عن الفشل الفكري في العالم العربي/ خليل العناني
لا يبتعد الفشل السياسي المتزايد في العالم العربي كثيراً عن حالة «الفقر» والكساد الفكري التي تعم المنطقة من المحيط إلى الخليج. ويبدو أن الأمرين متلازمان يوصل أحدهما إلى الآخر. ففشل تجربة التحول الديموقراطي والانعتاق من السلطوية العربية طيلة السنوات الثلاثة الماضية كشف حالة «العطب» والجدب التي أصابت العقل العربي وعطلت قدرته على تقديم حلول ناجعة للأزمة السياسية التي تمر بها المجتمعات العربية. في حين ساهم توقف العقل العربي عن إنتاج المعرفة والثقافة اللازمتين لتغيير المجتمعات من أسفل في حالة التأزم السياسي التي تعيشها المنطقة الآن.
وبقدر من الثقة، يمكن القول إن الاتجاهات الرئيسية للفكر العربي، سواء القومية أو الإسلامية أو العلمانية، قد انتهت صلاحيتها وفشلت فشلاً ذريعاً في تقديم إجابات مقنعة وملهمة لكثير من الأسئلة الملحة التي تواجه المجتمعات العربية في عصر الثورات. وما ظهور تيارات أصولية ومتطرفة سواء دينية كما هي الحال مع «داعش» أو شوفينية قطرية كما هي الحال مع اليمين الوطني المتشدد الذي ظهر وانتشر كرد فعل على فشل «الربيع العربي»، إلا مجرد أعراض ومظاهر لحالة الفشل الفكري والقيمي التي تعم العالم العربي وفي القلب منه نخبته السياسية والثقافية.
منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هيمنت فكرتان أساسيتان على «سوق الأفكار» في العالم العربي هما الفكرة القومية والفكرة الإسلامية. وقد شكلت كلتا الفكرتين الأساس الجدلي أو الدايلكتيك الابيستمولوجي لمسألة الإصلاح والنهضة في العالم العربي. وجسدتا معاً، في شكل أو آخر، الصراع حول «المشروع الحداثي» العربي الذي وصل الآن إلى نقطة مسدودة تستدعي مراجعة شاملة لهذا المشروع وبنيته وسردياته الحاكمة.
وطيلة النصف القرن الثاني من القرن العشرين تبدلت المواقع بين كلتا الفكرتين. فخلال الخمسينات والستينات هيمنت الفكرة القومية بتجلياتها المختلفة سواء الناصرية أو البعثية على المجالين السياسي والفكري في العالم العربي. ووصلت أنظمتها السياسية إلى السلطة في أكثر من بلد عربي. بينما نجحت الفكرة الإسلامية بتجلياتها وصورها المتعددة السلمية والراديكالية في الهيمنة على المجال العام ومساحات العمل الجماعي منذ نهاية الستينات وحتى أواخر التسعينات فيما عرف لاحقاً بمشروع «الصحوة الإسلامية». وقد ظلت كلتا الفكرتين تتنافسان وتتقارعان، وظل العقل العربي يتنقل بينهما أحياناً في مساحات جدالية بينزنطية وأحياناً أخرى، وهي قليلة، في مسارات نقدية جادة وواعية. نقول ذلك مع إدراكنا وتأكيدنا على أن العقل العربي ليس شيئاً واحداً أو كتلة جامدة صماء وإنما اتجاهات وتوجهات ومدارس وتيارات متنوعة هي بالأساس نتاج البيئات السياسية والاجتماعية والدينية التي تنمو داخلها.
في حين تكشف حالة الكساد والإفلاس الفكري الراهنة أن التيارات الفكرية العربية على تنوعها واختلافها لم تحظ بتراكم معرفي وفلسفي مضطرد، ناهيك عن ضعف قدرتها وجرأتها على النقد والمراجعة على رغم مرور أكثر من قرن على ظهورها. بل ومن المدهش أن تصل هذه التيارات والأفكار إلى حالة يرثى لها بعد أن تدهورت قدراتها المعرفية وانحدرت من الإبداع إلى التقليد، ومن سعة الآفاق إلى ضيق الرؤى، ومن المرونة إلى الجمود والتكلس. فكانت النتيجة الفعلية لهذا الكساد الفكري هو ارتدادات سياسية وإيديولوجية نشهدها الآن في طول العالم العربي وعرضه.
وتبدو تجليات الأزمة الفكرية في العالم العربي أكبر من أن تداريها الصراعات السياسية الراهنة، التي هي في النهاية انعكاس وتجسيد حقيقي لها. خذ مثلاً الموقف العربي الراهن من الحرب الإسرائيلية على غزة والذي أنهى عملياً أطروحة وأفكار القومية العربية التي كانت تعتبر قضية فلسطين باعتبارها القضية «الأم» ورافعتها الايديولوجية. ويزداد هذا النكوص القومي عندما يخرج من أفواه وأقلام أقامت نفسها وإيديولوجيتها على العداء لإسرائيل والصهيونية والآن تهاجم المقاومة الفلسطينية وتدافع أحياناً صراحة وأحياناً أخرى على استحياء عما يقوم به العدو الإسرائيلي في غزة.
وبقدر ما يخلط هؤلاء بين حركة «حماس» كحركة مقاومة أصيلة وبين إيديولوجيتها الإسلامية، بقدر ما فشلوا في اقتراح طرائق بديلة للتعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي خاصة بعد فشل كل محاولات السلام الواهي طيلة العقدين الماضيين.
خذ أيضاً حالة الفشل السياسي والفقر المعرفي والإيديولوجي لتيارات الإسلام السياسي والتي يجسدها واقعياً ظهور «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو تنظيم «داعش». وبغض النظر عن الخلفيات الجيوسياسية والإقليمية لظاهرة «داعش»، إلا أنها تعبير جلي وواضح عن قروسطية الفكر السياسي الإسلاموي خاصة في شقه الحركي. صحيح أن تنظيم «داعش» لا يمثل بحال بقية التيارات الإسلامية بما فيها تلك التي تنتمي لنفس مدرسته الفكرية (السلفية الجهادية)، إلا أنه تجسيد لحالة الجمود الفكري والنقدي داخل الإسلام الحركي والتي تبدو أكثر وضوحاً الآن.
وقد كان من المفترض أن يقوم «الربيع العربي» ليس فقط بتجديد الأطروحات الفكرية الكلاسيكية وإنما أيضاً بضخ أفكار جديدة يمكنها أن تساير حركة ورغبة التغيير التي اجتاحت المنطقة طيلة السنوات الثلاث الماضية. وقد كان الرهان بعد «الربيع العربي» هو أن تصبح «الفكرة الديموقراطية»، قيمياً وفلسفياً وليس فقط إجرائياً، بمثابة البديل الفكري والتعويض السياسي للشعوب العربية عن تعثر الفكرتين القومية والإسلامية، وأن ينشأ «تيار ديموقراطي» عربي يحتل المساحات الفكرية والسياسية الشاغرة ويملأ حالة الفراغ الايديولوجي التي أصابت العقل العربي بفعل سياقات التسلط والاستبداد.
بكلمات أخرى، كان من المفترض أن تؤدي حالة السيولة السياسية التي أطلقتها الثورات العربية، إلى «ربيع أفكار» يعيد تأسيس مفاهيم ومشاريع السياسة في العالم العربي، بيد أن ما حدث هو أنها أحيت وشجعت قيام «ثورة مضادة» سياسياً، ورجعية فكرياً وإيديولوجياً تحاول الآن، بكل السبل، إجهاض ما تبقى من آمال وطموحات للتغيير.
ومع انسداد الأفق الفكري، وجمود وانتكاس النخبة العربية، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة أكثر سيولة، وأشد عنفاً، وأقل أمناً واستقراراً وستظل الحال هكذا ما دامت السياسة عندنا تصارع الفكر، والقوة تسحق العقل.
* كاتب وأكاديمي مصري
الحياة