عن ترف الكآبة/ بسمة النسور
يحدث أن تغزو الكآبة مزاجك من دون سبب واضح، تتسلل إليك بصمت ودهاء مرض خبيث غادر، تنشب مخالبها في أوصال روحك، تعتقلك ضمن دوامة قاتمة من أفكار سوداء غامضة، لا تدرك مبعثها، يحيطك بالغضب والأسى والإحساس بالخيبة. فجأة، ومن دون مقدماتٍ كثيرة، تجد نفسك غارقا في الحزن الثقيل الذي يوجع القلب ويكسر الخاطر، وتتحول من شخص مرح يبث السعادة والبهجة فيمن حوله إلى شخص بائس، ثقيل الظل، مثير للملل، يغمره الإحساس باليأس واللاجدوى، ما يدفع الآخرين إلى الابتعاد عنك، خشية التقاط عدوى الحزن التي تشبه التثاؤب، من حيث سرعة الانتقال. تكتهل على نحو مفاجئ، ويسيطر السخط على مفرداتك، تفقد الرغبة في كل شيء. وتبدو منسحبا، على الرغم عنك، من إيقاع الحياة الهادر، مستريبا في الغد غير المبشر بالجديد، عاجز بالمطلق عن الإحساس بالفرح، مهما تحقق لك من أحلام. وتظل كل المنجزات التي أحرزتها قاصرة عن بث الحماسة، والرغبة في مقارعة الحياة بتقلباتها غير المتوقعة.
مشاعر سلبية بالغة الخطورة كهذه من شأنها تكبيل طاقاتنا ودحرها، وهي بمثابة أكبر هزيمة تلحق البنيان النفسي للإنسان. والمفزع في الأمر أن لا أحد محصّن من المرور بتجربةٍ مؤلمة كهذه في مرحلة ما من حياته. وهناك عديد من قصص اليأس والكآبة التي أودت، في النهاية، بحياة أصحابها من مشاهير حققوا إنجازات ثقافية وعلمية وفنية كبرى، غير أن الفرح عاندهم، وأسباب الحياة السوية لم تتوفر لهم، مثل الروائية البريطانية، فرجينيا وولف، والفنانه الإيطالية الأصل، داليدا، والروائي الأميركي، أرنست همنغواي، والكثير من الشخصيات المتميزة والمؤثرة التي ذهبت طوعا إلى الموت، هربا من إحساس الكآبة الباهظ، مؤكدين من خلاصة هذه التجارب المؤلمة، أن خيار الموت، بكل قسوته وقبحه، يظل أكثر احتمالا من الكآبة.
علينا، والحال هذه، أن لا نتعامل مع الحالة باعتبارها ترفا يمارسه أشخاص جاحدون بجماليات الحياة وعطاياها الكثيرة، وهم، في واقع الأمر، منكوبون بمرض خطير، يستدعي معالجة جادة وتدخلا طبيا متخصصا.
أحيانا، يختلط الأمر علينا، ونتوهم وقوعنا في الكآبة، بسبب ظروف طارئة تمر في حياتنا اليومية، ونعزو إليها الحزن الذي يعتري أرواحنا الذي قد يحدث، بسبب الفشل المهني والإخفاق العاطفي وخيبة الأمل من الآخرين الذين يخذلوننا في لحظات ضعفنا. أيا كان الأمر، لا بد من التمييز بين الاكتئاب المرضي، المتعلق بخلل هرموني وارتباك في كيمياء الجسد، ومشاعر الحزن والإحباط واضحة الأسباب، لأنها سرعان ما تتبدّد حال انتهاء أسبابها. ويعود مثل هذا النموذج إلى سابق عهده، منخرطا بالحياة، مشتبكا بتفاصيلها، ويؤكد الطب النفسي على ضرورة متابعة الشخص المكتئب من خلال أولا تشخيص الحالة الطبية، وتقرير نوعية العلاج الذي لن يعوّض بأي حال عن مسؤولية المريض في المقاومة بشراسة، وكذلك مسؤولية من حوله في تقديم العون والمساندة النفسية. وتأكيد إحساسه بالأمان، والتحقق العاطفي، وتعزيز ثقته بنفسه وبقدرته على تجاوز العثرات. وفي الغالب، يتعرض الأشخاص الأكثر حساسيةً للوقوع في فخ الكآبة، بسبب من رهافة مشاعرهم، وشدة اكتراثهم بالشأن العام، ما يفسر إقدام كثيرين منهم على الانتحار، عند العجز عن مواجهة أحداث كبرى، كما فعل الكاتب الأردني تيسير سبول، ذات هزيمة عربية مدوية نكراء، فيما ينجو الأشخاص البسطاء غير المعنيين إلا بالحاجات اليومية الأساسية التي يحقق توفرها سعادة ورضا تاما، لا يناله أثرياء يملكون كل شيء سوى حس القناعة والامتنان، يقتلهم الخوف، وينغص عيشهم، خشية خسارة المقتنيات التي لا تغني عن راحة بال، توفرها أبسط الأشياء، وهم العاجزون، لسوء طالعهم، عن إدراك معانيها.
العربي الجديد