عن اليسار السلفي/ موسى برهومة
من موجبات اليأس من إمكانية تطوير العقل السياسي العربي وتأصيله أن «مواجهة» إسرائيل صارت بمثابة «كفّارة» تجبّ كلَّ ما اقترفه، وما انفكّ، هذا الفصيلُ أو الحزب، أو ذلك اللواء الذي يحتكم لإملاءات الولي الفقيه المتثائب، أو الجهادي السلفي السفيه، أو «الزعيم» الذي أراد أن يجرّب حظه مع «المجد» العابر الذي سرعان ما يذروه غبارُ التاريخ.
وفي سياق اليأس ذاته، تتجلى صورة اليسار العربي الكسيح الذي لم يستطع منذ «البيان الشيوعي» أن يطور أدوات نقدية فعّالة تتعامل مع الواقع بدينامية، وتتكيّف خطاباً وممارسة مع مقتضيات اللحظة التاريخية التي ربما تكون خاطفة أو مقيمة.
لا يزال اليسار الكسيح غير قادر على الحفاظ، أقله، على وجوده، أو على تمركزه في نقطة تحفظ له كيانه، وربما إرث أفراده ورموزه الذين دفع بعضهم أثماناً باهظة بسبب مظاهر العسف والاستبداد التي كان اليسار يناوئها، وأضحى منخرطاً فيها ويدافع، باستماتة، عنها!
وكشفت ثورات ما يعرف بـ «الربيع العربي» سوءات اليسار، فأسقطت ورقة التين المتيبّسة عن عورته، وأظهرت تناقضاته المفاهيمية العاصفة، وانتهازيته، واختلال الرؤية في خطابه، فهم مع الثورة التونسية في وجه المستبد بن علي، ومع انتفاضة المصريين ضد الفاسد حسني مبارك، لكنهم متلكئون في حسم موقفهم من القذافي، وداعمون بلا حدود لبشار الأسد وهو يذبح السوريين، بل وصل بعضهم الى تهنئته على شجاعته الفائقة ومهارته النادرة في الذبح، والتقطوا معه صوراً تذكارية!
وحين تساءل صاحب هذه السطور، عبر صفحته على «الفايسبوك»، في أعقاب الخطاب الأخير لزعيم «حزب الله»، عن سياسات السيد نصر الله واستخفافه بعقولنا، لم تأته سهام النقد اللاذع إلا من اليساريين الذي دافعوا «بالباع والذراع» عن السيد الذي يعترف بـ «وحدة القضية وامتزاج الدم» ليس من أجل تحرير فلسطين، وإنما من أجل إزهاق ما تبقى من أرواح السوريين.
وراح أولئك اليساريون المتحمسون يتحدثون باللغة الخشبية ذاتها التي يتحدث بها تنظيم «داعش» وأخواته الجهاديات السلفية عن الإمبريالية والصهيونية والبترودولار في مواجهة أنظمة «الممانعة» التي ما برحت تحتفظ بحق الرد منذ أزيدَ من أربعين عاماً. كما مضوا ينهمكون في تفكيك «أحجية» المؤامرة، والمخططات الشريرة التي تريد تحويل الأوطان إلى محطات تمركز استخباري لبسط الهيمنة المتعولمة على الشرق الأوسط، وكأن الواقع الساطع العاري ينبئ بسوى ذلك، ما يعني اعوجاجاً في الفهم، وذهاباً نحو الأسطرة، مع أنهم في الأصل «ديالكتيكيون» منهجهم الجدل والمحاجّة والفهم العلمي للوقائع والمجتمعات وتاريخها، والكشف عن الأسس الموضوعية المادية لها، وبيان جوهرها. ألم يصف إنغلز الديالكتيك بأنه «علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر». فماذا دهى أؤلئك الذين يحجّون إلى دمشق، ويعتصمون بـ «حزب الله»؟!
وبمقارنة عاجلة، فإن اليسار العربي الراهن ينهل من منابع اليمين الماركسي الأصولي المتزمت الذي يرى العالم، بخلاف زعم الديالكتيك، من ثقب الثنائية المقيتة: خير وشر، وإمبريالية وقوى تحرر، وعولمة واقتصاد وفضاء مؤمّمين، وضد إسرائيل حتى لو استدعى الأمر الوقوف مع من يقترف أبشع مما تقترفه إسرائيل، ويفتك بكل قيم العدالة والحرية، ونصرة المظلومين والمقهورين.
فبماذا يختلف اليسار إذاً، عن «داعش» الذي يتغافل عن الطاقة التأويلية المفتوحة للنص الديني بما يفضي إلى مقاصدية خيّرة ونبيلة، ويستمسك بآية السيف، ويجتزئ ما شاء له من المقدس، ويفصّله على مقاسه، ناظراً إلى العالم، كما يفعل اليساريون السلفيون، من ثقب الفسطاطين اللذيْن لا ثالث لهما: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وأن الدنيا «جنة الكافر وجحيم المؤمن»!
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة