عن العنف والدولة والتكوين العصبوي للمجتمعات العربية/ كرم الحلو
لعل العنف الذي آلت اليه الانتفاضات العربية عائد في جانب كبير منه الى العلاقة المأزومة بين الدولة والمجتمع. فالدولة العربية كما تبدو في الظاهر، قوية قاهرة شديدة الوطأة على مجتمعها، لكنها في الحقيقة قلقة خاوية خائفة إزاءه، مفتقدة الشرعية الجماهيرية والشرعية العقدية والأخلاقية، فضلاً عن التباسها المفهومي، وطبيعة تكونها التاريخي، وتواصلها المتوتر مع مكوناتها السوسيولوجية وعصبوياتها الأهلية، الأمر الذي أربك التوجه الحداثي في العالم العربي منذ بدايات النهضة الى الآن.
العالم العربي كما رأى اليه سعد الدين ابراهيم «كيان مركب معقد، تتداخل فيه عناصر الولاءات المحلية بالولاءات الوطنية، لا تتطابق فيه حدود الجغرافيا مع حدود المشاعر، ولا حدود السياسة مع حدود الأمة». ما أسفر عن انشطار في الهوية، وعن تمزق وجداني عند الانسان العربي الذي تتنازعه انتماءات متعارضة متنافرة. فهل هو ينتمي الى الوطن أو الى الدين أو الى الطائفة أو الى العشيرة؟ أي هذه الانتماءات يأتي أولاً؟ وهل يمكن التوفيق فيما بينها بحيث تأتلف في وحدة لا انفصام فيها، على ما تصور زكي نجيب محمود الذي أعلن أنه يمكن ان يكون في آن مصرياً وعربياً ومسلماً وأفريقياً. إلا أن هذه الهوية الرحبة الجامعة التي يتحدث عنها محمود، تبقى صعبة بل مستحيلة اذا لم تتأطر في سياق ديموقراطي يصهرها في بوتقة واحدة. فهل هذا ممكن مع الخصائص الأبوية البطريركية للمجتمع العربي الذي يتّسم، وفق هشام شرابي، ببنية داخلية لا تزال تقوم على علاقات القرابة والعشيرة والفئة الدينية والإثنية، فيما هي تعاني من التصلب والجمود الذي يمنع امكانات تشكّل المجتمع في صورة عصرية وحضارية؟ هل أصبح ممكناً تجاوز الولاءات الطائفية والعشائرية في ظل مجتمعات لم تتبلور فيها البنى السياسية والاجتماعية المعاصرة على نحو متكامل؟ وهل ثمة نقلة ديموقراطية تبدّد الانتماءات العصبوية ويتم من خلالها الارتقاء من العشيرة الى الوطن والأمة، بحيث يصبح اختلاف الآخر مألوفاً ومقبولاً، في ثقافة عربية لم تألف بعد قبول التعدد والاختلاف؟
الواقع أن العشائرية والقبلية لا تزالان الوحدات الاجتماعية الجوهرية في عدد من الأقطار العربية، حيث الولاءات العشائرية والعائلية من أكثر الولاءات التقليدية في الحياة العربية المعاصرة، وحيث بات من الطبيعي أن يلوذ الانسان العربي الى عصبيته – عائلته أو عشيرته أو طائفته – التي يحس في كنفها بالحماية والأمان، ولهذا أيضاً بقي الولاء للعائلة والطائفة قبل الولاء للوطن، أو للدولة التي عملت بدورها على احياء الولاءات ما قبل المدنية، مستجيرة بعصبية تؤمن لها افتراس المجتمع واجتثاث ارادته وحريته، عملاً بمبدأ العصبة الغالبة الخلدوني.
هذا الاشكال الكبير كان حاضراً في فكرنا النهضوي الذي تفاعل مع الفكر الحداثي الغربي ومبادئه السياسية والاجتماعية وقيمه العقدية الوطنية والقومية. فقد رأى فرنسيس المراش، مأخوذاً بروح التنظيمات العثمانية التحديثية، ان العرب قد لا يخرجون الى دولة التمدن الا بقوة المعجزات لانقسامهم مللاً وقبائل لا يجمعها حس وطني.
من البيّن اذن ان الدولة العربية تعاني أزمة مفهومية وبنيوية متمادية. فهل هي «الدولة التسلطية» وفق خلدون حسن النقيب أو هي «الدولة الأبوية» وفق هشام شرابي أو هي «الدولة التابعة» كما رأى اليها عزيز العظمة؟
لكن اياً كانت الوجهة الايديولوجية في التعامل مع الدولة العربية، يبقى أنها عجزت عن استكمال بنائها المؤسسي، وعن سد الفجوة الآخذة في الاتساع بينها وبين جماهيرها، والمتجسّدة في العنف والنفي المتبادل، حتى ان التوحيد المجتمعي بات من المستحيل التفكير فيه، في ظل الانهيار المتمادي والمتسارع في بنية الأمة، والممتد الى عمق تكويناتها كافة، وصولاً الى طرح الانتماء العربي بالذات على بساط البحث. ما أحبط قسطنطين زريق اذ بات قبيل رحيله عام ألفين يشك في صحة التكلم عن «الأمة العربية» أو «المجتمعات العربية» لعجزها عن تحقيق التكتل الوطني والقومي، وما أوجس كذلك المفكر القومي الراحل محمد عابد الجابري اذ ساوره الشك في إمكان ومشروعية التفكير في مستقبل واحد للعرب.
هذا المآل الخائب ليس في رأينا إلا نتيجة لأدلجة طوباوية قلّلت من الدور المركزي للتكوينات العصبوية في النسيج السوسيولوجي العربي. لم تعبأ بما للديموقراطية من دور في تجاوز هذه التكوينات الى الانتماء القومي الجامع، كما لم تدرك التلازم الضروري بين الحرية والعقلانية والتنمية. فكان أن أُخليت الساحة أمام زحف القرون الوسطى، وانقلاب العقل الأصولي على كل ما تحقق من تحديث وعصرنة.
والدولة العربيـــة لم تجابــــه اشكاليات تهــــدد البنية الوطنية كإشكاليات الفقر والانفجار الديمــوغرافي وتريّف المدن والاصلاح الديني، فكان أن انسحب العقل الريفي وأعرافه المتخلفة على المجتمع المدني، فيما طغت العلاقات الشخصانية على العلاقات المدنية والمواطنية.
إن التفكير من جديد بهذه الاشكاليات والتعامل معها من منظور مختلف وخارج السياق الايديولوجي التاريخي المعهود، قد يمهد للانفكاك من الأزمة الكيانية الراهنة التي تهدد حاضر الأمة العربية ومستقبلها على السواء.
* كاتب لبناني
الحياة