما إذا كان للجمعية حق طرح قوانين أو مجرد مناقشتها وإقرارها، كما هو معمول فيه في النظام السوري حيث تمرر قوانين وقرارات رئيس النظام عادة دون مناقشة وبرفع الأيادي، في ضوء كون التشريع المهمة الرئيسة للسلطة التشريعية، كما هو متعارف عليه دوليا، وتعود في المادة 45 لتمنح حق التشريع لأكثر من جهة تقول المادة “يمتلك المبادرة التشريعية جمعية الشعب وجمعية المناطق ورئيس الدولة ورئيس الوزراء”، بشكل لا يمكن أن يستقيم ويحقق الجدوى السياسية المطلوبة، وتمنح، في الوقت ذاته، رئيس الدولة حق رفض قوانين أجازتها جمعيتا “الشعب” و”المناطق”. هذا وربطت كثير من الإجراءات بلازمة “وفق القانون” دون أن تحدد هذا القانون أهو القانون المعمول به في ظل النظام الحالي أم هو قانون سيوضع لاحقا.
يبقى أن نشير الى ورود مواد مهمة تتعلق بالحقوق والواجبات لكنها لا تشكل الأساس السياسي للنظام المنشود، ويبقى أن ليس من حق روسيا أو أية دولة أو قوة خارجية وضع دستور لسوريا هو حصرا حق سيادي لشعبها.
المدن
الاحتلال الروسي والدستور السوري/ عمار ديوب
قراءة التطورات السورية بعيداً عن الاحتلال الروسي لسورية خاطئة بالتأكيد؛ فسورية الآن دولة فيها احتلالات متعددة مع هيمنة روسية فرضت شروطها على “الاحتلال” التركي لبعض البلدات السورية، وهناك مشاوراتٌ وصداماتٌ مع الائتلاف الدولي لمحاربة “داعش” والمدار من الولايات المتحدة الأميركية. الدولة التي تحاول رفض الهيمنة الروسية هي إيران بالتحديد. ولهذا، هناك ملامح تباعدٍ بين الدولتين؛ فقد كانت العلاقات قوية وتاريخية بين روسيا وإيران، والآن هناك صداماتٌ على الأرض السورية، عدا أن المتغيرات الأميركية تدفع بتقاربٍ مع الروس. وبالتالي، هناك احتمال كبير لتحجيم إيران، ولا سيما أن الخطر الحقيقي أمام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأميركا هي الصين، ولا بد من استقطاب روسيا التي احتلت سورية، وبقواعد عسكرية برية وبحرية، وبحرب طاحنة ضد المدن وضد الفصائل المسلحة، وباتفاقيةٍ طويلة الأمد، وبحماية كاملة لجنودها على الأرض السورية. أقول روسيا هذه حاربت ضد الثورة، وتحالفت مع إيران، حينما كان هناك اختلاف مصالح مع تركيا، والآن وقد تفتّتت الفصائل، وحصل تقاسم نفوذ بين الدولتين في سورية، فإن الخطوة التالية هي الحل السياسي، وتحجيم إيران وإخراج مليشياتها، وإعادة تشكيل الدولة السورية، ومنها مسألة الدستور.
بعد اجتماع أستانة، والذي كان لتثبيت إيقاف النار وإيجاد آلية لمراقبته، طرح الروس دستوراً للسوريين، ومواعيدَ متغيرةً لاجتماع جنيف، لإكمال النقاش بخصوص الحل السياسي. طرح مسألة الدستور مسألة أساسية، فليس من حلٍ ممكنٍ، من دون أن يرتكن لدستورٍ محددٍ، أو إعلانٍ دستوريٍّ، وبالتالي، يأتي الدستور في سياق صحيح، أي سياق الاحتلال الروسي والحل السياسي وتدجين المعارضة، ولإقرار العالم لروسيا باحتلال سورية.
لا يمكن لسوريٍّ لم يفقد عقله بعد، أن يقبلَ الاحتلال، وكذلك كل ما يأتي منه، ومنه الدستور. ولكن أيضاً لا يمكن لسوريٍّ أن يتجاهل الوقائع على الأرض، والتعاطي معها؛ فروسيا دولة
“يجب ألا يخضع الحديث عن الدستور لموازين القوى أو الطوائف” محتلة الآن، ولولا تدخلها لسقط النظام، إذاً لا بد من التحاور معها، والتدقيق في أهداف احتلالها، والعمل على انتقال سورية من حالة حربٍ عبثيةٍ، إلى حالةٍ سياسيّة، وبالتأكيد رفض الاحتلال الروسي وكل الاتفاقيات التي عقدها مع النظام، كون الاحتلال جاء لمنع سقوط النظام وإفشال الثورة.
رفض تشكيل الدستور هو تأكيدٌ على الهوية الوطنية، ولنقل تأكيد على دور السوريين في صياغة هويتهم، وهذا متعذّر من أية دولة احتلالية أو جماعة فئوية أو منظمات غير وطنية. الدستور الذي وُزِعَ على المعارضة والنظام وتناقله السوريون مرفوضٌ للاعتبار السابق أولاً، ولاعتبار آخر، وهو تسييس الهويّات الدينيّة وجعلها طائفيّةً عبر الدستور، أي عبر المواد القانونيّة الناظمة للدولة حاضراً ومستقبلاً. لا يمكن مقارنة الدستور الروسي بدستور 2012، ولا بأيِّ دستورٍ سوريٍّ سابقٍ، فهو مرفوضٌ لأن السوريين لم يصيغوه هم بأنفسهم، ومرفوضٌ لأنّه، ولأوّل مرّة، يُؤسس سورية طائفيّاً وعرقيّاً.
الدستور الممكن للسوريين يقوم على المواطنة بالتحديد، ويُعرّفُ السوريين أفراداً، ويُلغي كل مادة تشير إلى الطائفة أو الدين أو العائلة؛ فهذه قضايا اجتماعيّة ودينيّة، ولا علاقة لها بالحقوق والقوانين الحديثة، والحياة كلها تقوم على أفكار وسياساتٍ وعلوم وبرامج وضعيّة بامتياز. وكل ما هو أدنى من المواطنة يُميّز بين الأفراد وفقاً للعائلة أو الطائفة أو القبيلة، وبالتالي، وكي ينتهي الجدل التاريخي والقديم، حول الحقوق، أوَضعيّةً أم إلهيّةً، فالحقوق وضعيّة بامتياز، وكونيّة بالضرورة. وبالتالي، لا محيدَ عن المواطنة وحقوق الإنسان والمطالبة بتوسيع الحقوق، للوصول إلى التساوي الفعلي بين المواطنين، وليس التساوي الصوري. وهذا غير ممكن، إلا عبر مفهوم المواطنة بالتحديد.
سيكون هناك جدلٌ كبيرٌ بين السوريين، ويخص مسألة الدستور، وإذ نتجاوز رفض النظام الدستور الروسي، نظراً إلى ما فيه من تقييد لسلطات الرئيس الشمولية، ويرفضه الأكراد نظراً لتحجيم طموحاتهم، ويرفضه الإسلاميّون لأنّه لم يشر إلى أن الدين مرجعية للقوانين بشكل واضح ومحدّد، ويرفضه آخرون لاعتباراتٍ أخرى، فإن مسألة الدستور ستكون مسألة إشكاليّة وتتطلب حسماً ورفض أيّة تنازلاتِ تُلغم الهوية الوطنيّة بالهويات ما قبل الوطنيّة.
يجب ألا يخضع الحديث عن الدستور لموازين القوى أو الطوائف، وألّا يكون مجالاً للتقاذف
“الدول المحيطة بسورية، بما فيها إسرائيل، كُلُّها تُريد لسورية أن تُحكم بنظامٍ طائفيٍّ واستبداديٍّ من جديد” السياسي والطائفي، وأن يُطرح بعد نقاشاتٍ مجتمعيّةٍ واسعة، نظراً للمخاطر من فرض دستورٍ غير وطنيٍّ، وتوضيح تلك المسائل، ولا سيما ما جرى في لبنان والعراق، وكارثية أي دستور طائفي على الحياة؛ المشكلة أن الوعي السوري ما زال تقليدياً، وليس طائفياً بأي حال، ولكنه قد يتم تطييفه بسهولة، ولفترات صغيرة. وحينها، يمكن تمرير مشاريعٍ طائفيٍّة تُسهل السيطرة على السوريين، وتوصلهم إلى طلب الاحتلال ذاته، للتخلص من سوريين آخرين. جرى الأمر في العراق وفي لبنان، وهكذا.
فشل المعارضة في التوافق على وثائق واحدةٍ ومشتركة، ولا سيما بعد إفشال وثائق 2012 في القاهرة، وحدّة الانقسامات المجتمعيّة والحرب بين النظام والشعب، والتدخل الدوليّ والإقليمي، كلها عناصر تقول بتعقيد كبير للشأن السوري. الدستور من هذه المسائل وكذلك بقية القضايا. الروس، كما الأميركان، كما الدول المحيطة بسورية، بما فيها إسرائيل، كُلُّها تُريد لسورية أن تُحكم بنظامٍ طائفيٍّ واستبداديٍّ من جديد. ولهذا، حولوا الثورة إلى مجزرة، وأنقذوا النظام من السقوط تباعاً، وصمتوا عن التدخل الإيراني، على الرغم من أن كل هذه الدول متضرّرة من إيران؟
سورية الآن محتلة، وربما يكون إعلان دستوري مقتضب، يُنظم العملية السياسية والحياة بعامةٍ هو الضروري حالياً، ولاحقاً وحينما تعود الحياة إلى السوريين، ويبدأ الاستقرار السياسي، أقول ربما، حينها يمكن طرح دستورٍ يناسب السوريين، ويُستفتون عليه، ويشاركون بصياغته بعيداً عن الاستقطاب الطائفي والإقليمي والدولي.
العربي الجديد
مفارقات مؤلمة عن علمانية «الدولة» السورية/ منير الخطيب
تفصح المقارنة، في الشكل والمضمون، بين مجريات التفاوض، التي رافقت إبرام معاهدة استقلال سورية عن سلطة الانتداب الفرنسي عام 1936، ومجريات التفاوض في مؤتمر آستانة الأخير الذي حضره وفد الفصائل الإسلامية المسلحة ووفد النظام بإشراف روسي – تركي، عن أزمة بنيوية عميقة تعصف بالكيان الوطني السوري، هي أزمة انحدار أخلاقي وسياسي وثقافي واجتماعي عن لحظة تشكله في المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية.
فحين ذهب سعدالله الجابري وفارس الخوري وهاشم الأتاسي، أبرز ثلاثة في الوفد السوري، إلى باريس للتفاوض في شأن استقلال سورية، نسقوا، قبل ذهابهم، مع خالد بكداش الذي كان شاباً في مقتبل العمر، كي يسبقهم إلى باريس بهدف إجراء محادثات تمهيدية مع الحزب الشيوعي الفرنسي (لم يكن خالد بكداش عضواً في الوفد). في باريس أثناء التفاوض، سمع الوفد السوري أنباء من حلب عن اعتداء (ضرب بالأيدي)، تعرض له بعض من الأرمن والشيوعيين، رد سعدالله الجابري على هذا الاعتداء من باريس: نحن على استعداد لإلغاء معاهدة الاستقلال، إذا ظن البعض أنها طريق للغوغائية والفلتان. وعندما وصل الوفد إلى حلب بواسطة قطار الشرق السريع، خرج أهالي حلب لاستقبالهم، وعلى باب القطار دفع سعدالله الجابري خالد بكداش إلى المقدمة، وقال له: «من تقدم الوفد في باريس عليه أن يتقدمه في حلب»، وكأنه بذلك يسترضي الشيوعيين الذين تعرض رفاقهم للضرب.
بهذا السلوك لم يكن سعدالله الجابري مدافعاً عن الشيـوعيين والأرمن فـقط، بل كان مدافعاً عن مبـدأ علمانية دولة الاستقلال القادمة، حيث تـتـطابـق حـدود علمانـيـتـها مـع حدود وطنيتها السورية، فكلتاهما تتضمن الحياد تجاه المعتقدات والأديان والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية المختلفة.
هذا فيما ذهب وفد الفصائل المسلحة في مؤتمر آستانة الأخير إلى رفض مبدأ علمانية الدولة، وبالتالي رفض المسألة الوطنية السورية. بذلك، تصبح مفهومة الفوارق المعرفية والأخلاقية والسياسية بين مواقف وفد الاستقلال الأول في دفاعه الحاسم عن الشيوعيين والأرمن، ومواقف جيش الإسلام من اعتقال سميرة الخليل ورفاقها في مناطق سيطرته.
وغني عن القول أيضاً: إن المسار الشائك والمعقّد من إقرار مبدأ الدولة الوطنية في معاهدة الاستقلال إلى رفض العلمانية في مؤتمر آستانة هو وليد المرحلة البعثية، التي قوامها النكوص عن الفكرة الوطنية السورية، وطرد مبدأ الدولة العلماني. فلم تكن «دولة البعث» سوى «دولة دينية» صرفة بقطع النظر عن كون «الدين البعثي» أرضياً وليس سماوياً، وقد تجلت «ثيوقراطيتها» في ثلاثة مناحٍ: المنحى الأول، فرض الأيديولوجيا البعثية على «الدولة والمجتمع» بواسطة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والمنظمات والاتحادات الشعبية، والتمييز بين البعثي وغير البعثي، ومبدأ التمييز هو مبدأ ثيوقراطي. المنحى الثاني، التمييز بين البعثي العلوي والبعثي غير العلوي في مجالات القبول في الجيش والأمن والإدارة والتوظيف والبعثات التعليمية وغيرها من المجالات. المنحى الثالث، تحالفات النظام الإقليمية مع إيران أكبر «دولة» ثيوقراطية في المنطقة، ومع الميليشيات المذهبية، من دون أن ننسى، بالطبع، تصفية النظام السوري بالتعاون مع إيران للطابع الوطني للمقاومة اللبنانية وحصره بالطائفة الشيعية في الثمانينات.
إذاً كان التفاوض حول معاهدة 1936 بين سلطة استعمارية، لكن يقبع في خلفيتها الثقافية والسياسية تراث ليبرالي وتنويري، على رغم طابعها الاستعماري، وبين وفد سوري يدافع عن التعدد والاختلاف وعن الحداثة السياسية، فأفضى ذاك التفاوض إلى تأسيس الكيان السوري.
أما التفاوض في مؤتمر آستانة بين ثيوقراطية بعثية منحطة وثيوقراطية مذهبية وثيوقراطية إسلامية مذهبية مضادة، أي بين هويّات عصبوية متماثلة، فلا يؤمن إلا بمنطق الغلبة و «التكاون»، في حين أن الحوار الذي يفضي إلى بناء الدول والأوطان ينبني بين عقول حرة وبين نخب سياسية تجاوزت الهويّة كامتداد «فخذي» أو «نسلي».
وليس العداء الذي تبديه الفصائل الإسلامية المسلحة وغير المسلحة للمسألة العلمانية، وتسايرها بذلك المعارضات السياسية السورية على اختلاف توجهاتها وأطيافها، في هروبها من العلمانية إلى مصطلح «الدولة المدنية» الملتبس والفضفاض والتلفيقي، والذي يعبر عن بله سياسي، سوى إطالة لأمد المحنة السورية، التي أصبحت الأكثر تأثراً عالمياً بتبعات الصراع السني – الشيعي، وبتبعات حركة النكوص العالمي الراهن إلى مرحلة ما قبل الحداثة. فالعلمانية هي حاجة حيوية سورية لبناء الدولة والاجتماع الوطني، وحاجة عربية وإسلامية، وستصبح قريباً مع ترامب وبوتين واليمين الأوروبي حاجة عالمية.
* كاتب سوري
الحياة
دستور من بوتين ومناطق آمنة من ترامب!/ بكر صدقي
أخيراً نجح حزب الله الإيراني وبشار الكيماوي في تهجير أهالي وادي بردى، في إنجاز جديد لمشروع التغيير الديموغرافي لبعض المناطق في سوريا، في الوقت الذي اقتربت فيه القوات الحليفة للنظام من مدينة الباب المستهدفة من «درع الفرات» التركي، ويستمر الصراع على السلطة بين الفصائل الإسلامية في محافظة إدلب وبعض ريف حلب.
في هذا الإطار من التطورات الميدانية، تلقى السوريون عدداً من الهدايا المسمومة، كمسودة الدستور التي قدمتها روسيا للطرفين المتفاوضين في اجتماع آستانة، ومشروع «المناطق الآمنة» الذي توعد به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبدأ يبحث عن ممولين لها كالمملكة السعودية، و»نجاح» وفد المعارضة المسلحة في حذف كلمة العلمانية من البيان الختامي لاجتماع آستانة.
جاءت ردود الفعل الأولى على مسودة الدستور الروسي برفض دستور مفروض من الخارج، الأمر الذي من المستبعد أن تكون موسكو أرادته فعلاً. بل أرادت بالضبط ردود فعل غاضبة تكشف عمق الانقسامات بين السوريين للقول إنهم غير جديرين بمفاوضة النظام على مصير سوريا. وهو ما ينطبق أيضاً على دس كلمة العلمانية في البيان الختامي، بعدما خلا قرار مجلس الأمن المرجعي منها، فخاً لوفد المعارضة المسلحة وقعت فيه بكل جدارة.
لا يتطلب الأمر، على أي حال، كل هذا الخبث من ديبلوماسيي بوتين، فالانقسامات السورية معروفة للقاصي والداني بين إسلاميين وعلمانيين، وعروبيين وقوميين كرد، ووطنيين وسلفيين، وريفيين ومدينيين.. إلخ. يكفي طرح هذه المسائل الجدلية حتى ينسى الجميع أصل المشكلة السورية المتمثلة في عصابة إجرامية سطت على الدولة لأكثر من نصف قرن وترفض التخلي عن ملكيتها الحصرية لها حتى لو امحت سوريا من الخرائط.
والحال أن نصف المليون من السوريين قد قتلوا، وأضعاف هذا الرقم أصيبوا بخسائر جسدية دائمة، ونصف السكان شردوا من موطنهم داخل سوريا وخارجها، ومئات الآلاف يموتون ببطء في أقبية الأجهزة المتوحشة، ونصف العمران تم تدميره، وتقسمت البلاد بين دويلات أمر واقع ومناطق احتلال وقواعد عسكرية لقوات أجنبية. أي أن سوريا انتهت أو تكاد، والعصابة باقية.
في ظل هذه المعطيات هناك، بعدُ، من تغضبهم إزالة صفة «العربية» من اسم الدولة السورية، مع أنها كانت خالية منها قبل المرحلة البعثية المديدة. وهناك، بالمقابل، من أبهجتهم هذه الإزالة لأنهم طالما طالبوا بها. كذلك هي حال إلغاء «الدستور الروسي لسوريا» للمرجعية الإسلامية، سواء في الإشارة إلى دين رئيس الجمهورية، أو في نص القسم الدستوري، أو في مرجعيات التشريع. فقد أثارت هذه التغييرات «العلمانية» أيضاً غضب قسم من السوريين، مقابل قبول قسم آخر، الأمر الذي يتقاطع مع رفض وفد المعارضة لكلمة العلمانية في البيان الختامي لاجتماع آستانة.
لا إلغاء صفة العروبة من اسم الدولة يغير من واقع أن أكثرية السوريين هم من العرب، ولا إلغاء المرجعية الإسلامية يغير من واقع أن أكثريتهم مسلمون. وبصرف النظر عمن يحكم سوريا، وعن نصوص دستورها، ستبقى سوريا جزءاً من المنظومة العربية ومؤسساتها، كما ستبقى جزءاً من العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال نرى أن لبنان دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي على رغم رئاستها المسيحية حصراً، وكان جلال الطالباني (الكردي) يحضر مؤتمرات القمة العربية بصفته رئيساً للعراق الدولة العضو في الجامعة العربية. ليس هناك، إذن، ما يمنع انتماء سوريا التعددية إلى الفضاءين العربي والإسلامي.
ونظراً لتنوع الاجتماع السوري أصلاً، الذي تحول، أثناء الصراع، إلى تفكك في البنية الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية، تبدو حيادية الدولة السورية إزاء الأديان والثقافات شرطاً شارطاً لقيام وطن لجميع أبنائه. وذلك بصرف النظر عن «روسية» الدستور أو سوريته. ومن المحتمل أن يكون الاحتكام إلى رأي الأكثرية، في شأن مرجعيات الدولة أو صفاتها، هو أسوأ الخيارات، وخاصة في ظل ظروف الصراع الدموي الدائر والاستقطابات الحادة القائمة اليوم. فلا شيء يضمن الحكمة في قرار الأكثرية، في وقت يملأ فيه الدم والخراب الفضاء العام. فما يجعل الدولة دولة هي صفتها العمومية وحيادها، ومن شأن أي أوصاف أو مرجعيات مضافة إليها أن تنتقص من كونها دولة. أما شكل النظام السياسي والإداري، برلماني أو رئاسي، مركزي أو لا مركزي، فهي أمور خاضعة للنقاش من حيث أيها أجدى وأكثر استيعاباً وتمثيلاً وفعالية. وهو نقاش سابق لأوانه، مع ذلك، إلا إذا سلمنا بالمنظور الروسي للتسوية السياسية القائم على فكرة «حكومة وحدة وطنية» برئاسة عميلها في دمشق، تضع دستوراً يتناسب وموازين القوى القائمة الآن. في حين أن الدستور المرتجى هو عقد اجتماعي جديد ينشئ هوية وطنية سورية لما بعد التخلص من العصابة.
أما «هدية» ترامب ـ مالئ الدنيا وشاغل الناس هذه الأيام ـ المتمثلة بالمناطق الآمنة، فقد جاءت خارج كل السياق السابق، وتشبه شخصيته وتوجهاته. فالمناطق الآمنة، أو مناطق حظر الطيران، التي طالما كانت مطلباً لتركيا والمعارضة السورية الرئيسية، وطالما رفضتها إدارة باراك أوباما بدعوى تجنب الانخراط في الصراع السوري، جاء طرحها اليوم، ومن قبل رجل الأعمال الفاشي الذي تحول إلى رئيس لأعظم دولة في العالم، كنكتة سمجة، فضلاً عن تعارضها مع مناخات التسوية على الطريقة الروسية. فالمناطق الآمنة تعني اليوم استمرار الصراع الدموي إلى أجل غير مسمى، وتسليماً بمنطق التقسيم القائم كأمر واقع. وغاية ترامب منها هي التخلص من اللاجئين السوريين، ووقف تدفق المزيد منهم، «تصحيحاً للخطأ الذي اقترفه الأوروبيون» على حد تعبيره، بقبولهم لجوء بعض اللاجئين السوريين. وكحال السور العازل الذي أمر ببنائه على طول حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، يريد ترامب تحميل الكلفة المادية لمشروعه بشأن المناطق الآمنة لدول أخرى. ومن المحتمل أن يشكل اختيار مكان المنطقة الآمنة ووسائل تأمينها سبباً لمزيد من التجاذبات الإقليمية والدولية حول سوريا.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
الدستور الروسي… في أستانة/ فاطمة ياسين
أتاح التقارب الروسي التركي، والابتعاد الأميركي، فرصةً للبحث عن حل جدي للمأساة السورية، تحت عناوين سياسية متنوعة. وقد جرى لقاء أستانة بناءً على هذا التقارب، وضمن عملية البحث عن الحلول.
هي المرة الأولى، منذ بداية الصراع، تشهد فيها قاعةٌ واحدة، لقاءَ أطراف الحرب السورية بشكل يتيح تبادل الاتهامات والإدانات، وربما الشتائم، وقد يكون اجتماعٌ من هذا النوع مفيداً جداً في ظل الإصرار الدولي على الحل السياسي، وإبقاء الوضع العسكري معلقاً من دون حسم، على الرغم من التدخلات الإيرانية والروسية. ومن المفيد أن يُذكر أن هذا التقارب يساعد في تخصيب حل سياسي، قد لا يناسب أحد الأطراف، لأن الحل السياسي، بالمفهوم الذي يطرحه المجتمع الدولي، يعني أن تتم القسمة على اثنين، بحيث يستطيع كل طرفٍ أن يعتبر نفسه فائزاً، ويمكن أن يعتبر خصمه مهزوماً في الوقت نفسه. قد ينفع هذا الحل في توقيف المعارك أو فرملتها، ولكنه لن يكون مفيداً على المدى الأطول، وخصوصاً أن دوام الوفاق الروسي التركي مرهونٌ برضى أميركي، والأميركي تحول الآن إلى حالة مزاجية متقلبة الأهواء.
تطوع الجانب الروسي، بوصفه أحد الرعاة، بتقديم مسودة دستور لسورية، وقال إن خبراءه أعدّوها بوحيٍ من أفكار طرحها كل من النظام والمعارضة، وبعض القوى الإقليمية، وطلب من الأطراف قراءته والتعليق عليه.
وزِّعت نسخ من هذا الدستور على الوفود المشاركة، وعلى شخصيات وطنية متنوعة، لكن المعارضة المسلحة، بحسب الناطق باسمها، رفضت استلام أي نسخة، وأكد الرفض أحد الحقوقيين المرافقين، وقد طرح مثالاً معقولاً، وهو أن الدستور الذي صاغه بول بريمر، المندوب السامي لقوات الاحتلال الأميركية للعراق، لم يفلح في توحيد العراقيين، بل ساهم في إيجاد أقاليم عراقية شبه منفصلة، لذلك من المفيد أن يكون الدستور ذا منشأ محلي، يعي متطلبات المعنيين به بالدرجة الأولى. ولكن بعض من دعاهم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى اجتماع موسكو عقب مؤتمر أستانة، قبلوا استلامه، وربما باشروا في دراسته، وهي خطوة تخلّ بنزاهة الجانب الروسي الذي يرغب في رؤية عدة معارضات، ويوسِّع طيفها، العريض أصلاً، ليتمكن من محاصرة المسلحة منها، والتركيز على فئة محدّدة تقوم بتفصيل الحل السياسي على قياسها، على الرغم من أن اجتماع أستانة لم يكن مخصصاً لعرض أية دساتير، وكانت خططه محصورة ببحث تثبيت وقف إطلاق النار والاتفاق على آليات التأكّد منه.
يشكل الدستور الطبقة الحقوقية الأولى في بنية الدولة، ويمكن اعتباره الرداء السياسي الأساسي في الوقت نفسه، وأهميته في أنه يحدّد الخطوط الرئيسية في علاقات المجموعات المجتمعية والسياسية. وفي كتلةٍ سكانيةٍ شديدة التنوع، مثل سورية، ذات خبرة سياسية شبه معدومة، نتيجة عهود الاستبداد الطويلة، وتجاهل قطاعات عرقية وسياسة كبيرة، منذ فترة ما بعد الاستقلال، فإن صياغة الدستور يجب أن تتم بطريقةٍ محليةٍ، وتشارك بها المجموعات السكانية العرقية والسياسية نفسها التي همشتها عهود القمع، وتخريجات روسية كالمسودة المقدَّمة، بلغة عربية ركيكة، لا تلبي الطموحات السورية، وتضع العربة قبل الحصان، وتقفز فوق أوضاعٍ ملحة تتطلب إعادة النظر، أحدها الوجود الروسي نفسه في سورية، وطريقة التعاطي معه حالياً ومستقبلاً، والوجود الإيراني، بكل نكهاته العسكرية والأمنية والطائفية، وقبل ذلك كله، أوضاع الحصار والتهجير والجبهات المشتعلة، لكن الروس تجاوزوا المُلحّ والآنيّ لصالح ما يمكن تأجيله.
وفي مثل هذا الواقع، نجد أنفسنا مضطرين لنوافق محمد علوش، كبير المفاوضين، في رفضه استلام أية مسودة لأي دستور، لأن وقف النار وتثبيته، والتأكد من آلياته، يجب أن يسبقا أي خطوة، ولا يمكن الانتقال إلى التالي، قبل أن يصبح التوقف عن إطلاق النار حالة عامة وسائدة. ولعبةٌ سياسيةٌ، مثل عرض مسودة دستور، تشبه وضع طبقٍ عامر بالمأكولات الدسمة لشخص مصابٍ بالجفاف، وبحاجة إلى جرعات خفيفة من الماء والفيتامينات، قبل الولوج في الدسم.
العربي الجديد
خمس «عُقد» أمام مفاوضات جنيف… أبرزها وفد المعارضة/ ابراهيم حميدي
مفاوضات جنيف بين ممثلي الحكومة السورية والمعارضة التي كانت مقررة في 8 شباط (فبراير)، تنتظر وضوح الرؤية إزاء خمس تحديات بينها موقف إدارة الرئيس دونالد ترامب من العملية السياسية في سورية و «المعارضة المعتدلة»، إضافة إلى حل «عقدة» تمثيل المعارضة إلى المفاوضات التي تأمل الأمم المتحدة في أن تكون مباشرة بين الحكومة والمعارضة.
وإذ تأمل الأمم المتحدة في عقد المفاوضات في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، تجري اتصالات مكثفة في انتظار حسم خمسة أمور:
أولاً، الاجتماع الفني الروسي – التركي – الإيراني في آستانة في الأيام المقبلة لمتابعة تنفيذ الاتفاق بين الدول الثلاث الأسبوع الماضي على تثبت وقف النار في سورية وتشكيل آلية ثلاثية للرقابة على وقف النار والرد على الخروق من الأطراف مع استثناء تنظيمي «داعش» و «فتح الشام» (النصرة سابقاً). وكانت فصائل المعارضة المسلحة أعلنت تحفظات على الاتفاق الثلاثي وطالبت بوقف النار في وادي بردى قرب دمشق ووقف «المصالحات المفروضة»، لكن أعلن أول من أمس عن «تسوية» في وادي بردى ووصول ورشات الصيانة إلى نبع الفيجة «خزان مياه» دمشق.
ثانياً، نتائج محادثات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في نيويورك اليوم وغداً ولقائه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس وأعضاء مجلس الأمن الدولي لإيجازهم على نتائج مفاوضات آستانة وتصوره على مفاوضات جنيف المقبلة. ومن المهم فهم تصورات الأمين العام الجديد إزاء أول مفاوضات سورية في عهده وما إذا كان يريد افتتاح هذه المفاوضات في جنيف. وإذ حاولت موسكو إعطاء أولوية لصوغ دستور سوري عبر طرحها مسودة روسية، يريد المبعوث الدولي التزام مهماته في تنفيذ القرار 2254 الذي نص على ثلاثة بنود: الأول، تشكيل حكم تمثيلي غير طائفي من ممثلي الحكومة والمعارضة ومجموعات أخرى. الثاني، صوغ دستور جديد بموجب هيئة مشكلة من الحكومة والمعارضة ومستقلين للبحث ما بين خيار تعديل الدستور الحالي الصادر في 2012 وما يعني ذلك من نقل بعض صلاحيات رئيس الجمهورية إلى «الحكم» كي يشرف على «العملية السياسية» أو «الانتقال السياسي». الثالث، إجراء انتخابات وما إذا كان ذلك يعني انتخابات محلية وبرلمانية فقط أم تشمل انتخابات رئاسية والجدول الزمني لذلك وعلاقة ذلك بالدستور الجديد وما إذا كان يعتمد النظام البرلماني أو الرئاسي.
وتشكل هذه أجندة المفاوضات المقبلة باعتبار أن آستانة تتعاطي مع وقف النار واحتمالات إجراءات بناء الثقة والمساعدات الإنسانية عبر مجموعة العمل الدولية في جنيف. لكن روسيا تعطي أولوية للدستور، بحيث تسير العملية السياسية مع بقاء النظام الحالي ومؤسساته. لذلك قدمت روسيا إلى ممثلي الأطراف السورية مسودة دستور يعتمد النظام الرئاسي مع توسيع صلاحيات رئيس الوزراء والبرلمان والمجلس المحلية إلى حد تشكيل «جمعية مناطق» إلى جانب «مجلس الشعب»، الأمر الذي يعني أن الانتخابات الرئاسية ستجرى بموجب الاستفتاء المباشر وليس في البرلمان، في حال اعتمد «الدستور الروسي».
ثالثاً، نتائج محادثات دي ميستورا مع فريق إدارة الرئيس دونالد ترامب نهاية الأسبوع، خصوصاً فريق مجلس الأمن القومي الذي يضم «طاقماً عسكرياً» برئاسة مستشار الأمن القومي مايكل فلين ويضم مسؤول الشرق الأوسط ديريك هارفي ومسؤول سورية والعراق جو ربرن اللذين عملا مع مدير «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي أي) ديفيد بتروس في العراق، وهما اللذان يضعان أولوية محاربة «داعش» في سورية والعراق.
رابعاً، مؤتمر الأمن في ميونيخ 17 و18 شباط (فبراير) واحتمال حصول أول لقاء بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره المعين ريكس تيلرسون لترتيب تفاهمات سياسية بين الطرفين وضبط الرابط مساري آستانة وجنيف قبل انعقاد جولة جديدة من المفاوضات السياسية، إضافة إلى كيفية تطبيق احتمال التعاون بين الرئيس فلاديمير بوتين وترامب في محاربة «داعش» في سورية.
خامساً، وفد المعارضة السورية، إذ يعتقد مسؤولون غربيون أن هذا ربما من «العقد» التي تتطلب الكثير من الجهد، خصوصاً أن الرهان على مفاوضات مباشرة بين وفدي الحكومة والمعارضة تحت مظلة الأمم المتحدة. إذ إن موسكو تصر على «وفد واحد» يضم «الهيئة التفاوضية العليا» وباقي منصات المعارضة، فيما تتمسك «الهيئة» وتركيا وحلفاء آخرون للمعارضة بحصرية تمثيل «الهيئة» للمعارضة. يتطلب تحديد موعد جنيف، حل هذه «العقدة»، حيث تطرح خيارات عدة:
أولاً، طاولة مستديرة تضم وفد الحكومة وباقي فصائل المعارضة بما في ذلك «الهيئة» والفصائل المسلحة التي شاركت في آستانة وتضمن البيان الختامي الثلاثي الموافقة على مشاركتها في جنيف، إضافة إلى منصات المعارضة الأخرى وبعض الشخصيات التي حضرت لقاء لافروف في موسكو الجمعة المقبل.
الثاني، اقتصار مفاوضات جنيف على وفدي الحكومة والفصائل المقاتلة التي شاركت في آستانة وانعزلت عن «فتح الشام».
الثالث، إقناع «الهيئة» بتغيير مكوناتها وضم ممثلي القوى السياسية الأخرى وممثلي فصائل عسكرية إضافية (علماً أنها تضم ممثلي 15 فصيلاً)، مع بقاء دورها القيادي.
وفي حال تنفيذ إدارة ترامب قرار حظر «الإخوان المسلمين»، فإن بعض المكونات السياسية للمعارضة التي تضم ممثلين أو مقربين من «الإخوان» ستكون في وضع صعب ما يقوي رهانات موسكو للدفع نحو «وفد موحد» بحسب تصورها. وفي حال حلت هذه مشكلة، تبقى مشكلة مشاركة «الاتحاد الديموقراطي الكردي» برئاسة صالح مسلم، الذي ترفض أنقرة مشاركته في جنيف ورفضت حضور ممثلي آستانة، لكن موسكو فتحت الباب أمام احتمال حصول ذلك لدى دعوة ممثل الحزب في باريس خالد عيسى إلى لقاء لافروف والمعارضة الجمعة الماضي، بل أن عيسى سلم الجانب الروسي مسودة «دستور كردي» اقترح «فيديرالية» في سورية بدلاً من «اللامركزية الموسعة» والمناطقية التي اقترحت في دستور روسيا.
الحياة
«القدس العربي» تقرأ في خفايا الاقتراح الدستوري المقدم من روسيا: دمشق تراه ورقة وليس مشروعا
كامل صقر
دمشق ـ «القدس العربي»: وزعت موسكو ما اتُّفق على تسميته «مشرع دستور سوري جديد»، رفضته المعارضة ولم تعلق عليه السلطات السورية إطلاقاً لا سلباً ولا إيجاباً، في عدم التعليق الرسمي رسالة للداخل والخارج.
مشروع الدستور الجديد صدر من دولة حليفة لدمشق ولقيادتها وهذه نقطة مهمة، المشروع أيضاً يمثل خلاصة أفكارٍ توصلت إليها موسكو لسوريا دستورياً في مرحلة ما بعد الحرب فلا مانع في ذلك بالنسبة للقيادة السورية، يُضاف إلى ذلك أيضاً أن المشاورات الماراتونية التي أجرتها موسكو لإعداد مشروع الدستور هذا انطلقت بعلم وموافقة النظام السوري في الأشهر الأولى من العام الفائت وجرت تلك المشاورات في قاعدة حميميم بمشاركة شخصيات معارضة تقيم داخل سوريا وشخصيات كردية وأخرى مستقلة.
وبعيداً عن القيادة السورية يقول البعض هنا في دمشق: ما المانع أن تقدم موسكو أفكاراً بخصوص الدستور السوري وهي التي تشارك بكل ثقلها إلى جانب دمشق عسكرياً وتدفع معها ثمن الحرب على الإرهاب مادياً وحتى بشرياً؟
الخبير في القانون الدولي والدستوري د. عصام التكروري قلل من أهمية مشروع الدستور الذي قدمته موسكو ورأى فيه أنه لا يتعدى كونه ورقة تحتوي مجموعة أفكار دستورية لا ترقى لتكون مشروع دستور، وقال «بتقديري ورقة تتضمن جملة من الأفكار الدستورية يمكن أن تكون بمثابة ورقة عمل يحق لكل فريق تُطرح عليه أن يأخذ بها كلاً أو بعضاً أو أن يرفضها إذا رأى أن العقد الاجتماعي الذي تقترحه هذه الورقة لا يتقاطع مع رؤيته للدولة المنشودة، وفي نهاية المطاف لا يمكن لأي مشروع دستور أن يرى النور ما لم يقترن بموافقة الشعب عليه عبر الاستفتاء».
لم يجد التكروري عيباً من حيث المبدأ في أن تطرح موسكو هكذا ورقة تخص سوريا ويعلل ذلك بقوله «يمكن للدول أن تستعين بخبراء أجانب تتبادل معهم الأفكار حول قضايا تتعلق بدساتير ترغب بإعدادها».
وأضاف «الدستور الأمريكي وهو أقدم دستور مازال قيد التطبيق في العالم لم يكن خلاصة أفكار توماس جيفرسون وجون ديكنسون فحسب وإنما اعتمد بشكل أساسي على أفكار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو والسويسري جان جاك روسو». وحول بعض مضمون الأفكار الدستورية الذي تضمنته الورقة الروسية لفت التكروري إلى أنها اكتفت بأن يكون المرشح لمنصب رئيس قد أتم الأربعين و متمتعا بالجنسية السورية فقط دون أن تشترط بالمرشح أن يكون متمتعاً بالجنسية العربية السورية بالولادة، من أبوين متمتعين بالجنسية العربية السورية بالولادة، وأن لا يكون متزوجاً من غير سورية، و أن يكون مقيماً في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة عند تقديم طلب الترشيح بحسب الشروط التي نصت عليها المادة 84 من الدستور السوري المعمول به حالياً.
كما أن الورقة الروسية بخلاف الدستور الحالي تقترح ألا يكون لرئيس الجمهورية نواب، وبالتالي في حال شغور منصب الرئيس أو عجزه عن القيام بمهامه يتولى رئيس الوزراء المهام مؤقتا، وهو أمر سمح به الدستور النافذ في حال لم يكن لرئيس الجمهورية نوابا (م 93 ف 2)، وفي حال عجزه يقوم رئيس جمعية المناطق (جهاز غير موجود بالدستور الحالي) بمهام رئيس الجمهورية لحين انتخاب رئيس جديد.
وحسب التكروري أيضاً فإن أبرز ما اقترحته ورقة الأفكار الدستورية التي تقدم بها الجانب الروسي هو إقامة دولة ثنائية القومية عربية ـ كردية بدل أن تكون عربية فهي تتحدث عن الجمهورية السورية، دولة لا دور للدين في تعيين الرؤساء أو في وضع التشريعات الأمر الذي يمثل فك ارتباط كلي بالهويتين العربية والإسلامية، إضافة إلى اعتماد رسمي للمحاصصة الطائفية والقومية بالنسبة لنواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء الفقرة (3) من المادة /64، واعتمد نظام المجلسين بالنسبة للسلطة التشريعية عبر اقتراح جمعية الشعب وجمعية المناطق بدل من نظام أحادية المجلس القائم بموجب الدستور النافذ من مجلس الشعب)، ومنح «جمعية الشعب» صلاحيات جديدة كتنحية رئيس الجمهورية و تعيين رئيس البنك الوطني، إضافة إلى تأكيده على اعتماد مبدأ اللامركزية الإدارية المعمول به أصلا وفقا لأحكام المادتين 130 و 131 من الدستور النافذ.
التكروري أشار إلى ارتكاب بعض الأخطاء في الورقة الروسية لا يمكن أن يقع بها خبراء واختصاصيون في صناعة الدساتير وفق وصفه، ومنها على سبيل المثال أن المادة 44 فقرة 6 جعلت تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا من اختصاصات جمعية الشعب لتأتي المادة 77 وتنص على أنه من اختصاص جمعية المناطق، ناهيك عن تواضع الصياغة الدستورية، كما أشار إلى أفكار أخرى غير مفهومة في الورقة الروسية لجهة غياب الآليات التي تضمن تطبيقها من قبيل الفقرة الرابعة في المادة 10 التي تحدثت عن وجوب أن تكون القوات المسلحة وغيرها من الوحدات المسلحة تحت رقابة المجتمع. ليختم التكروري بالقول هذا يدعونا إلى الاعتقاد بأن السوريين قادرين على أن يقدموا دستوراً يفوق في أهميته الأفكار الروسية المقترحة. وفي العموم، المشروع الروسي المقتَرح تبنّى أكثر من 50 في المئة من مبادئ ومواد الدستور المعمول به حالياً في سوريا.
في سياق متصل، تقول مصادر مطلعة لـ «القدس العربي» أن مجموعة خبراء وأكاديميين سوريين يعكفون في دمشق ـ ومنذ فترة غير قصيرة ـ على وضع مقترحات دستورية جديدة قد تكون أغنى وأكثر التصاقاً بالخصوصية السورية من الورقة الروسية المقترحة حول الدستور في سوريا وكذلك بعض مقترحات الدساتير التي يتم تداولها منذ فترة طويلة، وأن هذه المجموعة قطعت شوطاً متقدماً فيما تقوم به دون أن تعطي المصادر ذاتها تفاصيل أكثر.