صفحات العالم

عن الرجل الواقف على شرفة منزله مراقباً الأطفال الطائفيين


حازم الأمين

الرجل الواقف على شرفة منزله الواقع على تلة الأشرفية في بيروت، مصغياً إلى ضجيج أطفال «طائفيين» يلهون في حديقة المبنى، ومطلقاً أنظاره إلى دخانٍ أسود منبعث من مستديرة الطيونة هناك حيث أقدم فتية، «طائفيون»، أيضاً على حرق إطارات مطاط احتجاجاً إما على قطع الكهرباء عن الضاحية الجنوبية وإما على استمرار خطف «الجيش السوري الحر» 11 مواطناً لبنانياً شيعياً، هذا الرجل، قطع إصغاءه صوت رفيع وصغير صدر عن هاتفه. إنها «اس أم اس» أرسلها المجمع التجاري القريب ينبئه فيها بأن موسم التنزيلات بدأ هذا العام قبل شهر من موعده.

الرجل من على شرفة منزله المطلة على جزء من الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يعيش مواطنون شيعة، ومطلة أيضاً على بعض تلال جبل لبنان المسيحي، سعى إلى الإنصات إلى أصوات الأطفال الذين قال له ابنه البالغ من العمر سبع سنوات إن واحداً منهم قرّعه لأنه مسلم، قطع إصغاءه مرة ثانية صوت زوجته قائلة إن رائحة احتراق الديزل تكاد أن تخنقها، ذاك أن الصيف السياحي والطائفي انطلق على وقع انقطاع هائل للتيار الكهربائي في بيروت، ما أطلق العنان لمولدات كهربائية عملاقة شرعت تحرق الديزل وتوزع الكهرباء على المباني التي تقطنها الطبقات المتوسطة البيروتية التي لا تطيق انقطاع الكهرباء.

فكّر الرجل أن للطائفية في الصيف اللبناني نكهة سيــــاحية، أو ربما بعد ومضمون سياحيين. يأتي طفل مع أهله من دبي ليمضي صيفه في بلده، مستأنفاً فيه مشاعر كان أهله غادروا لبنان مزودين بها، وما أن يصل إلى حديقة منـــزله البــيروتي حتى يستأنف ما اشتاق إليه من حياة أهله السابقة. وبينما نعتقد، نحن السكان المحليين، إن عيشنا في مبانٍ مشتركة جعلنا جيراناً أحب واحدنا الآخر، يأتي طفل من دبي ليذكّرنا بما كدنا أن ننساه لشدة ما ألفناه.

قال الرجل لنفسه «لا بأس»، ليس ما جرى كارثة. الطائفية عارض ليس جوهرياً في حياة الجماعة البيروتية المؤتلفة وغير المؤتلفة. في أحيان كثيرة تكون أشبه بفاكهة صيفية يذكّرنا مذاقها بما يمكن أن نحبه في أنفسنا. فهذا الطفل الآتي من دبي اشتاق إلى طائفيتنا كما إلى شمسنا وبحرنا وجبلنا وفاكهتنا. هي مما يمكن أن يسليه، هو الآتي من بلاد العمل والرتابة والمشهد الثابت والمباني الممتازة.

وفكر الرجل أيضاً بأن الطـــائفية في الصـــيف هي غيرها في الشتاء. في الصيف تأتي خفيفة ورشيقة وغير مؤذية، أما قدومها في الشتاء فأثره جوهري، ذاك أنها تتسرب إلى المدارس في بداية موسمها، ويحـــملها التـــلامذة معهم في حقائبهم، ويشرع الأهل بمبارزات جوهرية متعلقة بحــياة أبنــائهم. أي مدارس يريدون لهم وأي أصدقاء، وأي الطرق يسلكون متوجهين بأطفالهم إلى سجونهم الأكاديمية؟

في الصيف اللبناني أيضاً تأتي الطائفية مُهدَدَة بانهيار الدولة فوق رؤوس الجميع لأسباب غير طائفية، بحيث تصير الأخيرة أقرب إلى انفعال طفل صغير وبريء، فيما انحسار التغذية بالتيار الكهربائي هو الخبث الذي تولّد عن فساد وزير لطالما لم يكن طائفياً، وثمة أدلة قاطعة على عدم طائفيته، منها انه يذهب في رحلات صيد طويلة برفقة زميله الوزير غير المسيحي، ولكن الفاسد أيضاً والذي يجمعه به الكره لإسرائيل.

استعاد الرجل أثناء إصغائه إلى الأطفال الطائفيين الذين يلهون في حديقة المبنى في الأشرفية ما كان فكّر به ذات يوم ويتمثل في أن الناس في لبنان طائفيون أكثر من زعمائهم ومسؤوليهم. نسبة الزواج المختلط بين ابناء المسؤولين أعلى بكثير من نسبتها بين الناس العاديين من أمثالنا. ونسبة الشراكات التجارية والاجتماعية والزبائنية بين المسؤولين أعلى أيضاً. العائلات السياسية تُغذي ناسها بالطائفية، وتلقح أفرادها ضد الطائفية. هناك صداقات مذهلة في بيئة السياسيين اللبنانيين لم تؤثر فيها الخصومات الطائفية، تلك الخصومات التي كانت قاتلة على مستوى الناس العاديين من أمثال الأطفال الطائفيين الذين يلهون في حديقة المبنى.

ثم إن طائفية الناس العاديين في لبنان أكثر دفئاً وأقل عنفاً من عدم طائفية السياسيين. فهي جزء مما لا تنطوي عليه نفوس أطفال الحديقة. هي مما يقولونه ولا يضمرونه، ووظيفته في زمن انحسار الحرب لا تتعدى ما يخلفه الأطفال خلفهم من نفايات في الحديقة، ما أن يحل الظلام ويغادرون إلى منازلهم. أما انعدام طائفية المسؤولين السياسيين وأبنائهم الكرام فهي نظيف ومضجر، ثم انه فاسد فساد استثماراتهم فيها. وكم يبدو مأسوياً على المستوى الشخصي أن يُزوج زعيم طائفي ابنه لشابة من طائفة أخرى يُحرض الناس عليها.

والطائفية الصيفية بهذا المعنى قد تكون بضاعة مغرية في لحظة كساد الأسواق القاتلة التي يمر بها لبنان. وبما أننا قبلنا بمعادلة انهيار الدولة والاقتصاد والأمن في مقابل انحسار احتمالات الحرب الأهلية الكبرى، ما علينا إلا الإسراع في الاستثمار في بضاعتنا الوحيدة هذه. هي (الطائفية) جزء من نشاط داخلي لا تتمتع به مجتمعات الصمت والحروب في جوارنا، وهي بمثابة كسر لرتابة الطائفة الواحدة في وجدان الشخص الواحد. فكّر الرجل أن ابنه اليوم مسلم ومسيحي في آن، جاءه الإسلام من صديق له في المدرسة دعاه إلى الصلاة في مواجهة صلاة الآخرين، وجاءته المسيحية من شتيمة صديق ثان آتٍ من دبي، وكم يبدو ذلك مسلياً ومفيداً في زمن الانحسار الموقت للحروب الكبرى.

الطائفية في الصيف اللبناني هي جزء من الألفة والدعة. هي صورة عجزنا عن استئناف الحرب الأهلية، وهي ليست قاتلة في المستقبل القريب.

فكّر الرجل انه يخاف من الطــائفية في الشتاء أكثر.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى