“عن الكتابة” لتشارلز بوكوفسكي: رسائل “عجوز مُقرف”/ نجيب مبارك
“عن الكتابة”، هو آخر ما صدر في فرنسا للكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي (منشورات أوديابل فوفير، 2017)، يضمّ ترجمة لمختارات من رسائله غير المنشورة، التي كتبها على مدى نصف قرن إلى أصدقائه وناشره، ورؤساء تحرير بعض المجلات، وإلى “زملائه” في مهنة الكتابة. ولا شك في أن هذه الرسائل (أزيد من مئة رسالة كُتبت في الفترة ما بين 1945 و1993)، سوف لن تخيب ظنّ القارئ، لأنّها لا تخرج عن الصورة التي لدينا عن شخصية بوكوفسكي الشاعر والكاتب، المعروف بتمرّده الأصيل وجرأته الكبيرة، التي عوّدنا عليها من خلال أشعاره وقصصه ورواياته، بحيث يمكن اعتبارها نصوصًا موازية لهذه الأعمال، أو هوامش على متن هذا “العجوز المقرف”، وهو اللّقب المُحبّب إليه أكثر من غيره.
انطلاق “كارثي” لمسيرة أدبيّة
لم يكن بوكوفسكي (1920- 1994)، يجد راحته إلّا حين يضرب على آلته الكاتبة، وحيدًا، غامضًا كما عاش طيلة حياته، متطرّفًا في أذواقه الفنّية، ومستفزًّا لجميع معاصريه. كلّ هذا معروف عن صاحب “الحبّ كلب من الجحيم” و”نساء” و”يوميات عجوز مقرف” وغيرها من الأعمال. لكن في هذا الكتاب سوف يكتشف القارئ وجهًا آخر لهذا الكاتب المشاكس، وجهًا أكثر واقعيةً وحميمية، سواء من خلال الكلام العادي الذي يقال لكلّ يوم، والمبثوث في تلك الرسائل الملتهبة والمسعورة التي تفصح أيضًا عن خيبة أمل كبيرة، أو من خلال رسائل ودية ومفعمة بالإعجاب، مثل تلك التي أرسلها إلى ناشره جون مارتن، أو وكيله كارل وايسنر، وإلى هنري ميلر، أو جون فانتي، الذي كان الكاتب المثالي بالنسبة إليه، أو إلى بالوما بيكاسو، وإلى العديد من مديري المجلات الشعرية.
كما يمكن للقارئ أن يطّلع في الرسائل على تطوّر مسيرة بوكوفسكي الأدبية، التي بقيت في نظره “كارثية” لمدة أربعين سنة على الأقلّ، حيث كان يكسب قوت يومه من القصائد التي يكتبها ليلَ نهار، وهو في حالة سُكر طافح أو نصف واعٍ بما يدور حوله في معظم الأوقات. كان مثلًا يكتب لمجلات البورنو، وصحافة الدرجة الثانية، وفي الوقت نفسه يطلب ودّ الناشرين الذين كانوا يظنّون أنهم ما زالوا يعيشون في القرن 19. وفي ما بعد، سيعود للحديث عن هذه المرحلة الصعبة من حياته، والتي كانت كلّها تشرّد وسكر وعربدة: “بعد ستّ أو سبع سنوات، لم أكتب إلا النّزر القليل. كنتُ قد دخلت في نوبة شُرب طويلة. ثمّ انتهيت إلى المستشفى، جناح البائسين، بثقوبٍ في معدتي، تتفجّر منها شلّالات الدم…”.
“الثمالة المقدسة” والهوس بالكتابة
من قرأ حياة بوكوفسكي يعرف أنّه حين جاوز الثلاثينيات من عمره الحافل، وبعد أن قضى عقدًا من الزمان في “الثّمالة المقدسة”، حسب وصفه، بدأ الكتابة بشراهة كبيرة، ومعها شرع في قصف الناشرين ومديري ورؤساء تحرير المجلات بالقصائد والقصص والرسومات. وسواء توجّه بالكلام إلى نجم من نجوم الأدب أو إلى اسم مغمور، كان لا يخجل من أن ينفجر في وجه أيٍّ كان مُستفِزًّا مُحقِّرًا تارة، ومتذمرًا مُستطردًا في الذمّ تارة أخرى، بل إنه كان يقسو بخبثٍ كبير حتّى على زملائه الكتّاب. “من هو فولكنر؟ إنه خراء في كثير من الأحيان”. “هنري ميلر؟ هذيانات على طريقة قصص ستار تريك”. “شكسبير؟ يمكن أن تموت من الضجر خلال قراءته”. وباختصار، كان المكان الوحيد الذي يتقن فيه بوكوفسكي استعراض مواهبه هو الحانة.
لكنه أيضًا كان مهووسًا بالكتابة إلى حدّ العبادة، إلى درجة أنّ “شريط الآلة الكاتبة اللّاصق قد اختلط مع الحبل السّري”. لقد عاش منغمسًا ومتشرّدًا في ليالي لوس أنجليس، لا يرى من أفق سوى آلته الكاتبة. وحين كان يلومه البعض بأنه فوّت على نفسه فرصة الاستمتاع بفورة الستينيات، كان يجيب: “اللعنة، أعرف ذلك، لقد كنتُ أشتغل في البريد”. وبعيدًا عن المظاهر، كان بوكوفسكي شاعرًا أشبه بحيوان مُحطَّم، دائمًا على حافة الجنون، لا يرى من سببٍ للعيش سوى القدرة على كتابة السّطر التالي. “الكتابة أنقذتني من مستشفى المجانين، من القتل ومن الانتحار. أنا في حاجة دائمة إليها. الآن. غدًا. وحتّى النَّفس الأخير”، هذا ما كتبه قبل عامين من وفاته في 1994.
ضد “المؤسسة” والزيف والمقدّس
يقف بوكوفسكي في هذا الكتاب ضدّ كلّ ما ينتمي لـ”المؤسّسة”، ضد كل ما هو “نظامي” أو متعارف عليه، ضد كل ما هو مقدس، وضد كل ما يحظى بالاحترام والتبجيل والتكريم، ورسائله بمرور السنوات كانت تزداد إصرارًا على كشف هذا “الزيف” وفضحه. ومن هنا، ليس غريبًا أن لا يراعي بوكوفسكي تلك “البقرات المقدسة”، كما كان يفضّل أن ينعت الناشرين على الخصوص. ولم يكن يهمّه كثيرًا أن يبدو فظًّا أو بعيدًا عن اللباقة تجاه كلّ من ينتمي لعالم النشر. بل إنّه يعترف في إحدى الرسائل بأنّ الشعر نفسه لا يهمّه: “الفكرة ها هنا، لكن لا أستطيع أن أخترق جلدَها. أظلّ فقط على السطح. لا يهمّني الشعر. أتخيّل أنّه يصلح لتبديد الملل. الشعر، بمعناه الصريح، يبدو لي ميّتًا رغم أنّ له شكلًا جميلًا”. بمثل هذه الاعترافات، تسندها غزارة في الكتابة الصادمة والخارجة عن المألوف، تحوّل بوكوفسكي خلال سنوات قليلة إلى نجم للثقافة المضادّة، هو الذي كان يتساءل يومًا: “هل بمجرد أن ينشر الكاتب كتابًا يصير ملكيةً عامة يمكن أن يُنبش فيها دون إشعار مسبق، أم أنّه يملك بعض الحقوق في أن تكون له حياة خاصة باعتباره مواطنًا يؤدّي الضرائب؟ هل صار من المبتذل القول إنّ امتياز أن يكون المرء فنّانًا (مرّة أخرى) هو إمكانية أن تأخذ مسافة من مجتمعٍ في طريقه للانهيار، أم يتعلّق الأمر بمفهومٍ لم يعد صالحًا بكلّ بساطة؟”.
لكن، من أين يستمدّ بوكوفسكي قوّته؟ يجيب عن ذلك بأنه يستمدّها من امتهانه الكتابة في سنّ متأخّرة. إذ لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، منذ الفترة التي كان قضاها في خدمة البريد إلى أن بلغ تلك الشهرة الكبيرة التي لازمته في ما تبقّى من حياته. وهو يعترف مثلًا بأنه قام، في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1959، بمراجعة مسار حياته بالكامل، ليكتشف أنه خلال عشرين عامًا، لم يربح من كتاباته سوى 47 دولارًا، أي أقلّ بكثير ممّا أنفقه على شراء الورق وطوابع البريد. وهذا لم يكن مشجّعًا على تقديم الكثير من التنازلات لنظم المزيد من “القوافي الدّرداء”، كما كان يحلو له القول.
أدب الحياة أوّلًا
في المقابل، لم يفوّت هذا العصامي الكبير فرصة قراءة عددٍ هائل من الكتب خلال تلك الفترة، واضعًا نصب عينيه أن يبلغ ما بلغه العظام الذين سبقوه: فيون، رامبو، بودلير، دوستويفسكي وسيلين. أما قصائده الخاصة، فقد كان يقول عنها في 11 يناير/ كانون الثاني 1970: “كتبتُها بدمي. إنّها عصارة الخوف، الجرأة، والجنون. إنها ثمرة عدم معرفتي وإتقاني لأيّ شيء آخر. لقد كتبتها حين كانت الجدران تطوّقني درءًا للعدوّ. كتبتها حين انهارت الجدران من فوقي ودخل العدوّ ليمسك بي ويخبرني عن فظاعة رائحة أنفاسي المقدّسة”.
ولا تخلو هذه الرسائل من إبداع في جوانب كثيرة، بل هناك من يرى في بعضها قصائد نثر حقيقية، لأنّها كُتبت بحرية مطلقة، معبّرة عن مشاعر وأفكار صاحبها، وعن حياته كشاعر وكاتب يقف على النقيض من كُتّاب الصالونات ونوادي الكتب الجادة (التي يكرهها من أعماقه باستثناء لو وفّرت له إيجار الإقامة)، لأنّها حياة أقرب إلى حياة المهمشين، مثل السكارى والعاهرات والمجانين. يقول عن ذلك: “أنتَ تعلم أنّ المشكل الكبير حتّى الآن هو أنّ ثمّة فروقات هائلة بين الأدب والحياة، أولئك الذين يكتبون الأدب لم يدمجوا الحياة في نصوصهم، وأولئك الذين تستغرقهم الحياة يحسّون بأنهم مستبعدون من الأدب”.
إنّها رسائل مكتوبة بشغف وقسوة، ببهجة وسخرية، تنتهي بشكلٍ لطيف على إيقاع رسالة شكر موجّهة إلى ناشر مجلة “بويتري” (شعر)، حيث كان بوكوفسكي قد بلغ 73 من العمر، حين قبلت هذه المجلّة الذّائعة الصيت أن تنشر نصوصه لأوّل مرة، وهو حلم لطالما انتظر تحقّقه في حياته.
وأخيرًا، نقدّم في ما يلي ترجمة لواحدة من هذه الرسائل المشوّقة:
رسالة من بوكوفسكي
إلى كاريس كروسبي، 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1946
عزيزتي السيدة كروسبي،
في الوقت الذي كتبتِ لي لتخبريني بأنّك وافقتِ على نشر واحدة من قصصي، كنتُ أشتغل في مصنع إطارات وأشربُ مثل بئر. تقولين في رسالتك عن قصصي إنها “مثيرة للفضول وعميقة”، وما إن قرأتُ ذلك حتّى صرتُ بلا عمل. لقد اشترى لي أبي سترة جديدة ودفعني لركوب السفينة المتجهة إلى فيلادلفيا. كنتُ أعيش على الإعانات الاجتماعية، مع كثير من الوقت الحرّ المكرّس للشّرب والتفكير. وكنتُ أتساءل باستمرار عن مكان محفظتي. لقد كتبتُ شكايات كثيرة، مستخدمًا كلمات فرنسية منتقاة من القاموس. لقد أردتُ استرجاع نسخة من محفظتي وبداخلها قصّتي المكتوبة. لقد اجتاحتني نوبات سأم، ورغبات شديدة في الانتحار، وأحلام ثملة. كنتُ في حاجة إلى إشارة من القدر. وبعد الكثير من المراسلات، توفّقتُ أخيرًا في استرجاع “محفظتي”. أشتغل الآن في مستودع لأعمال الصيانة. وأشربُ مثل بئر. ومع ذلك، لم أتوقّف عن التساؤل. أين اختفت تلك القصص والرسومات التي بعثتُها لها في مارس (آذار) 1946؟ هل كانت غاضبةً؟ أم هي طريقتها في الانتقام مني؟ هل أحرقَت أوراقي؟ أم صنعَت منها قوارب ورقية؟ هذا إذا لم يكن هنري ميلر قد ضاجعها فأخفت الأوراق تحت الفراش؟ لا أستطيعُ الانتظار أكثر. في غياب أي جواب، لا أعرف كيف سأتحمّل، بكل صدق.
تشارلز بوكوفسكي
ضفة ثالثة