صفحات سورية

عن «الوحشية» في نسختها السورية/ عماد مفرح مصطفى

 

 

يعود أحد أسباب «الوحشية» المتفاقمة في الصراع السوري المسلح، والذي يشغل تنظيم «داعش» المكان الأبرز فيه، إلى الطبيعة «العنفية» المضمرة، في جنبات الصراع التاريخي على الحكم والسلطة في سوريا، وما رافق ذلك، من نزعة عسكرية «متغطرسة»، صبغت المضامين السياسية للجماعات الأهلية في صراعها على السلطة والنفوذ.

ذلك الصراع الذي حسمه حزب «البعث» لصالحه، محولاً «الدولة» خلال نصف قرن من الحكم، إلى منظومة عنفية مركبة، لا تكف عن تصدير الخوف والتعنيف، بجميع أشكاله وسوياته، إلى المجتمع السوري.

بهذا المعنى، لا تكون «الوحشية» السورية وليدة اللحظة «الداعشية». فالنمط «الوحشي» المدمر لكل ممكنات الحياة السياسية وآليات ممارستها، انبثق عن سلطة الاستبداد البعثي، محدثة شرخاً عميقاً في ذهنية السوريين حول حروب الإبادات وإفناء الجماعات الأهلية لبعضها. باتت «الوحشية» والتعامل الدموي العنيف، جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة والتكوين البعثي، فهي كانت الطريقة الأكثر فاعلية، في تصفية شركاء الأمس من الناصريين، في ايار وتموز عام بعد انقلاب اذار، والأسلوب الأكثر تميزاً في إبعاد «رفقاء الدرب» من البعثيين بعد حركة شباط عام .

لكن فصول «الوحشية»، كنمط موجه وممنهج للعنف، ارتقى إلى مصاف جديدة، بعد آذار عام مع تغيير الدور الوظيفي «للوحشية» في مواجهة الحراك الشعبي، وتحويلها إلى عامل جذب واستئثار، لكل القوى الأصولية والمتطرفة في المنطقة، وحرف الحراك عن أهدافه، محولة الصراع السوري، إلى صراع مفتوح على حسابات سياسية وأيديولوجية معقدة، تتجاوز في حجمها وقوتها قدرة السوريين وتياراتهم السياسية على الاحتواء والمناورة.

هكذا، دفعت تلك «الوحشية» التي مارسها النظام بحق قطاعات عريضة مسالمة، إلى ظهور إشكالية العلاقة بين الثورة وآلية تحقيق أهدافها، وقد وجد السوريون أنفسهم أمام خيارين؛ إما الاعتراف بعدمية الثورة ولا جدواها، والتنازل عن كل الأكلاف والتضحيات التي دفعوها، أو الاستمرار في الطريق ذاتها، مع البحث عن الغطاء السياسي والثقافي لهذا التوجه الصعب، وهو ما تلقفته التيارات الإسلامية باستثمارها في الرموز والمعاني المقدسة لفعل التضحية والموت، ضمن الثقافة الإسلامية، في مواجهة الظلم والظالمين.

شكلت «الوحشية» بوابة العبور لـ«داعش»، كي تمارس دورها المشبوه، وتحتل الأرض والمخيلة، بعد مقاضاتها التطرف الديني بالعدمية، واستفادتها من مسارات الرغبة لدى الضحايا بالدفاع عن أنفسهم، وما فرضته الظروف السورية من مقابلة «الوحشية» بالوحشية، مرورا بذوبان الهوية الفردية في زمن الأزمات، خلف ايديولوجية الجماعة المشبعة بروح الانتقام والثأر.

والحقيقة، أن خطورة «الوحشية» التي يتلقاها المجتمع السوري، سواء من النظام أو المتطرفين، لا تقتصر بتأثيراتها العميقة على اكتساب الشخصية والثقافة السورية للصفات العنفية فقط، بل تتجاوز خطورتها إلى حدود تهديم الهياكل الاجتماعية القائمة، وإحلال هياكل جديدة تذوب خلف الحدود الدموية للتطرف وتتآلف معها. «فالوحشية المركبة»، التي تشهدها الساحة السورية، والناتجة عن «الفاشية» الطائفية، لا تكف عن تكريس «الهويات القاتلة» على كامل الجغرافيا السورية.

الواقع، أنه لا يمكن القضاء على « الوحشية»، بوحشية بديلة، تسمى في أحد جوانبها «محاربة الإرهاب». فالظروف تقتضي معالجة الأسباب، والتي تبدأ بالتخلص من «الوحشية» السياسية باسم الدولة، عبر إطلاق ثقافة سياسية جديدة، بعيدة عن روح الميليشيات وانسجامها مع «الوحشية» كمصدر للرزق والارتزاق.

والمعالجة هنا، لا تستوجب بناء تحالفات وخوض حروب كثيرة، ربما تؤدي إلى تشكيل مسارات «وحشية» جديدة، إنما تقتضي في الأساس، بناء نظام سياسي، أساسه عقد اجتماعي جديد بين مكونات المنطقة، مسند بقوة القانون وروح العدالة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى