عن الليبراليين والأصوليين في سوريا/ ثائر ديب
ثمّة رواية شائعة ومكينة بين روايات الحدث السوري هذه الأيام، مفادها أنَّ الإسلاميين عموماً، والإسلاميين الأصوليين على وجه الخصوص، اختطفوا الثورة السورية وأودوا بها، بعدما كانت في أمان بيد قادتها «الليبراليين»، من مجلسٍ وائتلاف وسواهما من الفاعلين والكَتَبَة، ولم يكن ينغصّ عليها أو يحول دون انتصارها القريب سوى النظام وتوحّشه.
كذلك، ثمة رواية شائعة ومكينة بين روايات النظام العالمي السائد، مفادها أنَّ هذا الأخير يخوض معركةً فاصلةً ضد شيطان أكبر هو الأصولية، الإسلامية بوجه خاص، معركةٌ أشبه بصراع الخير والشرّ أو النور والظلام، في تضادٍ مستحكم بين جوهرين متناقضين لا شيء يجمعهما.
هاتان الروايتان كاذبتان وخطيرتان بالقدر ذاته.
صحيحٌ أن الليبراليين السوريين الأعلى صوتاً هذه الأيام، بخلاف الليبراليين السوريين القدامى، هم أقرب إلى كونهم «متلبرلين»، بمعنى مجيئهم إلى الليبرالية من اليسار أو القومية أو الإسلام السياسي مدفوعين بأزمات هذه التيارات وانهياراتها وبما بدا من انتصار فوكويامي (نسبةً إلى فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ») للرأسمالية وقيمها الليبرالية. وصحيحٌ أن هؤلاء اندفعوا في هذه الوجهة لمجرد أنّها أقرب وأسهل ما يمكن أن يندفع إليه المرء، بوصفها «المنتصر»، من دون كبير وعيٍ أو حسّ نقديّ. غير أنّه يبقى بمقدور أي تصنيف أيديولوجي نظري أن يحسبهم على الليبرالية وأن يحاسب خطابهم على هذا الأساس، خصوصاً تلك الرواية التي أشرنا إليها وتبقى أضعف من أن تصمد أمام أيّ تدقيق يُحسن تذكّر الماضي السوري القريب، ماضي السنوات الأربع المنصرمة التي ارتكب فيها هؤلاء المتلبرلون ولا يزالون ما يفوق الكفر بالنسبة إلى المؤمنين. ومع أننا يُمكن أن نمدّ يد النقد إلى كلّ ما في ذخيرة هؤلاء: شعبويتهم، وشبههم بالنظام «الليبرالي» أيضاً في توجهاته الاقتصادية، وطائفيتهم، وبناؤهم كامل محاججتهم وممارساتهم على القياس إلى النظام كأنّه مرآتهم…الخ، إلا أنني أقتصر على ما قد يكون الأخطر بين مقترفاتهم: تحالفاتهم في الداخل والخارج.
كان لتفضيل الليبراليين السوريين التحالف مع «الإخوان المسلمين» والتيارات الإسلامية على التحالف مع التيارات الوطنية والديموقراطية (اليسارية والقومية وبعض الإسلاميين الإصلاحيين)، وصولاً إلى الاعتداء الجسدي على بعض رموز هذه التيارات الأخيرة وتمزيق كلّ اتفاق معها، الأثر البالغ في تسهيل عمل النظام على دفع الحدث إلى أيدي القوى الإسلامية التكفيرية المنظّمة وأيدي القوى الخارجية بنفوذها وأموالها. وعلى هذا الطريق، كان أن تردد الليبراليون في إدانة تجاوزات «الثورة»، بل أصرّوا على ممارسة الإخفاء والكذب في هذا الشأن إلى أن بات الأمر أفدح من أن يُخفى أو يُغطى بالكذب، وبلغ «البلّ» ذقونهم بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم يعد بمقدورهم حتى أن يضعوا أقدامهم في المناطق التي دعوها «محرّرة». وعلى هذا الطريق أيضاً، كان أن امتدح ليبراليون نافذون منظمات إسلامية تكفيرية، من بينها «النصرة» بل و»داعش» في أحيان كثيرة، واعتبروها جزءاً جوهرياً من الثورة السورية، ما دامت تواجه النظام. دع عنك، بالطبع، ما يُضاف إلى كلّ هذا من استعجال «النصر» في بلدٍ معقّد ومركّب مثل سوريا، وما زيّنه الاستعجال من تصوّر أن الإمساك بالسلطة بات قريباً، فلا داعي لرسم سياسات للثورة، أو التفكّر بتحالفاتها، أو التأمّل بمراحلها، أو تدبّر وسائلها، حتى بات الاعتداء على من يقول بأي شيء من ذلك وتخوينه واعتباره «عدواً للشعب» أمراً «ثوريّاً» لا شكّ في مشروعيته.
كان لتحالف الليبراليين السوريين مع من دعوا باسم «أصدقاء الشعب السوري» أفدح الأثر أيضاً، لا في مشاركة النظام تدمير البلد فحسب، بل تدمير «الثورة» أيضاً. وبدا الليبراليون على هذا الصعيد، موضوعياً على الأقل، بعيدين كلّ البعد عن قيم الثورة في الحرية والديموقراطية والكرامة والعدل، شأنهم شأن كثير من حلفائهم في الداخل والخارج ممن لا يتوخّون من الثورة أكثر من تغيير تحالفات سوريا وموقعها الجيوسياسي، بل وتحطيمها وتفكيك نسيجها الاجتماعي. هكذا بات كل هذا الخليط الداخلي الغريب «ثوّاراً»، وباتت جحافل الضواري من حلفائهم «مراكز دعم للثورة».
بيد أن أخطر ما انطوى عليه هذا الاختيار للتحالفات الدولية هو فهمٌ للمسألة الديموقراطية ومسألة الحريات والمسألة الاجتماعية يفصلها عن المسألة الوطنية في بلد من بلدان جنوب العالم، إذا جاز التعبير، مثل سوريا، حيث لا مجال نظرياً أو عملياً لمثل هذا الفصل. ذلك أن الوطنية في مثل هذه البلدان، وبعيداً عن تعريفاتها السلطوية والرومانسية القوموية، هي جهدٌ يرمي إلى إقامة بنيان سياسي واقتصادي واجتماعي مستقل متمحور على مصالح شعبه العليا. ومثل هذا التعريف للوطنية لا يفصل ما يُحَقّق من تنمية اجتماعية ومن حريات تضمن مشاركة أوسع فئات الشعب وبين مقاومة الاحتلال أو التبعيّة وممانعتهما. وبذلك تكون الوطنية وجه العملة الآخر للديموقراطية والعدل والحفاظ على الثروة وتنميتها، كما يكون فصل هذه الأوجه واحدها عن الآخر نظير فصل النظام لها ومقلوبه ليس غير. ويبدو الأمر كما لو أن المتلبرلين السوريين يعيدون، في حالٍ أسوأ بكثير، ما ارتكبه ليبراليون أُصلاء إبّان الاستقلال إذ تهاونوا في المسألة الوطنية (خصوصاً كما تجلّت في وجهها الفلسطيني)، ما ساهم في فتح الباب واسعاً أمام الجيوش وانقلاباتها المتتالية.
يبقى أن هذه الرواية الشائعة والمكينة عن «براءة» الليبراليين السوريين ليست بالبدعة الفريدة في هذه الدنيا برغم سيل الدماء الفريد الذي لا يزال يرافقها ويقترن بها اقترانه بالنظام الذي لا ينبغي أن ننسى أنه «ليبرالي» أو طامحٌ لأن يكون «ليبرالياً» أيضاً، مثل خصومه هؤلاء، اقتصادياً على الأقل، وبقدر ما يتيح نظام العالم الحالي لأنظمة العالم الثالث أن تكون ليبرالية. وإصرار ليبراليي النظام العالمي على تبرئة أنفسهم من الإسلام التكفيري وسواه من الأصوليّات، لا يخدع سوى السذّج ولو تخللته الحوادث الجسام كتلك التي وقعت في باريس في 7 كانون الثاني 2015 وقبله في نيويورك 2001. فها هنا، أيضاً، ثمة رواية فاسدة تريد أن تغرس في الأذهان أنَّ العالم منقسمٌ بين الرأسمالية الليبرالية والأصولية، وأنَّ علينا أن نقف في صفّ إحداهما لنواجه الأخرى. وها هنا، أيضاً وأيضاً، ثمة ضرورة لتفكيك هذه الرواية وتعرية هذه الثنائية وما تنطوي عليه من تواطؤ خفيّ بين طرفيها. تواطؤٌ لا بمعنى المؤامرة ونظريتها، بل بمعنى أنَّ الأصولية هي تلك العقيدة الشنيعة لأولئك الذين يشعرون أن ما يُدعى «الغرب» قد أنهكهم وأذلّهم وداس كراماتهم ومصالحهم وما كان لهم من ماضٍ مجيد. وكذلك بمعنى أنَّ حرية السوق (التي هي جوهر الليبرالية) والأصولية الدينية بعيدتان كلّ البعد عن إقصاء واحدتهما الأخرى، مهما سالت بينهما الدماء، إذ ليس لدى أيّ منهما، في الجوهر، ما يحتّم نفي الأخرى أو وضع حدّ لها. وبمعنى أنَّ صعود الفاشية الإسلامية يتوافق أشدّ التوافق مع اختفاء اليسار العلماني في البلدان الإسلامية، ذلك الاختفاء الذي لم يألُ «الغرب» جهداً في تعزيزه، بل قام بالدور الأكبر في إخماد حركاته والقضاء عليها وخلق فراغ سياسي تمكّنت الأصولية من احتلاله.
ينبغي أن يُعاد التفكير بذاك التضاد الذي يستسهل كثيرون إقامته بين السماحة الليبرالية والقمع الأصولي. ولا يُمكن لما يُدعى بـ «الغرب» أن يتبرّأ من ماضيه، ماضي الإبادة والاستئصال، إزاء الردّة الإسلامية التي ساهم في إطلاق العنان لها. وأولئك الذين لا يطيقون نقد الديموقراطية الليبرالية عليهم أن يلتزموا الصمت حيال الأصولية أيضاً، وجه عملتها الآخر. وعليهم أن يعلموا، كما تُشير ثورات ما دُعي بـ «الربيع العربي»، أنّ تجاهل اليسار وبرامجه الاجتماعية الاقتصادية الراديكالية سوف يولّد موجات أصوليّة يصعُب التغلّب عليها. وعليهم أن يعلموا كذلك أن الإطاحة بالطغاة ليست سوى فاتحة لعملية تحوّل اجتماعي راديكالية عسيرة لا بدّ من دونها أن تعود الأصولية، وأن يكفّوا إذن عن ذلك التفكير الساذج في شعار «نُسقطُ الأنظمة ثم نرى»، ذلك أنهم لن يكونوا هناك كي يروا أي شيء.
في عالم يدوسه رأس المال بكعبه، وحدها السياسة الراديكالية يُمكن أن تستعيد ما هو وضّاء وجدير بإنقاذه في الإرث الليبرالي. وهذه، لعمري، وجهةٌ معاكسةٌ تماماً للوجهة التي اتخذها مَن في سوريا من ليبراليين. عفواً: مَن في سوريا من متلبرلين.
السفير