عن تحمّل “الإخوان”
عبد الحميد سليمان
مذ قامت الثورة السورية، والحديث لا ينتهي عن حركة الإخوان المسلمين. الحديث وللحقيقة اجتاز مع الثورة أطواراً متعددة، وتراوح بين بوحٍ خافتٍ حيناً وجهرٍ صريحٍ أحياناً، إلا أن السمة العامة للحديث لم تخفِ قط عبقها بالريبة، عدم الثقة، أو حتى الخوف. على أي حال، وبغض النظر عن تاريخ الحركة في سوريا أو في سواها، لناحية عدم خلوه من نزعةٍ سلطويةٍ إقصائية، أو حتى تبريريةٍ بحدها الأدنى للإقصاء، فإن تاريخ سواها من التيارات السياسية “المدنية” لا يختلف عنها، وهذا الأخير لا يخلو بدوره من النزعة الإقصائية ذاتها، بشقيها السلطوي أو التبريري للسلطة، الاختلاف كان دائماً المرجعية النصية، والاختلاف كان بالظرف.
ما سبق جعل من السؤال الكبير “هل تؤمن حركة الإخوان المسلمين حقاً بالديموقراطية؟” سؤالاً دون معنى، ربما لأن أحداً لا يؤمن حقاً بالديموقراطية ممن يطرحون السؤال، لكن الأمر يصبح أكثر إثارةً للسخرية حين يأتي الحديث على العنف أو حتى الشبق بالسلطة، لا سيما حين يطرحه اليساريون، أو بقاياهم الخجولة على أي حال، القوميون، أو حتى الإسلاميون الآخرون. على أن الأمر لا يخلو من “مراجعات” نقدية للماضي، والكل على ما يبدو راجع أو يراجع ما مضى، وثيقة “العهد” التي طرحتها الحركة تأتي في هذا السياق، ولكن سؤال “المصداقية” حاضرٌ في وجه الجميع، ويذهب بالمرء في جميع الاتجاهات، يميناً ويساراً، وإلى أعلى وإلى أسفل، يحضر في هذا الصدد قولٌ لتشيخوف بأن “ثمة طريقتين لحياةٍ هيّنة: أن تصدق كل شيء، وألا تصدق أي شيء”.
لعل العزيز تشيخوف قد شهد بدوره بعض “المراجعات” النقدية على ما يتبين من القول.
يحاول البعض من ناحية أخرى أن يجرَّ النقاش إلى مواضع خطيرة، ربما لأنه يضع الإخوان المسلمين وعقيدتهم “الإسلامية” بطبيعة الحال على ضفةٍ ما قبل حداثية، في حين يضع كل الآخرين وعقائدهم على ضفة الحداثة. خطورة المقاربة السابقة تكمن في أنها ليست ديموقراطية، لجعلها الحداثة -أو كما يراها مدعوها على الأقل- معياراً للتحمل، وليس التحمل ذاته. الموضوع يشبه في مكانٍ ما أن نتحمل إعدام أسرى الحرب بالرصاص، وألا نتحمل قطع رؤوسهم، وفي تحمل الأمرين بؤسٌ على أي حال. والمقاربة بالتالي تجرم الجماعة على إيمانها بنصٍ “قديم”، أو بفهمٍ “قديم” للنص، وليس على إيمانها بفرض النص أو بفرض فهمها له، على من لا يؤمن بفهمها له، أو حتى به، وفي الفرضين طغيانٌ على أي حال.
ولعل ما يثير السخط حقيقةً هو حصر النقاش في ماهية النص، قِدمه وجِدَّته في نطاق المرجعية، بدلاً من الخوض في نقاش المرجعية ذاتها، ربما لأن لكلٍ من أطراف النقاش نصا يبتغي فرضه، وربما لأن النصوص كثيرة، وتأويلاتها أكثر، على أن الأمر ينبغي ألا يجعل المرء ينسى أن الفرض هو الفرض، صوَّت عليه فردٌ واحد أو صوتت عليه الأمة بأسرها، لا فرق، هكذا لأن كيانات الأفراد تجّب كيان المجتمع، وحرمتهم تسمو فوق حرمة النص.
ولعل السؤال والحال هذه: أيٌّ من هؤلاء الذين يرفعون نصوصهم على الحراب يؤمن بهذا؟ والجواب ومعه الأمل يأخذاننا مجرى الرياح إلى أرضٍ جديدة بلا عقائد، أو أخرى قربها فيها كل العقائد، والثانية أقرب لواقعنا السوري من الأولى، على أن نتحمل بعضنا قليلاً أكثر، ونتحمل الطغيان قليلاً أقل، كي نحبو بذواتنا الفردية خارج هيمنة النص إلى حاجة الفرد، ولتصبح الغاية تلبية الحاجة بدلاً عن تأويل النص، حينها ستغدو المشكلة مع الإخوان المسلمين، شأنها مع سواهم، أنهم لا يتحملون، أو أنهم يتحملون أقل، وحينها سيكون “الفرض” الوحيد: أيها السادة… تحملوا أكثر، لا شيء أكثر ليطلبه المرء، وكيف له أن يطلب أكثر من هذا؟
المدن