مراجعات كتب

«عن السمات اللغوية للترجمة» لرومان جاكوبسون: حدود حرية المترجم/ ابراهيم العريس

 

 

لم يكن هناك من بين العلوم العديدة المتعلقة باللسانيات وصولاً الى الأنتروبولوجيا والنقد والشعرية، ما يمكنه أن يخرج عن نطاق اهتمامات الباحث الأميركي من أصل روسي، رومان جاكوبسون، ومن هنا لم يستغرب أحد الأمر حين أصدر في العام 1959 دراسة في مجال علمي كان من الطبيعي أن يصل الى الغوص فيه ذات يوم: قضايا الترجمة. وهو عبّر عن اهتمامه بهذه المسألة في كتابه الذي يبقى فريداً من نوعه، على الأقل بالنسبة الى المرحلة المبكرة التي ظهر فيها، ونعني به بحثه «عن السمات اللغوية للترجمة». وفي هذا الكتاب، عاد جاكوبسون، بعد غياب، الى اهتماماته الأولى التي كانت قد طبعت أولى اشتغالاته على اللغة – اللغات، ضمن إطار «حلقة براغ اللغوية» التي كان هو واحداً من مؤسسيها، وهي مسألة المقارنة بين اللغات، وإنما بطريقة عملية من خلال فعل الترجمة نفسه الذي كان ينظر اليه على أنه أكثر بكثير من كونه نقلاً تقنياً لنصّ ما من لغة الى أخرى.

> في هذا السياق، كان جاكوبسون، بالاستناد الى مصادر السيميوتيكا، يرى أن المعنى لا يكمن في الدالّ بل في المدلول. وبالتالي، كما يؤكد، فإن الإشارة اللفظية اللسانية هي التي تعطي الشيء معناه. وكان يرى، كما يفيدنا في سياق الكتاب، أن تفسير – ترجمة – الإشارة اللفظية «يمكن أن يتم بواحدة من ثلاث طرق: إما داخل لغة هي نفسها، وإما من لغة الى أخرى، وإما أخيراً من معنى سيميوتيكي الى آخر. في الحالة الأولى، يكون التبدّل إذاً داخل اللغة الواحدة بين لفظ (كلمة) ولفظ آخر ينتميان معاً الى اللغة ذاتها فيحل أحدهما محل الآخر. وفي الحالة الثانية تقوم المسألة في إبدال إشارة لفظية من لغة الى أخرى مختلفة عنها. أما في الحالة الثالثة المتعلقة بالنقل من معنى الى معنى آخر، بصرف النظر عما إذا تعلق الأمر بتبادل بين لغتين أو داخل لغة واحدة، فإن «التركيز هنا يكون أكثر على الكلمات في التشديد على الرسالة الإجمالية التي يراد إيصالها. وفي هذه الحال يركز المترجم على المعلومة التي يتعين عليه إيصالها، أكثر كثيراً من تركيزه على الإشارات اللفظية». وفي هذا السياق، يستخدم جاكوبسون، وفق شارحي أعماله، مصطلح «القابلية التبادلية للترجمة»، قائلاً أنه «حين تجرى المقارنة بين أية لغتين، فإن السؤال الأول الذي يتعين طرحه يكون ذاك المتعلق بما إذا كان يمكن ترجمة إحداهما الى الأخرى أو لا». أما المكان الذي يرى جاكوبسون أن مثل هذا الاستنتاج يُتّضح فيه فهو القواعد النحوية لكل من اللغتين، وكم أنها تختلف بين إحداهما والأخرى.

> وهنا لا يفوت جاكوبسون أن يتوقف عند مسألة التحديات التي يمثلها وجود نواقص تعبيرية في النص الأصلي، أو استخدامات لغوية مبتكرة، أو تعبيرات عن تجارب معرفية جديدة، فيرى هنا أن على المترجم الى اللغة المستهدَفة أن يأخذ هذا كله في حسبانه معطياً لنفسه حرية ما في السير على منوال ما فعل صاحب النص الأصلي، ما يجعل الترجمة هنا إبداعاً ابتكارياً حقيقياً. غير أن هذا لا يعفي المترجم، في رأي الباحث، من أهمية أن يأخذ في حسبانه كل القواعد اللغوية والنحوية التي تحكم اللغة المستهدَفة، مؤكداً أنه سيكون «من الخطأ، محاولة المترجم أن يكون أميناً لقواعد اللغة الأصلية فيما هو يعرف أن قواعد اللغة المستهدفة جامدة وغير قابلة للتجديدات الضرورية….

> في ما وراء هذه المسائل التقنية كلها، من الواضح أن علم اللسانيات واحد من العلوم الأساسية التي يمكن للقرن العشرين أن يفخر بانتمائها اليه. فهذا العلم الذي سيطر على الدراسات اللغوية وغير اللغوية وكان، الى حد ما، في أساس سيادة المذاهب البنيوية، ما كان له أن يوجد لولا التطور الذي عرفه القرن العشرون في مجال التلاحم بين الأصناف الدراسية وبروز التفكيكية والتأويلية، وانصراف العلماء الى الاهتمام بالشكل بعد أن كان التركيز قبل ذلك على كل ما يتعلق بالمضامين والمعاني.

> لعلوم اللسانيات، على مدى عقود قرننا هذا، أساطين كبار في الولايات المتحدة كما في روسيا ثم الاتحاد السوفياتي، وفي شتى العواصم الثقافية الأوروبية، غير أن العلماء الذين يمكن لهم أن يزعموا تفردهم، والقدر الأكبر من التأثير الذي مارسوه، قلة، ولقد كان من بين هؤلاء بالطبع، جاكوبسون الروسي – الأميركي، الذي كان من التفرد بحيث إن واحداً من كبار الباحثين الفرنسيين كتب عنه يقول: «إن رومان جاكوبسون لا ينتمي الى أحد، فهو من الفرادة إذ إن الجماعات التي لا تكف عن إعلان انتمائها اليه، تجد صعوبات جمة وحقيقية إن هي حاولت أن تبرر العلاقات التي تقول انها قائمة بين نظرياتها ونظرياته».

> ولئن كان علم اللسانيات يعتبر من تأسيس السويسري فردينان دي سوسير، فإن رومان جاكوبسون هو الاسم الأول الذي يخطر على البال عند الحديث عن التطور الذي أصاب هذا العلم في القرن العشرين. وثمة من بين كبار البنيويين المعاصرين والسابقين عليهم، من لم يكن يجد أي غضاضة في اعتبار نفسه تلميذاً لجاكوبسون أو مكملاً لعمله، ومن هؤلاء الفرنسيان كلود ليفي ستروس وجاك لاكان، والأميركي نعوم تشومسكي.

> ولد جاكوبسون في موسكو العام 1896، واهتم منذ طفولته بالشعر، وهو كان في التاسعة عشرة من عمره حين ساهم في تأسيس «الحلقة اللغوية» في موسكو ثم في بتروغراد، وهي حلقة كانت تضم في أعضائها أهل النخبة من الشعراء والنقاد وعلماء اللغة والأعراق. ولئن شاء خصومهم أن يطلقوا عليهم صفة «الشكلانيين» فإنهم – أي أعضاء الحلقة – رضوا بالصفة وصاروا يطلقونها، هم، على أنفسهم. وكان هدفهم الأساسي يقوم على طرح مشكلات الأدب واللغة انطلاقاً من صيغ «البنية» و «الفاعلية الوظيفية». وكان رائدهم في ذلك فلاديمير بروب الذي طبق تلك النظريات، باكراً، على دراسة الحكايات الخرافية.

> في 1920، بعد اندلاع الثورة الروسية، سافر جاكوبسون الى تشيكوسلوفاكيا، حيث لعب دوراً كبيراً في تطوير ما سمي يومها بـ «مدرسة براغ»، التي جمعت الشعراء وعلماء اللغة وعلماء الفولكلور والفلاسفة في بوتقة معرفية واحدة، وكان أهم ما خرجت به مدرسة براغ، تحت رعاية جاكوبسون هو النظر الى اللغة باعتبارها «منظومة بنى» غايتها الاستجابة لعدد من الوظائف المحددة، وهو الأمر الذي سيعبر عنه جاكوبسون في كتابه الأشهر «اللسانيات والشعر». غير أن جاكوبسون سرعان ما تجاوز ذلك ليركز عمله على صوتيات اللغة، وليتجه في دراسته ناحية العلاقة بين الطفل واللغة، وهو الجانب الذي كرس له الجزء الأكبر من حياته وبعض أهم دراساته.

> في العام 1939 أمام هجمة النازية، اضطر جاكوبسون لمبارحة تشيكوسلوفاكيا وتوجه الى اسكندنافيا، وفي كوبنهاغن ساهم في أعمال مدرسة اللغويات الشهيرة فيها. وهناك التقى بالعالم نيلس بوهر الذي سيشاركه لاحقاً في دورة دراسية أقاماها معاً في معهد ماساتشوستس التكنولوجي في الولايات المتحدة حول اللغة وعلوم الطبيعة. وبالتوازي مع ذلك، طوّر جاكوبسون اشغاله حول لغة الأطفال، حيث إن جاكوبسون كان يرى، كما يقول في واحد من أشهر نصوصه، انه «على الرغم من تعقد المسائل المتعلقة بهذا الموضوع، فإن تكون اللغة كحدث أساسي في تحول الإنسان – ما – قبل – البشري، الى إنسان بشري حقيقي (إنسان ناطق) يتطلب، في حقيقة أمره بحثاً متعدد الاتجاهات يشتغل عليه، في آن معاً، لغويون لسانيون وعلماء أحياء وعلماء أعصاب وعلماء نفس إضافة الى ما تيسر من علماء الأنثروبولوجيا وما قبل التاريخ».

> هذا النوع من الدراسة المتعددة واصل جاكوبسون العمل عليه بعد هجرته الى الولايات المتحدة الأميركية في 1942، حيث استقر أستاذاً في كولومبيا ثم في جامعة هارفرد وفي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ولقد عاش جاكوبسون بقية عمره هناك حتى رحيله عام 1982، عن عشرات الكتب والدراسات التي جعلت له مكانة كبيرة في كافة الفروع الدراسية المتعلقة باللسانيات ولغات الأطفال ناهيك بأعماله الكبرى في مجال دراسة الشعر وتحليله.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى