عن المثقف الذي يسقط عن المثقف الذي ينهض
بشير مفتي
فتحت الثورات الشعبية التي عرفتها كلٌّ من تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا، ملفات كثيرة كانت أُغلقت، أو طُويت صفحاتها من زمن، أو لم تعد تخدش حياء الكتّاب والمثقفين العرب بوصفها تحوّلت معطى ثابتاً في الدول المعنية حيث غطّى الاستبداد السياسي على قيم وأخلاقيات كثيرة كانت إلى وقت قريب ترمز الى ما يمكن أن يمثّله المثقف من أهمية رمزية في تثبيت معاني تلك القيم والأخلاقيات.
أهم تلك الملفات، مشاركة الكتّاب العرب أنفسهم في سياسة تلك الأنظمة وتعاملهم معها على أنها أمر واقع لا يمكن الفكاك من سطوته، أو التخلص من قبضته. صحيح أن الاستثناءات ظلت دائما موجودة، وأن غالبية الكتّاب لم تتحول إلا في حالات نادرة بوقاً دعائياً لهذا النظام، أو ذاك، لكن تمت تسوية العلاقة بطريقة أخرى، أو بطريقة ملتوية، جعلت هذا الكاتب أو المفكر أو الأستاذ الجامعي قابلا بالمشاركة غير النقدية، أي الدخول في تلك الوصاية حتى لو تعارضت تلك المشاركة مع أبسط الاقتناعات التي نتعلمها من الفكر الحر والثقافة التي نكتسبها على مر الزمان: أي الحرية النقدية.
الكثير يجد فرصة اليوم للنيل من المثقفين والكتّاب العرب، ونقد عطالتهم السلبية في عدم القيام بأي دور، وغيابهم المؤلم عن صفحة الثورات المشرقة التي عرفتها بلدانهم، أو دورهم الضعيف والمحدود، إن استثنينا بعض الأسماء التي انخرطت معنويا وجسديا في قلب معركة الحرية تلك، وهناك من يحمّلهم تلك الإخفاقات الشنيعة. الحق أن من الصعب في زنزانة العتمة التي كان يعيشها الجميع، شعوباً ونخباً، المحاكمة الأخلاقية، حتى وإن بدت رمزياً ضرورية ليتحمل كل طرف مسؤوليته الفكرية. هي سهلة طبعاً بعدما “ظهر الحق وزهق الباطل”، من دون القيام بعملية حفرية في المسار التاريخي لتلك النخب التي واجهت في مرات كثيرة وحدها الاستبداد السياسي والعسكري وكلّفها ذلك غالياً، من دون أن تجد من يسندها في رغباتها التحررية تلك من طرف تلك الشعوب التي تكفلت الأصوليات الدينية المتطرفة تخويفها من القيم الحداثية بما فيها العلمانية والديموقراطية والحرية.
إذا حاولنا القيام بهذه السيرة الغائبة حتى الآن، فستكون حتماً تحت عنوان سيرة المثقف العربي من رفض الاستبداد إلى التعايش معه من دون نقد. حتى وإن استعمل النقد، فلم يكن الهدف منه تحرير الذات من عبوديتها بقدر ما كان يوجَّه لصالح ذلك الاستبداد الذي كان يمنح هوامش للتنفيس النقدي عبر تلك القنوات الثقافية كدليل على قدْر من الحريات يوفرها للنخبة كي تتأسف وتتأسى على الأوضاع التي تعيش بداخلها.
ما يلفت أيضا أن شراكة المثقف العربي وقبوله بقواعد اللعبة في البداية، قاداه بعد سنوات، إلى التساهل الشنيع مع الاستبداد والخضوع لسطوته بالفعل، وحتى تسخير القلم لخدمة وهمية عظمة تحتاج لتحليل نفسي جديد لكشف عقدها الداخلية. تكشف المقالات النقدية لكتّاب عرب من “النوع الثقيل” عن “أدب” ديكتاتور مثل القذافي، مدى الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه تلك النخبة التي ورّطت نفسها بعد سنوات من الرفض وعدم القبول في لعبة الخضوع، والاستسلام غير الذكي لأوهام أشخاص مرضى في الحكم كانوا مستعدين لشراء الثناء والمدح بأي ثمن من طرف “طليعة القوم” و”آخر قلاع الحرية” كما يسمّون أنفسهم عادة.
أعاد ملحق ثقافي في الجزائر نشر بعض المقالات أو الدراسات لكتّاب وأساتذة جامعات جزائريين عن أدب القذافي وقصصه. يكتشف القارئ مدى ما بلغه الاستخفاف حقاً بالعقول والمواقف، وتكفي قراءة العناوين حتى يصاب المرء بالخيبة. فهذا يبحث عن بيئة حقوق الأرض في قصص القذافي لأنه بحسبه، تجاوز المفهوم الكلاسيكي لحقوق الإنسان التي يُرعب بها الغرب الشرق، وطرح قضية حقوق الأرض. المضحك ربما، هو ما تتعرض له الأرض الليبية الآن من حرق وتدمير وسلب، أما حقوق الإنسان فنعرف طبعاً كم يوليها هذا الزعيم أهمية كبيرة ليس في خطابه ولكن في تصرفاته مع البشر الذين يراهم كالقمل والجرذان.
ينظر روائي جزائري في مدخله النقدي لتلك القصص، العلاقة الملتبسة بين القراءة والكتابة، فتشعر كما لو أنه سيباشر قراءة نقدية لواحد من النصوص الخطيرة في أدب القرن العشرين.
لقد هوّن الكثير من هذه المزالق بوصفها هنات يقع فيها الكاتب العربي الذي استسلم لقدر الاستبداد وتقبّله كحتمية لا مفر منها، ولا مجال لمحاربتها ما دامت تملك البطش والمال، ومن الأفضل الافادة المادية بدل الحروب الاقتتالية مع جبهة لا ترحم ولا تشفق على أحد. غير أن هذا التهوين في حقيقته المخيفة يكشف عن بؤس من نوع آخر وعن وضع ثقافي عربي مزر للغاية، ولا يمكن من خلاله التأسيس لأي نظام ثقافي عربي نقدي جديد ينبني على أسس واضحة ومعالم صارمة وقيم نقدية بناءة.
منذ فترة غير طويلة، انجلت أوهام كثيرة عن كون الصفوة المثقفة هي الطريق الوحيد لقيادة التغيير، أو هي رمز كل تحول نحو عالم أفضل. انتهى المثقف بالصورة الرسولية، كما أخبرنا علي حرب في “أوهام النخبة”، التي كان يتصوره البعض عليها، وصار له ما له، وعليه ما عليه، ولم يعد أحد يحمّله ما لا يحتمل، فهو مثل غيره، له نقائصه ونقاط قوته. هو رمز عندما يختار أن يكون كذلك، فيتحمل مسؤولية تلك الرمزية التي يمنحها لنفسه أو تُمنَح له عندما يقوم بدوره ولا يتواطأ مع الظلم والطغيان. وهو غير ذلك، عندما يصمت أو يغمض عينيه أو يتلاشى في دوّامة الحياة العادية، مثل غيره من الناس.
لا أحد صار يتوهم الآن أن المثقف هو صاحب الحقيقة أو حارسها الوحيد، أو هو من يملكها وحده، والقادر بثقافته وعدّته أن يكون القائد الطليعي للشعوب.
مع ذلك يجب القول أو التأكيد أن ما حدث في كل من تونس ومصر كان أيضاً من طرف مثقفين شباب ولدوا في بيئة مختلفة عن بيئة من سبقهم. بيئة سمتها العولمة، والقرية الكونية. حتى لو عاشوا واقعياً تحت سطوة تلك الأنظمة المستبدة، فقد مكّنتهم أدوات العصر من أن يعيشوا كذلك في واقع مواز لذاك الواقع، يسمح بالحريات والحوار المتعدد، والتواصل عبر الانترنت مع مختلف القارات. تالياً، ظلت الحرية كمطمح ومتنفس، موجودة في حياتهم اليومية.
كان المثقف العربي التقليدي، إن صحت التسمية، يضطر في غالب الأوقات الى قول الحقيقة بكل حرية عندما يهجر بلده، أو ينفي نفسه في بلدان غربية، حتى يتواصل بشكل سليم وحر مع غيره في مختلف أنحاء العالم، لأن وسائل التواصل من إعلام مكتوب ومرئي كان يمنع عنه قولها في بيئته الأصلية، عكس ما سمحت به التكنولوجيا الحديثة للمثقفين الشباب بأن يكونوا أحراراً في عالم افتراضي، صار واقعهم الحقيقي، وهو الذي مكّنهم في النهاية من نقل الحلم إلى الحقيقة، ومن شاشة الكومبيوتر إلى ساحة بورقيبة وميدان التحرير.
نحن نشهد ولادة جديدة لمثقف جديد، مختلف كل الاختلاف عن سابقه. مثقف بقوم بدوره الطليعي بالارتباط مع شعبه، وهو نقي لأنه جديد، وهو حرّ لأنه شاب، وهو حالم لكن واقعي، وهو مؤمن لأن أمامه مستقبلاً يجب أن يطمح إليه. على هؤلاء يعوّل التغيير الجدير بالاسم والذكر، التغيير الذي يعيد بناء منظومة القيم من جديد. فالثقافة لا يمكنها أن تبقى شعاراً نرفعه في السماء وسلوكاً يتنافى مع ما نقوله. الثقافة شأنها شأن الحرية، سلوك نختبر فيه ذواتنا يومياً، وحرية تجعل من الإنسان كائناً يرفض التنازلات ويحمي نفسه بالخيارات الصعبة التي تمنحه القدرة على الذهاب في حلمه إلى أبعد مدى ممكن.