صفحات سوريةمازن كم الماز

عن العدالة في سوريا بعد سقوط الأسد

 

مازن كم الماز

هناك من يعتبر أن مجرد الحديث عن ظواهر سلبية في الثورة السورية إما مبالغة لا تتفق مع الحقيقة أو أنه حتى اصطفاف مع النظام الذي يقمع السوريين منذ عقود. من جديد تتم أسطرة الظاهرة، الثورة السورية هنا، ومحاولة رفعها، أو مسخها في الواقع، إلى مطلق جديد فوق المجتمع نفسه الذي أنتجها، في مواجهة مطلق قديم خدم النظام القائم كمبرر لقمعه وقهره للمجتمع لعقود، بعيدا عن تاريخية المواجهة الفعلية بين نظام قمعي وشعب مقهور.. من جديد يجري فصل الظاهرة عن المجتمع الذي أنتجها ومحاولة وضعها فوقه، لتبدأ عملية تحويلها من ظاهرة يتحكم بها المجتمع ويستخدمها من أجل انعتاقه، إلى ظاهرة منفصلة عنه لها سدنتها وكهنتها الذين يزعمون أنهم يمثلونها أكثر ممن صنعها لأنهم هم الذين يدافعون عن طهريتها حتى في وجه صانعيها أنفسهم.. صحيح أن الظواهر السلبية في أية ثورة شيء أكثر من طبيعي لكن ما هو غير طبيعي اعتبارها فوق النقد وخارج قدرة من صنعها نفسه على اكتشافها وتصحيحها.. لا يمكن الحكم بدقة عما إذا كان مثلا الدفاع عن شعار حرية السوريين، الشعار المركزي للثورة السورية، ضد ممارسات القمع الفكري والعقيدي والسياسي التي يمارسها بعض الثوار هو شيء سابق لأوانه بالفعل ويؤخر إسقاط النظام.

مع ذلك هناك حاجة أساسية لوضع بعض الأمور في نصابها، الآن تحديدا.. خاصة عند الحديث عن العدالة الانتقالية التي ستكون من أهم المهام الماثلة أمام الثورة أو أمام السوريين بعد إسقاط النظام.. صحيح أن هذه العدالة يجب أن تعني أساسا ملاحقة القتلة من النظام المسؤولين عن قتل والتنكيل بآلاف السوريين طوال الشهور العشرين الأخيرة والعقود الأربعة التي سبقتها، لكن هناك أيضا مسائل أساسية هنا لا يمكن إغفالها أبدا، مثل المسؤولية الجنائية الصريحة لبعض هؤلاء القتلة الذين ‘انتقلوا’ إلى معسكر الثورة بانشقاقهم عن النظام، أيضا هناك ضرورة محاسبة بعض أفراد المعارضة السياسية الخارجية التي تاجرت بدم السوريين وآلامهم خاصة قيام بعض من ينتسب إليها بسرقة أموال الثورة، وهناك أيضا ضرورة هامة جدا لكي لا تتحول ‘مؤسسات تطبيق وفرض القانون’ إلى مؤسسات فوق القانون.

العدالة كقيمة إنسانية عمياء لا تستثني أحدا بل إن أي استثناء يعني في الواقع تدميرها ككل، تبقى الجريمة هي ذاتها أيا كان من ارتكبها (هذا ما اكتشفه شايلوك في مسرحية تاجر البندقية)، وليس بمعنى عدالة المنتصرين العوراء التي تعني عمليا ليس فقط العفو عن كل جرائم المنتصرين بل تتويجهم كقضاة وجلادين جدد، ليس فقط العفو عن جرائم هؤلاء المنتصرين في الماضي بل سيعني قوننة وشرعنة جرائمهم اللاحقة ضد المجتمع.. أي شيء أقل من سقف العدالة التي يحددها حديث النبي محمد ‘لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’ هو زيف وإفراغ لكلمة العدالة من أي مضمون حقيقي.

أيضا في مسألة الحرية، خلافا لكل المطالبات بالصمت وتمرير ممارسات القمع من قبل الثوار سواء أكانت عقيدية أو سياسية أو جسدية أو غيرها فإن الاحتفاظ بحساسية عالية بين أفراد المجتمع ضد القمع وضد هيمنة أية سلطة عليهم تحت أية مبررات هو أحد أهم أساليب مقاومة المجتمع لإقصائه واعتقاله من جديد داخل أسوار ديكتاتورية أو سجن ما جديد والإصرار على إضعاف هذه الحساسية أو اعتبار القمع حالة عادية لا تحتاج إلى نقد أو إنكار يكشف فقط عن الرغبة في أن يقتصر التغيير الذي مات من أجله السوريين على تغيير حراس ذلك السجن فقط.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى