عن الطفل السوري الغريق– مجموعة مقالات وجدانية –
صور الموت السوري/ رشا عمران
(1)
لا تتجاوز قامته نصف متر، كنزته الصغيرة حمراء، وبنطاله القصير أزرق، أما حذاؤه فلا يبدو منه غير نعله الذي يشبه لون الرمل، يداه مستلقيتان بسلام على جانبيه، شعره أسود مبلل، وجهه الذي لا تبدو ملامحه مخفي في الحصى والرمل. هكذا ألقاه البحر، نائماً على بطنه، كما لو كان ينام في سريره الصغير. طفل سوري لفظته أمواج البحر على شاطئ تركي، بعد غرق (البلم) الذي كان يركبه مع عائلته في رحلة الهرب إلى أوروبا. ليس استثناءً هذا الطفل، مئات الأطفال قبله، منهم من احتفظ به البحر في أعماقه، ومنهم من وجد مستلقياً باستسلام كامل للموت على شواطئ المتوسط، مئات بلا أسماء، هل تهم الأسماء هنا؟ أطفال سوريون كثيرون يموتون غرقا كل يوم، وهم يظنون أن خلف البحر ألعاب وحدائق وحلوى ملونة، نتأمل صورهم، نحن الذين عشنا حتى هذه اللحظة، نحن الذين ساعدتنا الحياة على سرقة أعمارهم، نتأمل صور موتهم، وبكل قسوة نحاول أن نتخيل اللحظة التي اكتشفوا فيها أنهم يغرقون، هل شاهدوا الموت وقتها؟ هل ابتسموا له؟ هل أمسكوا بيده، وهم يظنون أنه من سيفتح لهم باب حدائق طفولتهم؟ نتأمل ونحن نسأل عن العدالة والرحمة، هل ثمة وجود لها في هذا الكون فعلا!
(2)
لم يتخيل أحد ممن قرأوا يوماَ رواية “رجال تحت الشمس” للراحل غسان كنفاني، أن حدثها المتخيل سيصبح واقعا ذات يوم، وأن الرجال الثلاثة في خزان كنفاني الروائي، تجاوزوا السبعين في الواقع، وبينهم نساء وأطفال، وأنهم كانوا في خزان الموت هذا هربا من الموت، وأن السائق لم يكن يقصد مساعدتهم، بل التجارة بهم، فالسوري الهارب هذه الأيام مصدر دخل لمافيات التهريب المنتشرة في العالم، لابأس إذا من وضع سبعين شخصا في براد للحوم المحمدة، ولا بأس من إيهامهم أنهم سيصلون، بأمان، إلى أرض الأمان، ليس لدى هؤلاء الباحثين عن أية بقعة للأمان ترف التفكير بخطورة وسيلة نقلهم، ليستغل سماسرة الموت هذا. شاحنة براد للحوم المجمدة، مصمتة بالكامل، تفرغ من اللحوم الصالحة للاستهلاك البشري، وتستبدل بلحم حي، هل يهم أحد إن تجمد هذا اللحم الحي. منذ خمس سنين، واللحم نفسه تفتك فيه براثن الموت من دون أن يكترث أحد، لا بأس إذا، ولن يطرقوا على معدن البراد، حتى لو طرقوا بكل قوتهم، لن يسمعهم أحد، من خمس سنين أيضا يطرقون ويقرعون ويصرخون، ولا يسمعهم أحد، لم يخطر هذا في بالك، يا كنفاني، لم يخطر في بال كل من تعاطفوا مع رجالك الذين تحت الشمس.
(3)
لم يريدوا الرحيل عن أرضهم. هنا عاشوا، وهنا أنجبوا أبناءهم وهنا دفنوهم، وهنا ينتظرون الغائبين منهم، هنا ينتظرون الفرج والخلاص. لهذا لم يغادروا، ظلت أصابعم متمسكة ببقايا جدران بيوتهم، وظلت أرواحهم معلقة على الأسقف شبه المنهارة، وعيونهم على الشبابيك المفتوحة منذ خمس سنوات نحو القادم. الغربة لهم ذل، ترك أراضيهم ورزقهم للغرباء ذل، لم يغادروا، أصروا على البقاء، ذوقوا إذا طعم الموت من براميل الحقد، تأملوا أشلاء أبنائكم، استلموا من القذائف والقنابل والبراميل ما لم يخطر لكم. البلاد بيعت، وعليكم المغادرة فوراً أو الموت الشنيع تحت حجارة بيوتكم وأسواقكم. لن يكترث بكم أحد، البلاد بيعت والثورة بيعت والأحلام بيعت، ولا أحد يكترث، البيع يتم بموافقة الجميع، العالم المتمدن والمتأخر والدولي والإقليمي والمحلي والجار القريب والجار البعيد، غادروا أو سلموا أو موتوا، لا خيارات أخرى. براميل الموت على الغوطة، قذائف الموت على طلاب الجامعات، تفجيرات في كل مكان، موت في المعتقلات، موت من الحصار والعطش والجوع والظلام، من البرد ومن المطر ومن الحر، موت من القهر والعجز والانتظار، موت في كل مكان، سورية أرض الموت المستديم، سورية التي تموت، وقاتلها الأول لم يتزحزح من مكانه، بينما يتناسل القتلة الآخرون من بين أكمامه. سورية التي تصبح شيئا فشيئا طي النسيان، يغرق وجهها في الرمل والحصى، يتجمّد تاريخها في جمادات العالم للحوم الآدمية، يتمزق جسدها ويصبح أشلاء، ولا أحد يكترث.
العربي الجديد
لاجئون في صحراء من دموع/ فاروق يوسف
اتسعت دائرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا في الآونة الأخيرة بطريقة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً. يقف السوريون في طليعة طالبي الحماية واللجوء. المفاجئ في الأمر أن النزوح صار جماعياً وأن عددا من الدول قد فتحت حدودها أمام أولئك النازحين، بل إن كل شيء لم يعد سرّياً. هناك عدسات للتصوير تنقل الخبر المأسوي بصرياً، ليل نهار. ما معنى ذلك؟ أهناك تواطؤ خفي بين شبكات التهريب وشرطة الحدود ودوائر الهجرة في بلدان اللجوء؟
من وجهة نظري، وأنا لاجئ قديم، لا تشتغل ماكينة الهجرة في أوروبا، بمثل ما هي عليه من همّة الآن، إلا لإسباب سياسية.
لن تتسع المناديل لدموع الأمهات
كانت هناك مناديل للوداع. يتذكر المهاجرون الأوائل دموع الأمهات على الساحل. لم تكن أمي واحدة منهن حين ودّعتي وهي تعرف أني لن أعود. “سنة وأعود”. أشفقت على كذبتي وهي التي تجيد قراءة شقوق شفتي. حين قلت لها من خلال الهاتف: “سنة أخرى”. تداركت الخطأ فصارت تحدثني عن أجدادها الذين ذهبوا من طريق الخطأ إلى الفردوس: “لم تعد قواربهم بعدما وصلت إلى جنة (حفيظ)”. أجدادها لم يهاجروا غير انهم وصلوا، من غير أن يحتاجوا إلى تأشيرة دخول للوصول إلى بلاد لم يكونوا يودون الذهاب إليها في تلك اللحظة بالذات. كان الموت هجرة، فيما صارت الهجرة في ما بعد غيابا. “سأهاجر إلى كندا”. تضحك. لأن القرار مرتبط باقتناع وزارة الهجرة الكندية. المغامرة ترتدي لباساً رسميا. اما اللجوء فهو نوع من المباغتة. يباغت المرء نفسه حين يكون لاجئاً. القدر يقف في الطريق بأبهة طقوسه. “لقد اخترتك لتدخل غرفة العناية المركزة”. اللاجئ شخص محظوظ. بدلاً من النكد السوري والعراقي واليمني، سيكون أمامه حقل تغمره الأشجار بالخضرة وبحيرات يسبح فيها البط بأمان.
قال صديقي اليمني لموظف الهجرة الأسوجي: “أنا رجل أعمال. لديّ مصالح في أبو ظبي. ليست لديّ مشكلة اقتصادية. ولكني يمني. وهي مشكلتي الوحيدة. إن قررت أبو ظبي ترحيلي فلا أملك سوى وجهة واحدة هي اليمن التي كما تعرف تعيش حرباً”. قال له الموظف الأسوجي: “أهلا بك. ستكون لاجئاً وبخمس نجوم”. خرج صديقي من المقابلة ضاحكاً. لم يكن الامر سوى مزحة. غير أنها كانت بالنسبة إليه المزحة التي تقول الحقيقة.
“سأكون لاجئاً يوما ما”، قال لي، وأضاف: “ربما في ظروف أسوأ”. كانت المناديل على الساحل وكان هناك الكثير من دموع الامهات. لم يكلف أحد نفسه تعبئة تلك الدموع. هناك خيانة في الحنين. يربك الحنين خطواتنا. “سأعود بعد سنة” ما هذه السنة التي تلتهم عقدا؟ سنكذب من أجل أن يكون انتظار الأمهات ممكناً. لقد أضلّنا يوسف شاهين بمفهوم الابن الضالّ، وهو مفهوم يسدّ الطريق ولا يفتحها. كانت الفكرة سياحية أكثر مما يجب. المغرب كونه بلداً سياحياً، كان أكثر البلدان استلهاماً لحقيقة ما يجري لأبنائه المهاجرين.
“أهلا بكم في بلدكم الثاني”. حقيقة مريحة يتماهى معها المهاجر المغربي العائد إلى عائلته الأولى، من غير أن يتخلى عن صفته الموقتة سائحاً، وهو القادم من بلاد أنعمت عليه بالمواطنة. يعود المغاربة إلى بلادهم باعتبارهم سائحين. لكن بلداً كئيباً مثل العراق لا يمكنه أن يستوعب فكرة أن يقوم بزيارته مواطنوه السابقون. سيكون علينا حينها أن نتحدث عن صفقة، يكون الفساد سيدها. فالعراق بلد فاسد، صار شعبه ينظر إلى القادمين إليه من حيث فسادهم. أن يرحب شعب بأبنائه الفاسدين، هي فكرة تنطوي على الكثير من القسوة. لكن الواقع يجبرنا على القبول بها. لم يعد هناك من صديق للعراق. بئر بترول يتوافد عليها المنتفعون. أهذا ما كنت أنتظره بعد سنوات قضيتها في الحنين؟
هل كانت مكة قريبة حقاً؟
لن يتعرّفوا إلى مقدونيا إلا باعتبارها طريقاً يقود إلى الأمل. لن يكون الاسكندر المقدوني الذي حقّق حلمه في الوصول إلى بابل، سوى واحد من شرطة الحدود المهمومين بجمع الدموع. قيل لهم إن الممر سيكون آمناً، وإنهم في كل الأحوال سيكونون في صربيا. ينامون في حدائق بلغراد. “لقد مشينا عشرة أيام”. السلطات مطمئنة. ذلك لأن المئات التي تفترش الحدائق في الصيف تأمل في الوصول إلى المانيا. المسيرة يتخللها قدر من الجنائزية. كانت انجيلا ميركل قد قالت: “السوريون لجأوا إلينا بالرغم من أن مكة كانت أقرب منا إليهم”. إنه العالم الذي يختال بكرمه في مواجهة بخل أسطوري، نحن سادة مختبره التاريخي. يفجع المرء حين يرى السلاسل البشرية وهي تتدفق إلى الحدود. تمشي المئات على سكة القطار من أجل أن تصل إلى محطة ما. يبدو التيه منظماً. وكما يظهر فإن هناك تنسيقاً مسبقا بين عصابات التهريب وشرطة الحدود ومؤسسات الهجرة في بلدان اللجوء. وإلا ما كان في إمكان هذه الاعداد الهائلة من البشر أن تتسلل يومياً إلى بلدان الاتحاد الاوروبي. “لن أبقى في النمسا إلا أياما. هدفي الوصول إلى المانيا أو أسوج، وفي أسوأ الأحوال إلى فنلندا”. ما يقرره المهرّبون سيكون ملزماً. ولكن هناك فنادق في الطريق اتفقت على أن لا تطلب وثائق من زبانئها. لن تكون الرحلة مضنية بشكل كامل. هناك حمّام ونوم على فراش مريح، هما فاصلتا عيش غامض بين متاهتين. لن يكون الغد شبيهاً بالأمس، لكن الأمس بات بعيدا. سيكون المرء مضطراً لكي يتحول إلى سواه من أجل أن يتماهى مع قدره. اللاجئ هو صفته التي لن يتجاوز حدودها. مواطَنَته المؤجلة صارت شرط حياته التي يتمنى أن يغادرها نهائيا. من خلال اللجوء يمكنه أن يكون مواطناً، غير أنه سيفكر في مئات الكيلومترات التي مشاها من أجل أن يكون مواطناً. أما كان ممكناً الاستغناء عن تلك الرحلة، من طريق الرحلة إلى الوطن؟ ليست مكة سوى مجاز لغوي اقترحته ميركل لتحرجنا. أكان علينا أن نعيد اكتشاف الوطن؟
في البدء لم يكن لديَّ نقطة لقياس المسافة سوى بغداد. لكن بغداد صارت مع الوقت بعيدة. هناك ظلام يخيّم على ضفتَي النهرين. ليس في الإمكان أن يستعيد المرء مواطَنته. ما قررته الأحزاب من تقاسم للسلطة هناك، لن يسمح بهواء المواطنة في التسلل إلى السقيفة التي احتلتها تلك الاحزاب. سأكفّ عن قياس المسافة بأدوات الحنين من أجل أن أتعرف إلى قدميَّ من جديد. ما يفعله السوريون اليوم، لا يغادر فعل التعرف إلى أقدامهم. لن يكون ذلك الجانب من الجنة ميسّراً، فلكل أرض شروطها. لكن مكة كانت قريبة منهم كما زعمت المستشارة الالمانية. ربما علينا الحديث عن دمشق نفسها التي صارت تؤوي ملايين من الضيوف. لا أحد يفكر في دمشق باعتبارها مدينة للجوء. لقد أعمتنا أدوات القياس العاطفي التي غالبا ما تخون الرياضيات. مكة ليست قريبة، ذلك لأنها تقيم في العالم الآخر. أشباح حرّاسها تذكّر بعذاب القبر. بدلاً من التيه في صحرائها يفضل المرء التيه في حقول خضراء قد يغطيها الثلج في كل لحظة، غير أن القطار العابر بتلك الحقول لن يفقد سكته أبداً. يعرف السوريون أن ليلهم الطويل لن تضيئه الألعاب النارية. هناك حقيقة وحيدة يعرفها كل من لم يصل إلى دمشق منهم. لقد غرق الوطن في الظلمة، وهي ظلمة ستمتد إلى ما تبقى من العمر.
الجماهير وقد أغرقها مطر الصيف
“الجماهير التي يعلكها دولاب نار/ مَن أنا حتى أردّ النار عنها والدوار”؟ ألم تكن تلك الجماهير التي أشار إليها خليل حاوي خارجة لتوها من ماكينة القتل لتقوم بنزهة، قد تطول قليلا؟ كانت نبوءة الشاعر وقد كتب قصيدته “العازر” في العام 1962 أكثر غموضا من أن تُفهم. فالجماهير كانت تعيش مرحلة “عدا النهار” و”صورة صورة صورة. كلنا كدا عايزين صورة”، لذلك لم تكن ترى مستقبلها إلا بطريقة ثأرية. هل كان الأمل صناعة؟ ربما لم يسع النظام الناصري، ناصر بالتحديد، إلى خداع تلك الجماهير، غير أن النتيجة كانت لصالح الشاعر. ليس تماماً. فالجماهير خرجت إلى الشوارع تبكي حين أقرّ جمال عبد الناصر في بطولة استثنائية بمسؤوليته عن الهزيمة التي لحقت بمصر والعالم العربي في العام 1967. بطريقة أو بأخرى، كانت مسيرة تلك الجماهير الباكية بمثابة المجاز الذي مهّد لمسيرات اللجوء. لقد انكسر زمن ستينات القرن العشرين، فكان ذلك الانكسار إيذانا ببدء الهجرة الجماهيرية. شدّ المثقفون رحالهم إلى بيروت التي لم تنتظر طويلا حتى فجعتهم بحربها الاهلية التي سلّمتهم في العام 1982 إلى السفن التي أغرقتها المناديل بالدموع.
لم تكن هزيمة المثقفين فصل خريف سيمحوه الشتاء ببركات أمطاره. لقد أغرقت تلك الهزيمة فكر الجماهير بمطرها الصيفي. أتذكر أن زميلاً لي في الجريدة كان يبدأ يومه في العمل بخلع حذائه ليضرب به صورة “القائد الضرورة” التي كانت معلّقة على أحد جدران غرفتنا. ذات يوم ومن سوء الحظ، فتح رئيس التحرير باب الغرفة فيما كان ذلك الزميل يهمّ بالقيام بفعله اليومي، وكان قد أمسك بحذائه بيده. لم يملك الزميل وقد شعر بالهلع سوى أن يضرب رأسه بالحذاء وبالقوة التي كان قد جهّزها لضرب صورة القائد، وهذا ما أدى إلى أن يغمى عليه، فاستدعيت سيارة الاسعاف لتحمله إلى المستشفى وكان رئيس التحرير شاهداً على جنونه.
أتذكر ذلك الزميل وأنا أرى حشوداً من النازحين وقد خلعوا أحذيتهم واستلقوا على العشب في إحدى حدائق بلغراد. لا أحد منهم يحلم بعودة زنوبيا من غيبتها. لا أحد منهم يشعر بالرغبة في سماع الآذان. لا أحد منهم يشقّ صوت فيروز الطريق إلى أذنه مثلما كان يحضر مع حليب الصباح الساخن.
هناك لحظة ينقطع فيها حبل السرة. لا أحد يعرف أين تقع، غير أن آثارها تدل عليها. فلا الهواء بعدها هواء ولا الماء ماء. لا الأرض أرض ولا السماء سماء. لحظة حرب يحل بعدها صمت هائل.
لن يكون المهرّبون إلا أبطالاً ثانويين
تبدو المسيرة الحالية مختلفة عما سبقتها من مسيرات. ففي ظل الهروب الجماعي لن يكون المهرّبون على استعداد لحمل المهاجرين فردا فردا. صارت عصاباتهم تعمل بنظام منظمات الإغاثة الدولية. دائما هناك شعب من الضائعين في حاجة إلى أن مَن يمشي به. لذلك وضع المهرّبون كل وسائل النقل في خدمة مشروعهم. من الخيل إلى الطائرات مروراً بعربات الحمولة والقطارات والسفن. غير أن ذلك لا يعفي أفراد ذلك الشعب من المشي على الأقدام ولمسافات طويلة. لقد تورمت قدما زوجة صاحبي فمنعها ذلك الورم من رؤية ستوكهولم التي وصلتها بعد رحلة مشي استغرقت ثمانية ايام. مَن وصل سالماً لم يكن لديه مزاج للتفكير في مَن لم يصل البتة. “لقد ماتوا”. لن يكون أحد مسؤولاً عن موتهم. فالمهرّبون أشباح. غالباً ما يجهل المهاجر غير الشرعي كل شيء عن الشخص الذي يمدّ تحت قدميه الأرض في اتجاه النجاة. تصل التعليمات بلغات مختلفة وأحياناً من طريق الاشارات. وقد لا تكون لدى القطيع البشري رغبة في الفهم أكثر من الرغبة في النوم. يا لسحر المخدة. سيكون قطنها اليابس ريشاً لطواويس لم يتعرف أنسيٌّ على جمالها من قبل. رائحة الشواء تهبّ من بيوت القرية المجاورة فتلمع في العيون صور المطابخ المهجورة. كل واحد من أولئك المشاة يحلم في أن يطلق صرخته الأخيرة التي ستقطع أنفاسه: “لقد نجوت”. ولكن هل نجا حقا؟ ذلك سؤال مؤجل. بعد سنوات من العيش المعلّق سيكون لدى كل لاجئ جوابه الخاص. وهي أجوبة قد لا يكون مفاجئاً أنها تجمع على أن ما جرى كان جزءا مقتطعاً من فيلم لم يكن المهرّبون فيه إلا أبطالاً ثانويين.
النهار
الصور التي «تغيّر العالم»… هل تغيّره فعلاً؟/ زينب حاوي
«الصور التي «تغيّر العالم»… هل تغيّر العالم فعلاً؟». انطلاقاً من صورة الطفل السوري ايلان كردي (الأخبار 4/9/2015)، طرحت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية هذه الإشكالية أول من أمس، لتضيء على أبرز الصور الفوتوغرافية الملتقطة التي أضحت أيقونات عالمية لسياقها اللحظوي والتاريخي، بخاصة تلك المتعلقة بصور أطفال اختصرت معاناتهم ومآسي بلادهم.
الصحافي فرنتز دورو جال على أهم هذه الصور التي التقطت لأطفال عاشوا في ظروف قاهرة ومؤلمة، ولا سيما في الحروب المدمّرة، برفقة مصورين محترفين وخبراء اجتماعيين بما أن مثل هذه الصور يرتجى منها إحداث تغيير اجتماعي سياسي لقوة عناصرها الرسائلية والسيميائية واختصارها للمعاناة الإنسانية. تصدرت المقال الصورة الشهيرة للأفغانية شربات غولا التي التقطها المصور الأميركي ستيف ماكوري عام 1984 في باكستان. تلك الصورة احتلت وقتها غلاف مجلة «ناشونال جيوغرافيك» لتجول بعدها كل أصقاع العالم كتحفة حيّة. وللإجابة عن الإشكالية المطروحة أعلاه، يعود بنا الصحافي الفرنسي تاريخياً إلى أحداث وصور طبعت المآسي الإنسانية، واستطاعت أن تحرك ركوداً سياسياً لفظاعتها. يذهب بنا إلى فييتنام، وتحديداً عام 1972 مع أشهر صورة التقطت للطفلة كيم فوك التي كانت تهرول عارية هرباً من قنابل نابالم المحرّمة دولياً. هذه الصورة التاريخية كانت محط جدل في الصحف العالمية حول نشرها من عدمه بسبب التحفظ على عريها. يستصرح المقال رأي المتخصص في التاريخ البصري الفرنسي اندريه غونثيرت عن أهمية هذه الصورة في وضع حد للحرب الأميركية على فييتنام وتحريكها الرأي العام الأميركي لإنهاء هذه الحرب الدموية. إلا أنّ الباحث يشير إلى أنّ «الصورة الأيقونية ترافق عادة تغييراً يحدث أصلاً»، بمعنى أنّه عندما نشرت هذه الصورة، كان الرأي العام الأميركي أصلاً يميل إلى وقف الحرب على الفيتنام.
عندما نتحدث عن الصور الأيقونية التي طبعت تاريخ العالم، لا بد من أن تستوقفنا أشهر صورة للمصور كيفن كارتر عام 1993 التي التقطها في السودان إبان المجاعة التي ضربت البلاد. كانت صورة طفلة هزيلة تتضور جوعاً وإلى جانبها نسر ينتظر الانقضاض عليها. هذه الصورة كانت علامة فارقة في تاريخ الفوتوغرافيا للحظويتها وقساوتها وأبعادها الإنسانية الصرفة.
نالت وقتها جائزة «بوليتزر» قبل أن يقرر مصورها إنهاء حياته عن عمر ناهز 33 عاماً. فضلاً عن إعادة استذكار هذه الصور ومعها اللحظات التاريخية التي سجلتها، يفرض سؤال جوهري تولى الكاتب طرحه عن التفاعل العارم مع صورة الطفل السوري الذي غرق بعدما هرب مع عائلته من الحرب السورية في مدينته كوباني ولقي حتفه مع أفراد عائلته باستثناء والده، لكن بقيت الصورة التي التقطت له وهو يتوسد الشاطىء التركي محط انتشار واسع في كل العالم. يسأل الكاتب هنا: لماذا هذا التفاعل الكبير مع هذه الصورة، مع أن العديد من المهاجرين قضوا على شاطئ المتوسط، ووصل عددهم إلى الآلاف؟ وأيضاً لماذا حصل هذا التفاعل رغم تدفق عدد لا يحصى من الصور الموثقة لفظاعة الحرب السورية الدائرة؟ يجيب بأن الضجة أثيرت مع صورة الطفل ايلان بسبب لحظويتها وسياقها، ولا سيما السياسي منه مع إعلان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل استعداد بلادها لاستقبال اللاجئين السوريين مقابل موقف رافض من رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون قبل أن يتراجع عن قراره أمس. هذه الصورة وغيرها من الصور التاريخية الإنسانية ومنها صورة الطفل الفلسطيني محمد الدّرة التي التقطتها كاميرا قناة «فرنس 2» عام 2000، يقول عنها اندريه غونثيرت إن أهميتها تكمن في «اللحظات المختارة لالتقاطها»، فهي قادرة على التعبير أكثر من الكتابة في الصحف قائلاً: «لتكون الصورة مقروءة أكثر، لا بد من أن يتقلص عدد الكلمات المرافقة لها». ومن خلال كلامه هذا، عاد إلى صورة ايلان كردي ليؤكد نظريته.
قال إنّه حتى لو لم ينشر سياق صورة الطفل وقصتها وسبب مقتل هذا الطفل الصغير، إلا أن العالم تفاعل معها من منطلق ربطه بـ»فشل السياسة الأوروبية حيال المهاجرين السوريين».
الأخبار
موناليزا الطفل الغريق/ أحمد عمر
نقتبس عبارة لعضو مجلس شعب سوري منافق بعد التحوير : ” البحر صغير عليك، أنت يا سيدي تستحق أن تفجع العالم” . حتى النظام المقاوم، بكى عليك ويرثيك ويحاول أن يرثك ويطالب بدمك لأنك لم تقتل بيده مباشرة، ويتمنى أن تكون مت بالقصف الشامل الذي نجت ضحاياه وهم بمئات الآلاف، من التعاطف الدولي والعلمي.
لم َصارت صورة الطفل السوري الغريق لوحة عالمية؟ تطرح صورة الطفل الغريق ، حمزة الخطيب الثاني، التي دارت العالم سؤال الكم والنوع؟
دوّر النشطاء الصورة التي أوتيت عناصر فريدة ، من كثير من الزوايا، حتى أنها صارت عقرباً، يلدغنا بموته القاسي، وداروا بها في البلدان والقاعات: قاعة الجامعة العربية، قاعة الأمم المتحدة، وضعوا على نعليه صورتي الطاغية وحليفه اللبناني، ورموز الأمم المتحدة. نقلوها إلى نيويورك بجانب الأبراج وناطحات السحاب، رسموها وجعلوا في إحدى اللوحات الزعماء العرب يدفنونه ، صار مرة حنظلة ناجي العلي، ومرة اكتسب ألوان كل الفصول؛ لون الصيف والربيع والشتاء و فصل النزوح… بات لدينا جوكندا الثورة ، وهو إلى ذلك بلا وجه . طغت إنسانية الغريق على قوميته .اسمه مرة أيلان ومرة آلان ومرة أيليان ومرة عيلان .. تفاعلت معه وسائل الأعلام ورثاه بعض الشعراء، أضف إليهم التلفزيون السوري الذي نعاه ،وطالبه بأن يشكو إلى ربه عند اللقاء جرائم التكفيريين وأكلة الاكباد! يعارض الاعتقاد الديني الإسلام ان يكون الميت ساعي بريد يسلم الشكوى باليد وأن الله لا يسمع سوى من الموتى كأنه دكتاتور عربي . في سورية تموت مجاناً، أو تحت التعذيب، اما بعيدا عنها فيدفع السوري عشرة آلاف يورو ليغرق في البحر! الغريق يذكر بطفل النبي سليمان عليه السلام الذي تخاصمت عليه الأم والمربية في دائرة الطباشير الشهيرة ، إلى أن رضيت الأم الحقيقية بالتخلي عنه خوفا من أن يتمزق بشد المربية التي تريده لها ،فحكم لها، وهاهي الأم المدعية تبكي عليه في التلفزيون السوري أما الحقيقة فميتة أو خرساء!
ولكن لمَ ألهبت المشاعر، وقد مات من قبله آلاف الأطفال بالصواريخ والكيمياء والبسل ( قطع آلة الذرية) وموتاً تحت التعذيب؟
في مجزرة حلبجة كان الأكراد يعرضون صور الضحايا متراكمة على الطرقات على أغلفة مجلات كردية. الكردي لا يهمه سوى ألمه ، لم يحفل بصور الضحايا القاسية التي تثير بمخاطها و السوائل التي استخرجها غاز الخردل المنفرة و المثيرة لمشاعر الاشمئزاز محل الأسى على الضحية. في احدى القاعات السينمائية في أحد المهرجانات العالمية بعد أن صفق الحضور طويلا لفيلم فيتنامي قصير من ثلاث دقائق أو اقل، عن قرية فيتنامية سعيدة انتهى الفيلم بعبارة : كان ذلك قبل تاريخ 1968! أي قبل الحرب، فصفق الحضور طويلا، وقال الدبلوماسي الأمريكي للسياسي للفلسطيني إذا أردتم عطفنا خاطبونا بمثل هذه الأفلام فنحن نشمئز من صور الضحايا الملطخة بالدماء ولا نكترث بعددهم . الأعداد لا تهمنا سوى في المال والانتخابات!
في لوحة الطفل الغريق انتبه الزميل محمد منصور إلى براعة موقع (هافينتغتون بوست) العربي بالتعامل معها: مانشيت عريض وصورة تحتل الصفحة وخطاب يقول “لا تدر وجهك قد تجرحك الصورة…” ويذكر الموقع أنها الصورة التي جرحت المعارضة والنظام وإنها يمكن أن تثير قلب أوربا القاسي! النظام لا تثيره الصور، هو يريد التجارة بأي شيء. فسوريا قارب مثقوب، وهو يتمسك بقشة.
الصورة ذات عناصر فريدة: طفل وحيد ملقى على ساحل البحر، والموج يلحسه، وحيد جدا مع ثلاث آيات كونية : البحر والرمل والسماء ، وشمس غير ظاهرة لكنها شاخصة، كأنه آدم جديد، آدم صغير، في فجر الخليقة ، أو في جنازتها.
الطفل مقلوب على بطنه ، يلحسه لسان الموج وأحيانا يزبد فم البحر من العطش. الطفل يدير لكل شيء ظهره، نعلاه في وجوهنا. أنه وحيد جدا، لو كانت أمه معه لخففت من قسوة الصورة، هو طفل، يقول شارلي شابلن أنّ فيلما فيه طفل وكلب جدير بالنجاح، الطفل هو صورة المستقبل و العجز والبراءة والفطرة،.. كتبت قبل سنتين مقالا بعنوان “ربيع سوري في كندا” عن طفل سوري ولد في كندا لأحد الأصدقاء، فتحولت العمارة إلى عيد، وامتلأت الشقة بالهدايا على ولادة الطفل المعجزة. الطفل الغريق سليم جسديا، فتلف البنية يجرح مشاعرنا، ويفسد الصورة، كلما زادت الدماء على الجثة، وزاد التلف في الهيئة، زاد النفور النفسي، كأنه نائم ولا نستطيع إيقاظه ليذهب إلى المدرسة، أو ينهض ليلعب. هو بثياب الصيف: سروال قصير أسود قميص أحمر وبحر أزرق ورمل بني، و ينتعل حذاءه المصفر، ليس حافيا، الوجه غائب في الرمل. حمزة الأول كان ضحية النظام أما الثاني فضحية مؤممة: النظام، الجيران، الأخوة، العالم الذي يغلق الحدود، قروش البر والبحر.. قبل أيام عرضت الجزيرة -وهي أفضل من يتابع مشهد النازحين إلى أوربا- تقريرا عن أم مكلومة اسمها سمر جوخدار، مرّ الخبر عابرا كغيره علما أنها أرملة ووحيدة سُرقت وطفلها مريض بمتلازمة دوان ، من قبل أصحاب النخوة والشهامة .
احتلت الصورة صفحات معظم أصدقائي، ورافقتها عبارات رثاء عادية أو محفوظة، أو عبارات استنكار أو عزاء أو تنديد أو شجب أو شتم، أو كفر. قبل أيام كتبت في مفكرتي، يجب أن نحمد هنغاريا المجر على أنها تسمح لنا بالتظاهر، وليس فيها تعذيب، فأطول توقيف في معتقلاتها هو يومان، واكبر عقوبة هي التجويع بوجبة واحدة، صار الطفل من الشهداء ، لكنه نجا من أن يكون رقماً بين آلاف الأرقام، كأنه أول شهيد للثورة السورية النازحة؟ فلو اجرى النظام انتخابات ديمقراطية تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة لفاز بنسبة معقولة.. بشرى: سورية نضجت للديمقراطية!. لم تغز صورة الشهيد حمزة الخطيب رحمه الله أوروبا، فصورته غير لائقة، فهي منتفخة و”سكند هاند” ومحلية. المسلمون يكرمون الميت بالدفن السريع، وصورة الطفل الغريق، يانعة، بلا رائحة، غير جديرة بالدفن أو يمكن تحنيطها واستعمالها للتعذيب النفسي للجلادين أو الساكتين عن الحق، الأهم أنه مات في بحر غير البحر العربي، وإلا لمات رقماً بين الأرقام ، وربما يكون جسد هذا الطفل جسراً لعبور الآلاف من أشقائه وأهله إلى العبور إلى الوطن الجديد، ربما تكون ديته منفى جيداً ، فالوطن هو الحرية وليس المكان الذي نلد فيه، ونحبس فيه، ويصفعنا الشرطي فيه ، ونهتف فيه بالروح والدم ، فنحن شعب بلا روح و بلا دم . الروح والدماء انتهت في شوارع الهتاف.
صورته مختلفة عن صورة أخيه ، فأخوه غريق ، قذفته الموجة بجانب صخرة والصخرة تعطل رحابة المشهد الذي حظيت به صورة الأخ الأصغر : آيات البحر والرمل و السماء… والشهيد.
لم ينج مثل موسى عليه السلام عندما كان طفلا من الغرق. وقد يكون في غرقه نجاة للآخرين. أنه الطفل الرسالة إلى بريد الإنسانية المعطل.
نقول عسى ..
هل حان وقت تمزيق صحيفة الحصار المسمومة التي لا ترضى الأرض بأكلها .
المدن
حين يبكي البحر “إيلاناً”/ دعاء ضياء الدين
بغدره وظلمته، كم كان البحر رؤوفاً بك أيها الطفل الجميل، أتى بك وأنت في كامل أناقتك إلى شط يابس عابس، عجز أن يأويك وآلاف الشطوط، لتتلاطم بك الأقدار إلى القدر المحتوم!
هل كنت تعلم أن البحر المبهج الذي بكيت يوماً لتبقى فيه مزيداً من الوقت ورفاقك، في هذه المرة لن تخرج منه حقاً، ونحن الذين سوف نبكي خروجك؟
أشعر بالخجل من كل هذا الألم الذي انتابني برؤيتك فقط في صورة عبر الواتساب وصلتني بكبسة زر اختصرت أميالاً من رحلة ويلاتك، إلى أن وصل بك الحال إلى هنا، جثة هامدة وصورة مبكية عبر وسائل الإعلام وهواتفنا النقالة.
فكم هي ظالمة تلك التكنولوجيا التي تطلعنا فقط على خلاصة عذابات الآخرين، فأنا لا يحق لي الحديث عن الألم! ولا حتى تلك التكنولوجيا الفاخرة يحق لها الحديث عن إنصافك، وإن حاولت أن تدّعي ذلك.
نحن لسنا في حاجة إلى أن نُقر ونعترف مراراً بأن تلك الصورة وغيرها الآلاف تختزل يومياً عمق المأساة السورية التي نعلم عنها جميعاً وجيداً. إنما يجدر بنا الاعتراف أن مناعة قوية أصابتنا في مشاعرنا ضد الألم، وأننا نهتز فقط كلما كانت الصورة أكثر بشاعة ومأساوية!
سنكتب ونبكي ونتألم كالمعتاد، ولكن يا صغيري أتعلم أن نومتك الناعمة تلك على الشاطئ، مثيرة للتأمل؟ وأنت تأبى بأنَفة أن يرى العالم من ملامحك شيئاً، سوى نعلك الصغير الذي صفعت به ضمير الإنسانية بكل براءة ووقار!
صورة طفل غريق/ مريم الساعدي
“لا تندكوا علينا بوضع الصور المؤلمة” علق أحدهم على الفيسبوك بعد انتشار صورة الطفل السوري الغريق على شواطئ تركيا. كنت أقول مثله. لا نريد أن ننكد على أنفسنا بتذكير أنفسنا أن هناك طامة كبرى وقعت على عدد كبير من الناس في سوريا. الصدمة كانت مدوية، أردنا إخفاء رؤوسنا في الرمال لكي لا نرى ماذا يحصل في الضفة الأخرى. لم نرد أن نعرف، أن نسمع، أن نرى، لأن هذا كان فوق طاقة احتمالنا فوق طاقة إدراكنا وتصديقنا، فوق طاقة استيعابنا، وهو مؤلم لحد الوجع. الألم شعور عارض أما الوجع شعور مقيم، وهذا يعطل عملية الحياة، ونحن نريد أن نعيش، لأننا لا نمتلك شيئاً نغير به الواقع، لأننا عاجزون تماماً، فإذن لماذا نهتم فنتألم فنعيش في وجع؟ نفضّل أن تأتي أوجاعنا من الآلام الصغيرة الشخصية، كصداع صباحي عارض، وحبيب خائن هجر، وصديق غدر، وفرصة ضاعت، وغيرها من هموم الحياة العادية التي تتكرر وتتشكل في شرنقة الروتين والطموح والأمل والاحباط والسأم. نريد أن نحيا الحياة العادية، ولا نريد أن نعرف أن هناك بشراً يصارعون الموج لأنهم مثلنا أيضاً يريدون حياة.
ولكن، ماذا لو كانت هذه الصورة هي صورة طفلك. وتجاهلها العالم، ومضى في سبيل حياته. ثم صرت وحدك مهجوراً مع جثة طفل على شاطئ، صرت وحدك بغصة غرق طفلك، تظل اللقطات الأخيرة وهو يصرخ في أذنك. أنت ستفقد الإحساس بالعالم، وإذا فقدت الإحساس بالعالم العالم سيفقد الإحساس بك وبكل أمثالك من المعذبين في الأرض. أن تشارك صورة فأنت تلتفت، أنت لا تشيح بوجهك لأن المنظر يؤذي بصرك ويوجع قلبك الرقيق الذي لا يحتمل، أنت تلتفت بشجاعة، أنت تمد يدك، ترفع جثة الطفل، تربت على كتف والده، تحفر قبره، تدفن جسده الصغير، وتنفض عن بصرك التراب، وترفع رأسك من جحر النعامة وتقول كفى.
حين يقل الالتفات لمعاناة الآخرين يقل منسوب الإحساس في العالم. نعم انتشار الصورة أيضاً قد يبلّد الإحساس حين تذهب صدمة الرؤية الأولى، لكن بعض الصور لم توجد لتكون صدمة فقط، بل لتكون موقف وعلامة فارقة وأيقونة رفض وسؤال ومواجهة ومطالبة للعالم بوقف كل هذا العبث بأرواح البشر.
إذا هجر العالم إنسان يتعذب سيفقد هذا الإنسان إيمانه بالخير. وتزايد أعداد الناس الفاقدين للإيمان بوجود الخير يؤدي لنشوء أحجار صلدة كثيرة في جوانب الكرة الأرضية، مع كل إيمان ينقص في قلب إنسان يرتفع منسوب الحجر على الأرض، حتى تتحجر الأرض جميعها وتضيق بمن عليها. ينخفض منسوب الأخضر والأزرق، تتصحّر الدنيا، يتحول الكوكب لأحجار وصحارى ويصير غير صالح للسكن البشري، بل فقط للوحوش الضارية والزواحف السامة. الأرض تعمّرها الرحمة والتعاطف والتعاون والمحبة والنجدة، نجدة الملهوف وإغاثة المنكوب والقفز بكل صدق لإنجاد الغريق. أنجدوا أخاكم الإنسان، بكل ما استطعتم، كي يبقى على الأرض خير، وكي تبقى الأرض، وكي يبقى الإنسان. وكي يبقى قلب الإنسان عامراً بالإيمان. أنقذوا الأرض من التحجر والروح من التصحر. صورة الطفل السوري الغريق تصرخ فيكم جميعاً أن تنقذوا سوريا.
الأطفال ليسوا أبناء آبائهم، إنهم أبناء العالم. وكل طفل مسؤول من كل فرد في العالم. جثة الطفل الملقية كدمية على الشاطئ يد تمتد من قاع البحار إليك أيها الانسان، أينما كنت، تقول لك، انتشلني، فأنا ابنك.
لسماء صافية من القاتل/ منير الربيع
تلاطمت الأمواج في جنباته، فراح يتقلّب على جمر الظلم والظلام، تموجات البحر خيطان أمل يتعلق بها كل من لا أمل له. هو السوري، يجد البحر معبره إلى حياة، لكن طريق الموج ليس سالكاً، فلا حبال من ماء، عند الهروب من جحيم الموت والحرب. يبدو البحر صافياً، وعند امتطائه يحل البلاء، لا معين بالحق، الباطل وحده يجد معينه، أرواح تهرب إلى الحياة بحراً، تنسد الأفق أمامها، فتلفظها المياه جثثاً. معاونة الباطل تحول دون تحقيق غاية مناهم، مناهم فقط حياة بعيداً من الموت.
يجتمع الموت حول سوريا، يطوقها، يخنقها، يخطف ريعانها. لا أحد هنا، ولا أحد هناك، يدب الموت في كل مكان، يشمّ رائحة السوريين ويلاحقهم. من لم يمت في الحرب، يموت هارباً غارقاً في البحر، أو يموت جوعاً، يموت عارياً، مجرداً من سقف، منزوعة عنه الرحمة. أربع سنوات وسوريا تشهد حرب إبادة جماعية، لكن أحداً لم يهتزّ، شعور لم يتحرّك، مجرّد أرقام تتغير في قوائم عدادات الموت، والمجرمون يدوزنون عدادات المكتسبات. لا يُقرأ السوريون إلا في دفاتر حسابات المصالح، عربية كانت أم إقليمية، أممية أم دولية.
خذل العالم سوريا، تاجرت بها روسيا، تتصلّب موسكو في مواقفها وكأن جداول الدماء متوقفة عن الجريان. الولايات المتحدة ترفع شارة مناهضة العنصرية وحقوق الإنسان، ولا تخفى عنصرية أوباما تجاه السوريين. هو مرن في كل شيء، باستثناء حق السوريين في الحياة. الأمر محسوم لدى الرئيس من أصول أفريقية، خطوطه الحمر من نوع المطاط المستخرج من الكونغو على أيدي السكان لصالح المستعمر في القرن التاسع عشر، تتوسع حدودها مع كل مجزرة، فيما تتقلص إنسانيته، وعداد الموت يتزايد.
ضاق العالم بالسوريين، عربهم انسلخوا عنهم. وفيما ينشغل العالم بمعالجة أزمة اللاجئين من سوريا، يغيب العرب عن السمع، يعقدون إجتماعات لدعم سوريا وشعبها وفق ما يدعون، لا يخرجون بغير الكلام، فلا يشاطرون أنفسهم إلا بالكلام، تقود ألمانيا حملة لتأمين حياة اللاجئين، تغيب السعودية ودول الخليج، يحضرون فقط في بيانات التضامن والشجب، ويبرزون في قصائد الرثاء.
براميل السماء تقتل السوريين، لا غيم فيها ليخطئ الهدف. هي متواطئة أيضاً. رقّت أنجيلا ميركل إثر التهام البحر لحياة الأطفال ولفظ جثثهم، هرعت أمومتها لإستقبال السوريين الهاربين من الموت، فتحت لهم ذراعيها وبلدها. لدى العرب، لا قيمة للمرأة ولا للمشاعر أو اللأحاسيس، منطق الذكورة غالب. وفي مفهوم رجل مجرد من الإحساس، لا مجال للتعاطف، ولا لفتح القلوب أو الأحضان، ولا لفتح الأبواب للأشقاء أو الأبناء. أبواب العرب موصدة كما أبواب السماء. تستعد أوروبا لاستقبال المزيد من اللاجئين، العرب أموات من دون إعلان الوفاة.
حتى البحر يلفظ السوريين، سوريا عار هذا العالم. وسم حذاء إيلان الكردي ختم العار على جبين الإنسانية، وكل ما هو قيمي، أو يدعي صداقة هذا الشعب المذبوح فأدار ظهره لمن غدره. لذاك الذي يدعي الشهامة، شهامة العرب، ولآخر يتملّق الإسلام، لم يبلع البحر إيلان، لفظه على وجهه، وشاءت الطبيعة أن ترقط وجه الإنسانية بالعار، لفظه على سطحه، ليرفع العرب شارات عارهم على رأس السطح، ليعلنوا موتهم أحياء على رؤوس الأشهاد.
لم يتأوه، لعلمه أن العالم أصم، لم يختنق، قطع أنفاسه في بقعة مقطوعة عن الحياة. تعب البحر من مصارعة السوريين، لم يشأ إيلان أن يتعب، أراد أن يستريح من هذه المجزرة الجماعية، تسلل من حضن أمه، ترك ثديها، شرب ملح البحر ومرارة الدنيا، وظن أنه خلد إلى النوم، نام أبدياً، قد يكون عاش في موته، وأحياء العالم أموات في حياتهم.
لا يريد السوريون شيئاً، يقتلعون شوكهم بأيديهم، يصرخون لعلّ ضمير أحد يستفيق، طلبهم متواضع جداً، بضع حبات رمل، على بقعة في إحدى الصحاري الخالية، خالية من كل شيء، من دنس الإنسانية، يريدون فقط سماء صافية فوقهم بعيداً من العالم القاتل.
العار.. وخزة في الخاصرة علّها تؤلم/ خليل الأغا
تصدّرت صورة الطفل إيلان كردي ذي الثلاثة أعوام صفحات الصحافة الغربية، وأثارت مشاعر شريحة واسعة من سكان القارة الأوروبية، دفعت بعض السياسيين إلى ضرورة النظر في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين الفارين من مناطق النزاعات والحروب. فيما ترواحت ردود الفعل الشعبية بين الخروج في تظاهرات مطالبة باستقبال اللاجئين وبين مواطنين غربيين فتحوا منازلهم لاستقبال عائلات من اللاجئين، دونما انتظار لقرارات حكوماتهم.
ليس الغرض من هذه السطور إثارة المشاعر، واستشعار دور الضحية، والبكاء على الأطلال، أطلال أمة احتضنت الديانات السماوية بسماحة شرائعها، وكانت منطلقاً لكل الحضارات التي انتشرت في الأرض. لن أقول كفى! ومتى! فقد جرّبنا هذه الأسطوانة منذ عام 1947 ولم تجدِ نفعاً في فلسطين، وضاعت الأرض وتشرّد الشعب في المنافي، ولم نجد إلا فضول الأموال، والشعارات والبيانات فارغة المحتوى. إنما هي وخزة جديدة في الخاصرة، فإيلان ليس الأول، وعلى حالنا هذه لن يكون الأخير.
الطفل محمد الدرة
لن نعود عقوداً إلى الوراء، إذ يكفينا عاراً مطلع هذا القرن، الذي بدأناه بمحمد الدرّة، ولحقته إيمان حجو وعشرات الأسماء المجهولة في فلسطين، والعراق، ومصر، وسورية. فكم من ابتسامة بريئة، طمرتها قذائف الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وكم من ضحكات وأدتها أيادي الاستبداد في العراق، وكم من أحلام أحالتها براميل الموت الأسدية إلى كوابيس، لتخطف في كل يوم زهرات غضّة لا تلتقطها عدسات الكاميرات، بل ولا حتى قد يُعثَر لها على جسد يُدفَن.
في كل يوم لدينا إيلان ولدينا إيمان ولدينا الدرة. جل ببصرك في بلاد العرب، لترى شقاءً يسكن في العيون، وعذابات تجترع الخوف من هراوة العسكر التي لا ترحم ضعفاً ولا غضّاً. جل ببصرك في مخيمات اللاجئين في بلاد العرب، إذ لم يعد هناك فرق اليوم بين سوري وفلسطيني وعراقي. جل اليوم ببصرك في أوروبا، على الحدود بسطاء، بل بؤساء، يجتازون السلك الشائك بأجسادهم الغضة نحو اللامكان. مشاهد مأساة يندى لها جبين البشر. في محطات القطار وفي الحدائق العامة. سترى أن كرامتنا تساوت مع المتسولين أو المتشردين، الذين كنت تراهم سابقاً في تلك الأماكن. جل ببصرك اليوم لترى في تلك الأماكن بشراً بسطاء يبحثون عن الأمن والأمان والعيش بكرامة. مد عينيك نحو الشواطئ لترى جثثاً يقذفها البحر، وأخرى متكدسة في شاحنة على الحدود النمساوية.
الطفلة إيمان حجو
لا ندري أنكره البحر أم نقدّره؟ أنكرهه لأنه أنهى أحلام آلاف البسطاء الذي طمعوا في أن يوصلهم إلى شاطئ الأمان؟ أم نقدّره لأنه أدرك أكثر منّا ومنهم أن أعماقه أكثر راحة لهذه الأجساد المعذبة من أي مكان فوق البر. لقد بات هذا البحر اليوم صاحب الكرم كلّه، استقبلهم وأكرم مثوى آلاف منهم، لربما أكثر ممن استقبلتهم بعض بلاد العرب. أراح أجسادهم التي أضناها الرهق، أرسل أرواحهم نحو السماء علّها تطمئن بعد طول شقاء. آخرون كثر، لا زال الذل زادهم وشرابهم ولحافهم؛ في وطنهم نظام مسخ كراماتهم وأذلّهم حتى هان عليهم ترك بلدهم، الذي تمزقه طوائف وشيع وتشكيلات جعلت من راياتها نذر شؤم على كل من تطوف عليه. لم يبق للسوري والفلسطيني إلا المجهول.
من يهرب من بلده؟ من يترك وطنه وأرضه وأهله، ليلقي بنفسه إلى أتون المجهول؟ إنه الأمل الذي فقد من المعلوم وتعلّق بالمجهول علّه يكون أرحم بهم من بني جلدتهم، إخوانهم في الدم والعشيرة والدين والتاريخ والجغرافيا! هذه الأرقام التي نسمعها هي لبشر ضاقت بهم رحابة الأرض، وضاقت بهم بلاد العرب الممتدة من المحيط إلى الخليج. لم يجدوا فيها راحة ولا أملاً ولا استقبالاً ولا حتى قبولاً. تاهوا في الشوارع وعلى الأرصفة بعد أن كانوا في ديارهم ذات يوم يستقبلون العرب من المحيط إلى الخليج زواراً وسياحاً.
المشهد هنا عجيب فعلاً، تصريحات قادة أوروبا تتسابق لتجد حلولاً لأولئك المعذبين، بعضهم دعا لحسن استقبالهم، والبعض تداعى لتفهّم الموقف رغم صعوبته، وعدد قليل على استحياء أبدى تذمّره من عدم القدرة على التعامل مع هذا الطوفان البشري الذي يجتاح بلدانهم من البر والبحر. على الضفة الأخرى، يطبق الصمت، ولا ذكر للأمر سوى “غرق لاجئين سوريين”! خبر يومي لا يثير في النفس شيئاً إلا إذا كان العدد كبيراً (أكبر من المعتاد)، ونكتفي بعبارة “الله يرحمهم”.
لن أقول متى؟ وكفى؟ لن أهين هؤلاء المعذبين باستجداء لا يسمن ولا يغني من جوع، لكن علّ تلك الوخزة تصل إلى حيث تؤلم، وإن كنت أشك أنه بات في ذاك الجسد المجلّل بالعار ما يشعر بالألم.
إلى لاجئ سوري.. إضحك الصورة تطلع حلوة/ هشام أصلان
1
في قاعة المحاضرات، عرض مجدي على طلبته تلك الصورة الشهيرة، للطفل الإفريقي بالغ الضآلة، الجالس في ما يشبه وضع السجود، يحتضر بسبب الجوع، ووراءه يقف نسر كبير منتظرًا موته ليأخذه كوجبة معقولة.
سألهم عن رأي كل منهم، لو أنه في مكان المصور الذي التقط الصورة، هل يلتقطها ويحقق انتشارًا نادرًا في تاريخ التصوير الصحفي، أم يسارع في محاولة إنقاذ الطفل؟ لينقسم الطلبة بين الرأيين. الحكاية تقول إن المصور أخذ لقطته وانتحر.
صديقي مجدي إبراهيم، أحد المصورين المحترفين في الصحافة المصرية، حكى ليّ عن محاضرته تلك، عندما سألته عن رأيه في الصورة المنتشرة مؤخرًا على فايس بوك، لسيدة سورية تسبح في عرض البحر حاملة طفلها، في محاولة أخيرة للحياة، بعد غرق المركب الذي كان يقلّها مع آخرين، وهم يحاولون الهرب من الموت اليومي، شبه المحقق، في سوريا.
ـ ماذا تفعل لو أنك مكان من صورها؟
ـ لا أعرف. الآن وأنا أقف معك أفكر في وجوب إنقاذها، ولكن في قلب الموقف، احتمال كبير أفكر بشكل مختلف!
ـ أي شكل؟
ـ بعض المصورين، يرى في ظروف كهذه، التضحية بفرد من أجل صورة تضع الإنسانية أمام الوجع، معتقدًا أن أثرها ربما يأتي بفوائد على آخرين!
وضعت احتمالًا أن تكون الصورة أُخذت من مسافة بعيدة جدًا، تسمح بالتصوير ولا تسمح بالإنقاذ، لكنه قال إن العدسات التي تصور بهذا النقاء، من المسافة التي أتحدث عنها، لا تتوفر لمصور متحرك، حيث أن حجمها ووزنها لا يساعد على الحركة، بل يتم تثبيتها في مكان ما عند التحضير لالتقاط صورة معينة، ولا تلائم حدثًا مفاجئًا.
“ما يدهشني فعلًا، هو من أين جاء لهذه السيدة من يصورها في هذا المكان وفي تلك اللحظة”. يقول صديقي.
تركت مجدي وأنا أشكك، بيني وبين نفسي، في هذه الإنسانية التي تحتاج صورة كهذه، بين حين وآخر، حتى تعرف ما عليها فعله.
شطح خيالي، لحظة، ورأيت المصور يطلب من الضحية أن تضحك، حتى تطلع الصورة حلُوة!
2
التاريخ العربي الحديث لم ير، في ما أعرف، صورًا فوتوغرافية أو مشاهد فيديو، تحمل هذا الوجع الذي تحمله صور ضحايا اللجوء السوريين وأطفالهم. هكذا أتصور، وأنا المنتمي لجيل كان ينتهي من اللعب في الشارع، ويكمل سهرته أمام التلفزيون لمشاهدة وقائع “عاصفة الصحراء”، قبل أن يكبر قليلًا ليتابع سقوط بغداد، ويستمع إلى قصص الخراب على ألسنة المصريين العائدين من هناك. جيل كبرت عيونه على مشاهد نعوش أطفال الانتفاضة الفلسطينية بمراحلها الزمنية، والتقطت آذانه أخبار الحرب الأهلية في لبنان، قبل أن نكبر أكثر ليكون بعضنا وقود الغليان العربي منذ أواخر 2010، في حقبة زمنية لا تتكرر كثيرًا.
هي أمور لم تعطنا المناعة اللازمة لاحتمال صور جثث الأطفال السوريين، وهي محمولة بين ألسنة الرغوة البيضاء لأمواج البحر المتوسط عند التقائها بالشاطئ.
3
بوعي ينقصه، ربما، الإلمام بأمور السياسة والدبلوماسية، أستغرب كثيرًا من صور إلقاء القبض على اللاجئين عند حدود الدول التي يهربون إليها. بوصف أدق، القبض على من تمتد به الحياة لينجح في الوصول إلى هذه الحدود. البعض يضعهم في خانة المهاجرين غير الشرعيين، وهُم أشخاص يهربون من الموت الذي يحصد أطفالهم في بيوتهم.
المنطق يقول إن لكل بلد أمور يجب الحفاظ عليها من هذه الزيارات المفاجئة والعشوائية. ولكن أي من معايير المنطق تستطيع تطبيقها في ما يحدث.
ـ يقول أحدهم: لدينا من المشاكل، في بلادنا، ما يكفينا.
ـ يقول لاجئ سوري: لدينا من الموت، في بلادنا، ما لا نكفيه.
المدن
طفل على الشاطئ: عبء أن نعرف/ فوزي باكير
لم تنتظر الحرب الأميركية على فيتنام، كي تقترب من نهايتها، أكثر من صورة تلك الفتاة الفيتنامية التي كانت تمشي عاريةً وتصرخ. التقط الصورة نيك أوت عام 1972، ويُروى أنّها كانت تصرخ قائلةً: “هذا ساخن.. هذا ساخن”، في إشارةٍ إلى النابالم الذي أحرق ظهرها.
لم ينتظر المصوّر الجنوب أفريقي، كيفين كارتر، أكثر من عام، حتى يضع حدّاً لحياته، بعد التقاطه صورة طفلٍ يحتضر أمام عُقابٍ يهمّ بالتهامه، في مجاعة السودان (1993).
قبل أن يُسمّم نفسه بغاز أوّل أكسيد الكربون، ترك كارتر رسالةً، جاء فيها: “تطاردني ذكريات حية من عمليات القتل والجثث.. لأطفال يتضورون جوعاً أو جرحى، من المجانين المولعين بإطلاق النار، أغلبهم من الشرطة، من الجلادين القتلة”.
ذلك زمنٌ مضى. الآن، في زمن يتردّد فيه كليشيه “الصورة بألف كلمة”؛ زمن الفيديو والصور، نواجه يوميّاً مشاهد القتلى الأبرياء، من دون أن يتحرّك أحد. اليوم، انتشرت صورة طفل سوري قذف البحر جثته إلى أحد شواطئ تركيا، بعد أن غرق هو و12 مواطناً سوريّاً وهم في “طريقهم” إلى اليونان.
على بيانات الشجب والاستنكار والشتائم، أن تنتظر مثل هذه الصورة كي تصدر وتُدين كل هذه الجرائم؛ إلّا أنّ حرباً لم تنتهِ، وعالماً بأسره، يكتفي بمتابعتها بصمتٍ وإشارات عاجزة. يبدو أنّ الصورة تراجعت في قدرتها على التأثير، وأصبحت مجرّد جرعة إخبارية، توفّر على القارئ “عبء” أن يعرف.
العربي الجديد
سلطة” الطفل الغريق/ مايا الحاج
هو الطفل مرّة أخرى يدفع ثمن «لعبة» الكبار. أقول لعبة وليس حرباً، لأنّ التاريخ علّمنا أنّ الحروب تبدأ ثمّ تنتهي، لكنّ الحرب في عالمنا العربي لا تعرف لها نهاية. وعلى كثرة ما اعتادت أعيننا مشاهد المجازر والدماء، لم تعد «الصورة» تؤثّر فينا. العادة أسقطت النظريات. الصورة لم تعد تُمارس «سلطة» الفعل، ولا تحضّ على ردّ الفعل، على ما يقول الباحثون ممن اشتغلوا على مفهوم الصورة والميديا.
لكنّ الشاشات أرادت أن تضعنا أمام تحدٍّ جديد، أو أن تختبر ما تبقّى فينا من إنسانية. فلم تعرض صور أشلاء «مُستهلكة»، ولا دماء سائلة، إنما صورة طفل «نائم» على شاطئ رملي. يرتدي بلوزة حمراء وشورت أزرق وصندال رمادياً، كأنه ذاهب في نزهة.
ينام الصغير بوضعية الساجد، ملتحفاً السماء بامتدادها اللانهائي. لوهلة، يظنّ المشاهد أنّ المنقذين أسعفوه وتركوه يغفو قليلاً لعلّه يرتاح من عناء سفرٍ ثمّ غرقٍ في بحر مجهول.
صورة الطفل السوري التي هزّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، عربياً وعالمياً، هي الأعنف بين صور الموت الكثيرة. نقول هذا ونحن ندرك في سرّنا أنّ الواقع العربي لا يبخل علينا بمفاجآته الكثيرة، فكلّما قلنا أنّ القسوة بلغت ذروتها في هذا المشهد أو ذاك، وصلتنا صور أحدث وأقسى وأعنف. ونستدرك هنا مقولة بديعة لباشلار في كتابه «الأرض وأحلام الغفوة»: «الموت هو أولاً صورة، وسيظلّ دوماً كذلك». ولو أردنا البحث في مشهدية هذه الصورة التي غَزَت شاشات التلفزيون والمواقع أول من أمس، لوجدنا أنّ «قسوتها» تكمن في هدوئها. لا دماء تُلطّخ الجسد الصغير، ولا كدمات تشوّه الوجه الملائكي، بل إنّ وجهه لا يظهر. وجهه مدفون في الرمل او الموج، كأنه أراد، وهو يموت، أن يخفي ملامحه عن العالم، لكي يكون «طفلاً» – طفلي او طفلك – بدلاً من أن يكون مجرد صبي سوري «غريب».
الغريق الصغير أعاد للصورة سلطتها الفعلية، ومن يراقب ردود فعل المشاهدين على الفيديو الذي تناقلته كلّ القنوات والمواقع يُدرك جيداً أنّ الذات الإنسانية سقطت أمام مشهد الموت. وهذا ما يتقاطع مع مقولة الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه «حياة الصورة وموتها»: «كلما امّحى الموت من الحياة الاجتماعية غدت الصورة أقل حيوية، وأصبحت معها حاجتنا للصور أقل مصيرية».
غريق تركيا الصغير ليس الطفل الأوّل الذي يموت «عبثاً» في بلادنا، ولن يكون الأخير، لكنّ صورته صامتاً، طريح الماء والرمل، ستظلّ تنكأ جراحنا.
ماذا تفعل بصورة طفل ميت؟/ سامر أبو هواش
ترثيه. تذرف الدمع عليه. تحملق طويلاً في الصورة، عاقداً المقارنات مع صور أخرى. محاولاً في كل حال أن تستوعب هذا المدى غير المسبوق من الرقة والقسوة، العذوبة والألم، الهشاشة والقوة، المعقول واللامعقول؟
ماذا تفعل بصورة طفل ميت؟
تغطيها؟ حرصاً على مشاعر من؟ حماية للطفل نفسه؟ لأهله؟ لبلده المحترق؟ للآخرين؟
تبقي الجثمان الصغير مكشوفاً؟ لأنك تريد أن يرى العالم أكثر؟ لأنك تريد أن تحتضن العيون هذا الجسد الصغير الذي لفظه البحر؟ لأنه من حق الضحية على الأقل أن يقول كلمته الأخيرة، ولو بعريه وانكشافه وانفضاح العالم أمام حذائه الصغير المبلل؟
كل خيار من هذه الخيارات، بدءاً من خيار التغطية نفسه، أو عدم التغطية، ينطوي على موقف أخلاقي. من مسألة المهاجرين. من الحروب التي تعصف بالمنطقة. من ما يسمى الربيع العربي. من الديكتاتور الذي لا يزال متمسكاً بالسلطة رغم شلالات الدماء التي كان شريكاً أساسياً فيها. من معارضات أخفقت حتى الآن في طرح بديل مقنع. من جهات عدة مستفيدة من استمرار الصراع. من نفاق دولي يعاني أزمة أخلاقية مزمنة في التعاطي مع مسألة اللاجئين، ناهيك عن دوره في نشوئها وتفاقمها.
المؤكد أن هذه الصورة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. كونها بهذه القوة والأيقونية، وكونها الأكثر انتشاراً الآن، يفترض فقط أن تلقي الضوء على آلاف الصور الأخرى التي لم يكتب لها أن ترى. آلاف الضحايا، بمن فيهم الأطفال، الذين لم تكن الكاميرا حاضرة، لتوثق لحظة رحيلهم المرعبة.
التعامل الأخلاقي مع هذه الصورة، يقتضي التفكير الجاد بهوامشها. والثمن الوحيد المقنع لمواجهة الذهول الإنساني أمام ما تكشفه هذه الصورة، هو بالمبادرة إلى إنقاذ آلاف الأرواح الأخرى التي يحصدها البحر والبر، الماء والنار، في هذه اللحظات بالذات.
الجواب الأخلاقي الحقيقي على هذه الكارثة، يكون بوقف نزيف الهجرة هذا، وهذا لا يكون إلا بوقفة جادة أمام مصدر المأساة وسببها: الأزمة السورية.
كل ما عدا ذلك يبقي باب البحر مفتوحا على مزيد من الجثث.
الغريق/ ابراهيم حاج عبدي
تقول الحكمة الصينية إن «الصورة الواحدة تعادل عشرة آلاف كلمة». لكنّ الطفل السوري ذا السنوات الثلاث، الذي وجد غريقاً على شواطئ تركيا، كسر هذه القاعدة، فصورته التي انتشرت في وسائل الإعلام العالمي، قاطبة، فاقت، في قسوتها، كل القواميس والعبارات والمفردات، وأثبتت عجز اللغات أمام هول المشهد وفظاعته.
كان الطفل هارباً مع أسرته من جحيم الحرب في بلاده سورية، وككل اللاجئين الذين يسعون إلى الوصول إلى اليونان، صعد إلى قارب متهالك، سرعان ما ابتلعه البحر، ثم لفظه وحيداً على شاطئ بعيد. كان ساكناً في رقدته الأبدية، يلبس «شورتاً» كحلياً وكنزة حمراء داكنة، أين منها قتامة سنواته القليلة التي انتهت وسط أرخبيل غريب.
بدا الطفل وكأنه كان يسبح منذ قليل في «متاهة وردية من المرجان» ويمرح على الشاطئ الرملي، بقلب مفعم بالأمل، وإذ غافله التعب غفا بغتة، بكامل أناقته، فبدا «أجمل غريق في العالم»، وفقاً لعنوان قصة قصيرة لماركيز. لكنّ الطفل لن يستيقظ ثانية ليواصل اللعب، بل سيظل طيفه هناك منارة مضيئة للبحارة في فجر السنوات المقبلة، الذين سيقولون بكل لغات العالم: هنا قضى أجمل غريق سوري.
فضائيات العالم وصحفها ووكالات أنبائها تناقلت صورة الطفل، وصاغت عبارات مؤثرة، وراهن الكثير منها على أن هذه الصورة ستغير التعاطي الغربي مع الملف السوري، وتساءلت إحدى الصحف: إن لم تغير هذه الصورة موقف الغرب من الصراع السوري، فما الذي سيغيره؟
نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي أطلقوا، بدورهم، هاشتاغ «غرق طفل سوري» ليكون خلال ساعات قليلة ضمن قائمة الأكثر تفاعلاً وتداولاً عبر العالم، وذهب بعضهم إلى أن صورة الطفل هي شهادة على «موت الضمير العالمي».
الجميع أظهر مشاعر التعاطف، حتى أولئك الذين يحملون جزءاً من المسؤولية عن غرق الطفل، وآثرت غالبيتهم فصل الصورة عن حرب عمرها نحو خمس سنوات، أحدثت دماراً هائلاً، وأجبرت الملايين على الفرار. وثمة من حاول تسييس الحادثة ليسجل المزيد من النقاط لمصلحة تياره السياسي، فغَرِق الطفل، والحال كذلك، ثلاث مرات: مرة حين داهمته، وأطفال سورية، حرب لا يد له فيها، ومرة حين خانه البحر، وفي مرة ثالثة حين تحول جثمانه الصغير إلى ورقة سياسية رابحة لدى تجّار الحروب.
وفي حين أن ردود الأفعال الغاضبة هذه بدت منطقية، غير أن الصورة لن تغير سياسات دوائر القرار، فالطفل الغريق سيدخل طي النسيان كما حدث مع ضحايا الكيماوي والمجازر والبراميل والذبح، وسيبقى البحر «قبراً» واسعاً للسوريين. لكنّ صورة الطفل الغريق ستبقى رمزاً، تماماً كما صورة تلك الطفلة اليابانية الهاربة من جحيم القنبلة النووية، وصورة طفل بلدة حلبجة الكردية الذي بدا نائماً للأبد في حضن والده، وصورة الطفل الفلسطيني الذي أحرقه المستوطنون في مهده الغض. وستظل الحروب متأججة، لا يشهد نهاياتها سوى الأموات.
الحياة