عن تفاهة الشر
إيلي حداد
في إطار تحليلها محاكمة المجرم النازي أدولف آيخمان، الذي كان مسؤولاً عن تنظيم عملية الابادة الجماعية والذي تم العثور عليه واختطافه من الارجنتين في أيار 1960، ومن ثم محاكمته في القدس، أثارت المفكرة الألمانية اليهودية حنا آرندت حفيظة النظام والمجتمع الاسرائيليين بوصفها للشر الذي كان يجسده أيخمان بأنه مجرد “تفاهة” وبأنه لا ينّم في الضرورة من مشاعر معادية للسامية أو من شخصية مختلة عقلياً.
“كل سلطة تُفسد، والسلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق”
(لورد جون دالبرغ ـ آكتون)
كان تحليل آرندت ينبع من رؤيتها الخاصة ومن مراقبتها للمحاكمة، وليس ناتجاً من أي أفكار مسبقة حول المتهم. إلا أن الأهم في هذه المسألة هو توصيفها للشر كأمر بديهي، تافه، يمكن تالياً تشخيصه في العديد من الحالات الانسانية ولا يقتصر على مجموعة محددة كالنازيين مثلاً.
قد يكون هذا مدخلاً مناسباً لمحاولة فهم “الشر” الذي نما وتطور في عدد من البلدان العربية، وخصوصاً بعد إنشاء الكيان الصهيوني، الذي أتى بدوره كنتيجة لسلسلة من الجرائم توّجت في محرقة الحرب العالمية الثانية.
من المفيد أيضاً التوقف عند تحليل آرندت للنظام التوتاليتاري، في إطار آخر، حيث قالت: “إن إنجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئاً جديداً. الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف مدركين أن هذه الاعمال قد تكون سيئة لكنها أعمال خلاّقة. لكن الاخطر في نجاح التوتاليتارية هو عدم الاكتراث الحقيقي الذي يبديه المنضوون تحت لوائها. من المنطقي أن لا يهتز النازي أو البولشفي في قناعاته عندما يشهد أعمال عنف ضد اشخاص لا ينتمون الى الحركة أو يعادونها، لكن الغريب في الامر أن لا يرف له جفن حتى عندما يبدأ الوحش بالتهام أبنائه، أو حتى عندما يصبح هو نفسه ضحية للاضطهاد، أي إذا ما تمت محاكمته من دون حق، أو جرى طرده من الحزب، أو حُكم عليه بالاشغال الشاقة أو أُرسل الى مخيمات الاعتقال”.
بعد ثورة الياسمين
مع بزوغ الربيع العربي، بدأت بعض الصحف اللبنانية حملتها على “الديكتاتوريات العربية” فتابعت باهتمام يومي تفاصيل ما يحصل في ليبيا واليمن والبحرين، فيما تغاضت عن بعض الديكتاتوريات الصديقة التي كانت تزعم أن شعبها يتمتع بالوئام والسلام، الى أن بدأت ترد أخبار عن بعض “التحركات الاحتجاجية” هنا وهناك، لكن هذه تم تسفيرها الى صفحات خارج نطاق الصفحات المخصصة لـ”الديكتاتوريات العربية”. لا بد أن ضرورات المرحلة وأولوية “الصراع مع العدو” تحتمان ذلك، لكن الوضع بدأ يتغير بعدما تعدّى عدد الضحايا في سوريا المئات. عندذاك لم يعد في الامكان التعتيم على الاحداث، خصوصاً بعدما خرجت أصوات من الذين كانوا يعدّون من أصدقاء النظام تطالب بالإصلاح (من دون التغيير هنا طبعاً). أحد الصحافيين البارزين بدأ مقالته في “بدايات” درعا بالاستهزاء بأولئك الذين يتابعون باهتمام تطور الاحداث فيها وينتظرون استفحال الازمة مع تمنيات مبطنة بسقوط النظام. الشغف فقط مسموح في متابعة أحداث ليبيا أو البحرين، لكن سوريا أمر آخر. هذا ما يقتضيه الموقف الوطني.
في بيروت تحركت مجموعة حزبية تمثل طائفة بأكملها عند سقوط ثلاثة قتلى في البحرين، فيما لا تظاهرات ولا تضامن بالتأكيد مع درعا، ولا مع شعب يُذبح بأكمله لاحقاً في حماه ودير الزور وحمص وحلب. هل التعاطف مع الشعوب يحصل فقط بحسب الانتماء المذهبي أو الطائفي أو بحسب موقف النظام من الصراع الابدي مع “العدو”؟ وهل الانتماء الى “الاخوان المسلمين” يحلل قتلهم؟
كذلك تبارى بعض السياسيين اللبنانيين من على شاشات “الجزيرة” و”العربية” في مساندة التحركات الشعبية في تونس، ثم مصر، ثم البحرين، ثم ليبيا … الى أن وصلت الى جارتنا العزيزة. عندذاك رسموا خطاً أحمر. تحوّل المشهد في لبنان سوريالياً بامتياز، إذ إن بعض الذين كانوا يداسون تحت أقدام المخابرات السورية أصبحوا يتخوفون من سقوط نظام البعث، ويتمنون بكل صدق أن يستطيع الأسد النجاح مثل أحمدي نجاد في قمع هذه التحركات، حتى لو كلف ذلك آلاف الضحايا ومئات الالاف من المعتقلين. قمة السوريالية هذه أن يطلق بعض هؤلاء تبريراتهم والاسباب التخفيفية للمذابح في سوريا خلال احتفالات ذكرى 7 آب المشؤومة!
عن العنف والسلطة والحب القاتل
هنالك باتولوجيا مَرَضية انتشرت في العالم العربي بأكمله منذ الستينات، زمن الثورات الجميلة وعسكرة الانظمة. باتولوجيا تجمع بين العنف والسلطة و… “الحب”! هكذا نفهم إعلان العقيد القذافي في ردّه على أسئلة إحدى الصحافيات: “إن شعبي يحبّني”! قالها ببراءة الطفل الصغير الذي يتعرض لمساءلة من معلّمته في المدرسة، فيجيب بأن أمه تحبّه! هذا هو الرابط نفسه بين الزعيم وأمّته. الامة هي حضنه الاوسع، يتماهى معها وتتماهى هي معه فتُعرَف مثلاً بـ”ليبيا القذافي” أو “يمن الصالح” أو “سوريا الأسد”. في هذا السياق أعطى الرئيس السوري الشاب نصائح لإخوانه في “الديكتاتوريات العربية” في بداية أزماتها، مضيفاً تحليلاته لأسباب الثورات التي لا تنطبق بالطبع على سوريا، كما يمكن الاقلام المسخّرة لخدمة النظام أن تشرح لنا باستفاضة. وقد أجاب الأسد عن سؤال صحافي بالقول إن هذه الانظمة “لم تأخذ في الاعتبار مطالب شعوبها”، فيما تنعم سوريا بحكم رعوي يشبه حكم الدول “الراعية” في سكندينافيا. أي بتعبير آخر، هنالك ديكتاتورية موديل صيني (ناجحة نسبياً) وهنالك ديكتاتورية موديل سوفياتي (فاشلة). أما الديموقراطية فبالطبع غير واردة نظراً الى قصور الشعب وعدم بلوغه سن الرشد القانونية، ولضرورة الصراع مع العدو الاسرائيلي (الذي يدوم ويدوم ويدوم مثل بطاريات “دوراسيل”).
لا بد أن الثورات الجديدة طرحت معضلة فكرية وفلسفية عميقة بالنسبة الى الديكتاتوريات العربية التي كانت دائماً تدّعي أنها “ثورة” دائمة. فكيف للثورة أن تجهض ثورة نابعة من داخلها؟ هذه المشكلة الفلسفية استدعت تدخل بثينة شعبان، فوصفت الامر بأنه مجرد مؤامرة خارجية (بثينة شعبان هي المرادف السوري لصموئيل هنتنغتون أو برنارد لويس في أميركا)، فيما العقيد المعمّر كان أكثر صراحة فعزا الامر الى انتشار كثيف للجرذان، وهو بالطبع لا يزال تحت تأثير رواية ألبر كامو عن الطاعون. بدا القذافي كأنه المسؤول الاعلى في شركة إبادة الحشرات الزاحفة في مملكة الملوك. إن أحببت القذافي أو كرهته، فعليك في مطلق الاحوال أن تقدّر في هذا الزعيم صدقه وصراحته، فهو لم يخف شعوره الحقيقي تجاه شعبه عندما تجرأ على الاعتراض على حكمه.
في تبدّل أحوال الثورة
قد يتساءل الاسد الابن عن سبب هذا التحوّل الغريب من 1982 الى 2011. كيف كان في امكان النظام آنذاك أن يقمع حركة احتجاجية بقتل الآلاف من دون أن يهتز العرش أو يرفّ جفن في العالم كله، فيما اليوم تثير مجزرة محدودة، لا تتعدى العشرات في قرية نائية، حفيظة الدول الكبرى ومجلس الامن؟ هل الـ”فايسبوك” والـ”يوتيوب” والـ”تويتر” (بلفظته العربية المحببة يمكننا إعادة ترجمته الى “Touwaiter”) هي التي أدّت الى ذلك؟ بالطبع لم يعد في الامكان إخفاء الجريمة كما في السابق، فالصورة هي الدليل الأبرز، والصورة في عالم “ما بعد الحداثة” هي إحدى الركائز الأساسية للنظام البصري – الاقتصادي الجديد. وقد يكون من سخرية القدر أن هذا التطور التكنولوجي، الذي كان أركان النظام والمقربون منه من المستفيدين منه بفعل احتكاره واستغلال موارده، هو الذي ساهم بشكل مباشر، من خلال الهواتف النقالة والانترنت، في دك أسس النظام الديكتاتوري. إضافة الى ذلك، لم يعد الانسان العادي جاهلاً وغبياً وقنوعاً الى درجة أنه لا يلاحظ أن الطبقة الحاكمة تسلب ثروات الشعب فيما هو يضطر الى الركض وراء السيارات المزدحمة في شوارع بيروت تحت الشمس الحارقة أو المطر سعياً وراء لقمة العيش، بائعاً متجولاً لمصنوعات صينية أو بضاعة مزوّرة محلياً.
إذا أردنا فعلاً الاصلاح والتغيير، فعلينا أن نبدأ من هنا. كيف وصل شعب بأكمله الى هذا الدرك من الافلاس السياسي والمادي؟ كيف وصل هذا “الشعب العظيم” (كما كان يصفه أنطون سعادة) الى هذا المستوى؟ لن نسأل هنا عن رأي الزعيم في ما يحصل في سوريا، والى جانب من كان ليقف، فهذا موضوع آخر، لكن في إمكاننا فقط أن نستذكر مقولته الشهيرة بأن “الحياة وقفة عز فقط”.
إن الذين كانوا في الماضي، ولا يزالون، يقدمون كل التحليلات التفسيرية لتبرير بقاء أنظمة القمع والارهاب الفكري في العالم العربي، إنما كانوا، من حيث يدركون أو لا يدركون، يرتكزون في تبريراتهم على اعتبار الشعوب العربية شعوباً ناقصة، غير قادرة على مواجهة التحديات أو المؤامرات إلا من خلال نظام ديكتاتوري يضعها هي أولاً في خانة الاتهام. هذا التناقض الفاضح بين الدعوة الى التحرر وقمع الانسان وتحطيم كرامته الشخصية كان يوفّر المواد الدسمة للمتفذلكين والمنظّرين السياسيين فيظهرون كأشباه فلاسفة في طريقتهم المذهلة في اللعب والتفنن باللغة وتطويعها من أجل استنباط التبريرات المناسبة، التي تبقيهم على علاقة جيدة بالحكم. من هنا أصبحت السياسة فناً لغوياً بحتاً، بدل أن تكون علماً اجتماعياً، سرعان ما انحدر مع البعض الى شعبوية تافهة. يمكننا هنا أن نعود الى حنا آرندت، التي شخّصت مواطئ الشر في شخصية آيخمان في عدم قدرته على التفكير أو تحديد القيم الاخلاقية بنفسه. غياب القدرة النقدية الذاتية هو أحد الشروط الأساسية لتحويل الانسان الفرد عضواً منضبطاً، ولاحقاً شخصاً يمكن استعماله، ضمن مجموعة سياسية أو عسكرية. هذا “التكلس” الفكري يظهر من خلال ترداد العضو المنضوي في المنظمة لتعابير و”كليشيهات” محدودة، صاغتها أجهزة البروباغندا الحزبية ولقنتها عبر حلقات “تثقيفية” متتالية (ألا يذكّرنا هذا بالعديد من السياسيين عندنا؟). إن تأسيس الشر يتطلب هذا القدر من الاذعان الفكري والمعنوي الذي، للأسف، تم تطبيقه بنجاح في العالم العربي منذ أكثر من خمسة عقود.
قد يكون البعض محقاً في تخوفه من تحوّل الثورات العربية من قمع فكري يرتكز على اشتراكية زائفة الى قمع فكري جديد يرتكز على نظرة رجعية للدين، إلا أن هذا لا يبرر في مطلق الاحوال البقاء على القمع الحالي، خصوصاً بعد تحوّله عملية مستدامة من القتل المبرمج.
في هذا الوقت، قد يكون بعض السياسيين في لبنان يعيدون النظر في خياراتهم الاستراتيجية مجدداً. في هذا الوطن الصغير، على السياسيين أن يتقنوا فعلاً فنّ الرقص… على الحبال!
النهار