أكرم البنيصفحات مميزة

عن حقيقة الصراع على سوريا


                                            أكرم البني

في كتابه الشهير “الصراع على سوريا” أعطى باتريك سيل دوراً خاصاً لهذا البلد وفرادة كان يستحقها بالفعل، بسبب موقعه المفصلي في منطقة حساسة من العالم أو بالتعبير الإستراتيجي “منطقة المصالح الحيوية ” الغنية بالثروات الطبيعية وأهمها النفط، والتي لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب التنافس الشديد للنفوذ والسيطرة عليها بين القوى الإقليمية والعالمية وبسبب التحديات التي خلقها تنامي الدور الصهيوني ومخاطره بعد قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ليصح القول إن الانقلابات العسكرية التي حصلت وتناوبت على السلطة في سوريا منذ الاستقلال في العام 1946 كانت محصلة لصراع القوى العربية والعالمية للسيطرة على هذا البلد والتحكم بموقعه وسياساته، إن بين العراق ومصر والسعودية، أو بين أميركا والاتحاد السوفياتي.

وإذ توصل باتريك سيل إلى رؤية جديدة في كتابه الثاني “الصراع على الشرق الأوسط”  واعترف بنجاح مرحلة حافظ الأسد، في نقل سوريا من ساحة صراع وملعب لمشاريع الآخرين واختباراتهم إلى لاعب رئيس في المنطقة، وأقر بدور وظيفي للنظام تجاوز حدود الدولة السورية في ملفات عديدة، أهمها فلسطين ولبنان، فثمة من استسهل اليوم الاستنتاج المعاكس وقال بعودة “الصراع على سوريا” مستنداً إلى ما يلمس من انحسار لدورها الوظيفي في المنطقة، وتنامي التداخلات الدولية والإقليمية في شؤونها، والأهم حالة الضعف والإنهاك التي وصلت إليها بفعل ما خلفه العنف المفرط والقمع الدموي الذي مارسته السلطة لسحق الاحتجاجات، وليروج من حيث يدري أو لا يدري لما يسمى “نظرية المؤامرة” على هذا البلد ويخفف بالتالي أثر رياح التغيير العربية والأسباب البنيوية العميقة التي حفزت الثورة وحركت الناس للمطالبة بحريتها وكرامتها.

ثمة من لا يرى بعين الحقيقة ما خلفته العولمة المنفلتة من عقالها وانهيار قواعد الحرب الباردة من حضور متنام للشعوب في تقرير مصيرها، ومن تحولات نوعية في إستراتيجيات الصراع القديمة وأشكال السيطرة وتالياً تراجع أهمية بعض المواقع الجيوسياسية التي شكلت فيما مضى مفاتيح التنافس، غالباً لصالح أنظمة تعاون دولية تمتد في مختلف بقاع الأرض وتعمل بأقل تكلفة ممكنة، على حماية مصالح الدول المنضوية فيها، وعليه لم يعد يصح القول بتفرد القوى الكبرى في تقرير مصير الصراع والأزمات في هذا البلد أو ذاك دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته، وطابع التوازنات المحيطة به.

وعليه فثمة أدوار خارجية تبقى في حياة كل مجتمع ويزداد تأثيرها كلما ازدادت أزماته وعجز عن وضع الحلول الوطنية لها، وهناك دول لا تزال تتربص ببعضها وتخوض صراعات لمد نفوذها وتحسين شروط هيمنتها مستثمرة أزمات الآخرين ومشكلاتهم، ما يشجع في المثال السوري على طرح رؤية جديدة جوهرها اعتبار الصراع المتفاقم في هذا البلد بما يرافقه من تبدلات على صعيد الوزن والدور الخارجيين، ومن اصطفافات لقوى إقليمية ودولية مع أطرافه، صراعا في الساحة السورية وليس صراعاً عليها. ولنقل ما كان لهذه الاصطفافات، أن تحضر ويتصاعد دورها لولا اعتقاد النظام السوري الواهم بأنه سيبقى بمنأى عن رياح التغيير التي تهب على المنطقة، ولولا رهانه الخاطئ على لغة السلاح ومنطق القوة والعنف لسحق الثورة، الرهان الذي أفضى إلى نقيضه وإلى انتشار المظاهرات والاحتجاجات كالنار في الهشيم في مختلف المدن والأرياف.

والحال، بدأت الثورة السورية كحركة سلمية والأوضح أنها بدأت بكل تفاصيل تطورها بدءاً من مظالم أطفال درعا، كمسألة داخلية لا علاقة لها بأية أبعاد إقليمية أو دولية، والدليل أنها استمرت لأشهر طويلة كأنها تواجه مصيرها وحيدة أمام آلة قمع لا تعرف هوادة، قبل أن تتقدم الاجتهادات الخارجية وتتضح مواقف القوى المساندة للنظام كروسيا والصين وإيران ومن يدور في فلكهم، في مقابل قوى انحازت بعد سلبية وتردد وتحت وطأة الضغط الأخلاقي لما تخلفه آلة الفتك والدمار من مآس نحو دعم مطالب الناس وحقوقهم، كالدول الغربية وتركيا وأكثرية الدول العربية، والدليل أيضاً العديد من النصائح والمبادرات التي قدمت من أطراف عربية وإقليمية ودولية لمساعدة النظام على تجاوز أزمته، قبل أن تصل الأمور إلى الجامعة العربية وتفشل مبادرتها وقبل أن يوضع الملف في عهدة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، وينفتح الباب على مصراعيه أمام من يرغب من الأطراف الإقليمية والعالمية لاستثمار هذه الساحة في معركة النفوذ ولتحسين الحضور والموقع في المنطقة، لكن بداهة ليس على غرار ما كان يحصل تجاه الشأن السوري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نتفهم دوافع البعض في تشبيه أحد وجوه ما يجري في سوريا بصراع بين محوري نفوذ في المنطقة، المحور الإيراني المدعوم من روسيا والصين والمحور الأوروبي والأميركي المكرس بتوافق مع تركيا وبعض الدول العربية، وأن نتفهم التخوف على استقرار المنطقة من دفع هذا الصراع نحو نهاياته القصوى، والتباطؤ الغربي والعربي في الدخول على الخط السوري بقوة كما كان الحال في ليبيا واليمن مثلا، وتالياً استحسان إدارة الأزمة بالنقاط لا بالضربة القاضية، ربطاً بموقف إسرائيل وكلمتها المسموعة غربياً حول مستقبل بلد يجاورها وتحتل جزءاً من أرضه وحافظ على جبهته آمنة طيلة عقود، وخشيتها من وصول سلطة جديدة إلى الحكم قد تشكل تهديداً لأمنها الإستراتيجي، كما يمكن أن نتفهم الموقف الروسي بصفته محاولة للتمسك بآخر موطئ قدم في الشرق الأوسط لموازنة الحضور العسكري الغربي في البحر الأبيض المتوسط، وأيضاً تفهم دعم إيران غير المحدود للنظام السوري وجدية تصريح خامنئي بأن بلاده ستدافع عن حليفها الإقليمي أياً تكن الاعتبارات.

 فالتغيير في سوريا يضع طموحات طهران في موقع لا تحسد ويضعفها في مفاوضاتها المتعثرة مع الغرب، وفي المقابل يمكن أن نتفهم احتمال ذهاب البعض نحو تحويل الساحة السورية إلى ساحة استنزاف لإضعاف إيران ومحاصرة طموحاتها النووية، وأيضاً لإرباك مطامعها ومحاولاتها للنفوذ في منطقة الخليج العربي، مثلما يمكن أن نتفهم اكتفاء الحكومة التركية بالتصعيد اللفظي ضد العنف السلطوي المفرط، دون فعل موازٍ على الأرض، وتحسبها من الانجرار في حال رفعت السقف إلى اشتباك مع إيران أو مع حلفائها في العراق ولبنان وما يستتبع ذلك من تداعيات قد تضع القطار التركي على سكة لا يريدها.

وما سبق لا يقود أبداً إلى التقليل من أهمية الموقع الذي تحتله سوريا بفعل ماضٍ من التحصيل السياسي نجحت في مراكمته طيلة عقود، فالسلطة التي اختارت لتجديد مشروعيتها منح السياسة الخارجية أولوية على ما عداها وتقديم دورها على مسرح إعادة إنتاج القوى والمواقع، واستمدت من النهج السوفياتي ومناخات الحرب الباردة معادلة تقول بأن معايرة وزن أي سلطة حاكمة في شبكة العلاقات الخارجية هو أحد الطرائق الأساسية لتأكيد قوتها وتثبيت مصالحها وامتيازاتها، وأن خوض الصراع على حصص النفوذ الإقليمي هو واحد من العوامل المساعدة في تمكين النظام داخلياً وتعزيز سيادته، خاصة إن كان من طبيعة النظام السوري أنه يستمد مشروعيته في الحكم من الأيديولوجية وليس من آليات ديمقراطية.

إن الحضور السياسي والعسكري للتحكم بلبنان وتوظيف الجهود للعب بالورقة الفلسطينية وتعزيز التعثر الأميركي في العراق ودعم أكراد تركيا وتسخيرهم كأداة ضاغطة على حكومة أنقرة، هي بعض مسارات عرفناها في السياسة السورية وتندرج في إطار السعي لتحسين الحضور الإقليمي بوصفه عنصرا داعما لتأكيد الهيمنة الداخلية وتمتينها، لكن هذه المسارات أصابها الارتباك بعد انهيار مناخات الحرب الباردة، وانحسرت بعد احتلال العراق وتعزز الحضور الأميركي في المنطقة وإزاحة الغطاء عن الدور الإقليمي للنظام السوري، فكان أن أجبر على سحب قواته من لبنان، وتراجعت قدرته على احتواء النضال الفلسطيني ثم بعض منه عندما اندفعت قيادة منظمة التحرير إلى خيارات لا تتفق مع المصالح السورية، وأيضاً لم تعد تحمل قيمة كبيرة الجهود المبذولة لتأزيم الوضع العراقي بعد الانسحاب الأميركي، كما أن تحسين العلاقات مع الحكومة التركية في السنوات الأخيرة طوى جدياً الورقة الكردية وأضعف أهميتها.

من المؤسف أن لا نتعلم من التجارب التاريخية ومن محن الآخرين ودروسهم كي ننأى عن مطبات وأخطاء دفع ثمنها باهظاً، وأن لا يرى البعض مثلاً النتائج التي حصدها الاتحاد السوفياتي من سعيه للحضور كقوة منافسة على حساب تنمية البلاد وضمان تطورها واستقرارها، ومن المؤسف تالياً أن نرى أهل الحكم في سوريا لا يزالون يؤمنون بمنطق القوة والغلبة ويتوهمون القدرة على إرهاب الآخرين وردعهم وشل أدوارهم، أو نراهم وقد استهزأوا ويستهزئون بكل الدعوات للحلول السياسية وبالنصائح التي تقول إن الطريق الأنجع لتأكيد الحضور والاستقرار وتوفير أفضل مرونة في التعامل مع البيئة والعالم المحيط، ليس القدرة على القمع والأذى، بل تمكين الشعب من حريته وتعزيز الفاعلية الاقتصادية والكفاءات العلمية والتكنولوجية، وتقول أيضاً أن المجتمع المسلح بتنمية صحية ومستدامة تطلق دور الناس وإبداعاتها في الحياة العامة هو المجتمع الأنجع والأكثر قدرة على التميز الإقليمي والعالمي.

واليوم مع تطور الثورة السورية وتنامي الصراع بين قطاعات واسعة من الناس تطالب بالتغيير وبالحرية والكرامة، وبين سلطة لا تتوانى عن استخدام أشنع الوسائل القمعية وأكثرها ضراوة للدفاع عن امتيازاتها، تنكشف أكثر فأكثر هذه الحقيقة وتتضح هشاشة المعادلة التي اعتمدها النظام السوري، هذا إذ لم نقل إن نتائج منح السياسة الخارجية الأولوية وارتباطاتها قد مهدت الطريق لتطور التدخلات من قبل أطراف خارجية، في هيئة مواجهات سياسية وضغوط اقتصادية وإحراجات دبلوماسية، والتي يرجح لها أن تأخذ طابعاً أكثر حدة إن بقيت الأمور تسير في الاتجاه ذاته.

والنتيجة أن ما يجري في سوريا اليوم هو صراع داخلي ولأسباب محلية وبنيوية، ولا يغير هذه الحقيقة أن تساند بعض الجهات الإقليمية أو الدولية هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع، فالشعب السوري الذي يدرك مدى المسؤولية التي يتحملها النظام في فتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية، عندما اعتمد منذ اللحظة الأولى القوة المفرطة، وأنكر أسباب الأزمة وطرق معالجتها سياسياً، وصم أذنيه إزاء كل الدعوات لإبقاء الحل في الإطار الوطني ثم في الإطار العربي، قبل أن يغدو رهينة المواقف الدولية.

ويدرك أيضاً مسؤولية النظام في توفير التربة المناسبة للتأثيرات الخارجية، إن على مستوى تغييب الحريات وتهميش دور الناس، أو على مستوى انتشار الفساد والمحسوبية، أو على مستوى سوء الأحوال المعيشية وإضعاف الاقتصاد الوطني، فهو يدرك جيداً أنه بعد ثورته لم يعد صفراً أو نكرة، وأنه بتحرره وخروجه من القمقم وأخذ قضيته بيده، هو الأقدر على الإطاحة، مرة وإلى الأبد، مقولة “الصراع على سوريا” وإظهار أن ما يجري حقاً هو صراع من أجل مستقبل ديمقراطي واعد لسوريا، ومن أجل تمكين هذا البلد من احتلال مكانه اللائق، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، في سلم الحضارة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى