عن تيار ثالث في الثورة.. ودور الإسلاميين
طريف الخياط
في بدايات الثورة السورية، جرى الحديث عن «أغلبية صامتة»، تم تحميلها قدرا من مسؤولية تباطؤ انتشار الحراك، حيث نأت بنفسها عنه، واحتلت موقعها، في الحيز الرمادي بين النظام والمتظاهرين. لكن ذلك لم يكن تعبيرا عن كتلة متجانسة، بل عن طيف واسع يجمع المترددين، والخائفين من بطش النظام، والخائفين من تغييره، والمنتفعين منه، وغير المهتمين بالشأن العام، إلى جانب فئة كانت تدعم التغيير سلبيا من خلال التعاطف معه ودون الانخراط به.
ومع استمرار الثورة، وتحولاتها الجذرية، واستخدام النظام للعنف الوحشي ضد المدنيين، وقصفه للمدن والقرى والبلدات بالأسلحة الثقيلة، وتدميره لأحياء بأكملها، ولجوئه إلى تسعير الغرائز الطائفية، تعمق شرخ الاستقطاب بين الموالين للأسد والثائرين على بطش نظامه، وتراجع الحديث عن تلك الأغلبية، حيث انخرطت فئات منها في العمل الثوري بشقيه الإغاثي والمسلح، إلى جانب شريحة واسعة شكلت ملايين النازحين في الداخل، واللاجئين في دول الجوار. إلا أن عوامل جديدة طرأت على المشهد، وساهمت ببروز فئة أخرى تداخلت بجزء منها مع بقايا الأغلبية الصامتة، يمكن الاصطلاح على تسميتها بـ«تيار ثالث»، يتموضع في مجال وسطي بين النظام والمعارضة، إما لنفور من الثورة أو لتضاؤل فرص التأثير الإيجابي بها.
ليست مبالغة إذا اعتبرنا أن هذا الاصطفاف المستجد، قد يكون أخطر على الثورة من سابقه، خصوصا أن بعض المؤشرات توحي بتعامل دولي، أقل انحيازا إلى الثورة السورية، وأكثر قربا من النظام، مما يجعل الحاجة ملحة لتجميع الجهود، بدل تفكيكها.
ودرءا للالتباس، لا بد من محاولة لتحليل التيار الثالث، كمركب تنتمي غالبية مكوناته إلى تيارات فكرية ملتزمة بمدنية الدولة وديمقراطيتها، دفعتها تبدلات في شكل الحراك إلى التراجع النسبي، وإلقاء اللوم على طرفي الصراع بدرجات متفاوتة، وهنا لا نقصد من يقوم بالنقد الواجب لأخطاء الثورة، خشية من حرفها عن مسارها وقيمها.
من الممكن اعتبار أن ذلك التيار يتكون من أربع فئات؛ الأولى عبارة عن شخصيات وتكتلات سياسية، حذرت من تداعيات العسكرة، دون أن تقدم بديلا عمليا قابلا للتطبيق في مواجهة عنف النظام، أو تطرح وسائل وآليات للحد من تلك الظاهرة. والفئة الثانية، هي أيضا شخصيات وتكتلات، تختلف مع الآخرين في مجمل المقاربة للأزمة وحيثياتها، والخطوات المرحلية نحو الحل، أو حتى شكل الحل. والفئة الثالثة، هي شريحة من النشطاء المنخرطين في العمل الثوري المدني والإغاثي، لها ميول سياسية متنوعة، وقفت إلى جانب المكون العسكري منذ تشكله، ودعمته ماليا وإعلاميا وسياسيا. أما الفئة الرابعة، فهي امتداد لبقايا الأغلبية الصامتة، من متشككين ومنتفعين، وجدت في بعض تجاوزات المعارضة، فرصة لتبرير موقفها من الثورة ككل، والتهجم عليها، لكن تأثيرها يبقى ثانويا، لعدم انخراطها بأعمال سياسية أو عسكرية أو أمنية تضر بالثورة. وإن كان لخلفيات مواقف الفئتين الأولى والثانية بعد سياسي يعود لمراحل مبكرة، فإن تأثير مواقفها يندرج ضمن آفة تشرذم المعارضة، مما يحملها – أي المعارضة ككل – مسؤولية كبرى عما آلت إليه الأوضاع. أما الفئة الثالثة، فهي جزء ديناميكي فاعل ومؤثر ميدانيا، يمثل وجها مدنيا هاما للثورة السورية، ومنخرط كليا فيها، نحت مؤخرا إلى التراجع، تحت تأثير حملات من التخوين والتكفير وتشويه السمعة، بسبب مواقفها من الدعوات المطالبة بالخلافة، وانتقادها لممارسات بعض الجماعات التكفيرية الجهادية المتطرفة.
لا يخفى أن العنف والدمار والقتل الطائفي الذي مارسه النظام، وطول أمد الأزمة، واستمرار المعارك الشرسة، وفقدان الأمل من عون دولي فاعل، والاستنزاف المالي الذي تعرض له مجتمع الثورة، سواء من فقد مسكنه ومصدر رزقه، أو من يسعى جاهدا لتأمين التمويل اللازم لسد تلك الثغرة، جميعها عوامل قد دفعت نحو ظهور بذرة التطرف، لتؤثر أيضا الأحداث في المحيط العربي، وخصوصا مصر وتونس، في إذكاء الخلاف والشقاق بين المدنيين والمتشددين، وتساهم – مع ما سبق – في خلق حيز يتشكل ضمنه ما يبدو تيارا ثالثا في وعي بعض السوريين. ورغم أن مكونات ذلك التيار منفردة، لا تقف على مسافة واحدة بين الثورة والنظام، فإن الواقع السيئ، الذي خلق بمجمله أجواء نفسية وحياتية مليئة بالتوتر، دفع نحو سلوك عدواني تجاه أي آخر مختلف حتى داخل صفوف الثورة، مما عزز من فرص المتطرفين باجتذاب جزء من الرأي العام، فظهر خطاب إقصائي، يضع ما اصطلحنا على تسميته بالتيار الثالث في مجمله بخانة واحدة قريبة من النظام. وكان من ذلك، أن أصبح كل نقد تهمة على صاحبه، في تقييمات خاطئة ومتعمدة أحيانا، لا يشفع فيها الانحياز الواضح لجهة الثورة. والسيئ في الأمر أن التسرع والاستسهال في إلقاء التهم، يضفي على الثورة وجها منفرا بدل أن يكون جاذبا، في وقت تحتاج فيه إلى تضافر الجهود لحسم معركتها، ومن ثم البدء في رسم ملامح لمستقبل وطني، يخشى أن يفرض السلاح التكفيري رأيه فيه.
لقد حشرت الثورة السورية اليوم بين خيارين؛ إما النظام أو القبول بنشاط الجماعات التكفيرية كجبهة النصرة ومثيلاتها. إلا أن قبول النشاط يجب ألا يعني قبولا لفكر تلك الجماعات، ولا لتأثيرها الرديف لأثر النظام في مجال إذكاء النار الطائفية من جهة، وشق الصف الداخلي للثورة من جهة ثانية، والذي كان قد حافظ على تماسكه بعيدا عن تجاذبات السياسة، فلا تنقسم سوريا بين مؤمنين وكفار على ما ينهج به خطاب بعض الجماعات الجهادية، ويردده ببغائيا طيف من مناصريها، دون دراية أن ذلك يشوه صورة الثورة، وصورة الإسلام. وعليه تقع المسؤولية على عاتق الناشطين الإسلاميين بمواجهة ذلك الخطاب بخطاب معتدل، وتقع أيضا على عاتق التيارات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان في سوريا، أن توضح البون الشاسع بين ما دعت إليه بعهدها الميثاقي في مارس (آذار) من العام المنصرم، ودعوات الخلافة، إذ أكد العهد الإخواني حينها على قيم الدولة المدنية، بأسلوب عصري لاقى صدى إيجابيا واسعا، لدى أكثرية ترفض فكر «النصرة» ومثيلاتها.
إدانة الغلو في الممارسات والفكر، أمر واجب، وله انعكاسات سياسية واجتماعية جيدة، وإلا فإن النتيجة باتت تهدد مستقبل الثورة، حتى في عمق جسدها الشعبي الرئيسي، الذي إن استفحل فيه المرض، سيكون الجميع من الخاسرين.
الشرق الأوسط