عن الهجوم الارهابي الأخير في استنبول –تحليلات ومقالات –
إذا كان لكل أمة «داعشها»… فهذا هو «داعش» التركي/ حازم الامين
لماذا على تركيا أن تنجو مما لم ينج منه غيرها من دول استثمرت في التطرف؟ فاستعادة التجارب الموازية صارت مملة لشدة بداهتها، من باكستان إلى اليمن إلى سورية. وجميع هذه التجارب يفيد بأن اقتراب دولة من الجماعات الإرهابية سيكون وبالاً عليها في الجولة المقبلة.
تركيا باشرت قبل أشهر تحولاً هائلاً في دورها في الإقليم والعالم، نقلها إلى موقع مختلف تماماً عن الذي كانت تشغله في السنوات الخمس الفائتة، وهو ما يبدو أنه أفقدها مهمة متوهمة كانت مناطة بها، أي تلك التي صورتها مستوعباً بديلاً لطموحات الإسلاميين، وهي طموحات تتفاوت بين كونها حاضنة لجماعات الإخوان المسلمين من كل حدب وصوب، وكونها حلم الخلافة المستعادة والنائمة منذ ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في 1924.
تركيا اليوم، بعد اقترابها من موسكو، عادت تركية وأتاتوركية، وإن بدا رجب طيب أردوغان أقل علمانية من سلفه. العلاقة القلقة مع أطراف الإمبراطورية، والتي سعى أحمد داوود أوغلو إلى ضمّها مجدداً إلى الحدود «العاطفية» لتركيا، استأنفت قلقها مجدداً، لا بل ذهبت به إلى حدود العنف.
والحال أن تخبط الموقع التركي بين المزاجين العثماني والأتاتوركي لن يكون بلا ارتدادات داخلية، كما أن الحدود «العاطفية» للإمبراطورية، والتي خطّها حزب العدالة والتنمية، لن تقبل بأن تُسلخ مجدداً عن وجدان الخلافة المستعاد من دون مقاومة.
من هنا تماماً يمكن التأريخ لـ»داعش» التركي. أي من لحظة تخلّي أردوغان عن رعايا الإمبراطورية وتحالفه مع خصمهم الروسي بعدما كان مدّهم بحلمها. ونحن هنا نتحدث عن أشهر قليلة هي تاريخ انعطافة أردوغان، وقبلها كان «داعش» في تركيا حدثاً أمنياً. والانتقال بالحدث من مستواه الأمني إلى مستواه العاطفي لن يتأمن من دون بنية تحتية وفرتها سنوات «الجهاد» الخمس في سورية. فخلال هذه السنوات، جرى غض طرف أمني عن تحول عشرات المدن التركية المحافظة محطات لاستقبال «مجاهدين» قصدوا تركيا من كل بقاع العالم متوجهين إلى سورية. وهذه المهمة اقتضت توافر بيئة مسجدية محلية، احتكت خلال عملها مع خبرات «الجهاد العالمي»، ما أخرجها، على ما يبدو، من عباءة المؤسسة الدينية الرسمية.
تذهب تقديرات إلى أن عدد الذين يحملون الجنسية التركية ممن قاتلوا في سورية يبلغ نحو سبعة آلاف، فيما تشير أرقام شبه رسمية إلى أن عدد العناصر التركية في «داعش» و»جبهة النصرة» اليوم يفوق الثلاثة آلاف، ويبدو أن جزءاً كبيراً منهم من أكراد تركيا.
لكن أتراك «داعش» ليسوا أولئك الذين يحملون الجنسية التركية فقط. فقوميات آسيا الوسطى والصين ملتبسة اللغة والعلاقة مع ما يسمونه «قومية أم». الأيغور الصينيون يتحدثون التركية ويطلقون على مقاطعة شينغيانغ التي يعيشون فيها اسم تركستان الشرقية، وللإيغور تنظيم خاص في «داعش» ومئات منهم يقاتلون في سورية اليوم. يصح الأمر على الأقلية السنية الأذربيجانية، وعلى نحو أقل على قيرغستان وداغستان والشيشان.
وبهذا المعنى، فإن «داعش» التركي مرشّح لمهمات قد تتجاوز المهمة التقليدية للتنظيم الإرهابي، ذاك أن الأول أمكنه أن يستدخل ما لم يكن في الحسبان. فقد عاد بنا الزمن هنا إلى لحظة تخلّي أتاتورك عن مد الجماعات المسلمة على أطراف الإمبراطورية الروسية بحلم العودة إلى حضن الخلافة في «الآستانة». وهنا أيضاً تلوح فعلة سفاح اسطنبول القرقيزي بصفتها تكثيفاً رمزياً احتجاجيا لـ»مسلم روسي» قرر الانتقام من الخليفة الخائب المرتمي في أحضان القيصر. ولشدة وضوح المقارنة تصبح التواريخ بلا معنى. الفعلة كان يمكن أن تقع في مطلع القرن الفائت، تماماً مثلما أمكنها أن تقع في الساعة الأولى من 2017.
وإذا كان «داعش» الأوروبي ثمرة فشل في نظام العلاقة بين الدولة الحديثة ومواطنين فيها، و«داعش» العراقي زواجاً بين البعث وعشائر متصدعة، وإذا كان لكل دولة وأمة داعشها، فإن «داعش» التركي مرشح لأن يتّسع للكثير من الانهيارات، ذاك أننا نتحدث عن تجربة الخلافة المنقضية في مواجهة تحدي «الخلافة» المستيقظة. ومن غير المهم هنا الحديث عن كفاءة «الخليفة»، فهو بالنسبة الى مسلمين ضمهم القيصر الروسي عنوة إلى منطقة نفوذه، مخلّص ومُحررٌ، وهنا تمّحي التواريخ مرة أخرى ويصبح القرن الذي يفصل بينها مجرد فراغٍ تتكرر فيه الوقائع نفسها.
عندما قرر أتاتورك في 1920 حل السلطنة العثمانية، قرر إبقاء الخلافة بصفتها موقعاً دينياً لا سلطة سياسية لها، وأتى بـ«خليفة» ضعيف هو عبدالمجيد، لكن بعد أربع سنوات تنبّه أتاتورك إلى أن الخليفة الضعيف خليفة أيضاً، وأن استقرار السلطة يقتضي خلعه على رغم أنه لا يهددها مباشرة، فخلعه.
يجيد القرقيزي، المهاجم المفترض لنادي رينا في اسطنبول، الروسية كلغة أولى، على ما أفادت التحقيقات الأولية، كما يتحدث القرقيزية بالدرجة الثانية والتركية بالدرجة الثالثة. وهذا التحدر اللغوي صورة عن العلاقة مع مستويات ضائقته المنتجة للعنف وللرغبة الانتقامية كافة. وهو أقام لأيام في مدينة قونيا التركية في ضيافة «مجاهدين أتراك»، وزار عائلات من المهاجرين الإيغور في اسطنبول، وتواجه السلطات التركية صعوبة في البحث عنه نتيجة سهولة تحرك جاليات آسيا الوسطى في البيئة التركية.
كل عناصر هذا المشهد تأمنت في ظل مرحلة انبعاث «الحدود العاطفية للإمبراطورية العثمانية»، والتي أطلقتها حكومة حزب العدالة والتنمية. فتركيا ألغت تأشيرات الدخول لكل الرعايا السابقين، وانخرطت في الأزمة السورية منحازة الى هذا الحلم قبل انحيازها إلى السوريين في مواجهة مضطهدهم. وفي لحظة الذروة، قررت أن تعود تركية وأن تقصر دورها في سورية على مهمة أتاتوركية في الأصل (الخطر الكردي) وأن تتحالف مع روسيا، الدولة التي تربطها بـ»الخلافة» عداوة قرون من الحروب. وكانت هزيمة حلب تتويجاً رمزياً لمسلسل هزائم كان توقف قبل نحو قرن.
رصاصة مولود الطنطاش التي أطلقها على رأس السفير الروسي كانت مؤشراً أول إلى ولادة «داعش» التركي، وانتقاله في تركيا من كونه حدثاً أمنياً إلى قضية داخلية، لكن فعلة القاتل القرقيزي في نادي رينا فتحت احتمالات «داعش» في تركيا على معضلة توازي الخلافتين.
الحياة
ملهى راينة في اسطنبول قصة مجزرة معلنة/ بكر صدقي
دخل القاتل الملهى الليلي المشهور في منطقة «أورتة كوي» وفي يده بندقية رشاشة من نوع كلاشنكوف. كانت الساعة الواحدة والربع بعد منتصف الليل، أي بعد فترة قصيرة من بداية العام الجديد. أخذ يطلق النار من بندقيته على كل من يتحرك داخل الملهى، فأفرغ ستة مخازن كاملة (180 طلقة) في ست دقائق، ثم خرج واستقل سيارة تاكسي أبعدته عن المكان.
كانت حصيلة المجزرة 39 قتيلاً و65 جريحاً بين أتراك وسياح من جنسيات مختلفة. أفاد شهود عيان بأن القاتل أطلق رصاصة ثانية على رؤوس بعض الجرحى ممن كانوا يتحركون على الأرض. بل سمعوه يقول: من كان حياً فليرفع يده. أي أنه لم «يهدر» أي طلقة مما كان بحوزته من ذخيرة الموت.
يعرض القاتل الذي ما زال طليقاً في مكان ما، بروفايل شخص مدرب جيداً على استخدام السلاح، ذي أعصاب فولاذية، يملك من الدوافع ما يجعله وحشاً في هيئة البشر، خطط لعمليته بدقة وعناية بما في ذلك خطة للهروب بعد «إنهاء العمل». هذا التفصيل الأخير هو ما يميز هذا الهجوم الإرهابي عن هجمات كثيرة سبقتها في مختلف المدن التركية، كان الفاعلون فيها انتحاريين، لعل أبرزهم هو قاتل السفير الروسي قبل أقل من أسبوعين.
الضحية المستهدفة مختلفة أيضاً هذه المرة: رجال ونساء يحتفلون في سهرة رأس السنة، في أحد أبرز أماكن اللهو في إسطنبول، ينتمون إلى طبقة اجتماعية فوق المتوسطة، لهم نمط حياة غير محافظة.
اتجهت أصابع الاتهام، بصورة بديهية، إلى داعش التي تبنت العملية، بعد يومين، على أي حال. داعش التي يحاصرها الجيش التركي في مدينة الباب السورية منذ أسابيع، وتلقت ضربات موجعة هناك في الفترة الأخيرة، سبق لقائدها أبو بكر البغدادي أن أعلن تركيا هدفاً للعمليات الجهادية.
شكلت العملية الإرهابية صدمة كبيرة في الرأي العام التركي، ربما لأنها قالت لكل شخص: يمكن استهدافك بهذه السهولة، أنت لست في مأمن. يمكن لشخص واحد يملك السلاح والدافع وبرودة الأعصاب ودرجة معينة من التدريب، أن يقتل عدداً كبيراً من المدنيين في أي مكان وأي وقت، وأن ينجو بفعلته أيضاً. وهي رسالة موجهة أيضاً إلى معتنقي العقيدة الجهادية من الذئاب المتوحدين ممن لا يرتبطون بعلاقة عضوية مع المنظمات الجهادية المعروفة كداعش والقاعدة، فحواها أن هذا العمل سهل التنفيذ ولا يتطلب الانتحار بالضرورة، أي يمكن لشخص واحد القيام بعدة عمليات متتالية.
شكا بعض الكتّاب من غياب التضامن الاجتماعي المطلوب في مواجهة هذه المجزرة، على غرار فرنسا التي خرج مئات آلاف المواطنين من مختلف المشارب الاجتماعية، في عاصمتها، رفضاً للإرهاب، خريف العام 2015. ففي تركيا انقسم الناس بين أصوات مستنكرة وأخرى شامتة، إضافة إلى الكتلة الكبيرة من غير المبالين. نعم كان هناك من عبروا، على مواقع التواصل الاجتماعي، عن استحسانهم لمقتل «سكارى يحتفلون بأعياد الكفار»، فيما قال آخرون «كان عليهم ألا يذهبوا إلى الملهى». وسبقت المجزرة حملة مركزة من تيارات محافظة على هذا الاحتفال «الغريب عن تقاليدنا وأعراف مجتمعنا المسلم»، برز منها مشهد تمثيلي نفذته مجموعة من الشباب حيث يرتدي أحدهم ثياب بابا نويل التقليدية، ويوجه له آخر لكمة على رأسه، كما علق في بعض الشوارع ملصق كبير يصور شخصاً يوجه مسدساً إلى رأس بابا نويل. بل إن هيئة رئاسة الشؤون الدينية (بمثابة وزارة) وزعت على الجوامع نص خطبة آخر يوم جمعة قبل نهاية السنة، ورد فيها عدم جواز الاحتفال برأس السنة، وألقيت هذه الخطبة في 84 ألف جامع موزعة على الخريطة التركية. في حين أصدرت بعض مديريات التربية في المحافظات تعميماً بمنع طلاب المدارس من أي فعل احتفالي في آخر أيام السنة. وتوجت إحدى الصحف اليومية المحافظة هذه الحملة بمانشيت عريض تصدر الصفحة الأولى من عددها الصادر في 31 كانون الأول 2016: «هذا هو الإنذار الأخير: لا تحتفلوا برأس السنة!»
القصد هو أن ثمة تيارا اجتماعيا عريضا، في تركيا اليوم، يزداد تشدداً باطراد. ففي شهر رمضان الماضي، على سبيل المثال، هاجمت مجموعة متشددة مقهىً قرب جادة الاستقلال في إسطنبول كانت تعرض فيه لوحات فنية، قامت بالاعتداء بالعصي والأدوات الحادة على الموجودين، بدعوى أنهم «مفطرون ويشربون الخمر في شهر رمضان». وتكررت، في الأشهر الأخيرة حوادث اعتداء فردي على نساء في أماكن عامة بدعوى عدم احتشامهن في الملبس. كأن من قام بارتكاب مجزرة الملهى الليلي، أو الجهات التي تقف خلفه، استفادا من هذا الانقسام الحاد في المجتمع التركي حول «نمط الحياة» هذه المرة، المضاف إلى انقسامات أخرى معروفة، بين الأتراك والكرد، أو السنة والعلويين، أو الإسلاميين والعلمانيين، أو الموالاة والمعارضة، وأرادا الاستثمار السياسي فيها.
وفي كل مرة يستهدف فيها أحد طرفي تلك الاستقطابات، يبتهج القطب المقابل أو لا يكترث، في أحسن الأحوال، بمصيبة جاره، على مثال ما تفيدنا نكتة ألمانية سوداء من الحقبة النازية: في صباح أحد الأيام جاء حلاق ألماني ليفتح محله في السوق، ففوجئ بجاره الخياط اليهودي يستعد للرحيل. سأله مستغرباً: ما الأمر يا جار، وإلى أين الرحيل؟ فأجابه الخياط اليهودي: ألم تسمع؟ سوف يقتلون جميع الحلاقين واليهود في ألمانيا. اندهش الحلاق وسأل بذعر: ولكن لماذا الحلاقون؟ فقال الخياط: هذا هو ما يدفعني للرحيل، لأن كثيرين مثلك لا يهتمون بمصير جيرانهم.
بعض الصحافة الموالية للحكومة اتهم أمريكا بالوقوف وراء العملية الإرهابية، فقال أحد كتاب العمود اليومي في إحداها إن اتصال الرئيس الأمريكي باراك أوباما بنظيره التركي أردوغان للتعزية، هو بمثابة عودة القاتل إلى موقع الجريمة!
نعم، في هذا العالم أشياء غريبة جداً.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
رسائل تفجيرات تركيا/ خورشيد دلي
رسائل سياسية وأمنية
من يقف وراء التفجيرات
في التداعيات والمواجهة
توحي سلسلة التفجيرات الإرهابية التي تضرب قلب المدن التركية بأن تركيا باتت في دائرة الاستهداف المباشر، ومع أن وتيرة هذه التفجيرات خفت عقب الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز الماضي؛ فإنها تصاعدت في الآونة الأخيرة.
فمن رمز البلاد السياسي (أي العاصمة أنقرة) إلى عاصمتها السياحية إسطنبول وصولا إلى ديار بكر رمز كرد تركيا… وغيرها من المدن، باتت تركيا تشهد سلسلة تفجيرات إرهابية على شكل رسائل سياسية وأمنية، يجمع المحللون الأتراك على أنها تهدف إلى ضرب استقرارها وإظهارها دولة فاشلة.
رسائل سياسية وأمنية
لا يمكن النظر إلى هذه التفجيرات بعيدا عن التطورات الإقليمية ولا سيما تلك التي تشهدها الساحة السورية، وثمة من يربط بين هذه التفجيرات وسياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، خصوصا بعد إطلاق تركيا عملية “درع الفرات” العسكرية الرامية إلى تحقيق هدفين:
الأول: المشاركة في الحرب الهادفة إلى القضاء على تنظيم الدولة (داعش)، حيث تقف القوات التركية والحليفة لها على أبواب مدينة الباب ذات الأهمية الإستراتيجية للتنظيم.
والثاني: وضع نهاية للمشروع الكردي السوري من خلال ضرب إمكانية وصل الكانتوتات الكردية بعضها ببعض، لقناعة تركيا بأن ولادة مثل هذا الإقليم الكردي على حدودها الجنوبية سينعكس تصعيدا على قضيتها الكردية في الداخل، حيث اشتداد حدة المواجهة مع حزب العمال الكردستاني وجناحه السياسي حزب الشعوب الديمقراطي.
وانطلاقا من هذه المعادلة السياسية الأمنية المركبة، نشهد عقب كل تفجير توجيه الاتهام إلى التنظيميْن (داعش وحزب العمال الكردستاني)، رغم اختلافهما في الأهداف والبرامج والأيديولوجيا.
وإذا كان حزب العمال الكردستاني نادرا ما يعلن مسؤوليته عن هذه التفجيرات بل وأحيانا يدينها، فإن تنظيم داعش بدأ في الفترة الأخيرة يتبنى هذه المسؤولية، لا سيما بعد إعلانه الحرب على تركيا بسبب انخراطها في الحرب عليه. كذلك لا يتوانى تنظيم صقور حرية كردستان في إعلان مسؤوليته عن بعض هذه التفجيرات.
ولعل هذا التبني يعقد الأمر أكثر نظرا لطبيعة هذا التنظيم الغامض وحجم الشكوك في قدرته على تنفيذ مثل هذه التفجيرات المحكمة التدبير، والتي غالبا ما تحصل في قلب المدن الكبرى وتستهدف مقار الجيش والمؤسسات الأمنية والرموز السياحية، وتحتاج لخبرة كبيرة وإمكانات نوعية وكوادر مدربة ومعلومات دقيقة عن الجهة المستهدفة، لا يُعتقد توفرها لدى هذا التنظيم.
بعيدا عن داعش وحزب العمال الكردستاني، تتوجه الأنظار أيضا إلى حركة الخدمة بزعامة فتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الفاشل، حيث ثمة قناعة عميقة لدى الحكومة التركية بأن الحركة ما زال لديها أنصار كثر داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأن هؤلاء يعملون بشكل سري ودقيق لضرب بنية الحكم، وما هذه التفجيرات إلا وسيلة لتحقيق مبتغاهم بعد أن فشل الانقلاب العسكري.
وعند الحديث عن غولن تتوجه الأنظار إلى الخارج لا لأن غولن يقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، بل لوجود قناعة بأن أردوغان وضع السياسة التركية في الموقع المضاد للإستراتيجية الأميركية، بعد أن كانت تابعة لها في إطار عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي طوال العقود الماضية.
وينظر إلى ذهاب أردوغان نحو موسكو -على وقع تداعيات الأزمة السورية- باعتباره تجاوزا منه للدور الذي رسمه الغرب لتركيا في منظومة العلاقات الدولية، ولا سيما في ظل الرفض التركي المطلق للدعم الأميركي المقدم لوحدات حماية الشعب الكردية بسوريا، في دلالة على أن الغرب لا يكترث بتركيا وهو مستعد للتضحية بمصالحها على مذبح مصالحه وسياساته.
وعليه فإن جملة الرسائل السياسية والأمنية تتقاطع مع بعضها، وتشي بأن الهدف منها هو ضرب حكم حزب العدالة والتنمية، وتحميل أردوغان المسؤولية عنها على خلفية خياراته السياسية.
من يقف وراء التفجيرات؟
المعروف عن تنظيم صقور حرية كردستان أنه تنظيم سري، وتقول أكثر الروايات شهرة عنه إنه انشق عن حزب العمال الكردستاني عقب اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان عام 1999.
ظهر التنظيم إلى العلن عام 2004، وهو يتكون من خلايا سرية نائمة، ومعظم عناصره من الشباب وخاصة طلاب الجامعات، وهؤلاء انشقوا عن العمال الكردستاني لأنهم يعتقدون أن سياسته باتت مهادِنة للدولة التركية ولم تعد تناسب حجم العنف الذي تمارسه هذه الدولة ضد الكرد.
والظاهرة اللافتة في هذا التنظيم هي أن قياداته غير معروفة إذ لم يظهر إلى الاعلام أي شخص يتحدث باسمه، وإذا ما صحت رواية تورطه في هذه التفجيرات فإن المنطق لا يستقيم مع توجيه الاتهامات لحزب العمال الكردستاني الذي لا يتوانى عن القيام بعمليات ضد الجيش التركي، وفي الوقت نفسه يؤكد أنه لا ينفذ التفجيرات في قلب المدن.
لكن رواية الكردستاني لا تحظى بثقة الحكومة التركية التي تؤكد أن تنظيم الصقور هو عبارة عن جناح عسكري سري تابع له، وأن قضية الانشقاق عبارة عن توزيع للأدوار والمهام في إطار الحرب ضد الدولة التركية، بل تذهب أبعد من ذلك فتقول إن هذه التفجيرات تجري بأوامر خارجية في إشارة إلى إيران والنظام السوري ودول غربية.
وإذا صحت الرواية التركية هذه، فإن ثمة أسئلة كثيرة عن مدى انتشار صقور حرية كردستان في المدن التركية، وعن قدراته اللوجستية والأمنية، بل واحتمال اختراقه للأجهزة الأمنية التركية ما دامت التفجيرات تجري في أماكن أمنية حساسة.
وفي المقابل، ثمة اعتقاد في العديد من الأوساط الكردية والتركية بأن هذه التفجيرات غير بعيدة عن الصراعات الجارية في قلب المؤسسة العسكرية والأمنية التركية، وأن قضية “الدولة السرية” أو “دولة الظل” التي يتحدث عنها أردوغان هي حقيقة قائمة في صلب بنيان النظام السياسي للبلاد.
وهؤلاء يرون أن هذه التفجيرات تعكس هذا الصراع، حيث ثمة جهات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ترفض سياسات أردوغان الداخلية، والتي تنحو منحى الأسلمة التدريجية وتغيير هوية الدولة والمجتمع، للتخلص من إرث أتاتورك وتطلعا إلى تركيا منسجمة مع هويتها الإسلامية، وما يترتب على ذلك من خيارات سياسية داخلية وخارجية.
الطرف الرابع الذي تتوجه إليه الأنظار هو تنظيم داعش، فالتنظيم مع تلقيه ضربات في العراق وسوريا بات يحس بوطأة تأثير انخراط تركيا في الحرب عليه، ولا سيما مع محاولة قطع شريان الإمداد الخارجي عنه بعد أن استفاد من الحدود السورية/التركية كمعبر حيوي، سواء للتواصل مع الخارج أو لاستقدام المقاتلين الأجانب إلى ميادين القتال والتدريب.
ولعل التنظيم يرى أن التحولات الجارية في السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والتقارب مع موسكو وطهران مبرر لاستهداف أراضيها، حيث توحي دقة التفجيرات بأنه هو الذي يقف وراءها.
في التداعيات والمواجهة
من حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة -ومن قبله تفجيرات أنقرة- وصولا إلى التفجير الإرهابي الذي استهدف ناديا ليليا في إسطنبول، فإن الخاسر الأكبر من هذه التفجيرات، هو تركيا الاقتصاد والمجتمع والاستقرار والتعايش السلمي بين الكرد والترك.
“ولعل هذا ما دفع أردوغان إلى القول مرارا إن الهدف من التفجيرات هو زعزعة استقرار تركيا وضرب وحدتها، رابطا إياها بالتطورات الإقليمية والدولية، ولعله يلمح -من وراء هذا الربط- إلى تورط أطراف خارجية لديها خلافات مع تركيا وسياستها الخارجية ومواقفها من الأزمتين السورية والعراقية.
وعند الحديث عن الخارج لا بد من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تلك التحذيرات المتتالية من الدول الغربية -ولا سيما الولايات المتحدة- بحصول مثل هذه التفجيرات في المدن التركية، إلى درجة أن هذه التحذيرات تشي بعلم هذه الدول المسبق بموعد هذه التفجيرات.
ويثير ذلك أسئلة كثيرة عن مدى التنسيق مع تركيا لمنع حصول التفجيرات، والإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات التركية ومدى فعاليتها في تجنب وقوعها، واللافت في كل ما سبق هو أن المواقف الغربية تأخذ شكل الإدانة فقط، وهو ما يعمق الشكوك التركية في دور السفارات الغربية، خاصة في ظل إحساس تركيا بأنها باتت مستهدفة كدولة ونظام.
ولعل مجمل ما سبق يترجِم على أرض الواقع سياسة تركية جديدة ستأخذ في الداخل المزيد من التشدد الأمني، وتصعيد الحرب على المنظمات المتورطة في التفجيرات الإرهابية.
وأما في الخارج فستتجه نحو الانفكاك عن الغرب والانفتاح على روسيا والصين، وربما إيران والعراق لاحقا على شكل تجرع لكأس السم، تحسبا لما تعتقده من مخططات غربية تهدف إلى تفكيكها، عبر نشر الفوضى وضرب استقرارها الداخلي خاصة بعد فشل الانقلاب العسكري.
وثمة من يعتقد أن نشر مثل هذه الفوضى في البلاد بات المدخل الوحيد لتحرك الجيش من جديد أملا في عودته إلى سدة المشهد السياسي، ولقطع الطريق أمام الانتقال إلى النظام الرئاسي بعد أن انطلق قطاره عمليا في البرلمان التركي.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017
أنقرة وجهاً لوجه مع تنظيم الخلافة/ بيسان الشيخ
يرسم الاعتداء الأخير الذي شهدته مدينة إسطنبول ليلة رأس السنة في ملهى ليلي انعطافة جديدة في العلاقة بين تركيا وتنظيم «داعش» الإرهابي من جهة، وبالإدارة الأميركية المقبلة من جهة أخرى.
ذاك أن اختيار الهدف هذه المرة، وإعلان التنظيم مسؤوليته سريعاً عن الحادثة، يسجلان ذروة في سياق الاستهدافات السابقة (وقد ناهزت 30 اعتداء ارهابياً في عام ونيف)، ويدفعان بالمواجهة المتذبذبة الى حد الحرب المعلنة، بما يقطع نهائياً الهدنة غير المعلنة بين الطرفين. فالملهى الذي شهد المقتلة ليس أي معلم سياحي متاح للعامة، كمثل ساحة تقسيم في وسط المدينة أو ساحة السلطان أحمد التاريخية، أو غيرهما من المواقع السياحية الشعبية والمفتوحة التي نالت حصتها أيضاً من الإرهاب. إنه مكان حصري جداً، ونخبوي يرتاده المشاهير والأغنياء من الأتراك، بالإضافة إلى السياح الراغبين في اختبار نمط ليلي خاص. وبذلك، فإن في استهداف مكان من هذا الطراز وتنفيذ العملية بتلك الاحترافية والبرود، ثم فرار المنفذ وبقائه طليقاً بعد نحو أسبوع، رسالة واضحة: لا بقعة آمنة أو محصنة أمام التخطيط المحكم، وثمة نمط حياة كامل بات مهدداً في تركيا. نمط حياة لا يقتصر فقط على الناحية الاجتماعية لشرائح راغبة في ارتياد الملاهي الليلية وهي أكثر من أن تحصى، وإنما لنمط يطاول قبل كل شيء فئة رجال الأعمال والمستثمرين من محليين وأجانب وما يعنيه ذلك من ضربة للاقتصاد وعموده الفقري، أي قطاع السياحة.
ولكن، إذا كان الانتعاش الاقتصادي رهينة الأمن والخيارات السياسية «القابلة للإصلاح» بقرارات من رأس الهرم، وتراجع عن «أخطاء كثيرة» على ما قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم في وصفه تعامل بلاده مع الأزمة في سورية، يبقى أن القاعدة الشعبية تتسع يومياً لمزيد من التشدد والشعبوية والمغالاة، متغذية من تضافر هويتين قومية ودينية في أقصى لحظات صعودهما، ومن هامش تسامح واسع تم استغلاله في السنوات القليلة الماضية.
أما على المسار الآخر، ذلك المرتبط بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فهي تشهد تصفية حسابات واضحة مع إدارة الرئيس المغادر باراك أوباما، من دون أن تمهد بالضرورة لعلاقة صلبة مع الإدارة المقبلة، وإنما هي تمنيات بتلبية عدد من الطلبات التي أدارت لها واشنطن ظهرها في السابق، وأولها تسليم الداعية فتح الله غولن المقيم في كاليفورنيا والمتهم بالتخطيط للانقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو) الفائت، ووقف الدعم مالاً وسلاحاً وتدريباً للأكراد. وذلك على ما ترى أوساط مقربة من الحزب الحاكم، «انتقام» من عدم مشاركة تركيا في «الحرب على الإرهاب» في 2014، وثمن خوضها تلك المعركة منفردة في وقت لاحق. ارهاب يشمل الأكراد بالعرف المحلي، تماماً كما يشمل التنظيمات الإسلامية المتشددة.
وفي دفع للخطاب المعادي لأميركا خطوة أبعد، كان لافتاً مثلاً متابعة ردود الفعل الأولية على حادثة الاعتداء الأخيرة، حيث سارعت اوساط رسمية وشبه رسمية الى توجيه أصابع الاتهام تلقائياً الى «أجهزة استخبارات اجنبية» وتعني بها الولايات المتحدة. وقطع صاحب الملهى نفسه الشك باليقين حين صرح إلى الصحافة بأن «واشنطن حذرت مواطنيها من عدم ارتياد المكان لإمكان تعرضه لاعتداء ارهابي»، معتبراً أنها كانت على علم مسبق بالأمر، وجازماً بأن الـ «سي أي اي وراء الحادث». وذلك على ما بات معلوماً دأب السلطات التركية منذ الانقلاب الفاشل في 15 تموز الفائت، بحيث لم تسلم واشنطن حتى من تهمة تدبير اغتيال السفير الروسي الشهر الماضي.
ولكن أخيراً بدأت اصوات تخرج الى العلن وترى في الثغرات الأمنية المتزايدة، سواء في الحراسات الشخصية او في أمن المرافق الحكومية والخاصة، نتيجة طبيعية ومتوقعة لحملة «التطهير» الشاملة التي طاولت الأجهزة العدلية والقضائية والأمنية غداة الانقلاب الفاشل. فقد تم ملء المناصب الشاغرة في مواقع القيادة وعددها بالمئات على امتداد البلد، بأشخاص لم يكتسبوا بعد خبرات كافية في محاربة الإرهاب، أو قليلي الكفاءة أصلاً، أو يافعين متعاطفين مع الخطاب المتشدد ومتأثرين بما يجري في سورية، على غرار منفذ عملية اغتيال السفير الروسي. وهؤلاء، ليسوا فقط الأخطر، وإنما الأكثر عدداً والأصعب في تقفي أثرهم واكتشافهم. فالعدد الرسمي المعلن عن منتمين إلى «داعش» من الشبان الأتراك هو 1500 فيما تشير ارقام غير رسمية الى نحو 3 آلاف. لكن يبدو أن أحداً لم يرغب في مواجهة ذلك الوحش الكامن، واكتفى الخطاب العام بإلقاء اللوم على الخارج وتحويل الانقلابيين الى شماعة تحتمل كل التهم… الى أن بلغت النار عمق الدار.
وبين التصدي لنظريات مؤامرة غير مؤكدة، وترتيب شؤون البيت الداخلية، وحروب متعددة الأطراف تخوضها تركيا داخلياً وخارجياً، لا سيـــــما مع جــبهة جديدة مفتوحة الآن مع «داعش»، لا يزال التخبط سيد الموقف. فحالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي غير مسبوقة، والهوة تتــسع يومياً بين أطياف الشعب وتطلعاته، في وقت ينفك أصدقاء تركيا في المجتمع الدولي عنها في شكل مطرد. وعليه تعلق الآمال على بوتين روسيا وترامب أميركا لصياغة العلاقة المستقبلية على المستويين السياسي والأمني… مقابل تغيير نظام شامل ينقل البلاد الى عهد رئاسي ويقطع مع الأتاتوركية جملة وتفصيلاً.
الحياة
حرب “داعش” ضد تركيا؟/ شناي أوزدن
بينما كان سكان اسطنبول يعودون إلى إيقاع حياتهم اليومي بعد الهجوم على نادي رينا الليلي الذي أسفر عن مقتل 39 وجرح أكثر من 60 شخصاً في ليلة رأس السنة، ضرب هجوم آخر، الخميس، في مدينة أزمير. الهجوم الأول في أزمير استهدف قصر العدل. لحسن الحظ، فقد لاحظ ضابط شرطة، كان موجوداً هناك، المُهاجم وهو يحمل المتفجرات، وأوقف ما كان من المحتمل أن ينتهي بمجزرة كبيرة. لكن ضابط الشرطة فقد حياته خلال الاشتباك.
ليس من الخطأ القول إنه وبعد عشرات الانفجارات خلال عام ونصف، فقد مثّل هجوم رينا عتبة جديدة في سوية الخوف والغضب التي بات يشعر بها المواطنون العاديون. وإذا نظرنا إلى ردود فعل الصحافيين والمحللين الأتراك المنتقدة للحكومة، يمكن تصنيفها في ثلاث وجهات نظر؛ وهي المتعلقة بالعلاقات الدولية، وعلم الاجتماع والعلوم السياسية.
الأكثر شيوعاً والأكثر بساطة، على الأغلب، يرتكز على تغير سياسة الحكومة التركية في سوريا. ومن المستحيل تجاهل حقيقة أن الهجوم كان جزئياً انتقاماً من “داعش” ضد السياسة التركية الجديدة في “الحرب على الإرهاب” في سوريا. محللون شارعوا أنه بينما حوّلت تركيا سياستها في سوريا من “اسقاط النظام” إلى “الحرب ضد الإرهاب”، بسبب تغيّر الديناميات العالمية بشكل رئيسي، فإن تأثير “الكيد المرتد” أخذ موقعه. جادل المحللون بأن ما نلاحظه من خلال هذه الهجمات الإرهابية هو إشارات على “بكسنة” (من باكستان) تركيا؛ بكلمات أخرى، فـ”الجهاديون الذين دعمتهم تركيا داخل حدود الجوار، يقتلوننا اليوم في المنزل”. وبحسب وجهة النظر هذه، مثّل اعتداء رينا الفشل الكامل للسياسة الخارجية التركية، بشكل عام، والسياسة السورية بالتحديد، وقرار الحكومة التركية القاتل بالتدخل في الصراع السوري جعل من البلد عرضة لصراعات عالمية وجيوستراتيجية والحروب في المنطقة. وبحسب وجهة النظر هذه، فإن الديناميات العالمية هي العامل الرئيس في التحليل، مع تجاهل كلّي للديناميات المجتمعية والسياسية المحلية في تركيا.
المجموعة الثانية من المحللين، كيّفت مقاربة أكثر اجتماعية-محلية، وكشفت الفرق بين هجوم رينا وما سبقه من الهجمات التي أودت بحياة المئات خلال عام ونصف العام. الصحافي التركي روشن شاكير، وهو من أكثر الباحثين في شؤون الحركات الإسلامية في تركيا مصداقية واحتراماً، صرّح أن الهجوم الأخير يمثّلُ مرحلة جديدة من الإرهاب في تركيا. شاكير جادل أنه بهذا الهجوم فإن “داعش” تعلن الحرب مباشرة ضد تركيا ذاتها، ولم يعد في الإمكان تفسير الهجمات في تركيا على أنها امتداد للحروب في سوريا والعراق. شاكير وغيره من الكتاب أشاروا إلى أن هذه الظاهرة الجديدة من الحرب الجهادية المباشرة في تركيا لن تكون ممكنة لو أن العقيدة الجهادية ليس لديها مستوى محدد ونوع من القاعدة الشعبية والدعم في تركيا. فلقد لاحظنا بالفعل العديد من المواطنين الأتراك يكتبون في “فايسبوك” و”تويتر” أنهم لا يدينون الهجوم طالما أن الذين كانوا في نادي رينا الليلي “كفار” بأي طريقة. السلطات التركية صرّحت أن مثل هذه المشاركات عبر وسائل التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا” تشكّلُ جريمة كراهية، وبدأت تحقيقاتها.
جدل شاكير لاقى صدى مع العديد من الكتاب الآخرين الذين عبّروا عن أن هذا الهجوم، بكل صراحة، هو ضد نمط الحياة العلماني في تركيا. وبينما معظم الهجمات السابقة في تركيا، إن كانت من “داعش” أو “العمال الكردستاني”، كانت تحدث على طول خط الصدع القومي التركي/القومي الكردي، فإن هجوم رينا، وهو أيضاً أول هجوم في تركيا زعمت “داعش” تبنيه، ظهر بأنه نقل للهدف إلى خط صدع رئيسي آخر ضمن المجتمع التركي: نمطا الحياة العلماني/غير العلماني. على كل حال، التركيز المنفرد على العلمانية في كتابات مماثلة يتاخم التفسير الاختزالي والإسلاموفوبي، وهو غير كافٍ لتفسير اختيار رينا؛ قمة مواقع التسلية المُسرفة لنجوم البوب والرياضة والطبقة العليا من سكان المدينة، كهدف للهجوم. لذلك، من الممكن قراءة هذا الهجوم الشنيع، جزئياً، كاستراتيجية “تجنيد شعبي” لجذب الشباب من ضواحي اسطنبول المُفقرة، والذين هم منفصلون ثقافياً واقتصادياً ومكانياً عن زبائن رينا.
كما أشار أحد الكتاب إلى أن استخدام صور البوسفور وبوابة جامعة اسطنبول كأهداف في إعلانات “داعش” الدعائية، يوضّحُ أن الرأسمال الثقافي والمالي محجوب عن أولئك الشباب المهمشين في المجتمع التركي والذين هم مجندون محتملون لـ”داعش”.
وجهة النظر الثالثة تركز بشكل أساسي على البنية المتغيرة للدولة التركية من منظور العلوم السياسية، وتعتبر أن سياسات الحكومة تُشكّلُ السبب الرئيس لهجمات “داعش” و”العمال الكردستاني”. ووجهة النظر هذه تقول إن الإرهاب ليس السبب في تحلل الدول بل هو النتيجة لذلك. منذ محاولة الإنقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو، العديد من علماء السياسة ناقشوا أن الانقلاب كان نتيجة لانفراط التحالف القديم ضمن بنية الدولة التركية. الحكومة التركية الحالية كانت تحاول، منذ ذلك الوقت، إعادة توحيد الدولة عبر بناء تحالفات جديدة، داخلية وعالمية، وكذلك عبر زيادة الإجراءات السلطوية والحربية. ورغم أن الحكومة كانت تستخدم خطاب “الحرب ضد الإرهاب” و”الأمن” بغرض تشريع التمديد لحالة الطوارئ، للمرة الثانية، فإن ذلك بالنسبة للكثير من المواطنين، ليس أكثر من حجة لتعليق القانون للسماح بـ”تطهير” مكاتب الحكومة من الموظفين المعارضين، وتوقيف الصحافيين والكتّاب المنتقدين للحكومة، ولتهميش إضافي للسياسيين الأكراد في القنوات السياسية الشرعية.
وكي تتمكن تركيا من الخروج من دوامة العنف هذه، وإعادة توحيد دولة قادرة على توفير الأمن لمواطنيها وتحوز ثقتهم، فإن الحكومة تحتاج إلى اتخاذ خطوات عاجلة لإعادة ترسيخ الشفافية وحكم القانون. وهذا يمكن أن يتحقق من خلال خطاب تعددي شامل بدلاً من ذلك القائم على هيمنة بلاغة “الوحدة الوطنية”، والتي هي بالنسبة للعديدين، تغذية لثقافة محاربة “الذين ليسوا منا”، كبديل عن تأسيس المحاسبة.
المدن
مسؤولية الخطاب الديني في مجزرة إسطنبول/ موناليزا فريحة
ليست جديدة في تركيا الاحتجاجات على احتفالات الميلاد ورأس السنة الجديدة. ثمة تقارير عن تحركات كهذه منذ عقدين تقريباً. غير أن سقف التحركات لم يتخط غالباً اللافتات وإطلاق هتافات ترفض تلك الاحتفالات بدعوى أنها غير اسلامية وذريعة لتناول الخمور واللهو المحرم، مع تأكيد احترام الاقليات الاخرى غير المسلمة في تركيا. من هذا المنطلق، كانت لافتة ومستفزة التظاهرة التي خرجت أخيراً لشبان يحتجون على الاحتفالات ويضعون مسدساً في رأس شاب منهم تنكر بزي “بابا نويل” للتعبير عن رفضهم لهذه الطقوس. وقد حظيت التظاهرة، على صغرها، بتغطية اعلامية واسعة في تركيا. ومع أنها تضمنت تحريضاً على الكراهية والعنف، لم تتحرك السلطات التركية ضد منظميها، علماً أنها تشن حملة ضروساً على كل ناشط أو صحافي أو معارض ينبس بكلمة لا تعجبها. ولعل آخر انجازاتها في هذا المجال ما أوردته صحف تركية عن تحرك فرق وزارة الداخلية للتحقيق في شأن مجموعة من الشبان والشابات نظمت تظاهرة صغيرة في مقهى، معلنة أنها ستناضل من أجل الحفاظ على النظام العلماني لتركيا وعدم السماح لـ”داعش” أو منظمات جهادية مماثلة بتجنيد أشخاص في منطقتهم. وحتى الان اعتقلت تلك الفرق فتاة ظهرت في شريط فيديو للتظاهرة وزع على يوتيوب!
تكاد العلمانية التي تعتبر إحدى دعائم الدستور التركي تصير جريمة في تركيا، بينما يتحرك اسلاميون بحرية لتقويض أسس العلمانية، وتشويه كل ما يمت بصلة الى الاحتفالات بعيدي الميلاد ورأس السنة الجديدة، من رقص وغناء وفرح، وهو ما يزيد التوتر في بلاد تعاني أزمة هوية لا تقل خطورة عن أزماتها السياسية الداخلية والخارجية. لا يمكن المرء أن يفصل الهجوم الوحشي على المحتفلين بالسنة الجديدة في ملهى “رينا” عن الخطبة التي وزعها مجلس الشؤون الدينية التابع للحكومة التركية والتي تليت الجمعة الماضي في 85 الف مسجد في انحاء البلاد. تلك الخطبة التي جاء فيها أن لا مكان للاحتفالات بالسنة الجديدة في الاسلام والتقاليد الثقافية التركية، تُعتبر، وإن من دون قصد، نموذجاً للخطاب الديني التحريضي الذي يلهب مشاعر المتطرفين ويعمي بصيرتهم بذريعة الدفاع عن الدين والاسلام. من المؤكد أن التظاهرة التي رفع فيه مسدس ضد “بابا نويل”، وكذلك خطبة الجمعة والمظاهر الأخرى من عدم التسامح التي باتت تسود المجتمع التركي ليست هي سبب للهجوم على الملهى الليلي. الواضح أن التدخل التركي العسكري في سوريا هو المحرك الاول له. لكنّ مثل هذه المظاهر يقوي المتطرفين والسفاحين الذين يعيشون على القتل والذبح ولا يقيمون أي اعتبار للحياة ويقرب مجالس دينية محترمة من المحاكم الشرعية التي يقيمها “داعش”.
النهار