صفحات سورية

عن “ايران” _مقالات لكتاب سوريين_

 

تحديات العلاقات بين العرب وإيران/ نجاتي طيّارة

بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني الغربي، ستمر مرحلة جديدة على منطقة الشرق الأوسط وما حولها. بدأت علاماتها باستعداد إيران للانغماس في السرير الأميركي الذي يبدو أن قادته هم الأكثر تحضيراً لذلك الانغماس، بعد أن تخلوا عن استراتيجية القوة الخشنة التي لم تعد صالحة لتغيير “محور الشر”! فاستبدلوها باستراتيجية القوة الناعمة في عالم العولمة الجديدة، مع الاستعداد للاستفادة من تهديدات القوة السابقة، وتدخلاتها المصغرة واللاسعة، كلما لزم الأمر، كما حدث في عملية قتل بن لادن، أو في بعض الضربات في العراق وسورية.

لا يؤكد آفاق هذه المرحلة فقط الاهتمام والضجة الإعلامية العارمة التي تبعت الحدث، وما زالت تملأ كل وسائط الميديا وتحليلات المعلقين والاستراتيجيين البارزين في الصحافة العالمية والعربية، ولا النقاشات والحملات الإسرائيلية والأميركية المصاحبة لتمريره في الكونغرس، بل يكفي فقط ملاحظة الوفود الغربية التي تقاطرت إلى العاصمة الإيرانية، التي استمرت زهاء عشرين عاماً “مقر محور الشر”، فأصبحت اليوم محجّ المسؤولين ووزراء الخارجية الغربيين الذين كانوا حراس حصار إيران، ومن ثم تبعهم مختلف الاقتصاديين والباحثين عن صفقات المشاريع والرأسمال الغربية المتلهفة إلى تطلعات السوق الإيرانية العطشى، والتي طال تخلفها عن السوق العالمية، وتطور تقنياتها ومنتجاتها في فترة الحصار، والخضوع الطويل لعقوباته.

في المقابل، هناك الزيارات التي يقوم بها الوفد الإيراني، برئاسة وزير الخارجية المفاوض البارع، جواد ظريف، إلى دول الخليج العربي، بدءاً من الكويت إلى قطر، ولا يستبعد وصوله إلى السعودية، الخصم العربي الأبرز للسياسات الإيرانية. وإذا كانت هذه المرحلة الجديدة تؤكد صحة القاعدة المكيافيلية الأكثر شهرة في السياسة: لا صداقات أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة! فيبدو أن ذلك غائب كلياً عن توجهات المسؤولين والقادة العرب. فلم نسمع عن زيارات أو مشاورات جماعية أو ثنائية بينهم، تختص بهذا الشأن الاستراتيجي، بينما نسمع عن استغراقهم في مشكلات بلدانهم الداخلية، وما أكثرها، وقد تحول بعضها إلى حروب أو أزمات مستعصية. أو عن انشغالهم بمشكلات جوارهم والدفاع عن خاصرات حدود أقطارهم على أبعد تقدير، أو في تمضية مهرجانية عطلة الصيف، في استعراض مدى اطمئنانهم واستقرار بلدانهم من جهة، ولدعم اقتصاد بلد الصديق وسياحته، من جهة أخرى.

“لا صداقات أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة! فيبدو أن ذلك غائب كلياً عن توجهات المسؤولين والقادة العرب”

صحيح أن هناك مؤشرات على توجهات لمعالجة أخرى، أولها عاصفة الحزم التي تقودها السعودية، أو تقوم بها وحدها عملياً، وقد بدأت رد فعل مبادر مباشرة على التمدد الإيراني في اليمن، فاستبقت بذلك آفاق المفاوضات الإيرانية الغربية، وفرضت مبادرتها على السياسة الأميركية. لكن ذلك المؤشر يبقى محدوداً وجزئياً، وفي حدود الدفاع المباشر عن الخاصرة، ولا يرتقي إلى مستوى المواجهة أو المعالجة العربية الشاملة لآفاق مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الغربي.

والثاني هو التحرك العسكري التركي البادئ أخيراً، بصورة مباشرة في سورية، والذي إن كان محركه البعيد يتصدى للطموحات الكردية بإنشاء دولتهم القومية المستقلة، أو بضم قسم من شمال سورية إلى كردستان العراق، أو هاجسه القريب يتصدّى لإرهاب الدولة الإسلامية المزعومة، فإنه ينصب في مجرى التصدي للتمدد الإيراني الشديد الوضوح في سورية، وعلى الأقل، يفرض دوراً تركياً موازناً، يبدو أنه اضطر أميركا إلى قبوله، فتبعته باقي دول حلف الناتو.

“الإيرانيون والعرب واقعان متجاوران تاريخياً، وافتراض صدامهما الطائفي المستمر إغلاق آخر للتاريخ، وخروج عنه إلى عالم المطلقات والأيديولوجيات النهائية التي سبق إعلان موت معظمها، كالشيوعية والنازية وغيرهما”

لكنّ هذين المؤشرين باقيان محدودان وجانبيان، حتى تاريخه، ولا يرتقيان إلى مستوى معالجة الآفاق الاستراتيجية للمرحلة الجديدة، فإيران أمة ودولة إقليمية كبرى، وطموحاتها الإمبراطورية معلنة، وليست تدخلاتها الجيوسياسية المباشرة وغير المباشرة في هشيم التفتت العربي بحاجة إلى برهان. أما الوجود العربي فدون مستوى الموازنة، وليس واقع اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، أو اتفاق التعاون العسكري العربي، إلا مثالاً على ضعف تلك الموازنة.

بطبيعة الحال، لا يفترض هذا التحليل التوجه مباشرة إلى مواجهة عسكرية عربية إيرانية، تكرر مصائب الحرب الإيرانية العراقية، وبؤس نتائجها على كامل شعوب المنطقة، لكنه لا يستبعد التلويح بعضلاتها أو اللجوء إليها، وهي عضلات متوفرة عسكرياً ونفطياً ومالياً، لكنها تفتقد الإرادة والقدرة على وضعها على الطاولة، كما يقال في عالم السياسة الواقعية، وإن لاحت بعض مؤشرات ذلك، جزئياً، في عاصفة الحزم، ثم في التدخل التركي.

من جهة أخرى، الإيرانيون والعرب واقعان متجاوران تاريخياً، وافتراض صدامهما الطائفي المستمر إغلاق آخر للتاريخ، وخروج عنه إلى عالم المطلقات والأيديولوجيات النهائية التي سبق إعلان موت معظمها، كالشيوعية والنازية وغيرهما. أما التقدم الدوري فهو سمة التاريخ البشري، على الرغم من مآسي دوراته وكوارثها، كما علمتنا دروس مفكرنا الكبير ابن خلدون. فلماذا لا يمكن التنبه والعودة إلى تاريخ الروابط والثقافة الإسلامية، وإلى فوائد الصداقة بين الشعوب والجوار المشترك، وأمثلة ازدهارها في أوروبا والقارة الأميركية والآسيوية شديدة النجاح في عالم اليوم. وهو عالم منفتح على جنة الاستهلاك الحديث، المصاحب لتقبل التعددية والحوار وثقافة حقوق الإنسان والمواطن، ومن الواضح أن الشعب الإيراني متلهف لأجوائه، فضلاً عن الشعوب العربية.

لكن ذلك كله سيبقى بدون طائل، ما لم يستند إلى بلورة جهد عربي جماعي، يمكن تنسيقه مع حاجات تركيا الصديقة، لكي يكون قادراً على تلبية التحدي المصيري الذي يواجه تطلعات الشعوب العربية. وعلى الرغم من أن الواقع العربي يبدو، اليوم، شديد الاستنقاع، فإن التحديات تصنع المعجزات، وتظهر الطاقات الكامنة لدى الشعوب، وقد آن الأوان ليقظة عربية، تلبي من جديد صرخة إبراهيم اليازجي:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب.

العربي الجديد

 

 

 

مصير العرب أمام تخلي واشنطن وتغول طهران/ برهان غليون

حققت الدول الغربية، بالتوقيع على الاتفاق النووي في فيينا، في 14 يوليو/تموز 2015، إنجازاً استراتيجياً مهماً، من وجهة نظر مصالحها، قدمت موسكو نصيبها من المساهمة فيه، على سبيل المقايضة، لقاء مكاسب مقبلة، يمكن للغرب أن يضمنها لروسيا، في مواقع أخرى، وربما في الشرق الاوسط. وبعكس ما تقوله الدبلوماسية الغربية، لا يتمثل هذا الإنجاز في تأجيل البرنامج النووي العسكري لإيران، وإنما في إنهاء أكثر من ثلاثة عقود من العداء والحرب الباردة الإيرانية الغربية، وتجنب التورط في حرب مباشرة معها.

في المقابل، حققت طهران، أيضا، بإنهائها حالة العداء هذه، وتصالحها المرتقب مع الغرب، مكاسب رئيسية لا يستهان بها، أهمها الاعتراف بايران قوة إقليمية كبرى، وبالتالي، الاعتراف بمصالحها الإقليمية وحتمية التفاوض معها حولها، ومن ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم. وثاني هذه المكاسب إلغاء العقوبات وفك الحصار الدولي المضروب من حولها منذ عقود، بما يعنيه ذلك من القبول بالنظام الايراني القائم كما هو، وتعزيز وجوده وإضفاء الشرعية التي حرم منها زمناً طويلاً، بسبب طابعه الديني وسياساته التوسعية واعتماده الإرهاب، بكل أشكاله، استراتيجية دولية وإقليمية لفرض مصالحه وتوسيع دائرة نفوذه. ومنها ثالثاً، تحويل طهران من طرف منبوذ وخارج على القانون الدولي إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة، وشريك مقبول ومطلوب في حل النزاعات الإقليمية التي ساهمت هي نفسها في تفجيرها. وبالتالي، الاعتراف لطهران بدور رئيسي في إعادة الأمن والسلام والاستقرار إلى المنطقة، وبحضور قوي ودائم في كل مشاوراتها. ولا أعتقد أن الرأي العام الغربي، أو الإيراني، سوف يعارض، في غالبيته الساحقة، إذا وضعنا جانبا استخدامه في استراتيجية الصراع على السلطة بين النخب الحاكمة هنا وهناك، هذا الإنجاز.

من سيدفع ثمن المصالحة الغربية الإيرانية؟

السؤال الرئيسي الذي يطرح علينا، نحن الذين نعيش في المنطقة التي تطمع فيها إيران، والخاضعة أيضا لهيمنة الغرب: ما مصير النزاعات التي تفاقمت داخل الإقليم المشرقي، على هامش هذا النزاع الأول؟ وهل سيساهم حل الخلاف الغربي الايراني في إخراج المنطقة من حالة الصراع والفوضى المعممة التي تغذت من هذا النزاع؟ أم أن المنطقة هي التي ستدفع ثمن هذه المصالحة في المستقبل، كما دفعت فاتورة المفاوضات من دم أبنائها في سورية والعراق واليمن، وغيرها من البلدان التي حاولت طهران، من خلال زعزعة استقرارها، إظهار قوتها، والضغط على المفاوض الغربي؟

على الرغم من المؤشرات العديدة التي تدفع إلى الاعتقاد بأن ما سيحصل بعد الاتفاق لن يختلف عما حصل من أجل إنجازه، إلا أن الجواب ليس حاضراً ولا سهلا. ولا أقصد أن من الممكن لواشنطن، بعد أن ضمنت مصالحها الرئيسية في إنهاء النزاع مع إيران، أن تبدل من سياسة مسايرة النزوعات التوسعية لطهران، في المشرق العربي، حفظاً لتوازنات المنطقة الأساسية، أو تطمينا لحلفائها الآخرين، في الخليج. فسياسة الدول وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر قائمة على تقدير قوة بعضها البعض ونفوذها، ومن الممكن لواشنطن أن تعتبر نفوذ إيران ضمانة لحد أدنى من الاستقرار في المنطقة، وأن تراهن حتى على تعاونها وقدرتها على تعبئة “الحشود الشعبية”، من أجل مواجهة داعش والمنظمات المتطرفة، وهي مصلحة رئيسية أيضا للغرب، بعد تأجيل قنبلة إيران النووية. وفي هذه الحالة، سوف تطلب واشنطن من العرب، أيضاً، مهلة أخرى، لغض النظر عن سياسات طهران التوسعية والتخريبية، وربما، أكثر من ذلك، دعم إيران في مجهودها ضد داعش، والتعاون معها باعتبارها الدولة الأقدر على توفير المليشيات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.

ولا أقصد من ذلك، أيضاً، احتمال أن يغير الموقف الإسرائيلي المناوئ لأي اتفاق بين الغرب وطهران، من إصرار واشنطن، فليس من الصعب على تل أبيب أن تتعايش، اليوم، مع الاتفاق كما تعايشت من قبل مع احتمال صنع القنبلة النووية الإيرانية في الفترة السابقة، من دون أن تخفف من استعدادها للتدخل العسكري عند الضرورة، مستندة على العرف الدولي الذي تطور إزاءها على أنها دولة فوق أي قانون. بل أعتقد أن القادة الإيرانيين الذين بنوا سمعتهم الثورية على مناوأة إسرائيل، كما بنوها من قبل على مناوأة الشيطان الأكبر، قادرون، وبسرعة أكبر مما يتصور الإيديولوجيون في معسكرنا، على قلب الأوراق، وعقد تفاهم سري، وحتى شبه علني مع إسرائيل، إذا تيقنوا من أن سياستهم الإقليمية لن تلقى أية مواجهة جدية من العرب، وأن في وسعهم تقاسم النفوذ في المنطقة مع تل أبيب، والاحتفاظ، نتيجة ذلك، بمشروعهم الامبراطوري. ولن ترفض إسرائيل أن تعترف لطهران، بضم ما تسميه الهلال الشيعي في مقابل أن تضم هي ما تبقى من جنوب سورية، وتطلق يدها في بقية المناطق. وهذا هو معنى مطالبة بعض المسؤولين الإسرائيليين الدول الاعتراف بضم الجولان السوري، بذريعة أن الدولة السورية لم يعد لها وجود.

ما قصدته أن جزءاً مهما من الجواب يتوقف علينا، أو على ما سنفعله نحن العرب، وأخص بالذكر دول المشرق العربي، ومنها دول الخليج التي تجد نفسها اليوم في خط الدفاع الأول، بعد سقوط سورية والعراق تحت النفوذ الإيراني. فإذا اقتصرنا، في نظرنا، كما كنا نفعل ولا نزال دائماً، على بناء حساباتنا على تحليل منطق المصالح الدولية، سواء ما تعلق منها بمصالح الولايات المتحدة والغرب عموما وإسرائيل، بل وبعض الحكومات العربية الأخرى، بدل التفكير في ما ينبغي علينا نحن أن نفعله إزاء التطورات الإقليمية، وما نستطيع فعله، فلن نجد هناك أية بارقة أمل في أن نرى الأمور تتقدم بشكل يضمن الحد الأدنى من مصالحنا. حتى نعرف في ما إذا كان في وسعنا الوقوف في وجه تفاهم أميركي إيراني يحصل على حسابنا، ينبغي أن نقرر، أولاً، نحن أنفسنا، ماذا نريد وماذا يتوجب علينا فعله للتأثير بأقصى ما نستطيع على رسم مصير المنطقة. وهذا يعني أن ما سيحدد فيما إذا كان التفاهم سيتم على حسابنا أم لا ليس ما تريده الأطراف الأخرى وحدها. ولكن، ماذا نريد نحن، وماذا نستطيع أن نفعل.

فإذا فقدنا الإرادة في الدفاع عن أنفسنا ومصالحنا، أو راهنا فقط على تناقضات المصالح الأجنبية (مثلا إسرائيل وإيران، تركيا وإيران)، أو اعتمدنا على الحماية التي من المفروض أن توفرها الأمم المتحدة، وما يسمى بالمواثيق والقوانين الدولية، بعد أن فقدنا الحماية الأميركية الحقيقية، فسيكون الجواب حتما، أننا، كما دفعنا ثمن التوقيع على الاتفاق النووي من دم أبنائنا في سورية، وقبل العالم كله، بما في ذلك الأمم المتحدة، أن يصرف النظر عن جرائم الإبادة الجماعية، واستخدام الأسلحة الكيماوية، حتى لا يتعكر جو المفاوضات الدولية مع طهران، سوف ندفع ثمن تطبيق الاتفاق، وما يهدف إليه من مصالحة إيرانية غربية، وأكثر من ذلك احتمال مصالحة روسية غربية أيضا. ولا علاقة لذلك بأية مؤامرة خفية، أو تفاهمات مسبقة بين واشنطن وطهران، أو بأية حظوة لمذهب، أو دين على حساب مذهب أو دين آخر. الدول وحوش كاسرة، لا تتردد في أكل بعضها بعضاً، إن وجدت لذلك سبيلا، وليست هناك رحمة في صراع الشعوب والدول، عندما يغيب القانون. وقد أظهرت الأحداث الكارثية للسنوات الخمس الماضية أنه لا توجد روادع قانونية لأي عدوان، عندما تتلاقى المصالح بين الدول والجماعات، حتى داخل القبيلة نفسها. وشاعرنا زهير هو من قال:

وَمَنْ لَـمْ يَـذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ/ يُـهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ الـنَّاسَ  يُظْلَمِ

هل من مشروع لتوحيد الشباب العربي؟

حتى لا نكون كبش الفداء للمصالحة الغربية الإيرانية المنتظرة منذ سنوات، ليس هناك سوى حل واحد، هو أن نكون موجودين. يعني أن نكون موجودين بذاتنا لا بغيرنا، وأن نكون بذاتنا يعني أن نكون بقوة شعوبنا ووحدتنا، وأن نشعر بمسؤولياتنا ونتحملها، وأن تكون لدينا خططنا واستراتيجياتنا ودفاعاتنا، ووسائل الحفاظ على أمننا، وحماية حقوق مجتمعاتنا، أي أن يكون لدينا تصورات واضحة ومتفق عليها لمصالحنا الوطنية والعربية المشتركة، مستقلة عن مصالح النخب الحاكمة ونظمها، التي يمكن أن تبرر، كما حصل في سورية، التحالف مع الأعداء لضمانها، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، وتشريد الشعب وانهيار الدولة. وهذا يعني، أيضاً، أن نعترف لشعوبنا بالحق في مناقشة شؤوننا بحرية ونقد سياساتنا وتطوير خططنا وخياراتنا، وهذا هو محتوى التفكير الاستراتيجي. وهذه هي وظيفة السياسة التي حرمت الشعوب العربية من ثمارها، خلال عقود طويلة، لحساب الحكم بالقوة والقهر والإرهاب.

“ظهرت الأحداث الكارثية للسنوات الخمس الماضية أنه لا توجد روادع قانونية لأي عدوان، عندما تتلاقى المصالح بين الدول والجماعات”

وهذا مطروح قبل أن يوقع الاتفاق النووي، ومطلوب سواء وقع أم لا. إنه يتعلق بوجودنا ومصيرنا ومصير دولنا، وشروط حياة شعوبنا وقيمنا. ومشكلتنا هي، حتى الآن، أننا كنا غائبين عن أنفسنا، أو مغيبين أنفسنا لصالح الأطراف الأخرى التي نعتقد أنها صاحبة الصولة والجولة والقوة، التي تقرر مصيرنا من ضمن تقريرها مصير العالم بأكمله، وليس لدينا خيارات سوى استرضائها أو الإذعان لها، والنتيجة استقالتنا الاستراتيجية التي تضاف إلى استقالتنا السياسية والأخلاقية تجاه مستقبلنا ومصير شعوبنا.

نحن بحاجة إلى إصلاح شؤوننا، سواء غيرت واشنطن أو طهران من سياستها تجاهنا، أو لم تغيرها، وسواء نجح التحالف مع تركيا أو لم ينجح. وكنا بحاجة له قبل أن تبدأ طهران مشروعها النووي، وبعد التوقيع على وقفه، وقبل أن تتدخل في شؤوننا، وبشكل أكبر اليوم، وهي تصول وتجول في بلداننا وتفتت مجتمعاتنا. ولم يعمل إجهاضنا ثورات الربيع العربي بدل الاستجابة لتطلعات شعوبنا، إلا في تعميق الثغرة التي جرأت الآخرين علينا. ما حصل لنا، في السنوات الماضية، من تغول إيران علينا واستهانة الغرب بحقوقنا وإرادتنا وصرفه النظر عن مصالحنا وتخليه عنا هو نتيجة سوء نظمنا وتنظيمنا، وتخبط سياساتنا، وضعف خياراتنا، وإخفاقنا في تحقيق الحد الأدنى من واجباتنا تجاه مجتمعاتنا. إنه ثمرة تخلينا عن شعوبنا وخيانتنا التزاماتنا.

مشكلتنا الرئيسية هي نحن. بقاؤنا في هذا العصر المضطرب، من دون مبدأ وطني جامع، منقسمين على أنفسنا داخل دولنا، وفي ما بين حكوماتنا، في مشرق تتنازعه المطامع الإقليمية والدولية، يقوض قدراتنا ويحرمنا من أي أمل في الحفاظ على مصالحنا، الآن وفي المستقبل. وما لم نقم بمراجعة حقيقية لسياساتنا الوطنية والإقليمية والدولية، سنكون فريسة سهلة لكل الطامعين بنا. ولا يكفي، في هذا المجال، ترقيع علاقتنا العربية/العربية، ولا الإصلاحات الشكلية لنظم مجتمعية فاسدة ومتهاوية، ولا زيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنية والجيوش والذخيرة والسلاح، ولا الرهان على تناقض مصالح الدول الأجنبية، فلا يمنع العداء وتناقضات مصالح الدول التي هي وحوش مفترسة، من التوصل إلى تفاهم، لتقاسم جسدنا، إذا سمحنا لأنفسنا بأن نتحول إلى فريسة سهلة وسائغة.

نحن بحاجة إلى مشروع سياسي ومجتمعي، يلهم الشباب ويحمسهم، ويستدرك خمسين عاما من الخيارات الخاطئة والسياسات الضعيفة وغير الوطنية، ويرد على تطلعات أجيالنا للاندماج في العالم ومسايرة قيم العصر. وبديله الوحيد النكوص إلى قيم القرون الوسطى وتقاليد “داعش” والغبراء.

ولا يوجد مشروع سياسي من دون قاعدة شعبية عريضة، فقوة تركيا اليوم نابعة من نجاحها في توحيد الأتراك حول ثورة تنموية، ومشروع اللحاق بالغرب ومساواته. وهو في الواقع مشروع تركيا الحديثة، منذ نشوء حزب الاتحاد والترقي والثورة الأتاتوركية، ولو أنه استعيد اليوم بغلالة إسلامية. اما إيران فهي تعيد تبني مشروع الشاه القديم، وتعبئ شعبها حول مشروع الهيمنة الإقليمية والتفوق القومي والمذهبي، مستفيدة من الزخم الذي وفرته الثورة الشعبية التي اتخذت صبغة دينية.

وبالنسبة للعرب، لا يوجد مشروع آخر يمكن أن يعيد لهم الروح، ويوحد صفوف شبابهم، ويحرر طاقاتهم سوى مشروع الربيع العربي الذي ضحوا في سبيله بأرواحهم، وكل ما يملكون، ووقفت في وجهه، ولا تزال، كل قوى الجمود والظلام والفساد، المحلية والأجنبية. العمل على تلبية مطالب الحرية والعدالة والكرامة والمساواة وبناء المنظومة العربية، المحلية والإقليمية، اللازمة لذلك، هو المشروع الوحيد الممكن والقابل للحياة، فحكم الطغيان إلى زوال، ولن يكون هناك بديل آخر، سوى تفاقم الانقسام والفوضى والهزيمة والخراب.

العربي الجديد

 

 

 

 

تعقيب .. برهان غليون بين الوعظ والتحليل/ علي العبدالله

يُصاب قارئ مقالة الدكتور برهان غليون “مصير العرب أمام تخلي واشنطن وتغوّل طهران” (العربي الجديد: 24/7/2015) بالحيرة، وعدم القدرة على تحديد موقف الكاتب، هل هو محلل موضوعي أم واعظ سياسي؟ فضلا عن حيرته أمام طبيعة الخطاب/الوعظ ومنطلقه، وهل هو خطاب أنظمة أم خطاب قوى سياسية ومجتمعية؟

في البدء، يقدم الدكتور غليون قراءة سياسية للاتفاق النووي الإيراني وأهدافه وانعكاساته على الوضع العربي، خلفيتها وجهة نظر دول عربية بعينها، تنظر إلى الاتفاق من زاوية مصالحها، أنظمة تنطلق من اعتبار إيران خطراً على وجودها ونفوذها، وهي قراءة غير منطقية أو موضوعية، وتقود إلى استنتاجات خاطئة، وتدفع إلى نشوء هواجس ومخاوف مغلوطة ومتوهمة، فليس صحيحاً ما قاله عن مكاسب إيران من توقيع الاتفاق النووي، فالمحلل الموضوعي، والمدقق في نص الاتفاق والتوازنات السياسية والعسكرية بين أطرافه، لن يجد لهذه المترتبات والتداعيات التي ذهب إليها، مثل قوله “الاعتراف بإيران قوة إقليمية كبرى، وبالتالي، الاعتراف بمصالحها الإقليمية وحتمية التفاوض معها حولها، ومن ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم”، أو قوله “إلغاء العقوبات وفك الحصار الدولي المضروب من حولها منذ عقود، بما يعنيه ذلك من القبول بالنظام الإيراني القائم كما هو، وتعزيز وجوده وإضفاء الشرعية التي حرم منها زمنا طويلا، بسبب طابعه الديني وسياساته التوسعية واعتماده الإرهاب، بكل أشكاله، إستراتيجية دولية وإقليمية لفرض مصالحه وتوسيع دائرة نفوذه”، أو ما اعتبر المكسب الثالث “تحويل طهران من طرف منبوذ وخارج على القانون الدولي إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة، وشريك مقبول ومطلوب في حل النزاعات الإقليمية التي ساهمت هي نفسها في تفجيرها (إيران لعبت دوراً تخريبيا واسعا في الدول العربية، على خلفية اعتبار إسرائيل ودول الخليج العربية مصلحة إستراتيجية أميركية وجزءا من ساحة الصراع معها). وبالتالي، الاعتراف لطهران بدور رئيسي في إعادة الأمن والسلام والاستقرار إلى المنطقة، وبحضور قوي ودائم في كل مشاوراتها”.

“كان مستغربا ومستهجنا أن يقول الدكتور”بعد أن فقدنا الحماية الأميركية الحقيقية”. فمتى كان ثمة حماية أميركية حقيقية للعرب (؟!)”

إيران دولة إقليمية كبرى، وهذا لا تغيّره لا المقاطعة والحصار والعقوبات، ولا الاتفاق النووي والمصالحة مع الغرب، لأنه مرتبط بعوامل واقعية: المساحة، السكان، التجربة الحضارية، مستوى التعليم والثقافة، الإمكانات البشرية والمادية، (مخزونها من النفط 151 بليون برميل، والغاز 34 تريليون متر مكعب)… إلخ. لكن هذا شيء، وانطواء الاتفاق على الاعتراف بمصالحها وحتمية التفاوض معها حولها الذي زعمه الكاتب شيء آخر، فجوهر الاتفاق وحقيقته أنه خسارة سياسية للنظام الإيراني، صاحب شعارات “الموت لأمريكا” و “الشيطان الأكبر” الذي وجد نفسه على الضد من موقفه طوال العقود الثلاث الماضية، كما كشف ضعف النظام (كشفت دراسات المعهد الدولي البريطاني تفوّق دول الخليج على إيران، عسكريا من حيث الكم والنوع، وقالت إن سلاح الجو الإماراتي قادر وحده على شل سلاح الجو الإيراني في ست ساعات، ما يعني أن سبب الهوان العربي سياسي)، ورضوخه للعقوبات الاقتصادية التي شلت اقتصاد البلاد، وحولت البنية التحية في معظم قطاعاته، وخصوصاً قطاع الطاقة، إلى حطام تحتاج إعادتها إلى وضعها قبل العقوبات إلى بلايين الدولارات (قدرة بـ 500 بليون)، وإلى مستثمرين وخبراء أجانب، وإلى عقود من السنين. وهذا ينقض ما ذهب إليه الدكتور غليون في استنتاجاته من “القبول بالنظام الإيراني كما هو”، و”من ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم”، و “تحويله إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة”. نشير هنا إلى خطوات اتخذتها واشنطن، بعد توقيع الاتفاق الإطاري والنهائي: تأييدها عاصفة الحزم ودعم السعودية تسليحياً ولوجستياً، وتصديها لمحاولة إيران التدخل في الصراع، ووضعها قيادات في حزب الله على لائحة العقوبات، لدورهم في الصراع السوري.

استهدف الاتفاق استعادة إيران الدولة، ووضعها على خط السلوك المقبول بمعايير المجتمع الدولي، ووضع النظام تحت الوصاية الدولية، إلى حين تحقيق هذا الهدف، لم يُقبل النظام كما هو، وقد بقيت مليشياته على لائحة الإرهاب، وتضمن الاتفاق بندا يمنع النظام من التصرف بأموال الدولة، كما يريد، وبنداً يمنعه من تمويل مليشياته، وهذا ما أدركه حسن نصرالله، ودفعه إلى طمأنة قاعدته الحزبية، بالقول في خطابه أخيراً “إيران لن تتخلى عن حلفائها”، ولم يحوّلها الاتفاق إلى طرف رئيسي … إلخ. فالمفاوضات والاتفاق والمصالحة الإيرانية الغربية كلها مرتبطة برؤية إستراتيجية أميركية تستشرف العقود المقبلة، وما تنطوي عليه من احتمالات ومتغيرات، ما استدعى العمل على إراحة المنطقة، وتنفيس التوتر فيها، وإبعاد إيران عن علاقاتها مع الصين، بشكل رئيس، وروسيا، كخطوة مرتبطة باستراتيجية مواجهة الصين، وإضعافها والحد من قدرتها على منافسة الولايات المتحدة على قيادة العالم، والحد من عدوانية روسيا. هذا وصفها في وثيقة الاستراتيجية القومية عام 2015 التي أصدرتها الإدارة الأميركية.

في حديث الدكتور عمّن “سيدفع ثمن المصالحة الإيرانية الغربية”، يبقى على موقفه الدعائي المتبني رؤية الدول العربية المشار إليها من المصالحة الإيرانية الغربية، مترتباً لتنفيذ الاتفاق، ولم يكتف باستبعاد تغيير واشنطن موقفها “مسايرة النزوعات التوسعية الإيرانية”، بل لم يستبعد أن تطلب من العرب مهلة أخرى، لغض النظر عن سياسات إيران التوسعية التخريبية، وربما مطالبتهم بالتعاون معها في محاربة “داعش”. كما لم يستبعد قيام إيران بعقد “تفاهم سري، وحتى شبه علني مع إسرائيل”، وتقاسم النفوذ في المنطقة معها، وجنح به الخيال في تصور حدود التفاهم بينهما قائلا “ولن ترفض إسرائيل أن تعترف لطهران بضم ما تسميه الهلال الشيعي في مقابل أن تضم هي ما تبقى من جنوب سورية، وتطلق يدها في بقية المناطق. وهذا هو معنى مطالبة بعض المسؤولين الإسرائيليين الدول بالاعتراف بضم الجولان السوري، بذريعة أن الدولة السورية لم يعد لها وجود”. وينتقل إلى موقف الموجه السياسي، بالدعوة إلى اتخاذ موقف عربي مواجه والتصدي لإيران، و”إلا تم التفاهم على حسابنا”، قبل أن ينزلق إلى موقف تبشيري، والتحدث بلسان العرب ونيابة عنهم، بالدعوة إلى موقف ثوري، فتحت عنوان “هل من مشروع لتوحيد الشباب العربي؟”، قال “ليس هناك سوى حل واحد، هو أن نكون موجودين. يعني أن نكون موجودين بذاتنا لا بغيرنا، وأن نكون بذاتنا يعني أن نكون بقوة شعوبنا ووحدتنا، وأن نشعر بمسؤولياتنا ونتحملها، وأن تكون لدينا خططنا واستراتيجياتنا ودفاعاتنا، ووسائل الحفاظ على أمننا، وحماية حقوق مجتمعاتنا، أي أن يكون لدينا تصورات واضحة ومتفق عليها لمصالحنا الوطنية والعربية المشتركة، مستقلة عن مصالح النخب الحاكمة ونظمها، التي يمكن أن تبرّر، كما حصل في سورية، التحالف مع الأعداء لضمانها، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، وتشريد الشعب وانهيار الدولة. وهذا يعني، أيضاً، أن نعترف لشعوبنا بالحق في مناقشة شؤوننا بحرية ونقد سياساتنا وتطوير خططنا وخياراتنا، وهذا هو محتوى التفكير الاستراتيجي. وهذه وظيفة السياسة التي حرمت الشعوب العربية من ثمارها، خلال عقود طويلة، لحساب الحكم بالقوة والقهر والإرهاب”.. “نحن بحاجة إلى مشروع سياسي ومجتمعي، يلهم الشباب ويحمسهم، ويستدرك خمسين عاماً من الخيارات الخاطئة والسياسات الضعيفة وغير الوطنية، ويرد على تطلعات أجيالنا للاندماج في العالم ومسايرة قيم العصر. وبديله الوحيد النكوص إلى قيم القرون الوسطى وتقاليد “داعش” والغبراء”.. و”بالنسبة للعرب، لا يوجد مشروع آخر، يمكن أن يعيد لهم الروح، ويوحد صفوف شبابهم، ويحرّر طاقاتهم سوى مشروع الربيع العربي الذي ضحوا في سبيله بأرواحهم، وكل ما يملكون، ووقفت في وجهه، ولا تزال، كل قوى الجمود والظلام والفساد، المحلية والأجنبية. العمل على تلبية مطالب الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وبناء المنظومة العربية، المحلية والإقليمية، اللازمة لذلك، هو المشروع الوحيد الممكن والقابل للحياة، فحكم الطغيان إلى زوال، ولن يكون هناك بديل آخر، سوى تفاقم الانقسام والفوضى والهزيمة والخراب”.

“الاتفاق النووي الإيراني بأبعاده السياسية والعسكرية، إذا أخذ بنظرة موضوعية، ليس له انعكاس سلبي على المصالح العربية، كما ذهب الدكتور غليون، بل يمكن تلمس إيجابيات كثيرة”

تأرجح الدكتور غليون بين تبنّي موقف دول عربية بعينها من الاتفاق النووي ومترتباته وتبنّي موقف ثوري شعبوي ومغازلة الشارع الشعبي، وهذا موقف تكرر مراراً في السنوات الأخيرة، دول كان موقفها، ومازال، تثبيت الواقع السياسي والاجتماعي وتأبيد التسلطية وحرمان الشعوب من حقوقها، وعدم السماح بطرح أسئلة حول حالة الضعف وانعدام الوزن والهوان الذي بلغته، وعلاقة ذلك كله بطبيعة الأنظمة السياسية والتوجهات الثقافية والاجتماعية المتبعة. لذا، لم تكن مع المفاوضات والحل السياسي للملف، لأن مصلحتها في تجميد الواقع، وتوتير المناخ السياسي، واستثمار الأزمة في إدارة العلاقة مع شعوبها، وضبط ردود أفعالها، ومنع تحركها نحو المطالبة بالإصلاح، ناهيك عن التغيير. دفعتها الخلفية نفسها إلى لعب دور تخريبي ضد ثورات الربيع العربي، حيث عملت على إجهاضها عبر العمل على احتوائها أو تهجينها وتدجينها، بالتدخل فيها لتعزيز تيارات وإضعاف أخرى، وتكريس سمة ونزع أخرى، أو عبر دعم قوى الثورة المضادة، كي لا تنتقل عدواها إلى شعوبها.

الاتفاق بأبعاده السياسية والعسكرية، إذا أخذ بنظرة موضوعية، ليس له انعكاس سلبي على المصالح العربية، كما ذهب الدكتور غليون، بل يمكن تلمس إيجابيات كثيرة، لعل أولها الحد من انتشار الأسلحة النووية، والدفع باتجاه استقرار سياسي وأمني في الإقليم. لكن، له انعكاس سلبي كبير على هذه الأنظمة، يمكن الإشارة إلى استيائها من إعلان الرئيس الأميركي “إن الخطر عليها ليس من خارجها، بل من داخلها”، لأنها تريد من أجواء التوتر والتخندق والخوف الإبقاء على ثقافة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ووضع سقف لتطلعات مواطنيها ومطالبهم في المشاركة السياسية، وفي القرار الوطني، وإطلاق الحريات السياسية والاجتماعية. وهذا يفسر سعيها إلى تعميم الرُهاب من الاتفاق النووي، والمصالحة الإيرانية الغربية، لتجعل مواجهة إيران والمصالحة الإيرانية الغربية أولوية.

في الختام، كان مستغربا ومستهجنا أن يقول الدكتور”بعد أن فقدنا الحماية الأميركية الحقيقية”. فمتى كان ثمة حماية أميركية حقيقية للعرب (؟!)، وهل كانت الاتفاقات السياسية والأمنية والعسكرية التي تعقدها الأنظمة العربية حماية للعرب، شعوباً ودولاً، أم حماية للأنظمة من شعوبها بشكل رئيس، مقابل تسليم مقدرات البلاد وثرواتها للحامي، والعمل بـمقولة “حاميها حراميها”.

العربي الجديد

 

 

 

 

السيناريوهات المحتملة للصراع في المنطقة/ غازي دحمان

 

أطلق الاتفاق النووي دينامية صراعية جديدة في المنطقة، ووضع العرب أمام واقع سيئ واحتمالات خطيرة يصعب تجاهلها وعدم التحضر لها.

وإذ تبدو الأطراف الإقليمية الأخرى (تركيا وإسرائيل وإيران) خارج دائرة المخاطر التي رتبها الاتفاق النووي، إما نتيجة وقوعها خارج دائرة الاستهداف الإيراني وامتلاكها وسائل ردع تحميها، أو نظرا لوجود التزامات صريحة تجاهها من قبل الجهات الراعية للاتفاق أو إيران نفسها، كحالة إسرائيل؛ فإن الطرف العربي هو الأكثر تأثرا، وبالتالي هو الجهة المعنية بإصدار الاستجابة المناسبة لمواجهة هذا التحدي.

لا شك أن أي تقييم للخطر الإيراني المحتمل لا بد أن ينطلق من قراءة السلوك الإيراني تجاه دول الإقليم عشية توقيع الاتفاق، وهنا لا تبدو التصريحات التي اعتادت دبلوماسية طهران إطلاقها عن الجوار وحسن العلاقات والروابط الإسلامية، أكثر من أدوات ووسائل حربية إضافية جرى استخدامها بقصد إحراج حكومات الجوار العربي وذر الرماد في العيون، في حين كان السلوك الإيراني يأخذ مسلكا أكثر قسوة عبر إدامة نهج العدوان على جزء كبير من شعب العراق وتزويد نظام الأسد بأدوات القتل ضد السوريين وإرسال الأسلحة والعملاء للعبث باستقرار البحرين.

على ذلك يبدو أن الصراع على الجهة الإيرانية سيبقى محصورا ضمن سيناريو واحد وهو تصعيد الهجمة على العرب، وخاصة أنها تملك مقومات داعمة هذه المرة، تتمثل بالمداخيل التي ستحصل عليها جراء رفع الحصار عنها، وحصولها على ما تعتقد أنه ضوء أخضر دولي لإعادة صياغة المنطقة وشرعنة انخراطها كجائزة لها، تحت ذريعة محاربة الإرهاب وضبط الفوضى الحاصلة في الإقليم.

كل المؤشرات تدل على أن إيران في طريقها لإعادة تموضعها في المنطقة بناء على تقديرها بأن الأمور تسير لمصلحتها، أما ساحات الحراك الإيراني فستكون هذه المرة -بالإضافة إلى العراق وسوريا واليمن- الدول الخليجية، وتحديدا البحرين والسعودية، عبر عمليات تستهدف إرباك الخليج ودفعه إلى الانكفاء، خاصة أن إيران تدرك أن انتصارها في الساحات الأخرى بات يقتضي حكما دفع الخليج إلى الانكفاء، وخاصة أنه الطرف العربي الوحيد الذي يقف في مواجهتها.

أمام هذا الواقع فإن العرب سيجدون أنفسهم في مواجهة متنقلة على أكثر من جبهة، تستنزفهم دون هوادة، المهم في الأمر أن المواجهة واقعة والباقي يبدو تفاصيل هنا وهناك. وهنا أيضا لا بد من التنبيه إلى قضية مهمة وهي أن العرب سيعتمدون على قواهم الذاتية حصرا دون أي حسابات وهمية عن مساعدات يمكن الحصول عليها من الخارج، سواء من الأطراف الدولية أو الإقليمية.

فالغرب يقف اليوم عند قناعة أنه حل إشكالياته مع الطرف الإيراني، وأنه آن الأوان للاستفادة من الفرص التي وفرها الاتفاق النووي ممثلة بالسوق الإيراني وبفائض النفط والغاز لديها، أما دوره في الصراع في المنطقة فلن يكون أكثر من محاولة لإدارة هذا الصراع عن بعد، أو في أحسن الأحوال تزويد أطرافه بصفقات جديدة من الأسلحة.

أما الأطراف الإقليمية فستكون أيضا أمام إشكالية موازنة أرباحها وخسائرها من الانخراط في الصراع، وقد أعربت كل من تركيا وباكستان عن سعادتهما للفرص الاقتصادية والاستثمارية التي سيوفرها وضع إيران الجديد بعد الاتفاق، كما أن إيران نفسها ستعمل على تقديم مزيد من الإغراءات لجوارها غير العربي في سبيل ضمان تحييده نهائيا عن الصراع.

وعليه ما هي السيناريوهات المحتملة لشكل الاستجابة العربية لمواجهة هذا التحدي، بالنظر للمعطيات المتوفرة والمتغيرات الحاصلة في البيئتين الإقليمية والدولية؟

السيناريو الأول: أن يشكل العرب تحالفا دفاعيا موحدا وإستراتيجية واضحة لمواجهة الخطر الإيراني وجميع المخاطر التي تواجههم في الإقليم، وهذا يستدعي تحديد الأهداف المطلوب تحقيقها من هذا التحالف وتحديد مساهمات كل طرف فيه وتحديد الآليات المشتركة لوضع الأهداف موضع التطبيق.

وفق هذا السيناريو يمكن للطرف العربي أن يشكل حيثية دفاعية تضعه في موقف ردعي قوي بالنظر للفارق الهائل في حجم الموارد والذي يصب لصالح العرب، وبحسب أحدث تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام فإن دول الخليج وحدها تملك منظومة أسلحة حديثة تفوق نظيرتها الإيرانية عشر مرات، غير أن المشكلة في هذا السيناريو تكمن في تضارب أولويات العرب من هذا الصراع وترتيبهم للمخاطر، ففي حين يشكل الخطر الإيراني المرتبة الأولى في التقدير السعودي فإن قائمة المخاطر المصرية لا تلحظه أصلا، بل تعمل على التعاون معه في بعض الساحات مثل سوريا.

السيناريو الثاني: أن تذهب دول الخليج إلى تشكيل إطار دفاعي خاص بها لمواجهة الخطر الإيراني على اعتبار أنها الطرف الأكثر تضررا والمعنية بدرجة أكثر من غيرها بالاستهداف الإيراني، ويتوقف مثل هذا الإجراء على تقييم الدول الخليجية لدرجة الخطر الذي تمثله إيران في هذه اللحظة وما إذا كان السلوك الإيراني تجاهها يمثل شكلا من أشكال الاستهداف.

مع العلم أن إيران تسعى إلى اختراق الموقف الخليجي بشتى الوسائل من الترغيب والترهيب لمنع تشكل موقف موحد ضدها، والمشكلة التي تواجه هذا السيناريو ميل بعض الأطراف الخليجية إلى تغليب التفسير السلمي واتباع سياسات حسن الجوار والتريث وعدم الاندفاع إلى المواجهة الصريحة، وهذا بالضبط ما تحتاجه إيران، غموضا وارتباكا في الموقف ومزيدا من الوقت الضائع.

السيناريو الثالث: أن تتعامل الأطراف العربية بشكل منفرد مع الأخطار ويذهب كل طرف إلى تصميم إستراتيجية مواجهة تتناسب مع قدراته وإمكانياته ومن خلال الاعتماد على شبكة حماية دولية توفر له الضمانة بعدم حصول اعتداء إيراني عليه، وهذا النمط من الإستراتيجيات الدفاعية يبدو الأكثر ترجيحا نتيجة الخبرة العربية المتراكمة مع الأزمات، فضلا عن اختلاف السياسات العربية وعدم توافقها في مواجهة الأخطار، وهي طريقة سهلة على العموم كونها في متناول كل طرف ويمكن إدارتها والسيطرة عليها من خلال الأجهزة الداخلية ولا تحتاج للتنسيق والربط بين أطراف عدة.

السيناريو الرابع: خضوع العرب للأمر الواقع والتكيف مع المتغيرات الإقليمية الحاصلة بما فيها الاعتراف بالنفوذ الإيراني، وما يشجع على اتباع هذا السيناريو عدم استعداد الدول العربية للانخراط في صراعات لا نهاية لها، في حين أن البدائل الأخرى وإن لم تكن حسنة إلا أنها أقل كلفة من الدخول في مغامرات عسكرية غير محسوبة النتائج.

ويمكن المراهنة على تعديل طبيعة الصراع مستقبلا من خلال تعويم المصالح المشتركة بين الأطراف وإغراء إيران بتحقيق مكاسب ناعمة تغنيها عن الدخول في صراعات مع الأطراف العربية، وهذا يتضمن التنازل مقدما لها عن سوريا والعراق واعتبارهما ساحات نفوذ محسومة لصالحها.

السيناريو الخامس: استمرار الصراع بصورته الحالية، صراع بالوكالة، من خلال دعم قوات المعارضة في سوريا واستنزاف أذرع إيران في المنطقة، مع إضافة تغيرات نوعية على هذه المعادلة تتمثل بإدخال مكونات جديدة في الصراع، كالحركات الإسلامية في المنطقة والاستفادة من خبرتها القتالية، إضافة إلى تدعيم الحركات السنية المقاتلة في إيران لزيادة الضغط عليها.

ويبدو هذا السيناريو أكثر قابلية للتطبيق كما أنه يشكل معادلا موضوعيا للإستراتيجية الإيرانية التي اتبعت طريقة تأسيس بنية قتالية داخل المجتمعات العربية تمثلت بمليشياتها العديدة.

تضع إيران العرب -أو جزءا منهم- أمام تحديات داهمة، وهذه التحديات تقع في إطار الأنماط الخطرة ذلك لأن هامش المناورة تجاهها ضيق ومربك، كما أن أهدافها ذات طبيعة جذرية تستهدف إعادة صياغة الواقع الجغرافي والديمغرافي وتغيير طبيعة نظم الحكم في هذه البلدان، فهل ينهض العرب لمواجهة هذا التحدي المفروض عليهم أم سيلجؤون للتكتيكات القديمة التي جرى استخدامها مع الخطر الإسرائيلي عبر الذهاب إلى تسويات منفردة واختزال القضية بنزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل حول أراض محددة؟

الجزيرة نت

 

 

 

السقوط الأخلاقي لـ «حزب الله» في سورية/ عبدالباسط سيدا

يتحدث كثر من المحللين والمهتمين المتابعين هذه الأيام، عن خسائر «حزب الله» في معاركه إلى جانب قوات النظام في سورية. ويتناول هؤلاء حجم هذه الخسائر، وأبعادها، ومآلاتها الآنية والمستقبلية. ومن الملاحظ أن التركيز في هذا المجال ينصبُّ على الخسائر البشرية في المقام الأول، وعلى مدى إمكانية الحزب في ميدان تقديم المزيد من المقاتلين، وذلك لتلبية الحاجات المتنامية في مختلف الجبهات القتالية التي فتحها عبر تحالفه مع النظام ضد الشعب السوري. وقد أعلن السيد حسن نصرالله بنفسه في خطابه يوم 24 أيار (مايو) 2015، أن قواته موجودة في سائر أنحاء سورية، وستستمرّ في الوجود والانتشار، وستُعزز بالمزيد.

ولكن الخسارة الأكبر التي مُني بها حزب الله منذ بداية انطلاقة الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، تتمثّل في فقدانه تأييد الشعوب العربية والإسلامية التي وجدت فيه أيام معاركه مع القوات الإسرائيلية – وهي المعارك التي تمحورت حول قضية تحرير الجنوب اللبناني – مخلّصاً في زمن التراجعات والانهيارت في مختلف الميادين.

وقد تمكّن حزب الله بفعل معارك الجنوب، والهالة الإعلامية التي أُحيطت بها، إلى جانب تمكّن هذا الحزب من دغدغة المشاعر بخطابه العاطفي الإيثاري الزاهد، من كسب قلوب العامة من العرب والمسلمين، وكان في طريقه نحو كسب عقول النخب أيضاً، على رغم إدراك هذه الأخيرة أن موضوع حزب الله برمته يدخل في إطار حسابات الاستراتيجية الإيرانية في مرحلة ما بعد الشاه. ولعلّ هذا ما يفسر مدى الاهتمام العام الذي كان بخطابات نصرالله، وثقة الناس بما كان يقوله، واحترامهم لآرائه. وذلك كله أكسب الحزب قوة مضاعفة.

غير أن الحزب المعني لم يتمكّن من الحفاظ على هذا المستوى من التأييد، نتيجة ارتباطه بالاستراتيجية الإيرانية التي وضعته في حلف غير مقدس مع النظام السوري، وبدأ باتخاذ موقف مفارق مواجه لكل اللبنانيين الذين كانوا قد تجاوزوا خلافاتهم، والإرث الثقيل لخصوماتهم وصراعاتهم السالفة، وتوافقوا على ضرورة الخلاص من نير النظام السوري. وقد بلغ التباين أشدّه بين حزب الله وأتباعه، وبين فريق الاستقلال الثاني اللبناني بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واغتيال العديد من القيادات السياسية والرموز الثقافية الوطنية اللبنانية. وجاء اجتياح الحزب لبيروت والجبل في 7 أيار 2008، ليؤكد دخوله مرحلة الالتزام الصارم بالاستراتيجية التي أوجدته، وحدّدت له المسار.

ومع الوقت، بدأ الحزب بفقد رصيده الشعبي والقيمي في لبنان، وفي المحيط القريب من لبنان، وهو المحيط المدرك لأبعاد الدور الحقيقي المناط بحزب الله.

وهذه الوضعية تذكّرنا في أوجه عديدة منها، بوضعية الحزب الشيوعي السوري قبل وبعد مجيء حافظ الأسد إلى الحكم في سورية. فقد كان الحزب المذكور بقيادة خالد بكداش في ذلك الحين، يستمدّ قوته الأساسية لا من عدد المنتسبين إليه، وإنما من القيم التي كان يجسّدها، ومن الحاضنة الشعبية التي كان يحظى بها، إلى جانب دعم النخب الثقافية السورية، التي كانت تجد في الحزب المعني مشروعاً حداثوياً من شأنه ترسيخ الوحدة الوطنية ضمن المجتمع السوري المتعدد الأديان والطوائف والقوميات. كما أن دعوة الحزب إلى العدالة الاجتماعية، والمساواة، والقيم المدنية، كانت هي الأخرى موضع تقدير النخبة السورية، التي لم تتمكن من الانسجام مع المشروع القوموي بوجهيه البعثي والناصري، وهو المشروع الذي كان يسعى الى فرض وحدة قسرية على واقع متعدد متنوع بطبيعته، وبتوجهاته.

ولكن مع سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الأمور في سورية بعد الانقلاب الذي قاده في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، وتشكيله «الجبهة الوطنية التقدمية»، التي كانت أداة لتعطيل دور الأحزاب الموجودة في المجتمع السوري، لتغدو جزءاً من آلة النظام بقيادة حزب البعث، الذي أصبح هو الآخر واجهة تزيينية للأجهزة المخابراتية التي كانت هي الحاكم الفعلي من وراء الستار، وبإشراف مباشر من حافظ الأسد نفسه. بعد هذه التطورات كلها، تحوّل الحزب الشيوعي إلى جزء هامشي من السلطة، بخاصة أنه كان قد انقسم على ذاته، وفقد احترامه لدى الناس، وابتعدت منه النخب. ولم يتمكّن الحزب المعني من استعادة الثقة، على رغم تذرّعه بضرورة الدفاع عن «السياسة التقدمية الخارجية لسورية»، وغضّ النظر عن السياسات الداخلية التي كانت تؤسس لوضعية الاستبداد والإفساد المسدودة الآفاق، وهي الوضعية التي جاءت الثورة السورية للقطع معها، وتجاوزها، وذلك بهدف ضمان الحرية والعدالة والكرامة لسائر السوريين، بخاصة للأجيال القادمة.

ونحن، إذا قارنّا بين حالتي كل من حزب الله والحزب الشيوعي السوري ضمن إطار مقاربتنا الحالية، نلاحظ أن الجهة الراعية الموجهة، بل والآمرة – الاتحاد السوفياتي السابق في حالة الحزب الشيوعي، وإيران في حالة حزب الله – كانت هي التي تتحكّم بتحديد السياسات والمواقع للجهة الفرعية التابعة. ولهذا، وجدنا كيف قبل الحزب الشيوعي بدور الكومبارس، وتقلّص دوره وحجمه، بخاصة بعد سلسلة انقسامات أضرّت به، وأخرجته كلياً من دائرة الحسابات السياسية في سورية.

والأمر ذاته هو ما يحصل لحزب الله حالياً، فهو قد فقد قلوب الشعوب العربية والإسلامية، ولم يكسب عقول نخبها. وفقد الكثير من التعاطف والتأييد على المستوى اللبناني، وتكبّد الكثير من الخسائر، وسيتكبد المزيد منها إذا ما استمر في سياسته الراهنة. فهو قد أصبح اليوم، مجرد قوة عسكرية تفتقر إلى مشروع سياسي يطمئن اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، بمن فيهم أبناء الطائفة الشيعية نفسها الذين يشعرون بأنهم قد أُقحموا في معركة لا تخصّهم، وأن التكاليف الباهظة حتى الآن لن تقارن بتلك التي ستكون، إذا ما استمرت المعارك – التي يبدو أنها ستكون طويلة وشرسة – وظلّت المعطيات الراهنة على حالها. وهم على علم تام بأخطار اللعبة السياسة، وبإمكانية أن يتخلّى عنهم الراعي الداعم في أية لحظة، بعد أن يكون قد بلغ المرجو من استثمار دور الحزب في لبنان والمنطقة.

حزب الله يواجه اليوم بقوة السلاح، الغالبيّتين العربية والسنية في المنطقة، ولم تعد حججه قادرة على إقناع أحد. بل باتت هذه الحجج موضع التندّر والإدانة من الجميع. كما أنه يواجه ثورة الشعب السوري على نظام فاسد مستبد، أقرّ هو بذاته بضرورة الإصلاح الشمولي. ولكن بعد أن تبيّن للجميع استحالة إصلاح ما قد بلغ مرتبة الفساد المطلق، بخاصة بعد الجرائم المروّعة التي ارتكبها هذا النظام في حق الشعب، كانت المطالبة بالرحيل. واعتقد النظام، ومعه حزب الله والنظام الإيراني والحليف الروسي وآخرون، أن القمع العسكري كفيل بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة.

ومن حين إلى آخر، اعتقد النظام وحزب الله أنهما في طريقهما نحو الحسم. وما أكثر التبجّح الذي شاهدناه وسمعناه في هذا المجال. ولكن الأمور قد تغيّرت راهناً، وهي مرشّحة للمزيد من التحوّلات المتسارعة، والمعطيات جميعها تؤكد أن حزب الله قد ورّط نفسه والطائفة ولبنان في لعبة مكلفة جداً، لعبة أفقدته الاحترام والهيبة والشعبية والتعاطف، وأصبح مجرد حزب يدّعي أنه حزب الله، تماماً كما يدّعي «داعش» أنه دولة الخلافة الإسلامية، أي دولة الله.

* كاتب وسياسي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى