صفحات الثقافة

عن حلب مكاني الأول وسمائي الأولى


ماجد كيالي

غادرت مدينة حلب في منتصف السبعينات، عن عمر يناهز 22 عاماً، أي انني أمضيت ما يقارب ثلثي عمري في دمشق، لكن “الشام” مع كل جمالها، والفتها، وتنوعها، لم تأخذني تماماً من حلب، ولم تصرفني عن حنيني ولهفتي وحبي لمدينتي الأولى.

لا أعرف كيف انصرفت عن حلب، التي كنت غادرتها مضطراً، في تلك الحقبة التي شهدت بداية الاصطدام بين الوطنية الفلسطينية والسياسات الأسدية (عقب “الدخول” السوري الى لبنان)، إذ كنت اشعر بين فترة وأخرى بنوع من “خيانة” إزاء تلك المدينة، التي لم أوفها حقّها تماماً، على رغم إنني قمت بزيارتها مرات عدة، وعلى الرغم من انني حرصت على تشجيع اولادي على زيارتها للتعرّف إليها، والتشبّع بروح تلك المدينة التي ولد أبوهم فيها.

مع اندلاع الثورة السورية بدا أن حلب تأخّرت عن الانخراط في فعالياتها الجماهيرية المباشرة، في التوقيت وفي الدرجة، لكنني مع ذلك كنت احس بأن هذه الثورة مقيمة في روح معظم أهالي حلب، الذين طالما شعروا بأن النظام غريب عنهم، بقدر ماهم غرباء عنه، وإن عبّروا عن ذلك بنوع من الصمت او التجاهل؛ وهو نوع من المقاومة إن جاز التعبير كان يتقنه معظم السوريين طوال العقود الماضية. ولعل هذا وحده قد يفسّر إعمال القتل والتدمير في حلب، وبالبراميل المتفجرة، بعدما دخلت على خط الثورة من باب المقاومة المسلحة، لكأن هذا النظام الحاقد كان يدرك بأن صمت حلب هو بمثابة مقاومة من نوع آخر، وكناية عن رفض مضمر له.

المهم ان تلك الحرب على حلب واهلها أعادتني الى مدينتي الأولى، كي أعيش معاناتها، وعذاباتها، مع كل حي يتم قصفه، أو بناء تم تدميره، الأمر الذي بلغت ذروته في احراق اجزاء من “السويقة” (السوق القديمة).

عندما كنت مع اهلي في حلب سكنّا في حيين، أولهما، حي الجلوم، في المدينة القديمة، وهو أقرب الى باب قنسرين، احد ابواب المدينة، مع باب انطاكية وباب الجنين وباب الفرج وباب المقام وباب الحديد وباب النصر وباب النيرب. وهذا الحي يصل الى أسوار حلب المحيطة بالمدينة القديمة، وإلى “السويقة” او سوق المدينة (قرين سوق الحميدبة بدمشق لكن اكبر منه بكثير)، كما إلى جامع سيدنا زكريا (الجامع الأموي)، وقلعة حلب، عبر أزقة طويلة ومتعرجة ومتفرعة، تأسر عابريها بحميميتها وتاريخها العتيق. أما الحي الثاني فهو “بستان القصر” في “الكلاسة”، وهذه منطقة شعبية، وفيها معامل نسيج ومصابغ وورش لمختلف المهن، وأغلبية سكان هذا الحي هم من العمال والحرفيين وصغار الموظفين. ومنطقة الكلاسة هذه مجاورة لمنطقتي السكري والانصاري الشرقي، لجهة الجنوب، أما من جهة الشمال فهناك منطقة سوق الهال وحي المشارقة. وبينما تطل الكلاسة من جهة الغرب على حي الانصاري الغربي ومنطقة الإذاعة، حيث لايقطع بينها وبين تلك المنطقة سوى سكة حديد، ومجرى نهر قويق (القديم)، مع البساتين والحدائق المحيطة به من على الضفتين. اما من الجهة الشرقية فإن حي الكلاسة بامتداداته مجاور تماما لسور المدينة القديمة ويمكن من اطرافه الولوج عبر باب قنسرين او باب انطاكية الى المدينة القديمة، للذهاب الى الجامع الكبير (جامع زكريا) او للتسوق، او للفرجة.

على أي حال فإن تلك الأماكن العادية لم تعد مغمورة، لاسيما بعد ان غمرت أسماؤها فضاءات الإعلام، بسبب الحرب، ذلك أن القصف والاشتباكات لم يوفرا أي منها، لاسيما حي بستان القصر (الذي قضيت فيه مراحل الدراسة الابتدائية والاعدادية والثانوية)، وكذا منطقة الإذاعة والمدينة القديمة.

في حلب شاءت الأقدار أن اشتغل في بيع الكتب، فقد صدف ان جارا لنا يتاجر في الكتب بين القاهرة وحلب، ولديه مكتبه، هي عبارة عن قبو في شارع شكري القوتلي، وهو شارع مشهور بتلك الأقبية التي باتت مكتبات تبيع الروايات العالمية والدواوين الشعرية والكتب الفلسفية والتاريخية. وهكذا صدف ان تلك المكتبة تقع بين ساحة سعد الله الجابري حيث الحديقة العامة (المشتل) وشارع بارون، أي شارع السينمات في حلب قديما. وفي مؤخرة الطرف الغربي من هذا الشارع يقع نادي الضباط القديم، وفي مواجهته يقع الفندق السياحي، ومقهاه الشهير، الذي بات مقهى للمثقفين، والاثنين تعرضا لعملية تفجير، غير مفهومة وغير مبررة، لاسيما ان الجهة التي اعلنت مسؤوليتها عن هذه التفجيرات تطرح بشأنها عديد من الأسئلة؛ وبالأخير فقد ذهب ضحية هذه التفجيرات ضحايا أبرياء.

هذا الشارع بالضبط، أي شارع شكري القوتلي، شكل جزءا من طفولتي، وذاكرتي، فقد قضيت العطلة الصيفية، تلو الأخرى، في المرحلتين الابتدائية والاعدادية، وأنا أبيع الكتب في تلك المكتبة (مكتبة الجماهير)، أما بعد ذلك فقد بت اقضيها في معسكرات “فتح”.

والحقيقة فإنني في غضون ذلك كنت أقرأ اكثر مما ابيع، وطبعا فإن عادة المطالعة لم اكتسبها من هذه “المهنة” وإنما قبل ذلك، وقد نميتها في مكتبة المركز الثقافي، الذي كان قريبا نوعا ما الى بيتنا. وعلى العموم فقد قضيت اشهراً عديدة، بين صيفية وأخرى، وانا اشتغل في بيع الكتب، حيث استلم مفتاح المكتبة، واذهب من بستان القصر الى شارع القوتلي حيث المكتبة، واقوم بصف الكتب، في البسطة، واجلس في زاوية على اليمين أو على اليسار، أو على عتبة ادراج البيت المجاور، مستغرقا في القراءة، التي لا يقطعها إلا اقبال زبون على الشراء، أو عبث أخر في ترتيب البسطة. وفي الخلاصة فقد وقعت في “شر” أعمالي، إذ أن صاحب المكتبة ضبطني متلبسا، في أحد الأيام، حيث كاد يضبضب كل الكتب (البسطة) وأنا مستغرق في القراءة. أما أهم الكتب التي كانت تباع أنذاك فمن الروايات العالمية، ذهب مع الريح، والبؤساء، وثلاثية نجيب محفوظ، ومن دواوين الشعر، للمتنبي وابو فراس الحمداني وأبو العلاء المعري، ومحمود درويش ونزار القباني. أما من كتب الفلسفة فكتاب نيتشة: “هكذا تكلم زرادشت” (وحينها لم أكن اعرف ما الأمر حقا!)، كما كتب اخرى لمحمد عبده وطه حسين واحمد امين، وهكذا.

ما أود أن أقوله هنا أن حلب تلك الأيام كانت تضج بالحياة، فثمة مقاه، ودور سينما، ففي شارع البارون لوحده كان ثمة نحو ثمان منها، بحيث تشعر بأنك في شارع الحمرا في بيروت (إذا لم يكن في لاس فيغاس)، في الستينات والسبعينات، لاسيما مع هذا الطقس الاحتفالي ساعة الدخول والخروج. وفي الواقع فقد تعرفت على المقهى من خلال ادمان أبي على الجلوس فيها، مع زملائه في العمل، أو مع معارفه من اللاجئين الذين قدموا معه من فلسطين الى حلب. اما السينمات فتعرفت عليها من خلال امي التي كانت تحرص على حضور افلام شادية وكمال الشناوي، وفريد الاطرش وفريد شوقي ونجوى فؤاد ورشدي اباظه ونادية لطفي وعبد الحليم حافظ، لكأنها بذلك تعوض عن زمن مضى وعن حلم ضاع. وفي هذا الشارع ايضا ايامها، أي حتى أواخر الستينيات تقريبا، كان ثمة ترامواي، من عدة حافلات، يقطع مدينة حلب من شرقها الى غربها، من باب النصر الى الجميلية. كان كل شيء يبدو جميلاً من شارع شكري القوتلي، من باب الفرج الى حديقة المشتل، وكانت الدنيا تضج بالحياة، حتى أواخر الستينيات، بعد ذلك انزوت المقاهي وغابت السينمات، وتوقف التراموي، وانطوت الكتب على نفسها في المكتبات، فقد بتنا في زمن آخر.

هكذا، ومع كل الوجع، استعدت مكاني الأول، وسمائي الأولى، انا الفلسطيني السوري، الذي ولدت في حلب، وعشت القسط الأكبر من عمري في دمشق الشام، فلكل انسان مكانه الخاص، الذي يظل يشعر نحوه بالحنين والشغف، مهما تنقل في الامكنة.

سلامة حلب وأهلها.. وسلامة سوريا كلها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى