عن «داعش» جديد سيملأ هذا الفراغ الهائل!/ حازم الامين
لا أثر لموقع السنّة المشارقة في الحوادث الكبرى التي يشهدها الإقليم. غياب عن وقائع هم في صلبها. وشهدت الأسابيع الفائتة ذروة الغياب. فإذا استحضر المرء ثلاث وقائع في الأيام الأولى من أيلول (سبتمبر) وقاس مستويات التأثير فيها، فسيحصل على نتيجة مرعبة. القضية الساخنة في العراق هي الاستفتاء على الاستقلال الذي يُزمع الأكراد إجراءه، وفي سورية حضرت مدينة دير الزور بصفتها بوصلة الحدث السوري هذه الأيام، وفي لبنان قضية بلدة عرسال ودحر «داعش» والنصرة وطردهما من جرودها.
الجماعة السنّية هي الأضعف تأثيراً في هذه الوقائع، على رغم أنها مسرح الحدث في حالاته الثلاث. في العراق، الاستفتاء مناسبة لانقسام كردي – شيعي لا يبدو أن للسنّة العرب تأثيراً في مجرياته على رغم أن الدولة العتيدة ستكون جارة السنّة العراقيين، والسجال يحصل على المناطق المتنازع عليها، وهي بمعظمها على تخوم السكن السنّي في الموصل وكركوك. وفي سورية، يتنافس النظام (العلوي المدعوم من إيران وروسيا) وقوات سورية الديموقراطية (الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة الأميركية) على الدخول إلى دير الزور، وعلى انتزاعها من «داعش»، علماً أن المدينة وريفها سنّيان، كما حال مدينة الرقة التي تشهد وقائع موازية ومشابهة. وهنا أيضاً يتكرر ضعف تأثير السنّة السوريين في هذا الحدث، لا بل ينعدم. وفي لبنان، بلدة عرسال، مسرح الحدث، هي من الحواضر السنّية، لكن الجماعة السنّية اللبنانية كانت الأضعف تأثيراً في وقائع الجرود والقرارات التي اتخذت في شأن مستقبلها. ومرة ثالثة السنّة كانوا مسرح الحدث من دون أن يكونوا فاعلين فيه.
الحديث عن فراغ سياسي تعيشه الجماعة في البلدان الثلاثة بفعل هزائم متتالية أصابتها صحيح، لكنه يكشف أيضاً أن المنتصر لا يملك ما يتيح له الاحتفاظ بنصره. ذاك أن ثمة إمعاناً في تغييب الجماعة سيعطب ثمار «النصر» عما قريب. ويصح هذا التوقع في الحالات الثلاث.
في العراق، أُلحق السنّة بالموقع الشيعي في ما يتعلق باستقلال كردستان. المواجهة شيعية – كردية، فيما السنّة يصوتون في البرلمان لمصلحة الوجهة الشيعية. والقوى الشيعية بدورها لم تسع في سجالها مع الأكراد إلى تعزيز موقعها متكئة على دعم سنّي عربي. فالعراق الشيعي بحسبهم لا يحتاج إلى ظهير سني. والأكراد لم يستثمروا هذه المرة في الحساسية الشيعية – السنية لتعزيز موقعهم. أرادوها مواجهة كردية شيعية صافية. وهذا ما كشف هامشية التأثير السنّي في الحدث العراقي.
في سورية لم يسع النظام أصلاً لوجود حليف سنّي في معركته مع «داعش» في دير الزور، ذاك أنه يحارب السنّة هناك وليس «داعش»، وهو لا يملك أوهاماً كثيرة حول مهمته. أما الأكراد السوريون، وقوات سورية الديموقراطية، فمساعيهم إلى ادخال فصائل سنية في الحرب على «داعش» تبدو شكلية، والمقاتلون العرب في صفوف «قسد»، وعددهم ربما يصل إلى ثلث عدد مقاتليها، لا يبدون موصولين بسياق سياسي سنّي يسمح بالقول أن الجماعة شريكة في صنع هذا الحدث.
في لبنان، «حزب الله» يتصرف على أنه هزم السنّة اللبنانيين، وفي معركة عرسال كان واضحاً أن «النصر» شيعي بالدرجة الأولى ومسيحي بالدرجة الثانية، فيما مؤشرات الخسائر تكشف أن السنّة اللبنانيين هم أكثر من تلقاها. فعناصر الجيش الذين أعدمتهم «داعش» أكثر من نصفهم من السنّة، وعرسال، البلدة السنّية، يُشار إليها بصفتها بيئة حاضنة للإرهاب، واليوم يطالب العونيون بمحاسبة رئيس الحكومة السابق تمام سلام (السنّي طبعاً) ويعتبرونه مسؤولاً عن خطف الجنود.
والحال أنه إذا ما استبعد المرء السجال الذي يمكن أن يولده هذا الغياب للجماعات السنّية المشرقية عن التأثير في حوادث هي في صلبها، وراح يفكر في دلالاته وفي ما يمكن أن يولده، فلن يحصل إلا على نتيجة واحدة، هي: «داعش». فالتنظيم بولاداته الكثيرة كان ابناً لهذا الغياب ولهذا التهميش. هنا تماماً فقد المنتصر حكمته مرة أخرى. «النصر» سيتحول إلى هزيمة. ليس هذا توقعاً، فاستعادة ما حصل منذ سقوط صدام حسين في 2003، وتصوير هذا السقوط بصفته نصراً شيعياً على السنّة أفضى إلى هزيمة «المنتصر». الشيعة عجزوا عن حكم العراق لأسباب كثيرة في مقدمها هذا السبب.
أما سورية، فمن يتصور أن في إمكانه أن يحكمها من دون شريك سنّي كبير، فهو يتوهم أمراً سبق أن اختبر، وصار اليوم أصعب مما كان سابقاً. ولبنان أيضاً أمام امتحانات مشابهة، فتهميش موقع الحريري فيه بدأ يولد انشقاقات عن متن الحريرية لن تقتصر على أحمد الأسير في صيدا وأشرف ريفي وخالد الضاهر في الشمال، ناهيك بأن الميل إلى استباحة الموقع السنّي في التركيبة السياسية والاجتماعية اللبنانية ستنجم عنه ظلامة كبرى ولّادة لاحتمالات لن يقوى لبنان ولا «حزب الله» على ضبطها في ظل تسيد عقلية المنتصر الجائر.
كل هذه التوقعات تبقى دون هول التوقع الأكبر، ذاك أن «الانتصارات» على «داعش» حين تكون وجهتها تهميش الجماعة الأهلية الأكبر والأوسع في المنطقة، ستتولى مهمة أخرى غير التهميش، وهي تماهي الجماعة المهمشة مع المنهزم عسكرياً. وهذا ما بدأت نُذره تظهر على نحو سريع. أهل دير الزور، وهم ضحايا «داعش» قبل غيرهم من ضحاياها، يشعرون اليوم بأن المعركة لا تستهدف التنظيم بقدر استهدافها لهم. القتلى منهم بفعل الغارات يفوق عددهم قتلى «داعش»، ونتيجة الحرب في حال هُزم التنظيم ستكون لعدوهم، أي النظام والميليشيات الشيعية المتحالفة معه، وهي في أحسن الأحوال ستكون من نصيب الأكراد المندرجين في تحالفات لم تنجح حتى الآن في بلورة حليف سني.
الوقائع في العراق تذهب أيضاً في هذا الاتجاه. النصر على «داعش» هناك يرتسم سياسياً وعسكرياً بصفته نصراً على الجماعة السنية. والحشد الشعبي الشيعي يتدفق على المدينة، فيُنشئ في محيطها مدرسة يُسميها «ثانوية الإمام الخميني»، وتتصدر «حشود» أقليات سهل نينوى المشهد الأمني، فيما المدينة السنّية تعيش حال ثكلٍ لا تعرف في ظلها من هو قتيلها!
لا يلوح في أفق هذا المشهد سوى احتمال واحد حتى الآن. ولادة جديدة لـ «داعش» ما، يملأ هذا الفراغ الهائل.
الحياة