عن المطرقة والسندان السوريَّيْن أو عن الأزمات السياسية التي لا يحلّها أيّ عسكر/ ثائر ديب
مرّتان، على الأقلّ، خلال ما يقارب ثلاثة عقود ونصف العقد، كانت التيارات الإسلامية في سوريا وأذيالها القديمة والمستجدّة من «اليسار» الشعبويّ مقبرةً باكرةً لآمال السوريين، والسندان الذي تنهال عليه مطرقة نظام الاستبداد والفساد بنجاح لتطحن فوقه لا تطلّعات الشعب السوري فحسب، بل أجساده أيضاً.
في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، شهدت سوريا صراعاً بين التيارات الإسلامية الإخوانية والسلطة أودى ببوادرِ حراكٍ شعبيٍّ ونقابيّ بازغ. وبين مطرقة النظام القمعية العنيفة وسندان عمليات الإسلام السياسي العسكرية، سُحِقَت جميع أشكال النضال الأخرى كلّها وهُرِسَت جميع خيارات المقاومة المدنية بما تنطوي عليه من مرونة وحساب رشيد لموازين القوى وقدرة على جذب أوسع قطاعات المجتمع وفئاته.
هكذا انقشع غبار ذلك الصراع عن تعزيز غير مسبوق للقمع والاستبداد المطلقين، وعن «تسويغ» لهما في أذهان كثير من السوريين على مدى العقود الماضية وصولاً إلى آذار 2011 وما نعيشه منذ ذلك الحين. فقد أتاحت تلك الأحداث الكبرى تطوّراً سريعاً ونوعياً لآليتين كبيرتين قديمتين من آليات الاستبداد: الأولى، تغييب كلّ مظهر ذي فحوى من مظاهر المجتمع المدني بالبطش والشدّة (أحزاب، نقابات، جمعيات، نوادٍ، صحافة مستقلة، … إلخ)؛ والثانية، ربط الجيش، أو أجزاء حاسمة منه، بالسلطة ونظامها الأمني الذي يدير شؤون البلد وأهله في كلّ شاردة وواردة، برغم مظاهر شكلية للديموقراطية والتعددية فارغة تماماً.
في نهاية تلك الأحداث، أواسط ثمانينيات القرن العشرين، كان أن اكتمل تطورُ نظامٍ مستبدٍ فاقدٍ لأيّ مرونة سياسية ولأيّ قدرة ذاتية على التحوّل من شكل للحكم إلى سواه حين يقتضي الأمر. وبخلاف الأنظمة التي تعمل فيها الديموقراطية على امتصاص الصراعات العنيفة وإحالتها إلى صناديق الاقتراع وسواها من أجهزة التعبير والتمثيل وأدواتهما وأبنيتهما القانونية والشرعية، بتنا أمام نظام لا يحتمل نقداً بسيطاً لصحافيّ أو نزاهة في حدّها الأدنى لقاضٍ، الأمر الذي سوّر سوريا بخطر محدق وماحق هو الذي بات خبزنا اليومي هذه الأيام، وما زال يحبل بالمزيد في حقيقة الأمر.
حين انطلق الزلزال التونسي وبلغتنا تردداته في آذار من العام 2011، كنّا إزاء شعب نادراً ما فتح فاهاً طوال خمسين عاماً، ومعارضة كسرت المعتقلات ظهورها وسيقانها ولَوَتْ أدمغتها على مدى عقود من الاحتجاز والتعذيب والتنكيل، ونظام أفلح في إدامة ذاته حتى بالمعنى الجسدي الفردي البيولوجي، برغم فقدانه كلّ قدرة على المناورة والتفاوض السياسيين، وكل قدرة على احتمال أدنى اختلاف مهما تكن طبيعته. ومن جديد، كانت التيارات الإسلامية، من «نصرة» و «داعش» وإخوانهم وتوابعهم المعتادين والجدد من مهتاجي «اليسار»، على أتمّ الاستعداد لتشكيل السندان الذي تنتظره مطرقة النظام، بل الذي ساهمت في صوغه على نحو من الأنحاء، كي تطحن الحراك المدني السلمي وتدفع موتوريه باتجاه تبنّي العنف والسلاح والطائفية وطلب التدخّل الخارجي.
تكمن الجريمة السياسية التي ارتكبتها هذه التيارات وملحقاتها في تشكيل هذا السندان بالضبط. وهو تشكيلٌ جرى، من بين أشياء كثيرة أخرى، عبر الزراية بكل حصافة سياسية في حساب ميزان القوى واعتبار درجة تطور الحراك ونضجه، ورفع الشعارات السياسية الحربجية لا على أساس إمكانية تحقيقها بل على أساس استغلال المظلوميات التي تعبّر عنها، والمسارعة إلى طلب السلاح والدعوة إليه، وغياب أي برنامج جدي سواء للانتفاض أو ما بعده، واقتصار رهاناتهم كلّها على التحالف مع قوى إقليمية ودولية هي بطبيعتها أبعد ما تكون عن الثورة ومطالبها في العدل والقانون والكرامة والحرية، وفتح مستودعات التبرير لاحتقار كل شكل مدني سلمي من أشكال النضال والمقاومة، وتسويغ التحالف مع أعداء عقائديين حتى البارحة (كفّار ورأسماليين إمبرياليين)، والعجز عن إبراز ولو شخص واحد عليه القيمة في تمثيل المعارضة السورية أمام العالم، كما العجز عن تقديم أي خطاب فكري متماسك يتعدّى تبرير عنف «النصرة» والطائفية والقياس على صورة النظام وتصوّر سقوطه السريع على غرار أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن.
قد يبدو كلّ هذا الآن على أنّه بات مُفَوَّتَاً ووراءنا، بعد التدخلات الخارجية التي صار يصعب إحصاء أصحابها وآخرها التدخل الروسي. وقد تترك هذه التدخلات ضباباً كثيفاً يشجعّ على اللجوء إلى نظريات المؤامرة التي لا تصحّ ولا مرّة واحدة، ولو وُجِدَت المؤامرات. وقد يزيد الضباب تباكي المعارضة السورية آنفة الذّكر لا من خداع حلفائها وتقاعسهم فحسب، بل من الدرك المزري الذي أوصلهم إليه تذاكيهم السياسي في وضع كل البيض في سلّة الجهات الإقليمية والدولية التي خذلتهم… إلخ. لكن هذا كلّه لا ينبغي أن يحجب الحقيقة الثابتة الأكيدة، وهي أنّ الإرهاب، والتدخّل الخارجي لمحاربة الإرهاب، والتدخّل الخارجي الآخر لمحاربة الإرهاب الذي لم يحاربه التدخّل الأول، وهذه المعارضة البائسة التي لا تكاد تتعدّى الدمى الملفّقة على عجل، وهذا التردّي الطائفي المتعالم في خطابات السوريين المكتوبة والشفهية، وكلّ هذا الدم والنزوح و «الانتصارات» … لا تنمو ولا تترعرع ولا تستوطن إلا في الأماكن الموبوءة التي ضربها عفن الاستبداد والفساد واستعباد الناس، الأمر الذي يُعيدنا إلى نقطة البدء، وهي أنّ المشكلة داخلية تتمثّل في عجز الاستبداد عن احتواء تبدّل علاقته بمحكوميه وخروجهم عليه بغير العنف والقتل. ذلك أنه ليس بوسع مثل هذه الأنظمة في حال الخروج عليها أن تعيد بذاتها وعلى نحو مرن إنتاج سيطرتها بتغيير شكل حكمها من الاستبداد إلى الديموقراطية. ولا يبقى سوى أن تخضع بالضغط والقوة لمطالب شعبها الجذرية فتزول، أو لضغط القوى الخارجية المطالبة بشيء من هذا التحوّل فتضع قدميها على طريق الزوال، أو تختار البطش والحرب الأهلية وخلق الظروف المواتية للتدخّل الخارجي فتضع البلد أمام احتمالات عديدة رهيبة، وهو الأمر الذي يتعزّز ويتبرّر إلى أبعد الحدود بوجود معارضة كالتي وصفناها، تصوغ صورتها على غرار خصمها.
يستطيع التدخل الخارجي الساحق أن يغيّر موازين القوى ويقلبها. وقد يؤدي دوراً مهماً في محاربة الإرهاب التكفيري الفاشي. وقد يختلف تدخّلٌ عن تدخّلٍ في أشياء كثيرة. غير أنّ أحداً لا يستطيع إحداث تغيير جوهري مستدام ما دام يحافظ على العلاقة الجوهرية التي سبّبت في الأصل كلّ ما نراه من عنف وإرهاب وتدخّل وموت: علاقة الاستبداد التي تعيد إنتاج أزماتها العنيفة على نحو يكاد أن يكون دورياً. وما وثب في وجه الاستبداد بكل هذا العنف والشدّة، مهما يكن شائهاً ومرتبطاً وفاشلاً وفاشياً، هو في التحليل الأخير عقود القهر والعسف والقتل والنهب التي ترعرعت في حِجْرِه هو نفسه. وهذه قد تُهزَم عسكرياً لكنها لا تلبث أن تعاود الولادة من رحم الاستبداد الذي لا يتوقّف عن تفريخها. ومن الواضح أنّه في كلّ مرة تتجدّد الأزمة يتصاعد العنف على نحو غير مسبوق، حتى أنَّ سوريا باتت اليوم مأساة العصر، سواء بحجم القتل أم بحجم النزوح أم بفداحة أرقام الكارثة على كل صعيد. الحلّ المستدام في سوريا، إلى جانب محاربة الإرهاب واستئصال شأفته، هو حلّ سياسي، كما الأزمة سياسية: إعادة ما اختُطف من الناس إلى الناس، أي حرياتهم وحقوقهم الأساسية التي تضمنها دساتير الدنيا وشرائعها، كرامتهم ومساواتهم أمام القانون، مواطنتهم ودولتهم الحديثة العادلة. هذا ما يضع أساساً حقيقياً لوطنيتهم، وهذا ما يضمن أفول معارضة رديئة بأفول الغرار الذي صاغت نفسها عليه. هل هناك مَن يقوى، في الداخل أم في الخارج أم في أيّ مكان، على القيام بأيّ نأمة تعمل على تحويل أيّ شيء من الكارثة الجارية في سوريا إلى فرصة لاجتراح بداية لذاك الحلّ؟
السفير