صفحات مميزة

عن المجالس المدنية في ادلب في ظل سيطرة جبهة النصرة هناك

 

 

 

 

مجالس إدلب: من “مجلس المحافظة” إلى “إدارة الخدمات

بعدما أنهكت وحلت أغلب القوى العسكرية المعارضة التي لا ترضخ لها، تمكنت “هيئة تحرير الشام” من الإجهاز على كافة المؤسسات المدنية المستقلة في مدينة إدلب، عبر الإعلان عن تشكيلات إدارية تتولى أعمال المؤسسات السابقة، واستيلائها على كافة المباني والدوائر العامة بقوة السلاح. وتهدف “هيئة تحرير الشام” إلى السيطرة عسكرياً وإدارياً على كافة مفاصل الحياة شمالي سوريا.

إلا أن مجالس محلية وإدارية متعددة كانت قد أدارت شؤون مدينة إدلب، قبل خطوة “هيئة تحرير الشام” الأخيرة. ومن تلك المجالس؛ “مجلس محافظة إدلب” و”مجلس إدارة إدلب” و”مجلس مدينة إدلب”، وسنشير لهم بـ”مجلس المحافظة” و”مجلس الإدارة” و”مجلس المدينة”.

في العام 2013، قبل خروج مدينة إدلب عن سيطرة النظام، تشكل “مجلس محافظة إدلب” مدعوماً من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ليُشرِفَ على أعمال كافة المجالس المحلية في مدن وقرى محافظة إدلب. ويتخذ “مجلس المحافظة” من بلدة تفتناز شرقي إدلب مقراً له، لإنه مُنِعَ من ممارسة نشاطاته أو تقديم خدماته داخل مناطق سيطرة “جيش الفتح”.

وعقب هزيمة النظام في مدينة إدلب، عام 2015، حاول “مجلس المحافظة” تقديم دعم إلى مخابزها، لكن تم طرد ممثله من مبنى “إدارة مدينة إدلب” بسبب تبعية “مجلس المحافظة” إلى “الائتلاف” ذي “النظام العلماني الكافر” بحسب وصف “إدارة إدلب”. ولذلك لم يساهم “مجلس المحافظة” في تقديم أية خدمات إلى مدينة إدلب، واقتصر نشاطه على دعم المجالس المحلية في قرى ومدن المحافظة.

وتم تشكيل “مجلس إدارة إدلب” المعروف محلياً بـ”الإدارة” أو “إدارة جيش الفتح”، في آب/أغسطس 2015، تحت إشراف مكونات “جيش الفتح” العسكرية. وباشر المجلس أعماله بتأسيس ستة مكاتب منها؛ “المكتب المالي” و”الرقابة والتفتيش” و”الشؤون الإدارية” و”الشؤون القانونية” و”الموارد البشرية”، وحاول تفعيل الدوائر العامة تباعاً، وبدأ بدائرة “المصالح العقارية” التي أعاد ترميمها واحتفظ بنسخة من الوثائق الموجودة داخلها، وفعّل “دائرة الإمداد والتموين”، وأعاد تشغيل أفران الخبز من خلال صيانتها وتوظيف كادر فاعل، ثم مؤسسات المياه والكهرباء والاتصالات. ويمتلك هذا المجلس خزينة خاصة به تستمد ميزانيتها من عوائد الدوائر والمؤسسات السابقة، ويصرف مخزونها لتحسين خدماته، وتأمين وقود لمولدات الأفران وتشغيل مضخات جر المياه، مستحقات موظفيه بشكل شهري.

معوقات عديدة أنهكت عمل “مجلس الإدارة”، وأبرزها الخلافات الفصائلية التي نشبت بين مكونات “مجلس شورى جيش الفتح” المشرف على أعمال “الخزينة العامة”، وهي خزينة أخرى تستمد رصيدها من المبالغ المالية التي تدفعها الفصائل المؤسسة لـ”جيش الفتح”.

وتبلورت الخلافات بعد بدء معارك حلب الشرقية، ورفض “هيئة فتح الشام” دفع مستحقاتها الماليه لخزينة “الشورى”. خزينة “مجلس شورى جيش الفتح” حاولت السيطرة على خزينة “مجلس الإدارة”، وبالفعل تمكت من ذلك بعد مقتل مؤسس “إدارة إدلب” أبو عبدالسلام، خلال معارك حلب وتعيين بديل عنه.

سوء العلاقات العامة، والقيود التي فرضها “مجلس الإدارة” على مصادر الدعم، تسببا في تدني الروابط مع المنظمات الخدمية، وبالتالي انحسار أعمالها، وأفضى ذلك إلى عدم تعامل هذه المنظمات مع “مجلس الإدارة”. ونتيجة ذلك باتت الخدمات محدودة في مدينة إدلب، وأصبحت المنطقة بحاجة ماسة إلى إدارة مدنية مستقلة عن القوى العسكرية يمكنها التعامل والاستفادة من خدمات المنظمات المدنية.

في كانون الثاني/يناير 2017، ووسط ترحيب شعبي، تم انتخاب وتشكيل “مجلس مدينة إدلب” المتعارف عليه محلياً بـ”المجلس المحلي في مدينة إدلب”، بعد توقيع مذكرة تفاهم مع “مجلس الإدارة” تنص على تسليم كافة الدوائر المدنية الرسمية في إدلب إلى المجلس المنتخب، خلال فتره أقصاها ثلاثة شهور، لكن بشروط غير معلنة عُرِفَ منها؛ عدم تبعية المجلس إلى “مجلس محافظة إدلب”، وعدم اتخاذه نظام المجالس المحلية، وأن يطلق عليه اسم “مجلس مدينة إدلب” عوضاً عن “المجلس المحلي في مدينة إدلب”.

وجود امرأة خلال عملية الانتخاب تسبب بنشوب خلاف مع أعضاء “مجلس الشورى” كاد ينسف العملية الانتخابية برمتها. وتم الإعلان عن فوز 25 مرشحاً بأعلى نسبة أصوات، وعمل المجلس على تنظيم 6 مكاتب له؛ رئيس المجلس وأمانة السر و”مكتب الشؤون المالية” و”مكتب الدراسات والتخطيط” و”مكتب الرقابة” و”مكتب الموارد البشرية”، ولم يتمكن من استلام مقر دائمٍ له إلا في تموز/يوليو.

وحاول “مجلس المدينة” تنظيم شؤون المدينة والنهوض بالواقع الخدمي فيها، وأسس “مديرية النقل”. فعلياً، لم يتسلم المجلس سوى “مديرية الخدمات” و”دائرة الأفران” ومؤسستي الكهرباء والمياه، إي القطاعات المُنهِكَة بسبب ارتفاع تكاليف الخبز وضعف المياه وعدم وجود الكهرباء، واعتماد المنطقة على مولدات خاصة تعمل يومياً لساعات محدودة. وتصعب تلبية احتياجات المدنيين من خلال هذه المؤسسات والدوائر لأن أغلب مرافقها معطلة ومدمرة. الأمر الذي أفضى إلى ضعف الحاضنة الشعبية للمجلس. ويبدو أن ذلك كان مراد “إدارة جيش الفتح” التي تعمدت إدارة بقية الدوائر العامة في مدينة إدلب، من دون الإيفاء بمذكرة التفاهم الموقعة سابقاً مع “المجلس المحلي في مدينة إدلب”.

وعلى الرغم من كافة القيود السابقة، بات واضحاً خلال شهور معدودة، تغيّر معالم مدينة ادلب من خلال مشاريع متعددة أتمها المجلس ومنها؛ مشاريع النظافة، ومشاريع “النقد مقابل العمل” التي قامت بصيانة كافة الدوّارات الرئيسية وغالبية الأرصفة والمنصفات والحدائق العامة، إضافة إلى مشروع تعبيد شوارع المدينة، ودعم المشاريع الصغيرة، وحفر آبار لتغذية شبكة المياه، وتنظيم ساعات تشغيل مولدات الكهرباء الخاصة بشكل يناسب الجميع. وكان المجلس على وشك البدء بمشاريع متميزة كإنارة الطرقات بواسطة الطاقة البديلة، وتركيب مولدات ضخمة تغذي كامل مدينة إدلب بساعات كهرباء إضافية وتساهم في تشغيل مضخات المياه بشكل مستمر.

“هيئة تحرير الشام” لم تنهِ “مجلس الإدارة”، بعد حلّ “جيش الفتح”، بل سيطرت عليه، واستبدلت مدراء دوائره بأخرين يتبعون لها، وحاولت توسيع نشاطه ليشمل كافة محافظة إدلب. “الهيئة” أنهت بشكل شبه تام “مجلس المحافظة”، وساهت في تجميد أعماله بعدما استحدثت “الإدارة المدنية للخدمات” التي أصدرت بياناً اعتبرت من خلاله أن الهيئات والمديريات العاملة في المناطق المحررة شخصيات اعتبارية مستقلة لا أكثر.

ويُعد “مجلس المدينة” هو المتضرر الأكبر من هيمنة “هيئة تحرير الشام” على الشؤون المدنية، فقد تمّ أنهاؤه بشكل تام وبقوة السلاح، رغم التزامه بعقود ومشاريع مع جهات متعددة ومنظمات داعمة. وحتى اللحظة لم يصدر عن “مجلس المدينة” أي بيان رسمي يوضح مجريات ما تعرض له.

المدن

 

 

 

أي إدارة مدنية تريدها “تحرير الشام” في إدلب؟/ عقيل حسين

يُظهر الفشل الذي مني به الاجتماع الأول لـ”مبادرة الإدارة المدنية في المناطق المحررة”، والذي استضافته جامعة إدلب، في 24 آب/أغسطس، حجم التباعد بين الفعاليات والشخصيات الثورية وبين “هيئة تحرير الشام” الساعية، منذ سيطرتها شبه الكاملة على المحافظة مؤخراً، إلى إيجاد واجهة سياسية وإدارية للحكم في المناطق الخاضعة لنفوذها.

المبادرة التي من المقرر أن تواصل اجتماعاتها خلال هذا الأسبوع، وعلى الرغم من أنها جاءت بدعوة من إدارة جامعة إدلب، إلا أن ذلك لم يقنع سوى عدد محدود جداً وغير فاعل في الساحة بأنها دعوة مستقلة بالفعل، بل كانت هناك قناعة تامة، حتى قبل انعقادها، بوقوف “هيئة تحرير الشام” خلفها.

أمر لا يحمل أي مفاجأة، لا من حيث المكان ولا من حيث التوقيت أيضاً. فمثل هذا الاجتماع، الذي لم يكن الأول من نوعه خلال أقل من شهر، لم يكن ليحصل في المدينة لولا سماح “تحرير الشام” له، بل ورغبتها فيه. وأما من ناحية التوقيت، فإن ما يحسم الموقف من هذه المبادرة، هي الدعوات التي أطلقتها “الهيئة” منذ هزيمتها لـ”حركة أحرار الشام”، آخر منافسيها الأقوياء في إدلب في تموز/يوليو، لتشكيل إدارة موحدة للمناطق المحررة من قبل المؤسسات المدنية، والاتصالات التي أجرتها لتأسيس هذه الإدارة، والدعوات التي وجهتها للمشاركة فيها.

دعوات شملت عدداً من الشخصيات الثورية والناشطين، ومعظمهم من المتواجدين في تركيا، بالإضافة إلى شخصيات من “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” و”الحكومة السورية المؤقتة” و”المجلس الإسلامي السوري”، وعدد من ممثلي المنظمات الإنسانية الفاعلة في الداخل السوري، إلى جانب خبراء تكنوقراط من الموظفين والمسؤولين المنشقين عن مؤسسات النظام الإدارية والخدمية.

وباستثناء موافقات مبدئية مشروطة، فإن هذه الدعوات قوبلت بالرفض الكامل، إذ اعتبر كثير ممن تلقوها، أن هذه الخطوة لا تعدو محاولة مكشوفة من جانب “الهيئة” لتأسيس واجهة شكلية تمارس من خلالها حكمها الخاص في هذه المناطق، كإنجاز للإمارة التي كان قد وعد بإقامتها أبو محمد الجولاني، في تسجيل له خلال لقاء مع كوادر من “جبهة النصرة” في العام 2014.

موقف لم يكن مبنياً في شكوكه على الاستنتاجات فحسب، بل وعلى تصريحات ومواقف غير رسمية، لم تتوقف عن الإدلاء بها شخصيات من داخل “الهيئة” نفسها تجاه هذا الموضوع. والأهم من بينها على الإطلاق، هي المناقشة التي جرت بين قادة في “الهيئة” وبعض مرجعياتها الشرعية، التي أكدت بوضوح، أن أي سلطة مدنية في مناطق نفوذ “هيئة تحرير الشام”، أياً كان اسمها أو شكلها، لا يجب أن تكون إلا خاضعة تماماً لـ”الهيئة”، ولن تعدو أن تكون سوى واجهة تدير من خلالها “تحرير الشام” الحكم.

لكن ومع ذلك، فإن المناقشة التي يبدو أن “هيئة تحرير الشام” قد سربت نصها مكتوباً عن عمد، كان واضحاً فيها عدم التوصل إلى رأي نهائي حول هذه المبادرة، إذ سجّلت بعض المرجعيات الدينية من داخل “الهيئة” وخارجها، تحفظات عديدة عليها، رغم أن مقدميها يؤكدون وبشكل قاطع، على أنها ستكون تحت سيطرة “الهيئة”.

أبرز الاعتراضات المقدمة كانت حول شرعية وجود مثل هذه الإدارة أصلاً، سواء أكانت حكومة أم مجالس محلية، أو أياً كان اسمها، إذ رأى المعترضون “أنها تشكل في النهاية، حتى وإن كانت شكلية، انتقاصاً من سيطرة المجاهدين وتمكينهم”. كما رفض بعضهم مبررات الداعين إلى هذا الشكل من السلطة، والتي ترى أنها تسهم في نزع صورة المتغلب بالقوة عن “هيئة تحرير الشام” لدى الحاضنة الشعبية من خلال اتاحتها التشاركية مع الأطراف المعارضة الأخرى، وسحب ذريعة أن هذه المناطق تخضع لحكم تنظيم مصنف دولياً على لائحة الإرهاب، بما قد يسهم في منع أو عرقلة التوافق الاقليمي والدولي المتوقع لمهاجمة إدلب.

وبحسب الوثيقة المسربة، فإن العديد من المشايخ الذين لم تُسمّهم، وجدوا أن “الإعلان الصريح عن مشروع هيئة تحرير الشام للحكم، وتنفيذ هذا المشروع عملياً، أهم من رأي الحاضنة الشعبية والموقف السياسي الخارجي”، مؤكدين “أن كسب ثقة عناصر الهيئة وكوادرها، عبر الإعلان الصريح عن هذا المشروع وتطبيقه، هو الخيار الأمثل بالنسبة لقيادتها، التي عليها أن تستعد لمواجهة حتمية مع المجتمع الدولي الذي لن تنطلِ عليه هذه المناورة، ولن يقبل بالهيئة كسلطة حاكمة ولا بأي شكل بطبيعة الحال”. وتساءل هؤلاء عن المبررات التي ستقدمها قيادة “هيئة تحرير الشام” لعناصرها الذين قاتلوا الفصائل الأخرى تباعاً، تحت مبرر تواصل قيادات هذه الفصائل مع الحكومات العربية والغربية، وسعيهم لإقامة نظام مقبول من هذه “الحكومات الطاغوتية”، ويقيم علاقات سياسية معها، إذا ما كانت “الهيئة ستقوم بالأمر ذاته اليوم؟”.

بل ورفض البعض من هذه المرجعيات، بحسب نص المناقشة المتداولة، مجرد القبول بتعيين “الهيئة” لشخصيات من خارج أوساطها، لا تلتزم من حيث المظهر الخارجي أو السلوك بالمعايير المعتبرة لديها، كالتدخين أو ارتداء الزي الحديث وحلق اللحية، مؤكدين أن ذلك سيوجه ضربات للثقة في الأوساط الجهادية في هذا المشروع، مطالبين بإعادة النظر في هذا الطرح بشكل يستجيب للتحفظات والملاحظات المسجلة، ويجيب عن الأسئلة المطروحة قبل مباركته.

بالنسبة إلى قيادة “هيئة تحرير الشام”، لا يمكن الاستخفاف بالطبع بهذه المواقف المتحفظة، التي تدرك مدى النفوذ والتأثير الذي يمتلكه أصحابها، ليس بين عناصر “الهيئة” وحدهم، بل ولدى القوى والتشكيلات الجهادية الأخرى الموجودة في سوريا، والتي من المهم جداً قبولها بهذا المشروع وانخراطها فيه، على الرغم من أن هذا التأثير قد انحسر نوعاً ما، خصوصاً بين الكوادر السورية في “الهيئة”، الذين يميل معظمهم، كما يبدو، إلى تنفيذ هذا المشروع، تحت شعار حماية هذه المناطق من مصير الرقة أو الموصل، واتاحة الفرصة لسكانها وللمقاتلين المتواجدين فيها من أجل التقاط الأنفاس.

وكما واجهت قيادة “تحرير الشام” التحفظات على قرار فك الارتباط بتنظيم “القاعدة”، العام الماضي، بتكثيف الدعاية لإيجابياته في المنابر الإعلامية الجهادية الموجهة للخارج، وبالدروس الشرعية المخصصة لعناصرها وجمهورها في الداخل، وهي الاستراتيجية التي يبدو أنها حققت نجاحاً مشجعاً بالنسبة لها، فإنها اليوم تكرر استخدامها أيضاً.

فعلى الصعيد الإعلامي، لم يتوقف الأمر عند تسريب هذه المناقشة حول مبادرة الإدارة المدنية للجمهور، كما سبق وأن سربت المناقشات التي رافقت قرار الانفصال عن “القاعدة”، بل عمدت اليوم، من جملة حملتها الترويجية المركزة، إلى توظيف الاتفاق الموقع أخيراً بين جماعة “أنصار الشريعة” مع “جبهة تحرير أزواد الوطنية” في مالي، للتأكيد على سلامة ما تسعى “الهيئة” إلى تطبيقه في سوريا كذلك، إذ نشر الكثير من مسؤوليها وأنصارها نص هذا الاتفاق، والمشروع الذي اقترحته قيادة الجماعة الجهادية الافريقية المرتبطة بـ”القاعدة” أيضاً على قيادة التنظيم الأم وحظي بموافقتها، مؤكدين أن ما تريده “تحرير الشام” هو تماماً ما وقعت عليه “أنصار الشريعة”.

لكن لماذا تلجأ “هيئة تحرير الشام” أو أنصارها إلى تسريب مثل هذه المناقشات ومسودات المشاريع إلى العلن؟

سؤال لا تبدو الاجابة عليه معقدة، إذ من الواضح أن الهدف هو وضع الوسط الجهادي بشكل عام في صورة الخطوات التي تنوي “الهيئة” القيام بها، لضمان عدم إثارة الجدل وكسب التأييد والدعم، أو على الأقل، منع تشكل تيار مناوئ يمكن أن يؤلب الأنصار والعناصر ضدها، على غرار ما سبق وفعلت عندما قررت قيادة “جبهة النصرة” تغيير اسمها واعلان انفصالها عن تنظيم “القاعدة” العام 2016. حينها، أبلغت المعترضين على هذه الخطوة بأنها مجرد إجراء شكلي، وقامت منابر إعلامية جهادية بالترويج لذلك، وهو الأمر الذي تم تداوله على نطاق أوسع، عندما اختلف أبو محمد المقدسي، مع قيادة “الهيئة” لاحقاً، واعتبر في سلسلة من المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، أن قيادة “تحرير الشام” قامت بعملية خداع، حين أوهمت الجميع بأن هذه الخطوة جرت بالتنسيق مع قيادة تنظيم “القاعدة” على أنها إجراء شكلي، بينما تصرفت على نحو مختلف لاحقاً.

لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تضطر هذه القيادة إلى إحراج نفسها، مرة بتسريب ما يؤكد أن انفصالها عن تنظيم “القاعدة” مجرد إجراء شكلي، ومرة بتسريبٍ آخرَ يثبت أن ما تدعو إليه من إدارة مدنية للحكم في مناطق سيطرتها في سوريا، لن يكون سوى واجهة لها، ثم تنتظر من الآخرين الاستجابة لها؟ سؤال آخر، حتى وإن كانت الإجابة عنه تقول إن الهدف من ذلك هو الحفاظ على عناصر “الهيئة” وأنصارها وكسب تأييد المرجعيات الجهادية المؤثرة. إلا أن أطراف المعارضة وقوى الثورة الأخرى، تتصرف وكأنها غير معنية بها، فضلاً عن عدم الاقتناع بهذه الإجابة.

وهنا تبدو ردود الأفعال الواسعة والسلبية التي تم الإعلان عنها، من جانب الشخصيات التي تلقت دعوات من جانب “هيئة تحرير الشام” للحوار حول تشكيل إدارة مدنية للمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال، تحصيل حاصل.

فقد هاجم الكثيرون هذه الدعوة بشدة، واعتبروا الاستجابة لها “خيانة للثورة، ومنح شرعية لتحرير الشام بعد كل ما قامت به بحق الثورة، وهي تبحث اليوم عن ملجأ تحمي به نفسها، وجسر تعبر فوقه نحو تحقيق مشروعها، وواجهة لممارسة سلطتها”.

وحده تقريباً، الداعية والكاتب الاسلامي المعارض حسن الدغيم، أبدى موافقته المبدئية والمشروطة على قبول هذه الدعوة للحوار “من منطلق مصلحة الشعب”، قبل أن يظهر في ريف حلب الغربي، الجمعة، في مظاهرة شعبية في بلدة عينجارة، رافقه فيها قائد “حركة نور الدين زنكي”. وأكدت المصادر أن دخوله إلى سوريا هو للقاء أبي محمد الجولاني، والتباحث مع قيادة “هيئة تحرير الشام” بخصوص القضايا المتعلقة بمستقبل الشمال المحرر، والإدارات المدينة والعسكرية التي تقوم “الهيئة” بإنشائها.

الشيخ الدغيم، والذي يُعتبر من أشد مناوئي “تحرير الشام”، اعتبر في تصريح له “أن البدء بتشكيل أي إدارة مدنية يحتاج لمقدمات وممهدات لنجاحها، ومن أهمها التخلي عن العقلية الحركية الضيقة التي تسوق الناس بالإيديولوجيا”، مشيراً إلى “أن الجماهير لا تُساق بالأيديولوجيا، وإنما من انبثاق المجتمع وحديثه عن نفسه، عندما يرى أنه ضمن دائرة القرار، وإن لم يجد نفسه فيها، فسيعتبر أي سلطة عليه هي سلطة اغتصاب واحتلال وفساد، تنعدم فيها الشفافية والنزاهة”.

وعليه، أضاف الدغيم: “الإدارة المدنية لإدلب وما حولها، يجب أن تنطلق من مصالحة ثورية شاملة، تُرد فيها الحقوق، وتُحترم فيها النفوس المقهورة، وتُجبر فيها الخواطر المكسورة، ويعوض فيها المتضررون من الاقتتال والاحتراب، ويتنازل فيها المستعلون بإيديولوجياتهم، والتوجه للشعب والاعتذار له، عندها يرى الشعب نفسه جزءاً من القرار المدني والسياسي، فيقف في صف الإدارة ويتمسك بها”، داعياً القائمين على إطلاق مشروع الإدارة المدنية أن يكون قرارهم مبنياً على مصالحة ثورية شاملة، وأن يتوقف البغي والعدوان والاعتقالات والتضييق، وأن يتم إرسال الحكماء والعلماء والأقلام لإيجاد حل شامل للساحة، “عندها يمكن أن نقول إن هناك إرادة سياسية حقيقية للإصلاح”، بحسب الدغيم.

رؤية في العموم لا تحمل ما يمكن أن يُرفض من قبل “هيئة تحرير الشام”، ومطالب تبدو وجيهة، بل وبديهية، ستقابل بخطاب ملبٍّ ولا شك من جانب “الهيئة”. هذا من حيث المبدأ، لكن عملياً، وعندما يصل الأمر إلى مرحلة الدخول في التفاصيل والترتيبات، فمما لا شك فيه، أن تباين الأهداف ووجهات النظر سيفرض نفسه، خصوصاً أن هذا التباين واسع جداً، إلى درجة يصعب معها جَسر الهوة خلال أيام أو أسابيع، في حين يشعر الجميع أن الوقت يلعب ضدهم، لا سيما “هيئة تحرير الشام” التي تنتقل اليوم وللمرة الأولى تقريباً، من موقع الجماعة المقاتلة فقط، إلى موقع الجهة المسؤولة عن تدبير شؤون أكثر من مليوني شخص يسكنون في مناطق سيطرتها.

ويبدو أن قيادة “الهيئة” قد اقتنعت أن دعواتها للحوار مع قوى الثورة والمعارضة، لا ينتظرها الكثير، خصوصاً أن الاجتماع الذي استضافته جامعة إدلب لم يكن الأول من نوعه، بل سبقته لقاءات مماثلة في المدينة، لم تنل حظاً من النجاح هي الأخرى، رغم كل محاولات “الهيئة” لإنجاحها أو تسويقها، الأمر الذي يكون قد دفع قائد “تحرير الشام” هاشم الشيخ “أبو جابر”، إلى إعلانه استعداد “الهيئة” لحل نفسها، والتعامل بإيجابية مع فكرة الحل السياسي، ولكن بشروط صارمة.

جاء ذلك خلال خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ في مسجد مدينة بنش في ريف إدلب، واشترط فيها أن تحل بقية الفصائل نفسها أيضاً، من أجل “مشروع جامع يوضع له برنامج يرتكز على جهة سياسية تمثل الشعب”، بعد انتقاده الشديد لـ”الهيئة العليا للمفاوضات”، التي اعتبر تمثيلها للثورة “باطلاً”.

وبغض النظر عما إذا كانت تصريحات قائد “تحرير الشام” هذه، استجابة حقيقية، أما لا، للنداءات التي تطالب “الهيئة” بحماية إدلب من حرب شاملة وواسعة ضدها، من خلال حلّ نفسها، والتي كانت آخرها اقتراحات قدمتها الحكومة التركية للمعارضة السورية بهذا الخصوص، وعلى رأسها حل “هيئة تحرير الشام” وتشكيل إدارة حكم ذاتي مدنية في المحافظة، فإن تصريحات الشيخ الأخيرة، مع الدعوة السابقة للحوار التي قدمتها “تحرير الشام”، تعتبر من وجهة نظر مؤيدي “الهيئة” تنازلاً مهماً يجب على بقية الأطراف التعامل معه بإيجابية ومسؤولية. بينما تعتبر هذه الأطراف أن “تحرير الشام” قد استنفدت كل فرص التلاقي مع الثورة، وأن عليها أن تكف عن المناورات الإعلامية التي لم تعد لها أي فرصة للنجاح بعد كل ما حدث. وهو ما يتفق، وإن كان من زاوية مختلفة، مع موقف المتحفظين من المرجعيات الجهادية على مشروع “الهيئة” التكتيكي هذا، والذين يطالبونها بالإعلان صراحة عن حكومتها، بلا واجهة أو رتوش.

المدن

 

 

 

مجالس مدنية لجبهة النصرة/ ميشيل كيلو

ليس هناك ما يثير الاستغراب في تطابق آليات تفكير النظام الأسدي وطرق تصدّيه للمشكلات، وآليات تفكير قيادة جبهة النصرة وطرقها في التصدي لما يترتب، في الحالتين، على تفكير (وأفعال) استبداد سياسي في دمشق، مذهبي في إدلب، يلتقي عند أمر جوهري، يرى من السياسة السلطة وحدها: أداته لإعادة إنتاج مجتمع قطيعي، فقد بانعدام حريته إنسانيته، فهو مجزّأ ومتناحر وخاضع خضوعا مطلقا لفردٍ معصوم سياسيا في العلمانية الأسدية ذات الملامح والمضامين الدينية، ودينيا في المذهبية الجولانية ذات الإيحاءات السياسية. يفضح هذا الجوهر، بتظاهراته المتماثلة الصادرة عن تطابقه، حجم التزوير في تسميات النظامين، وكم هي الأسدية جولانية والجولانية أسدية، وكم تحفل علمانية الأولى بمضامين قاعدية، تتصل بعبادة فردٍ أبطلت عبادة الله، ودينية الثانية بتسييس فردٍ تجعل ستائره وحجبه من الأرباب الإلهية. لا عجب إن رأيت في الأسد جولاني نظامه، وفي الجولاني أسد نصرته، وأكدت أن أيا منهما ليس القائد الأول في تنظيمه، بل هو القائد الأوحد الذي لا يجوز أن يتردد في التخلص من أي تابعٍ يخال نفسه ثانيا فيه، فالقائد الأوحد لا ند ولا نظير ولا ثاني له، وإلا لكان، أولا، زعيما ذا مرتبة، بينما هو الزعامة في شخصٍ لا يوجد، ولا يجوز أن يوجد، بل ولا يمكن أن يوجد بين البشر، وفي شعب”ه” الخاص، من يحق أو يجوز له أن يماثله أو يدانيه.

في كل مرةٍ واجه النظام الأسدي مشكلة، عمل لتوسيع دوائر التضليل من حوله، لإخفاء حقيقته وإيهام السوريين أنه بدأ، أخيرا، يبدل بنيته وأساليب عمله، وشرع يمد يديه إليهم بالرغبة في التغيير. بما أنه كان يكذب في أقواله التهويلية حول التعاون مع الآخرين، وخصوصا المعارضين منهم، فإنه سرعان ما كان يضيف إلى أكاذيبه أكذوبة جديدة تشكو من عدم وجود من يتفاعل بإيجابية مع قراره بوضع نظامه في خدمة شعبه العزيز. لذلك يتحمل الآخرون المسؤولية كاملة عن فشل التغيير، وما قد يقع اليوم أو غدا من أخطاء سترجع حكما إلى لاعقلانية مطالبهم وخطابهم التهويشي اللذين يستهدفان إضعافه، في حين أن هدف التغيير لا يجوز أن يكون غير تقويته.

في كل مرة كانت سورية تواجه مشكلاتٍ أنتجتها الأسدية، كانت تتعالى دعوتها إلى تحميل الغير عبء مساعدتها على تجاوزها، وبعد تخطيها، كان القسم الأكبر ممن استجابوا لدعوتها حول التعاون يذهب إلى السجن، بينما ينضم قسم صغير منهم إلى فاسدين ولصوص ومجرمي الأسدية ويخونون شعبهم. بمرور الزمن وتعاقب الأزمات، صار من يخاطبهم الأسديون يقولون، حين يطلب تعاونهم: “اللي بيجرّب المجرّب بيكون عقله مخرّب”.

.. واليوم، يحاول أسدي النصرة، أبو محمد الجولاني، تغطية مأزقٍ ليس لديه حل له، هو استحالة قيام نظام إسلامي في سورية بيده من جهة، وتزايد احتمالات تعرّضه للهلاك على يد تحالف أميركي/ روسي، يستهدف نصرته باعتبارها تنظيما قاعديا من جهة أخرى، هو في تصريحات جنرالات الطرفين الخطر الأشد على أمن العالم وسلامه. لذلك، لا مفر من القضاء عليه، إذا لم يوجد حل سياسي يضع حدا لوجوده. ماذا يفعل الجولاني لتفادي الكارثة؟ إنه يدعو إلى تشكيل مجالس مدنية تدير منطقة إدلب، تشبه “الجبهة الوطنية التقدمية” التي كان الأسد الأب قد “شكلها من تافهين لعبوا أدوارا خطيرة وغير تافهة”، كما كان أستاذ جيلي الراحل إلياس مرقص يقول. اليوم، يريد الجولاني تافهين يلعبون دورا خطيرا وغير تافه هو افتداء تنظيمه بأرواح الشعب، نسوا كم قتل منهم، واختطف من نسائهم وأطفالهم، وسجن من رموزهم، ودمر من تنظيمات جيشهم الحر، وسبب موت آلاف منهم. وكم تجبر وتكبر وأصدر أوامره الإلزامية إليهم من شرفات وحيه الرباني.

هل يسقط ضحايا جبهة النصرة في الفخ الذي تنصبه لهم، ويسمحون لها باستخدامهم، فيهلكون بدلا منها، بزعم أنهم “مجالس مدنية” تدير مناطقها، بينما تسيطر على قراراتهم بما تبثه في نفوسهم من رعب، وتمارسه ضدهم من ابتزاز يطاولهم هم وأسرهم وأصدقاءهم، وتوجهه إلى صدورهم من سلاح؟

“من يجرّب المجرّب يكون عقله مخرّب”. لن تستحق المجالس اسمها، أو “تمون” على أي شيء. لذلك لا يجوز أن ينخرط فيها أحد، قبل إعلان الجولاني حل جبهة النصرة، بمختلف مسمياتها، ليس من أجل أن يلبي مطلبا أميركيا أو روسيا أو دوليا، بل استجابة لمطلب شعب سورية الذي لا يهدّد هو وجبهته أحدا سواه.

العربي الجديد

 

 

إدلب… معقل المعارضة السورية التي اخترقتها الرايات السوداء

سيطرة «النصرة» على الوظائف الحكومية يمكن أن توقف تدفق المساعدات

إدلب (سوريا): «الشرق الأوسط»

إدلب؛ المحافظة السورية الوحيدة الخاضعة لهيمنة المعارضة، أصبحت، وعلى نحو متزايد، تحت سيطرة جماعة مسلحة متشددة تابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة)، حيث يطوف المسلحون التابعون لها الشوارع فيما يشبه الدوريات الأمنية ويراقبون المسافرين.

وبأسلوب المتشددين نفسه، ترفرف «الرايات السوداء» بأنحاء محافظة إدلب، حتى مع محاولة بعض المسؤولين المحليين التصدي للمتطرفين في محاولة لإنقاذ أي قدر ما زالوا يتمتعون به من الاستقلال. ويمكن أن تكون عواقب تلك السيطرة التدريجية والزاحفة للمتشددين مدمرة على ما يقدر بمليوني شخص هناك، وكثير منهم نزحوا بالفعل بسبب 6 سنوات من القتال في سوريا.

وإذا ما أكدت «جبهة النصرة»؛ الجناح التابع لـ«القاعدة» والمكون الأكبر للتجمع الذي يعرف باسم «هيئة تحرير الشام»، سيطرتها على المهام والوظائف الحكومية الأساسية، فيمكن أن يتوقف تدفق المساعدات الإنسانية. وهناك أيضا مخاوف من أن تقوم الولايات المتحدة أو روسيا أو النظام السوري، بتكثيف الهجمات والضربات الجوية على تلك المحافظة.

يقول محمد، وهو صاحب متجر طلب عدم الإفصاح عن اسمه كاملا، لوكالة الأنباء الألمانية: «غارة جوية واحدة ستكون كافية لأن أخسر كل ما ادخرته». ويقول إن كمية السلع المعروضة للبيع قليلة بالفعل.

ويمثل الدمار الناجم عن الضربات الجوية الماضية عاملا واحدا فقط من بين العوامل التي ساهمت في دعم «هيئة تحرير الشام». ومن العوامل الأخرى رفض حكم رئيس النظام بشار الأسد، وخيبة أمل إزاء المجتمع الدولي، وفشل الجماعات المعارضة المعتدلة، والمعتقدات المحافظة المنتشرة بين سكان محافظة إدلب، التي تعززت خلال الحرب.

وقال وليد، وهو أحد المؤيدين لتلك الجماعة: «سواء كانت (هيئة تحرير الشام) هنا أم لا، فستكون هناك غارات جوية»، رافضا أي فكرة مفادها أن الجماعة المتشددة ستتحمل مسؤولية مزيد من الحرب. ومع ذلك، شهدت الجماعة احتجاجات ضد فرضها سيطرتها، ويعود ذلك للسنوات التي بدأت خلالها في السيطرة على القرى والبلدات. ويرجع ذلك جزئيا إلى غريزة «القاعدة» التي تميل إلى القمع السياسي، وليس فقط رؤيتها الدينية.

وقال عضو في المجلس المحلي ببلدة صغيرة لا تزال غير خاضعة بالكامل لسيطرة «هيئة تحرير الشام»، التي كانت تعرف باسم «جبهة النصرة»: «الشيء الأكثر فظاعة هو أنها تخطف أي شخص يكتب أو يدلي ببيان ضدها». وذكر سام هيلر، وهو محلل لدى مؤسسة «ذا سينشري فاونديشن» ومقرها بيروت: «إنها تحظى بوضع الهيمنة بلا منازع… كل الجماعات الصغيرة ليس لديها خيار سوى انتهاز الفرص وركوب الموجة».

والجماعة الوحيدة الأخرى التي تنافس «هيئة تحرير الشام» هي جماعة «أحرار الشام»، وهي أيضا فصيل متشدد، ولكنه من دون أجندة بمطامع دولية. ومع ذلك، فقد تم إحباط مناوراتها وهزيمتها من الناحية التكتيكية والاستراتيجية والآيديولوجية.

وقال أحد السكان المحليين، طالبا عدم الكشف عن هويته، إن «الحياة باتت الآن تشبه للغاية الحياة في أفغانستان تحت حكم طالبان. هناك جيوب ومناطق مستترة يمكن للأشخاص التدخين فيها، ولكن (هيئة تحرير الشام) تكثف مصادرة منتجات التبغ وفرض قواعد صارمة خاصة بالملابس».

وتعترف منظمات الإغاثة المحلية بأنها تشعر بالذعر بشكل متزايد من أنه في أي لحظة يمكن أن تقطع الجهات المانحة الدولية والجمعيات الخيرية مساعداتها عن إدلب بعد سيطرة «هيئة تحرير الشام» على الحدود مع تركيا؛ المعبر الوحيد إلى إدلب من خارج سوريا.

واتخذت أنقرة، التي كانت مترددة منذ فترة طويلة في فرض قيود على إدلب، خطوات في أغسطس (آب) الماضي لتضييق الخناق على الحدود، ولكنها ما زالت تسمح بدخول الإمدادات الغذائية والأدوية الحيوية.

والحسنة الوحيدة على الصعيد الإنساني تتمثل في أن المجتمع الدولي لا يريد أن يرزح شعب إدلب تحت طائلة الجوع. وإن لم تفعل «هيئة تحرير الشام» شيئا متهورا، فسوف تستمر الجهات المانحة في إرسال الإمدادات.

وإذا لم يكن هناك هجوم كامل على إدلب من قبل كثير من خصوم «هيئة تحرير الشام»، فقد يضطر السكان للتكيف مع الحياة في ظل جماعة متشددة ومقاتلة، مع اضطرار النساء إلى الاحتجاب تحت الزي الذي يغطي كامل الجسد ومواجهة القيود في الأماكن العامة.

وقد تم إجبار الدروز، وهم أقلية دينية في إدلب، على التحول إلى المذهب السنّي، بينما تزداد سيطرة المتطرفين خطوة بخطوة. ويقول مسؤول محلي، رفض الكشف عن هويته: «المدنيون غاضبون للغاية، ولكنهم يقفون عاجزين». وأضاف: «هناك حالة من الرعب في إدلب».

الشرق الأوسط»

 

 

 

 

لا سيناريو سلمياً لإدلب إلّا بتغيير «النصرة» سلوكها جذرياً/ عبدالوهاب بدرخان

معركة الرقّة في صدد الانتهاء، كما كان متوقّعاً بعد الموصل وقبل دير الزور وربما إدلب أيضاً، بحصيلة ثقيلة من الضحايا المدنيين. تتكرّر هذه النهاية المروّعة في كل مدينة انتزع تنظيم «داعش» السيطرة عليها لنحو عامين أو ثلاثة ثم راح يفقدها تباعاً. وبما أنه اتخذ من الدروع البشرية محوراً لاستراتيجيته الدفاعية، فإن مهاجميه بقيادة «التحالف الدولي» جعلوا التدمير المنهجي وقتل المدنيين وسيلتهم الحاسمة لكسر مقاومته.

هكذا فُرض وضع غير معقول، يقضي فيه الأبرياء في الذهاب وفي الإياب، ويدفع الى التساؤل: مَن المسؤول عن هذا الموت المجاني للمدنيين؟ أهما الجهتان معاً، وإنْ بمعايير مختلفة؟ أهو «داعش» وحده في كل الأحوال؟ أهي الجهات الأخرى التي مهّدت سمحت وحرّضت على ظهور «داعش» وبرّرته ليوفّر مسوّغاً «قانونياً – أخلاقياً» لتدمير المدن والبلدات، بحجة أنها بيئات حاضنة للإرهاب، ولا أحد يعلم ما الذي يتخلّق الآن تحت الدمار وركام الجثث وذلّ النزوح، أيكون «اعتدالاً» أم «وسطية». أما الذريعة القانونـ – دولية فهي أن التنظيم ارهابي وأنه استولى على مناطق فأخرجها عن سلطة الدولة المعترف بها دولياً وتنبغي إعادتها اليها، أي الى «دولة» العراق التي ورثتها الهيمنة الإيرانية لتديرها مع «دولة» أو «لأدولة» بشار الأسد كنموذج «أسوأ من نظام صدّام حسين» كما بات يقال، فيما يجد المجتمع الدولي نفسه معذوراً إذا قال أن النموذج البعثي – الملاليّ يبقى أهون شرّاً من نموذج «داعش»، أي أن السوريين كما العراقيين لا يستحقون ما هو أفضل.

بعد الرقّة، الى أين؟ دير الزور أم إدلب؟ السباق يرجّح الأولى لأن قوات بشار الأسد وميليشيات إيران تقترب بسرعة متوغلةً أكثر فأكثر في أطراف «الشامية»، أو دير الزور جنوب الفرات، ومستغلّةً انشغال «التحالف الدولي» والقوات الكردية بالمرحلة الأخيرة من العمليات في الرقّة. كانت إدلب ولا تزال هدفاً للثنائي الأسدي- الإيراني، إلا أن أولويتها تراجعت قليلاً في الآونة الأخيرة لمصلحة تأمين المناطق الشرقية، سواء لأهمية دير الزور بمواردها أو لأن التوسّع شرقاً يلبي طموح الأسد بتعزيز «سورية المفيدة» ويقرّب الإيرانيين من وراثة حدود «داعش» المفتوحة/ الملغاة بين سورية والعراق. فهذا الإرث أهم بالنسبة الى طهران، إذ تعتبره عاملاً حاسماً في «الانتصار» على الولايات المتحدة. أما إدلب فستسقط عاجلاً أم آجلاً، وسيتولّى ذلك الأميركيون أو الروس، كل على طريقته، وبالطبع تستبعد طهران الخيار الأميركي بالتعاون مع الأكراد، وفي ضوء تقاربها المستجدّ مع أنقرة تفضّل الخيار الروسي بالتعاون مع الأتراك.

تصرّفت إيران منذ أواخر العام 2001 على أنها الدولة «الوصيّة» على تنظيم «القاعدة»، وكان معروفاً منذ 2013 أنها ونظام الأسد قدّم تسهيلات لـ «داعش» وتأمين انتشاره في سورية. استقبلت طهران فلول «القاعدة» الهاربة من أفغانستان والعديد من قادته، وورثت «طالبان» في رعاية التنظيم وأنشطته، وهي الآن مع روسيا تدعمان هذه الحركة تحدّياً للنفوذ الأميركي في أفغانستان. يُذكر أن زعيم التنظيم أسامة بن لادن هادن إيران، وكذلك خلفه أيمن الظواهري، فالأول تضمنت رسائله توصيـة لـ لقاعديين» بعدم مهاجمة إيران، والثاني كان له توبيخ مشهور لأبي مصعب الزرقاوي بعدما هاجم الشيعة في العراق. والأكيد أن الظواهري لم يستطع معالجة تمرّد «داعــش» عليه لكنه أبقى الخيط موصولاً مع «جبهة النصرة» (أو «جبهة فتح الشام» ثم «هيئة تحرير الشام» لاحقاً) وأبدى تفهّماً لتغييرها اسمها وحتى لفكّ ارتباطها بالتنظيم. وروى صحافي التقى «أبو محـــمد الجولاني» ضمن مجموعة أجرت معه مقابلة متلفزة أن «الجولاني» سئل لماذا لا تهاجم «النصرة» إيران، فأجاب أن هدفه الأول هو النــــظام، لكنه أضاف: «علينا أن نراعي جماعتنا (القاعدة) فهم لا يزالون يدعمــونـــنا ولا نريد أن نحرجهم». وعندما حصل الصحافيون على قرص المقابلة المعدّة للبث لم يجدوا ذلك السؤال ولا الإجابة عنه، فمعاونو «الجــــولاني» تــــولّوا محـوهما بـ«المونتاج».

ليس هناك سيناريو واحد للتعامل مع حال إدلب، فالوضع فيها غير مقبول، أولاً من جانب الإدلبيين ومواطنيهم النازحين، وتالياً من جانب القوى الدولية والإقليمية التي تدير الأزمة السورية متوافقة أو متنافرة. لا شك في أن أكثر ما يرتسم في الأفق هو مصير مشابه للموصل والرقّة خصوصاً أن العداء الحاد لـ«النصرة» يجمع روسيا والولايات المتحدة، الأولى لأن هذ الجبهة استقطبت أعداداً كبيرة من مواطني جمهوريات وسط آسيا التابعة لها، والثانية لأنها في حرب لم تتوقف ضد «القاعدة»، بالتالي فإنهما لا تتصوّران حلّاً يبقي هؤلاء «القاعديين» في الخدمة أو يجعلهم مقبولين بأي صيغة. لا شك أيضاً في أن احتمالات تجنب هذا المآل ممكنة كذلك لأن «النصرة» واقعياً، على ما يقول المتفائلون، لا تشبه «داعش» على رغم أيديولوجيتها الدينية، ولا تشبه «القاعدة» كونها لم تستهدف المصالح الغربية ولم تقم بعمليات خارج سورية – حتى الآن، بل حصرت نشاطها في الصراع الداخلي متقاربة أقل أو أكثر مع فصائل معينة في المعارضة. لكنها و«داعش» متشابهان في توسّعهما على حساب «الجيش السوري الحرّ».

الأسهل هو السيناريو الكارثي، ربما لأنه يناسب القوى الخارجية ولأن عناصر تبريره متوافرة، ولأن منطقي الحرب وإنهائها يستسهلان العمليات الجراحية حتى لو كانت مكلفة، فعدا الضحايا المدنيين والدمار سيكون على الجوار، أي تركيا، أن تتوقع ما يقارب المليون ونصف المليون من النازحين الجدد. ومع أن ثلاثي آستانة (روسيا وتركيا وإيران) أدرج إدلب في خطة «مناطق خفض التصعيد» إلا أن الترتيب أُقرّ قبل أن تنجز «النصرة» سيطرتها على المحافظة. صحيح أن موسكو وأنقرة تواصلان تطبيق «خفض التصعيد» محافظة إدلب، بل إن سيرغي لافروف أعلن أن الخطة ستشملها قريباً، لكن هناك شروطاً أهمها قبول الحل السياسي، ما لم تتعامل «النصرة» معه سابقاً بل رفضته.

أما لماذا السيناريو السلمي هو الأصعب، فلأنه يتوقف على تغيير جذري في سلوك «النصرة». كان اتفاق آستانة على «مناطق خفض التصعيد»، مطــلع أيار (مايو) الماضي، توقّع ضمناً حصول صراعات ضمنية بين فصائل المــعارضة، وافتــرض هيــمــنة المعتدلين المستعدّين لقبول الحل السياسي، لذلك حسمت «النصرة» الأمر بضرب حركة «أحرار الشام» وطردها من مناطق سيطرتها لاستباق تحركها ضدّها. بعدئذ أطلق المبعوث الأميركي الخاص الى سورية مايكل راتني تهديداً واضحاً بأن هيمنة «النصرة» على إدلب «ستجعل من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة» لمواجهتها. ويعني ذلك عملياً أن حكم «النصرة» إدلب ربما يحوّلها الى «امارة»، ما يستدعي معاملتها إسوة بمناطق «داعش» فتُقطع عنها المساعدات الانسانية وتصبح تلقائياً تحت حصار مرفق بعمليات تستهدف مواقع «النصرة» ومرافقها ومستودعاتها، أي أنها ستدخل نفق الحل العسكري.

لكن المطلوب لإثبات «عدم الهيمنة» كثير جداً، ويصعب على «النصرة» تنفيذه مع افتراض رضوخها له. بين أفكار كثيرة طُرحت اقترح الدكتور أحمد طعمة، وهو الرئيس السابق للحكومة الموقتة التابعة للائتلاف المعارض، أن تتواصل الشخصيات الإسلامية والاجتماعية مع «النصرة» لتسهيل انتخاب إدارة مدنية لإدلب من دون أن تتدخّل، ولإلغاء بيانات متشدّدة أصدرتها خلال مواجهتها مع «أحرار الشام» وتركت انطباعاً بأنها لا تزال مرتبطة بـ «القاعدة»، ولقطع الصلات نهائياً مع هذا التنظيم وفكّ بيعتها لزعيمه، والأهم أن تجري انسحاباً كاملاً من المدن والبلدات لتتمركز خارجها بعد إعلانها مناطق خالية من السلاح… قد تبدو هذه الاقتراحات، من خارج إدلب، مبالغة أو مستحيلة، لكن متواضعة بالمقارنة مع مطالب الناس في الداخل، فهم يرفضون مصيراً مشابهاً للموصل والرقّة. اذاً فالخيار عند «النصرة»، بين التمسّك بسيطرة أحرزتها بقوّتها والتسبب بكارثة لإدلب وسكانها ونازحيها، وبين قبول الشروط وتقليص نفوذها لإنقاذ إدلب. قد يؤدي الخيار الثاني الى استبعاد السيناريو العسكري، لكن أياً من الخيارين لا يضمن لـ «النصرة» وجودها في نهاية المطاف.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى