عن «داعش» والسياسة الأميركية/ مصطفى زين
القضاء على «داعش» في الموصل لا يعني نهاية التنظيم الذي يشبه «هايدرا» (حيوان خرافي متعدد الرأس كلما قطع واحد منها نبت بدلاً منه العشرات). منذ احتلال العراق عام 2003، بدأ تدخل القوى الإقليمية والدولية التي خلقها الغزو، وظهرت الخلافات العميقة في المجتمع إلى السطح، ما أتاح فرصة لكل «المكونات» للسعي إلى اقتطاع جزء من الدولة التي كانت وقضى عليها الأميركيون، خصوصاً بعدما حل الحاكم «المدني» بول بريمر الجيش الذي التحق معظم ضباطه وجنوده بجماعات المقاومة.
ووجد تنظيم «القاعدة» الأرض ممهدة لتنفيذ خططه، فأطل أول رأس من رؤوس «هايدر». وعندما قتل زعيمه أبو مصعب الزرقاوي عام 2006، بدأت الرؤوس الأخرى تنبت واحداً بعد الآخر، إلى أن ظهر «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي، فهزم خلال أيام معدودة الجيش الذي بناه الأميركيون وأعلن «دولة الخلافة» في العراق والشام عام 2014.
كي لا نذهب بعيداً في عالم الأساطير الذي يغذي أيديولوجيا التنظيم ويدفع عناصره إلى النحر والانتحار، نعود إلى الواقع الجيوسياسي. واقع خلقه «هيركيلوس» الأميركي الذي أتاح لـ «داعش» التمكن في الموصل والرقة، ولم يتحرك لمواجهته إلا عندما وصل خطره إلى حلفائه الأكراد في أقصى الشمال، فجنّد أكثر من ستين دولة في تحالف لكل من أطرافه أهدافه السياسية والاقتصادية: البريطانيون يريدون حصة من النفط، الفرنسيون يريدون حصة من مبيعات السلاح، الألمان والأستراليون والإيطاليون… يسعون إلى إعادة إعمار ما هدمه الحليف الأكبر، الأتراك يطمحون إلى ضم الموصل وكركوك ووراثة «الخلافة» من البغدادي. الحكومة العراقية، بعد إزاحة نوري المالكي واختيار حيدر العبادي بدلاً منه، تعد الحلفاء بكل ما يريدونه، ولا تقوى على منع الأكراد من الانفصال ووضع حجر الأساس لتقسيم البلاد برضا واشنطن ومساعدتها.
لتحقيق ذلك كان لا بد من تأخير تحرير الموصل أكثر من ثلاث سنوات. وليس صحيحاً أن الحرص على المدنيين والبنى التحتية كان وراء هذا التأخير، فقد قتل من الموصليين عشرات الآلاف وهدمت المدينة ونزح منها أكثر من سبعمئة ألف، فيما الاحتفال بالنصر على الإرهاب تزينه دماء الأبرياء، والزغاريد ممزوجة بعويل النساء وبكاء الأطفال.
ولتأخير الحملة على «داعش» في الموصل هدف آخر غير «إعادة بناء» العراق على الأسس الطائفية والعرقية التي جذّرها الاحتلال والحروب الأهلية. الهدف سورية. فالأميركيون كانوا يستخدمون «داعش» و «النصرة» وغيرهما من المنظمات الإرهابية لإسقاط النظام وإيصال «حلفائهم» السوريين إلى الحكم، أي احتلال البلاد بغطاء محلي للقضاء على الحلم الإيراني ومنع طهران من الوصول إلى البحر المتوسط وإراحة إسرائيل من هذا الكابوس. ولتحقيق ذلك، وضعت واشنطن خطوطاً حمراً أمام «الحشد الشعبي» الذي تدعمه طهران، مهددة بالتخلي عن تحرير الموصل إذا تخطى الحدود من تلعفر إلى الأراضي السورية، كما منعت أي اتصال بين الجيشين العراقي والسوري للتنسيق بينهما، علماً أن المعركة واحدة والعدو واحد، وخطر التقسيم يهدد البلدين.
لمنع الاتصال بين الجيشين والبلدين، غامرت أميركا بعلاقتها مع حليفها التركي، فدعمت الأكراد السوريين، «وحدات حماية الشعب»، وزودتها أسلحة ثقيلة. ولم تكتفِ بذلك بل شاركت مباشرة في القتال في الرقة، وهي الآن في مواجهة «الحشد الشعبي» الذي أعلن غير مرة أن قواته ستجتاز الحدود لملاحقة «داعش» في الأراضي السورية، ثم تراجع بضغط من رئيس الوزراء العبادي، معلناً أنه يتحرك بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، ولم يدخل مدينة تلعفر بعدما حاصرها من كل الجهات.
أما في جانب الحدود بين سورية والعراق من جهة الأنبار، فعمدت الولايات المتحدة إلى تسليح جماعات من العشائر، وأوكلت، بالاتفاق مع الحكومة، حماية الطريق الدولي بين سورية والأردن إلى شركة أمن أميركية، مهمتها أيضاً منع الاتصال بين جيشي البلدين والوقوف في مواجهة «الحشد الشعبي» الموجود بكثافة في المحافظة، خصوصاً في الرمادي والفلوجة.
بعد قطع رأس «هايدرا» في الموصل ستنبت لـ «داعش» رؤوس أخرى في الأنبار وفي سورية. أما «هيركيلوس» الأميركي فلن يكف عن محاولة تقسيم سورية والعراق.
الحياة