صفحات الرأيناصر الرباط

عن دلالات مفهوم «العربي» أو «العربية»/ ناصر الرباط

 

 

 

عقدت مجموعة من الباحثين العرب والمستعربين في العمارة والتخطيط من جامعتي كولومبيا في نيويورك وMIT في كامبريدج مؤخراً اجتماعاً للتداول في موضوع المدينة العربية. ثار بين أفراد المجموعة نقاش حول ماهية المدينة العربية وحول مدلولات كلمة «العربية» كسمة للمدينة كمنتج ثقافي. وتساءل البعض عما إذا كان من المجدي علمياً استخدام مصطلح «المدينة العربية» للدلالة على نموذج تاريخي وتحليلي واضح ومحدد أم لا. لم تكن تلك هي المجموعة الأولى ولن تكون المجموعة الأخيرة من الباحثين التي تعترضها عقبة تعريف مدى ودلالات مفهوم «العربي» أو «العربية» لتوصيف موضوع بحثها. فهذه الحيرة الهوياتية والتحليلية، وبالتالي التاريخية والسياسية أيضاً، تعترض كل محاولة بحثية جادة ورصينة للكلام عن ثقافة عربية أو هوية عربية أو حتى عن منتج ثقافي محدد كالمدينة. من هنا أجدني في موقع المسؤولية للإدلاء بدلوي في هذا الموضوع، بما أني كنت من المنظمين لذلك اللقاء من جهة، وبما أن الموضوع مهم وحساس ليس فقط للباحثين في العمارة والتخطيط وإنما لكل من يحاول بناء نموذج تحليلي تحدده مفردة «العربي» أو «العربية» لدراسة أي منحى من مناحي الثقافة والتاريخ والسياسة والاجتماع في العالم العربي، كالفن والموسيقى والعمران والتقاليد والتراث، أو حتى لكل من يسعى لفهم حدود ودلالات وإمكانات المصطلح نفسه كإطار تاريخي متماسك للتعريف والتحليل والنقد.

بدايةً، لا بد من التفريق بين مفهوم العروبة كهوية وكينونة ومصير، وهو مفهوم اكتسب بعداً سياسياً ونضالياً متأججاً في تاريخنا المعاصر، قامت عليه دول وأحزاب وانهارت أخرى وغُبن كثير من حقوق الأقليات في دول العالم العربي التي وجدت نفسها مستثناة من الهوية الوطنية الجامعة بحكم اختلافها عرقياً أو ثقافياً، وبين صفة «العربي» أو «العربية» التي لا يجد الكثير منا حرجاً في استخدامها للدلالة على مظاهر وعادات ورؤى ونشاطات تجمعنا وتدل علينا من دون كثير تفكر بمن هم المعنيون بهذه الـ «نا».

كذلك لا بد من الفصل منهجياً وتعريفياً بين الإسلام والعربية كأساس هوياتي ومفاهيمي تاريخي بما أن المصطلحين يستخدمان غالباً بالتبادل، وأحياناً بالتتالي، كأن يقال مثلاً الحضارة العربية أو الإسلامية كما لو كان المصطلحان دالاً واحداً أو يقال العربية والإسلامية أو العربية – الإسلامية كما لو كانا مترادفين متطابقين. وما هما كذلك تاريخياً أو هوياتياً حتى إذا كان أفقنا محدداً بالتاريخ الإسلامي نفسه. فعلى رغم أن تعريب ألسنة من أصبحوا عرباً تم بعد الإسلام، فهؤلاء الذين عُربوا لم يصبحوا كلهم مسلمين وإن أنتجوا ثقافة عربية في ظل الإسلام.

لا بد أيضاً من التمييز بين مصطلحي «العربي» و «الشرق أوسطي» الذي شاع استخدامه في الغرب للدلالة على العالم العربي أو بعضه، مع أو من دون دول محيطه المباشر، مثل تركيا وإيران وباكستان وأحياناً حتى الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة في وسط آسيا. هناك دوافع أيديولوجية وسياسية خلف مفهوم «الشرق الأوسط» هذا واستخدامه بديلاً عن العالم العربي في الغرب. فهو ظهر أساساً ضمن الإطار الامبريالي عندما كانت نظرة أوروبا لنفسها على أنها مركز العالم وأن مواقع كل البقاع الجغرافية نسبية بالنسبة لمركزيتها.

هذا المصطلح نفسه جديد نسبياً، فهو حل محل «الشرق الأدنى» الذي كان سائداً في أوروبا حتى بدايات القرن العشرين. لم يختف «الشرق الأدنى» من الاستخدام، لكنه انزاح تاريخياً للدلالة على منطقة «الشرق الأوسط» نفسها، لكنْ ما قبل ظهور الإسلام. فالبقعة الجغرافية نفسها كانت مفاهيمياً وتعريفياً أقرب إلى المركز، أي أوروبا، ما قبل الإسلام، عما بعده، طبعاً من دون أن يتغير موقعها على الخريطة. في هذا دلالات استحواذية كثيرة حيث كان الشرق أدنى إلى أوروبا عندما تشاركت ضفتا البحر الأبيض المتوسط في الانتماء إلى الحضارة الكلاسيكية أو الحضارة المسيحية المبكرة، وأصبح متوسطاً عندما انفصلت الضفتان في الانتماء الحضاري، وعندما عرفت أوروبا أن هناك شرقاً آخر أقصى.

هذا التوصيف مفهوم، وإن كان مرفوضاً، عندما يستخدمه الغرب للدلالة علينا. أما أن يستخدم الكثير من العرب، بخاصة المقيمين منهم في المهجر، مفهوم الشرق الأوسط للدلالة على منطقة نشأتهم، فهذا استلابٌ غريب. فالمصطلح قطعاً لا يدل على انتماء جغرافي محايد كما يبدو للوهلة الأولى، بما أنه يقبل ضمناً أن أوروبا هي مركز العالم. وهو أمر علينا مقاومته خصوصاً إذا ما تذكرنا أن حياد مصطلح الشرق الأوسط الظاهري ما هو في الحقيقة إلا أداة لضم إسرائيل تعريفياً إلى العالم العربي بنزع صفته الثقافية والتاريخية عن اسمه. واستخدامه أيضاً يفصح عن بعض التحرج من الكشف عن الهوية العربية بما أن الكلمة قد تراكمت عليها الدلالات السلبية في الثقافة الغربية المعاصرة بما يفوق بمراحل النظرة الاستشراقية الكلاسيكية التي كانت سائدة في القرنين الماضيين والتي، وإن كانت سلبية، كانت أيضاً تحوي الكثير من الدلالات الإيجابية، المتخيلة والغريبة منها والمجربة والمعاينة على حد سواء.

فالعالم العربي يحمل إرثاً ثقافياً ذا تاريخ طويل ساهمت فيه مجموعات اجتماعية مختلفة لم تحمل كلها هوية عربية. ما جمعها لم يكن عرقاً أو ديناً، بل لغة. هذه اللغة العربية هي ما يمنح أي نشاط إنساني أو فني أو اجتماعي اليوم أو في الماضي صفته «العربية» عندما تكون اللغة هي أساس التفكير فيه وصنعه وتقديمه ونقله إلى الآخرين وتطويره وإعطائه معنى ومغزى ووضعه في العالم إلى جانب نشاطات أخرى مماثلة لمجموعات بشرية ذات لغات أخرى. لا أعني بذلك أن الصفة تطلق فقط على كل ما يتعلق باللغة كالأدب والشعر والنثر مثلاً، وهي على كل الأحوال صفة لا يوجد أي اعتراض نقدي عليها. ولكني أعني أياً من النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكونها وتحددها اللغة، بما في ذلك المدينة العربية.وهذا، برأيي، مفهوم يجمعنا بدل أن يفرقنا. وهو إلى ذلك يقلل من غلواء بعضنا القومية بخاصة إذا تذكرنا أن اللغة تكفّ عن أن تكون مُلكية أي قوم أو عرق عندما تنطلق من محيطها الخاص لأسباب مختلفة لتصبح أداة عالمية للتفكير والخلق والابتكار، كما حصل مع اللغة الإنكليزية في القرنين التاسع عشر والعشرين. فلنقبل على استخدام مصطلح «العربي» أو «العربية» بهذه الصفة ولننزع عنه الصفات الاستحواذية والاستثنائية والإقصائية التي أسبغتها عليه الأحزاب القومية المتعصبة كالبعث. ولنجعله مفهوماً ثقافياً منفتحاً ومقبلاً على التعارف والتعاون والمشاركة.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى